الدكتور «جوفير» يفتح الطريق!
عندما هبطَت الطائرة في مطار «بروكسل» أسرع الشياطين بمغادرتها، فلم تكن «بروكسل» هي هدفَهم. كان عليهم أن يركبوا إحدى طائرات الخطوط الداخلية للوصول إلى مدينة «إنتويرب»؛ حيث يقع المركز الذي تعمل فيه منظمة «أوروبا أولًا»، ولم يضيعوا وقتًا؛ اتجهوا إلى الجانب الذي تطير منه الطائرات في رحلاتها الداخلية، وحجزوا أربعة مقاعد على الطائرة المتجهة إلى «إنتويرب». كانت هناك نصف ساعة على موعد قيام الطائرة، وهي فرصة ليتجوَّل الشياطين في أنحاء المكان. اتجه «أحمد» كعادته إلى مكان بيع الصحف والكتب … وهناك وقف يتأمل عناوين الكتب، والعناوين الرئيسية للصحف، توقَّفَت عيناه عند كتاب بعنوان «مستقبل البشرية». مدَّ يدَه ليأخذ الكتاب، فسمع صوتًا يقول: إنه كتاب جيد تمامًا.
التفت إلى مصدر الصوت. كان هناك رجلٌ أشيبُ الشعر، مريح الوجه، يبتسم ابتسامة طيبة.
قال الرجل: إنه اهتمامٌ عظيم منك … أن تختار هذا الكتاب، وجيلُكم من الشباب يجب أن تكون له مثل هذه الاهتمامات؛ فمستقبل البشرية في أيديكم أنتم.
كان «أحمد» يُمسك بالكتاب بين يديه، بينما قال له الرجل: إلى أين تتجه الآن؟
ابتسم «أحمد» وقال: إلى «إنتويرب». قال الرجل في ابتسامة ودود: رائع، إذن سوف نجد فرصة للحديث، إنني متجه إليها أيضًا.
ثم قال: أُدعَى «جوفير»، وأعمل في مجال الأبحاث الزراعية.
ابتسم أحمد، وقال: أُدعَى «جيم»، وأدرس الآداب.
صاح «جوفير»: رائع، إني أهوى الأدب أيضًا؛ فالعمل الزراعي له علاقة وثيقة بالأدب.
أبدى «أحمد» دهشة، فأضاف «جوفير»: بالتأكيد … إنَّ الطبيعة هي المكان الملهم للأحداث … فأي عمل أدبي سوف تكون الطبيعة بالضرورة جزءًا منه.
ابتسم «أحمد» وقال: حتى لو كانت أحداثه تقع في قلب المدينة!
ضحك «جوفير» في عمق، وقال: بالتأكيد، إنَّ المدينة تحاول الآن أن ترسمَ مساحات خضراء في قلبها … فحتى إذا لم تكن هناك حدائق … فهناك نباتات الظل … والبيوت كلها تقريبًا الآن فيها هذه النباتات لتحميَ نفسها من تلوث البيئة، أما إذا كانت الأحداث تدور في الريف، فإن الأمور سوف تكون أكثر روعة!
وقبل أن ينطق «أحمد» بكلمة كان «جوفير» يُضيف: إنَّ الطبيعة يا عزيزي «جيم» بتركيباتها الجميلة وألوانها البديعة هي عبارة عن قطعة أدبية نادرة الوجود … ولذلك فأنا لا أرى اختلافًا بين الفن والطبيعة! …
صمتَ لحظة ثم قال: على كلِّ حال سوف نُكمل حديثَنا في الطائرة.
نظر في ساعة يده، ثم قال في دهشة: لقد انقضى الوقت … وينبغي أن نتجه إلى الطائرة فورًا!
كان الشياطين يراقبون «أحمد» في حواره مع «جوفير». دفع «أحمد» ثمن الكتاب إلى البائع … ثم سار بجوار «جوفير» في طريقهما إلى الطائرة … ألقى «أحمد» نظرة على الشياطين وابتسم.
قال «عثمان»: إن «أحمد» يطبق نظرية الشياطين … إن العلاقات الإنسانية أحسن مصدر للمعلومات.
كان «أحمد» يمشي في هدوء، وقد استغرق «جوفير» في التفكير، ألقى عليه «أحمد» نظرة سريعة، وقال في نفسه: ربما يكون أحد العلماء …
كادَت تظهر الدهشة على وجهه؛ فقد اكتشف حقيقةً غابَت عنه: أن منظمة «أوروبا أولًا» تجمع العلماء من كلِّ التخصصات في سبيل … نهضة أوروبا، وقد يكون «جوفير» واحدًا من هؤلاء؛ فإذا كان هذا صحيحًا فإن هذه فرصة لا يجب أن تفوت … قال «جوفير» فجأة: إنها مسألة غريبة أن تدخل السياسة في القمح!
بدَت الجملة غريبة؛ فقد قالها «جوفير» دون أن ينظر إلى «أحمد»، كان يبدو كأنه يتحدث إلى نفسه، لكنه فجأة نظر إلى «أحمد» وقال: أليس كذلك؟
ابتسم «أحمد» وردَّ: بالتأكيد.
فكر بسرعة، ماذا يقصد السيد «جوفير» بهذه الكلمات؟ وبنفس السرعة كان قد توصَّل إلى المعنى الحقيقي، فقال: من الضروري يا سيدي في عالمنا المزدحم بالصراع أن يتدخل القمح في السياسة …
قال «جوفير»: إنَّ ما يُدهشني كيف تتحول قلوب رجال السياسة إلى حجارة وهم يرون شعوبًا تموت من الجوع دون أن تهتزَّ مشاعرهم!
ابتسم «أحمد» وقال: هذا هو الفارق يا سيدي بين السياسي والعالِم.
هزَّ «جوفير» رأسه، وقال: هذا صحيح فعلًا.
عندما اقتربَا من صالة الدخول إلى أرض المطار … تردَّد صوتُ المذيعة يُعلن عن قرب قيام الطائرة … ولذلك استمرَّا في مشيهما في اتجاهها … توقَّف «أحمد» عند سُلَّم الطائرة … حتى تقدَّم «جوفير»، في نفس الوقت الذي كان الشياطين قد لحقوا ﺑ «أحمد»، سأله «عثمان» بسرعة: علاقة جيدة؟
ابتسم «أحمد» وأجاب: أرجو أن تكون كذلك.
ثم أضاف بسرعة: إنه باحث زراعي.
ظهرت الدهشة على وجوه الشياطين، وقال «فهد»: إنها فرصة … فقد يكون هذا التعارف هو بداية الخيط.
تقدَّم «أحمد» وتَبِعه الشياطين حتى دخلوا الطائرة. ألقى «أحمد» نظرةً على المقاعد بحثًا عن «جوفير» الذي كان يبحث هو الآخر عنه، وكانت ابتسامته الطيبة هي الدافع لأن يتقدم «أحمد» إليه … لكنه اصطدم بقدمِ أحدِ الركاب، فوقف يعتذر له … وقعَت عيناه على وجهٍ حادِّ النظرات، قاسي الملامح … قال «أحمد»: معذرة!
نظر له الرجل نظرةً حادة … لم يفهم «أحمد» في أول الأمر أهمية هذه النظرة، فلم يكن اصطدامُه بقدم الرجل عنيفًا إلى هذه الدرجة … لكنه مع ذلك كرَّر اعتذاره … ولم يردَّ الرجل بكلمة … استمر «أحمد» في طريقه بين المقاعد متجهًا إلى حيث يجلس «جوفير». وعندما استقرَّ بجواره سأله: ماذا حدث؟
قال «أحمد» بهدوء: لقد اصطدمتُ بقدم أحدهم دون قصد.
هزَّ «جوفير» رأسه وهو يقول: لا بأس، إن ذلك يحدث كثيرًا؛ فالطائرات الداخلية صغيرة المساحة.
لم تمضِ دقائق حتى كانت الطائرة تحلِّق في الفضاء وتأخذ مسارها فيه … ألقى «أحمد» نظرةً في اتجاه الرجل، كان لا يزال يفكر في نظرته الحادَّة، وقال في نفسه: ربَّما تكون الصدمة عنيفة … وربما تكون قدمُه مصابة أصلًا … أو يُعاني من مرض ما.
التقَت عيناه بعينَي الرجل الذي كان لا يزال ينظر له في حدَّة … فكَّر: هل يكون الرجل على علاقة ﺑ «جوفير»، ولكن لماذا؟ وإذا كانت له علاقة به فكيف لم يعرفه «جوفير». فجأة ظهر صوتُ «جوفير» يقول: أظن أنك مشغول بشيء ما.
التفت «أحمد» بابتسامة، وقال: لا شيء هام.
قال «جوفير»: دعني أحدِّثك عن كتاب مستقبل البشرية الذي تحمله … فقد كتبتُ فيه فصلًا.
ظهرَت الدهشة على وجه «أحمد»، لكن «جوفير» ابتسم وهو يقول: لا تدهش؛ فالطعام واحد من أهم مشاكل البشرية الهامة.
ثم أضاف: إنه الفصل الرابع على ما أظن!
فتح «أحمد» الكتاب بسرعة، وأخذ يُقلِّب صفحاتِه حتى وصل إلى الباب الرابع … وكان عنوانه: «القمح ومستقبل البشرية» بقلم الدكتور «جوفير لانجيري». نظر «أحمد» إلى «جوفير»، وقال بابتسامة عريضة: سيدي … إنني سعيد أن يكون لي شرف التعرف على دكتور باحث عظيم مثلك …
ضحك «جوفير» ضحكة صافية لكنها عالية، في نفس الوقت الذي كان فيه «أحمد» قد تعمَّد النظر إلى الرجل الحاد الملامح، وكما توقَّع تمامًا … كان الرجل ينظر ناحيته بنفس الحدة. قال «جوفير»: وأنا سعيد أن أتعرف على شاب مثلك يهتم بالآداب …
كانت … هذه فرصة … ليبدأ «أحمد» الحديثَ الذي يريده؛ فهو إن كان يهمُّه الحديث عن القمح ومستقبل البشرية … وإن كان يهمُّه أيضًا الحديث في الآداب المختلفة، فإن ما يهمُّه أكثر هو المهمة التي خرج من أجلها. قال «أحمد» مبتسمًا: هذه فرصة ينبغي ألَّا تفوتَني يا سيدي الدكتور، فهل أستطيع أن أطرح بعض الأسئلة؟
ابتسم «جوفير» وقال: بالتأكيد تستطيع يا عزيزي «جيم».
سأل «أحمد» بعد لحظة: هل أنت بلجيكي؟
ضحك «جوفير» وهو يقول: لا، ولكني أفريقي.
اتسعَت عينَا «أحمد» دهشة … في حين غَرِق «جوفير» في الضحك. سأل «أحمد» في نفسه: كيف يكون «جوفير» أفريقيًّا وهو أبيض اللون … لكن «جوفير» كان قد بدأ يُجيب عن السؤال: يلفت نظرَك طبعًا أن أقول إنني أفريقي … لكن هذه حقيقة … إنني من جنوب أفريقيا نزحتُ إليها طفلًا مع والدي الذي كان سياسيًّا، وعشتُ حياتي كلَّها هناك حتى اعتبرتُ نفسي أفريقيًّا.
ثم سأل بسرعة: يبدو أنك تنتسب إليها.
قال «أحمد» بسرعة: إنني إسباني …
ابتسم «جوفير» وهو يقول: إذن هناك علاقة ما؛ فالإسبان فيهم دمٌ عربي.
سأل «أحمد» بسرعة: وهل تركت أفريقيا؟
قال «جوفير»: لا أظن أنني أستطيع أن أتركها؛ فحياتي كلها كانت هناك … بجانب أنني أتعاطف مع هذه الشعوب الغنية والفقيرة في وقت واحد.
شعر «أحمد» أنه يقترب من هدفه بسرعة، خاصة عندما قال «جوفير»: إنني أعمل في منظمة … تهتم بالأبحاث الزراعية في «إنتويرب».
عندئذٍ تأكد أنَّه وضع أولى خطواته على بداية الطريق.