المصابون بأمراض عقلية خلف القضبان
جون رجل أمريكي من أصول أفريقية، يبلغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا، مضى على بقائه في السجن سبع أو ثماني سنوات. وقد سبق إيداعه في المصحات العقلية وهو في سن الثانية عشرة، وشُخِّصت حالته بأنها اضطراب ثنائي القطب مصحوب بسمات ذهانية، وكان يحصل على أدوية قوية مضادة للذهان عندما التقيت به في وحدة الحبس الانفرادي بأحد السجون الحكومية. قال لي جون إنه كان يشعر بأن الحراس يضطهدونه شخصيًّا؛ ما دفعه إلى «رشق» أحدهم بالغائط. وقد نفذوا فيه إجراءً لإخراجه قسرًا من زنزانته (في هذا الإجراء يقوم أربعة حراس أو خمسة برش السجين المتمرد برذاذ الفلفل في زنزانته، ثم يهجمون عليه ويخضعونه لهم)، ثم وضعوه في الزنزانة ذات الباب الخارجي المصنوع من البلاستيك المقوَّى (الليكسان) حيث وجدته هناك. أخبرني أيضًا بأنه يعاني من الهلاوس، ولا يتواصل مع الآخرين؛ لأنهم «سيصرخون في وجهه ويجادلونه»، وأنه «محبط للغاية ويعاني من حالة حادة من جنون الارتياب». وبدا لي أن انتهاكاته لقواعد الانضباط في السجن ترجع إلى حدٍّ بعيد إلى ما كان يعانيه من ذهان. لا يزال ما حدث يوم ١١ سبتمبر عام ١٩٩٧ أمرًا غامضًا، لكنه عُثِر على جون في هذا اليوم فاقدًا الوعي في زنزانته، ولزم نقله إلى المستشفى حيث تبينت إصابته بجلطة دموية في المخ ناتجة عن اصطدامه بشيء ما، ولا يمكن إجراء جراحة لعلاجها. ومن ثم، سيظل في حالة من الخمول طوال حياته.
•••
أُودِعت ماري وحدة الأمراض النفسية بالمستشفى لإصابتها بفصام ارتيابي عندما كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، ومرة أخرى وهي في الرابعة والعشرين. وعند عودتها إلى المنزل من المستشفى في المرة الثانية، اكتشفت أن زوجها قد هجرها مصطحبًا طفليهما معه، وحصل في النهاية على حق حضانتهما. فأصيبت ماري باكتئاب حاد، وبدأت في تعاطي العقاقير المحظورة، وتوقفت عن تناول أدوية العلاج النفسي التي وُصِفت لها. ولما كانت غير قادرة على دفع الإيجار، صارت بلا مأوًى. وفي منتصف إحدى الليالي، أيقظها ضابط شرطة في أثناء نومها في أحد المتنزهات الذي داومت على النوم فيه مدة تزيد عن أسبوع، وطلب منها مغادرته. وأثناء شجارها معه، ضربته. ونظرًا لأنها قد سبق حبسها لحيازتها مواد مخدرة من قبل؛ حَكم عليها القاضي بالسجن. وجدتُها في زنزانة مظلمة بأحد سجون النساء في نهار أحد الأيام، ولزم عليَّ التودد إليها بالحديث لجلبها إلى قضبان الزنزانة لمحادثتي. كانت شعثاء تمامًا، وبدت خائفة ومرتابة. أخبرتني بأنها تسمع أصواتًا باستمرار، لكنها لا ترغب في طلب مساعدة طبيب نفسي لأنه — حسبما قالت — «كل ما سيفعله هو حبسي في زنزانة وإعطائي مهدئات لتخدرني وتُخرسني.»
في المؤسسات التي يتصف فيها العاملون بعدم التعاطف، وتعاني فيها برامج الصحة العقلية من قصور شديد، لا يكون أمام المجرم المصاب باضطراب عقلي سوى خيارين أحلاهما مُر؛ ألا وهما الاختفاء في الزنزانة لتجنب المشكلات، ومن ثم المخاطرة بالإصابة بالاكتئاب الناتج عن العزلة، أو مهاجمة الآخرين عند استفزازهم له وانتهاء الحال به في الحبس الانفرادي. ويعني ذلك أن نسبة كبيرة من السجناء، الذين يعانون من أمراض عقلية خطيرة، يتحولون إلى عزلة؛ إما اختيارية وإما تأديبية. ونظرًا لأن اضطرابهم النفسي يزداد سوءًا على الأرجح في ظل هذه الظروف، وأن الأغلبية العظمى من السجناء يُطلَق سراحهم في النهاية؛ فإن حياة السجن البائسة يكون لها عواقب وخيمة على الأمن العام.
(١) كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟
وبعد مراجعتي عددًا كبيرًا من الدراسات التي تناولت معدلات الانتشار، توصلت إلى نتيجة مفادها أن نسبةً تتراوح بين ١٠ و٢٠ بالمائة — في العام الواحد — من إجمالي عدد السجناء بالمؤسسات العقابية على المستوى الفيدرالي أو مستوى الولايات في أمريكا تعاني من اضطراب عقلي على درجة من الخطورة تتطلب علاجًا مُكثفًا (من الممكن أن تصبح هذه النسبة أعلى بكثير، إذا قيس معدل الانتشار على مدار مدة الحبس بأكملها). والأرقام المناظرة لسجناء الحبس الاحتياطي أعلى؛ نظرًا لأن عددًا كبيرًا من المجرمين، الذين يعانون من اضطرابات شديدة، يتم التحفظ عليهم في أماكن الحبس الاحتياطي المحلية مددًا زمنية قصيرة، ثم يُطلَق سراحهم دون توجيه أية تُهَم إليهم، أو يظلون في الحبس حتى تسنح الفرصة فقط للمحكمة بتحويلهم إلى إحدى المؤسسات العلاجية.
ثمة أسباب عديدة لارتفاع معدل انتشار الاضطرابات العقلية داخل المؤسسات العقابية، لكنني سأركز هنا على أهم سببين؛ الأول: هو إخراج المرضى من المؤسسات العلاجية وانخفاض الموارد في نظام الصحة العقلية العام، بالإضافة إلى تجريم الفقر؛ الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى زيادة عدد الأفراد ذوي الاضطرابات العقلية في الشوارع وتعرضهم للاعتقال. أما السبب الثاني: فهو التغيرات الحديثة في القانون وإجراءات المحاكمات التي تزيد من صعوبة تحويل المتهمين المصابين بأمراض عقلية إلى برامج علاجية خارج المؤسسة العقابية. هذا فضلًا عن وجود عدد كبير ومتزايد من السجناء الذين ليس لديهم تاريخ سابق للإصابة بأمراض نفسية قبل إلقاء القبض عليهم، لكن ظهرت عليهم أعراض انفعالية حادة بعد تعرضهم للضغوط التي تفرضها بيئة السجن القاسية التي تفوق قدرتهم على التحمل.
(١-١) إخراج المصابين بأمراض عقلية من المؤسسات العلاجية وتجريم التشرد
إن إخراج المصابين بأمراض عقلية من المؤسسات العلاجية — وهو توجه يهدف إلى تقليل عدد المرضى بمستشفيات الأمراض العقلية العامة وإغلاقها — لاقى رواجًا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين. ففي تلك الفترة، صار عقَّار الثورازين وغيره من الأدوية المضادة للذهان، متوافرة على نطاق واسع للمرة الأولى، وبدأ الأطباء السريريون في التفكير في إرسال بعضٍ من الأعداد الكبيرة من المرضى الذين يعانون من أمراض عقلية مزمنة ويمكثون في المستشفيات إلى منازلهم.
وبإقرار قانون مراكز الصحة العقلية المجتمعية الفيدرالي لعام ١٩٦٣ بالولايات المتحدة، خُصِّصت الأموال لإقامة مراكز صحة عقلية شاملة في المجتمع. ونادى أصحاب التوجه التقدمي في مجال الصحة العقلية بتحويل الاعتمادات المالية من المستشفيات الحكومية إلى الخدمات المجتمعية الهادفة للحيلولة دون حدوث انتكاسات للمرضى، ومساعدة المصابين بأمراض عقلية مزمنة على التمتع بحياة طبيعية ومُنتِجة قدر الإمكان، وفقًا لما تسمح به حالاتهم العقلية. لكنَّ حُكام الولايات والُمشرِّعين المهتمين بالميزانية رأوا في إخراج المرضى من المؤسسات العلاجية وسيلة لخفض ميزانية الصحة العقلية؛ فأيدوا غلق مستشفيات الصحة العقلية العامة، وتوقفوا أيضًا عن تخصيص الاعتمادات لخدمات الصحة العقلية في المجتمع.
وفي أواخر ستينيات القرن العشرين، ظهرت حركة حقوقية على درجة مذهلة من التأثير والحماس، تنادي بحقوق المرضى، وتحتج على المداواة الإلزامية للمصابين بأمراض عقلية وإجبارهم على الخضوع للعلاج بالصدمات الكهربائية. وتحالف المُعالِجون الثوريون، الذين أثارتهم الكتابات الحالمة لرونالد ديفيد لانج وديفيد كوبر وغيرهما، مع مناصري حقوق المرضى، وشنَّت الحركة «المناهضة للطب النفسي» الناتجة عن هذا التحالف هجومًا ضد كل صور الهيمنة الاجتماعية المتسترة خلف قناع علاج الأمراض العقلية.
ومع بداية سبعينيات القرن العشرين، انتهت الحرب على الفقر، وتراجع الدعم الفيدرالي الذي كان الهدف منه في الأساس أن يكون بمنزلة رأس مال أولي، وصار تمويل مراكز الصحة العقلية المجتمعية شحيحًا في ظل عمليات خفض الميزانيات والأزمات المالية. وسرعان ما نُسيت معاناة المصابين بأمراض عقلية، شأنهم شأن الفقراء والأقليات بوجه عام.
أما اليوم، فقد كان لخفض ميزانيات الخدمات الاجتماعية تأثير مضاعف على المستفيدين من خدمات الصحة العقلية العامة؛ إذ صارت شبكة الأمان في التدريب المهني وفرص العمل والإسكان ومزايا الرعاية الاجتماعية أضعف بكثير. ومن ثم، عندما يجد هؤلاء الأشخاص أنفسهم بحاجة إلى خدمات الصحة العقلية، يكتشفون قلة الخدمات المتاحة. ومنذ إخراج المصابين بأمراض عقلية من المؤسسات العلاجية، صار العديد منهم — الذين أقاموا في السابق في مستشفيات الصحة العقلية الحكومية أو مؤسسات المحاربين القدامى في خمسينيات القرن العشرين — يعيشون الآن في المجتمع ويعانون من نقص الدعم وفرص العمل التي يحتاجون إليها للنأي بأنفسهم عن المتاعب. والأفراد، الذين يعانون من اضطرابات عقلية مزمنة وخطيرة، يكونون أكثر عرضة — في الغالب — لعدم تعيينهم بالوظائف، ما يؤدي إلى فقدانهم لمنازلهم؛ نظرًا لعدم تمكنهم من الاستمرار في دفع الإيجار أو أقساط الرهن العقاري. فيتجه بعضهم إلى المخدرات والجريمة. كما أن معدل الإصابة بالإيدز بين المشردين المدمنين للمخدرات عالٍ للغاية. ومع أنه ليس كل المشردين — ولا حتى معظمهم — مصابين بأمراض عقلية، فإن نسبة لا يُستهان بها منهم مصابة بهذه الأمراض بالفعل. ونظرًا لأن بعضهم (لكن ليس كلهم أو حتى معظمهم) يعانون من صعوبة في التحكم في سلوكياتهم الغريبة، يصيرون موضع استهزاء من الآخرين أو يقعون في المشكلات. ومقدمو خدمات الصحة العقلية حاليًّا في القطاع العام مضطرون لتهيئة نسبة كبيرة من خدماتهم لأصحاب التشخيص المزدوج (أي اضطراب عقلي يصحبه تعاطٍ للمواد المخدرة)، والتشخيص الثلاثي (أي اضطراب عقلي يصحبه تعاطٍ للمواد المخدرة وإصابة بالإيدز)، والتشخيص الرباعي (أي اضطراب عقلي يصحبه تعاطٍ للمواد المخدرة وإصابة بالإيدز وسجل إجرامي).
ليس التشرد هو الطريق الوحيد المؤدي إلى السجن لأولئك الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة وطويلة المدى، لكنني أذكره هنا كمثال واحد للطرق العديدة التي ينتهي بها حال الأفراد المعرضين للإصابة باضطرابات عقلية ليجدوا أنفسهم خلف القضبان في عصرنا الحالي. ويسنُّ عدد متزايد من المدن قوانين تُجرِّم التسول في مراكز المدن، والنوم في الشوارع، والتسكع في المتنزهات. ومع تجريم التشرد، يصير عدد كبير من الأفراد المشردين ذوي الاضطرابات العقلية خارجين عن القانون.
إن الأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة يُعرف عنهم عمومًا عدم قدرتهم على التحكم في انفعالاتهم واتباع الأوامر. على سبيل المثال، لا يظهر بعض هؤلاء الأفراد الاحترام الذي يرى ضابط الشرطة أنه يستحقه، وكثيرًا ما يلقى القبض عليهم بسبب ذلك. ونظرًا لأنهم — على عكس الآخرين الذين يُلقَى القبض عليهم — لا يملكون عادةً الدعم المالي اللازم لإجراءات الكفالة والمساومة القضائية؛ ينتهي بهم الحال في الحبس. وعندما يجدون أنفسهم محتجزين في هذه الأماكن المغلقة، فإنهم يفقدون صوابهم ويتورطون في مشاجرات ويُرسَلون إلى الحبس المشدد. أما الفئة الأخرى منهم ممن يتسمون بالخوف والتردد، فينزوون على أنفسهم في زنزاناتهم — إن تمكنوا من ذلك — ويقعون فريسة للاكتئاب. ومَن لا يُسمَح لهم بمثل هذا الانزواء يصبحون ضحايا لمضايقات السجناء الآخرين الذين يضربونهم أو يخدعونهم أو يغتصبونهم.
(١-٢) محاكم أقل تعاطفًا
إن التغيرات التي شهدها مؤخرًا القانون الجنائي، بالإضافة إلى ممارسات الشرطة المعتادة، تزيد من صعوبة مهمة محامي الدفاع في المطالبة ببراءة موكليهم بحجة تأثير اضطرابهم العقلي على سلوكهم الإجرامي. فعندما يشك ضباط الشرطة في أن الشخص الذي يُحدِث شغبًا بين العامة يعاني من اضطراب عقلي، فإنهم إما ينقلون هذا الشخص إلى غرفة الطوارئ لتقييم حالته النفسية وإما يقبضون عليه ويرسلونه إلى الحبس. وفي حالة ازدحام المصحات النفسية (وهو حال أغلبها مع خفض ميزانيات الصحة العقلية الحكومية) وتوقع الضباط إخلاء سبيل الشخص الذي يثير الشغب من غرفة الطوارئ بدلًا من احتجازه في جناح مغلق، فإنهم يلقون عادةً القبض عليه وينقلونه إلى الحبس؛ وبذلك يتأكدون من ابتعاده عن الشوارع بعض الوقت.
وعندما يدخل الجناة المضطربون عقليًّا نظام العدالة الجنائية، يقل احتمال العفو عنهم أو تحويلهم إلى أحد برامج الصحة العقلية أو علاج الإدمان، وهو الاحتمال الذي كان عاليًا فيما سبق. ويُعَد الأصل العِرقي من الأمور المهمة التي توضَع في الاعتبار عند تحديد مَن سيُحول إلى أحد برامج الصحة العقلية ومَن سيُرسَل إلى الحبس. فالمتهمون ذوو البشرة البيضاء يخضعون على الأرجح للعلاج، بينما يُحبَس أصحاب البشرة السوداء غالبًا. ومعظم المُدعَى عليهم من ذوي الدخول المنخفضة في المحاكمات الجنائية يتولى الدفاع عنهم محامو الدفاع المجاني، الذين لا يملكون بدورهم الميزانية أو الوقت اللازمين لتوفير تقييم نفسي شامل لكل قضية يترافعون فيها، ويكتفون بالدفع بأن المُدعَى عليه يعاني ضعفًا في قدراته العقلية في الوقت الذي تُعقَد فيه المحاكمة، ومن ثم لا يمكن تحميله المسئولية كاملةً. علاوةً على ذلك، أدخلت الكثير من الولايات تعديلات على القوانين التي تحكم عملية الدفاع عن المتهم على أساس الجنون أو نقص الأهلية. ومن هذه التعديلات، مثلًا، إضافة عبارة «مذنب ومريض عقليًّا» إلى قائمة الأحكام القضائية الممكنة المتضمنة في تعليمات القضاة لهيئات المحلفين.
وعندما تُعطَى أية هيئة من هيئات المحلفين خيار الحكم على المُدعَى عليه بأنه إما مدان وإما بريء بسبب الجنون وإما مدان «وأيضًا» مصاب بمرض عقلي، يميل أعضاء الهيئة لاختيار البديل الثالث باعتباره حلًّا وسطًا مقبولًا. ومن ثم، فإن عددًا معينًا من المُدعَى عليهم، الذين ربما كانوا عرضة للخروج من نظام العدالة الجنائية، صاروا يُرسَلون الآن إلى الحبس الاحتياطي أو السجن، بالرغم مما يعانونه من اضطرابات عقلية.
(١-٣) الانهيار النفسي أثناء الحبس2
تشارلز رجل أمريكي من أصول أفريقية، يبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، ومرَّ على وجوده في وحدة الحبس الانفرادي عام واحد. أوضح لي تشارلز سبب إيداعه الحبس المشدد للمرة الأولى قائلًا: «كنت كبش فداء لغيري من السجناء، فشكوت إلى الحراس، لكنهم لم يأخذوا شكواي على محمل الجد؛ فرشقتهم بالغائط لإنقاذ نفسي من هذا الموقف شديد الخطورة.» دخل تشارلز السجن عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، ويدعي أنه لم يكن يعاني من أي اضطراب عقلي حينذاك: «كنت أرى نفسي شخصًا غير اجتماعي دون شك، فأشعر بالضيق عند إعراض أحد عني أو رفضه لأفكاري وآرائي، ثم يجن جنوني، ولا أستطيع التحكم في نفسي. لكنني لم أسمع أصواتًا في رأسي، ولم أُصب بجنون الارتياب إلا بعد احتجازي هنا.»
وفي السجن، حالت حساسية تشارلز وافتقاره إلى القدرة على التحكم في انفعالاته دون تأقلمه مع الآخرين في الساحة العامة بالسجن. فالسجناء الآخرون يسخر بعضهم من بعض، وقد يلقي بعضهم بالأشياء في وجه البعض. حينذاك، «تثور ثائرة» تشارلز ويُغرق طابق الزنزانات بمياه المرحاض أو يكون هو أول من يبدأ صخب التراشق بالغائط.
لم يفهم تشارلز كيف يستطيع غيره من السجناء أن «يثوروا بشدة على هذا النحو»، ثم يستعيدوا هدوءهم عند وصول الحراس إلى المكان وسؤالهم عمن بدأ هذا الصخب. فهو غير قادر على استعادة هدوئه. يتذكر تشارلز أنه أُودع الحبس الانفرادي بعد وصوله السجن بفترة قصيرة. وسرعان ما علم السجناء الآخرون أن بإمكانهم التسبب في إرسال تشارلز إلى الحبس الانفرادي عن طريق الاستهزاء به، ثم ادعاء البراءة عند وصول الحراس للتحقق من الأمر. فعندما يغضب تشارلز، يصعب عليه العودة إلى هدوئه؛ ومن ثم كان هو دائمًا مَن يُرسَل إلى الحبس المشدد. بعد عدة أعوام، بدأ في سماع أصوات بداخله تحثه على قتل شخص ما. وهو يتساءل الآن ما إن كان مصابًا بالجنون الإيهامي، لكنه سريعًا ما يصر على التفكير في أنه: «لا بد من وجود مؤامرة في الأمر، فلماذا أقع أنا دائمًا في المشكلات، بالرغم من ارتكاب السجناء الآخرين لتصرفات أكثر سوءًا؟» وتزايد نمط التفكير هذا لديه حتى بدأ الحراس يطلقون عليه وصف «المجنون»، وبدأ هو من جانبه في رشقهم بالفضلات. كان ذلك قبل لقائه بالطبيب النفسي الذي شخَّص حالته بالفصام الارتيابي.
أما الآن، فتشارلز نزيل وحدة الحبس الانفرادي ويأخذ أدوية مضادة للذهان. وأخبرني بأن الحبس الانفرادي يزيد مرضه العقلي سوءًا، فيقول: «لا يمكنني التركيز؛ ثمة ضوضاء عالية. والسجناء الآخرون يسبونني دائمًا ويتشاجرون معي طوال الليل؛ فيزيد ذلك من سوء الأصوات التي أسمعها وتحثني على قتل شخص ما. أشعر أحيانًا بالاكتئاب، ثم أرتكب فعلًا أحمق، مثل الصياح أو إغراق طابق الزنزانات؛ ويجعلني ذلك أتخلص من الاكتئاب، بالرغم من علمي بارتكابي أمورًا حمقاء.»
نظرًا لأن الفصام وغيره من الاضطرابات العقلية المهمة الأخرى تظهر عادةً في بداية سن الرشد — وهي السن التي يدخل فيها أغلب المذنبين السجن للمرة الأولى — يكون من الصعب عادةً تمييز إن كان المريض المصاب باضطراب عقلي قد دخل السجن وهو يعاني من هذا الاضطراب أم أنه نتج عن ظروف السجن القاسية والصدمات الهائلة التي تحدث دائمًا خلف القضبان. وقد توصلتُ إلى أن أغلبية السجناء، الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة، قد تعرضوا من قبل لمشكلات نفسية قبل دخولهم السجن. لكن ثمة أقلية لا يُستهان بها، مثل تشارلز، لم تكن لديهم مثل هذه المشكلات. نحن نعلم بالتأكيد أن بعض الأفراد أكثر عرضة للانهيار النفسي مقارنةً بغيرهم. فنفس نوع الصدمة — مثل مذابح الحروب ورعب حوادث الاغتصاب — يعرِّض بعض الأفراد لانهيار ذهاني، بينما قد يعاني آخرون من توارد هذه الأحداث القاسية على أذهانهم، ومن ردود فعل إجفالية، عادة ما تحدث في حالات اضطراب توتر ما بعد الصدمة. وهناك آخرون لا تظهر عليهم أي أعراض نفسية ملحوظة على الإطلاق. وثمة علاقة بالتأكيد بين الإجهاد والإصابة بالاضطراب النفسي.
والشخص الذي عانى من حالة انهيار ذهاني تقليدية واحدة على الأقل، مصحوبة بهلاوس وأوهام، من الممكن أن تستقر حالته سريعًا ولا يتعرض لأية حالات انهيار أخرى، إذا عاش في مكان يحظى فيه بالرعاية، وعَمِلَ في مكانِ عَمَلٍ آمن. لكن الشخص ذاته، إذا كان مشردًا وتعرض لصدمات متكررة نتيجة لحوادث اعتداء، فسوف تتكرر إصابته بالانهيار وستلزم عودته إلى المستشفى. وبالمثل، الأشخاص الأكثر عرضة للتدهور النفسي تحت تأثير الإكراه العنيف يمكن أن يتجنبوا الانهيار تمامًا إذا كانت ظروف معيشتهم وعلاقاتهم الاجتماعية ملائمة. لكن هؤلاء الأشخاص أنفسهم قد يعانون من انهيار ذهاني حاد إذا تعرضوا للاغتصاب في السجن، أو هُدِّدوا بالقتل إذا أفشوا سرًّا ما، أو تعرضوا للضرب على أيدي حراس السجن. يتضح ذلك أكثر في حالات الاكتئاب؛ فيُصاب الكثير من الأشخاص، الذين لم يتعرضوا للاكتئاب من قبل، باكتئاب شديد في الحبس الاحتياطي أو السجن، ويصل الحال بنسبة كبيرة منهم إلى الانتحار.
وبناءً على العدد الكبير من الحالات السريرية التي درستُها واللقاءات التي أجريتها مع السجناء وموظفي السجون، توصلت إلى أن ثمة أساسًا من الصحة في كلا الادعاءين، وهما؛ أولًا: تُرسَل حاليًّا أعداد أكبر بكثير من المصابين بأمراض عقلية إلى المحابس والسجون، حيث تتدهور حالاتهم بسبب قسوة الظروف داخلها وعدم ملاءمة خدمات الصحة العقلية. وثانيًا: أن الظروف القاسية والوحشية التي تتسم بها الحياة في السجن تجعل السجناء، الذين كانوا في السابق عقلاء تمامًا، يعانون من انهيارات نفسية.
(٢) حياة كالجحيم
يحيق الخطر بالسجناء المضطربين عقليًّا في كل مكان؛ فيعاني هؤلاء الأفراد عادةً من صعوبة شديدة في التكيف مع العُرف السائد في السجن، فإما يتعرضون للترهيب من موظفي السجن لنقل الأخبار عن السجناء الآخرين، وإما يتم التلاعب بهم من جانب غيرهم من السجناء لارتكاب أفعال من شأنها إيقاعهم في مشكلات عويصة. أما السجينات، فهن أقل انشغالًا بقواعد السجن مقارنةً بالرجال، لكن لديهن مجموعة أخرى من المشكلات الخاصة بهن.
إن نسبة السجناء من النساء والرجال المضطربين عقليًّا بين ضحايا حوادث الاغتصاب مرتفعة. وهم أكثر عرضة أيضًا للمضاعفات السلبية؛ نتيجة نقص زيارات أحبائهم لهم. هذا فضلًا عن تورطهم في حوادث عِرقية، واختيار الكثيرين منهم للعزلة الطوعية في زنزاناتهم لتجنب المشكلات. تزيد نسبتهم أيضًا بين السجناء في الحبس المشدد ووحدات الحراسة المشددة. وما يزيد الأمر سوءًا أن توسلاتهم تُقابَل عادةً بالتجاهل من جانب موظفي السجن الذين لا يهتمون إلا بالأمن وإمكانية تعرضهم للتلاعب والخداع من جانب السجناء.
(٢-١) ضحايا قواعد سجون الرجال
يتطلب العُرف السائد بين السجناء الرجال من أي سجين أن يتصرف بشدة؛ فلا بد ألا يُظهِر للسجناء الآخرين خوفه أو ضعفه، وينبغي ألا يتدخل في شئون الآخرين مهما رأى أو سمع. يجب عليه أيضًا التصرف كما لو كان على استعداد للعراك إذا تحداه أحد، وفي مرحلة مبكرة من دخوله السجن سيتحداه الآخرون ليكتشفوا مكنون شخصيته. ويجب ألا يصدر عنه أي فعل قد يجعل السجناء الآخرين يظنون أنه مثليٌّ أو تافه أو جبان. وينبغي ألا يراه أحد وهو يتحدث مع الحراس أو موظفي السجن في موقف يبدو فيه للسجناء الآخرين وكأنه متواطئ مع السلطات.
تُعَد «الوشاية» خرقًا خطيرًا للعرف السائد داخل السجن؛ فإذا دفع السجين التهمة عن نفسه عند عثور الحراس على سلاح أو أشياء مُهربة أثناء إجراء تفتيش مفاجئ لزنزانته بقوله إن ذاك السلاح أو الشيء المُهرَّب يخص رفيقه في الزنزانة، فسيتعرض لعمليات انتقام عنيفة من السجناء الآخرين. لكنه في الوقت نفسه إذا رفض الإبلاغ عن رفيقه، فسيُعرض نفسه للبقاء فترة طويلة في الحبس الانفرادي.
يجد الجناة المضطربون عقليًّا صعوبة شديدة في التكيف مع العُرف السائد في السجن؛ فيرى الكثيرون منهم أن إخفاء مخاوفهم وضعفهم أمر مستحيل من الناحية العملية. على سبيل المثال، في أثناء تجولي في سجن ذي إجراءات أمنية مشددة؛ استعدادًا لشهادتي في دعوى قضائية جماعية (تُرفع بالنيابة عن مجموعة كبيرة) حول أحوال السجون، التقيت بسجين يعاني من اكتئاب شديد أفصح لي بأنه يخاف على حياته. كان يقضي مدة عقوبته في السجن بتهمة الاحتيال؛ حيث كان يتاجر بأموال أشخاص آخرين (عمل مستشارًا ماليًّا)، واحتال عليهم؛ فأُدين وحُكِم عليه بالسجن خمس سنوات. لكنه لم يكن بارعًا في العراك بالأيدي، ولم يرفع سلاحًا من قبل قط، ولم يمارس العنف تجاه أي شخص. كان يصاب بالرعب عند وجوده في ساحة السجن بصحبة «جماعة من السجناء العنيفين والمغتصبين». لم يكن قد أصيب بالاكتئاب قط قبل القبض عليه، لكنه ما إن وصل إلى السجن حتى وقع فريسة اكتئاب شديد وحاول الانتحار بقطع شرايين معصميه، لكنه فشل في ذلك. أخرجه الضباط من زنزانته ونقلوه إلى «العزل الإداري» (وهو قسم عزل بالسجن يلزمه السجناء طوال ساعات اليوم ويحصلون على طعامهم داخل زنزاناتهم، وهو مخصص للسجناء الذين يخضعون للتأديب أو لا يستطيعون الحفاظ على حياتهم في مجموعة الزنزانات التي تمثل وحدةً واحدة). ومع زيادة اكتظاظ السجون، أصبح السجن يضم سجينين في كل زنزانة، حتى في وحدة «العزل الإداري».
ونظرًا لأن هذا السجين قد حاول الانتحار وظهرت الندبات على يديه، صنَّفه الآخرون على الفور بأنه شخص ضعيف وأخذوا يستهزءون به؛ فكان يرفض الخروج إلى الفناء خوفًا من تعرضه للاعتداء. كان رفيقه في الزنزانة لطيفًا معه، بل وعرض عليه مساعدته أيضًا. لكنَّ بعضًا من الآخرين داخل وحدة العزل الإداري بدءوا يتحدثون مع هذا الرفيق في الفناء، محذرين إياه من أنه إذا لم يضرب رفيقه «المنحرف» — على حد وصفهم — في الزنزانة، فسيعتقدون أنهما مثليان. وفي الليل، بعد إطفاء الأنوار، كانوا ينادون على رفيق ذلك السجين ويقولون له: «من الأفضل لك أن تقضي على هذا المنحرف (السجين الذي حاول الانتحار)، وإلا فستكون أنت أيضًا منحرفًا.» (يقصدون بالمنحرف هنا الرجل الذي يمارس اللواط، عادةً بعد خسارته في عراك ما، أو يصير طواعيةً رفيقًا جنسيًّا مذعِنًا لسجين آخر.) بعد هذا الموقف ببضعة أيام، تعرض ذلك الرجل المكتئب للضرب على يد رفيقه في الزنزانة.
•••
التقيت بسجين آخر يُدعَى ديفيد في وحدة العزل الإداري بسجن ذي إجراءات أمنية مشددة في إحدى الولايات. كان رجلًا مثليَّ الجنس هزيلًا في أوائل العشرينيات من عمره ولا تظهر عليه أيٌّ من علامات التباهي والتبجح التي تميز الكثير من السجناء الآخرين. أُدين ديفيد بالاتجار في المخدرات. كان قد اعتاد قبل حبسه على حمل سلاح؛ لذلك أودِع سجنًا ذا إجراءات أمنية مشددة. لكن عندما لم يعد لديه سلاح في السجن، فإن صغر حجمه وعدم خبرته في العراك بالأيدي جعلا منه هدفًا سهلًا. وقد أوضح لي أنه منذ وصوله إلى السجن، تم الاعتداء عليه بوحشية واغتصابه على نحو متكرر. يبدو أن شذوذه الجنسي الصريح قد مثَّل تهديدًا لغيره من السجناء؛ ومن ثم كان هدفًا للاعتداء المتكرر. وقيل له إنه إذا أبلغ الحارس بما يحدث؛ فسوف يُقتَل. حاول ديفيد التحدث عما يعانيه مع أحد ضباط السجن الذي كان يبدو عليه أنه شخص ودود، لكن الضابط أصرَّ على أن يفصح له ديفيد عن اسم السجين الذي اغتصبه، وبدا مهتمًّا بالإيقاع بالمغتصِب أكثر من اهتمامه بمساعدة ديفيد في التوصل إلى سبيل للبقاء آمنًا داخل السجن.
لم يشتمل هذا السجن على وحدة حبس وقائي؛ لذا، بعد تعرض ديفيد للعديد من عمليات الاغتصاب والإصابات بسبب الضرب، توصل إلى أن أفضل سبيل للبقاء حيًّا في أثناء قضاء مدة عقوبته في السجن هي دخول الحبس الانفرادي. فضرب أحد الحراس، وأُرسِل بالفعل إلى الحبس الانفرادي. وأخبرني بأنه لم يكن مكتئبًا قبل دخوله السجن، لكنه عانى من اكتئاب شديد منذ تعرضه للاغتصاب. وصار يعاني أيضًا من توارد التجارب السابقة القاسية على ذهنه ومن رؤية كوابيس لعمليات الاغتصاب التي تعرض لها، بالإضافة إلى أرق حاد، ورد فعل إجفالي شديد. فكان يقفز من مكانه ويبدأ قلبه في الخفقان بقوة كلما سمع صوتًا مفاجئًا. وأخذ يبكي وهو يخبرني سرًّا بمدى الوحدة التي يشعر بها، وكيف أنه يفكر جديًّا في الانتحار.
تميل فئة أخرى من المجرمين المضطربين عقليًّا إلى مهاجمة الآخرين عند تعرضهم لأبسط صور الاستفزاز، ويتعرضون من ثم لعمليات انتقامية عنيفة أو يقضون وقتًا طويلًا في الحبس الانفرادي. وسواء أكان السجناء المصابون بأمراض عقلية ضحايا أم يهاجمون الآخرين بلا تعقل ويسببون لأنفسهم المشكلات، فإنهم يكونون غير مؤهلين على نحو كافٍ للتأقلم مع بيئة السجن القاسية.
(٢-٢) السجينات المضطربات عقليًّا4
لا تقل معاناة النساء السجينات المضطربات عقليًّا عن الرجال، لكنَّ هناك اختلافًا قليلًا في نوعية المشكلات. فالواقع الاجتماعي ذاته يزيد من أعدادهن خلف القضبان، كذلك إخراجُهن من المؤسسات العلاجية، والفقرُ، ونقصُ الخدمات الاجتماعية، وتجريم التشرد، والحربُ على المخدرات، والتغيرات في الأحكام وإجراءات المحاكم. والأحكام الأكثر تشددًا — ولا سيما فيما يتعلق بالمخدرات — تتسبب في اكتظاظ سجون النساء.
وبالرغم من أن النساء يمثلن ٨ بالمائة فقط من إجمالي تعداد السجناء في جميع أنحاء الولايات المتحدة، فقد تزايد عددهن بنسبة ٢٧٥ بالمائة منذ عام ١٩٨٠، ويمثلن حاليًّا الفئة الثانوية الأسرع نموًّا بين السجناء. ثمة عجز أيضًا في برامج التوعية وإعادة التأهيل في سجون النساء. وكما هو الحال في سجون الرجال، يسفر الازدحام والتكاسل النسبي عن زيادة العنف والإعاقة النفسية. وبدلًا من حل مشكلة الازدحام وتعزيز فرص إعادة التأهيل، تلجأ السلطات العقابية في أنظمة سجون النساء إلى وحدات الحراسة المشددة للتحكم في حالات تزايد العنف والشغب.
يقل معدل العنف بين النساء السجينات مقارنةً بالرجال؛ ومن ثم يقل معدل تعرض السجينات المصابات باضطرابات عقلية للإيذاء. فلا تقضي السيدات وقتًا طويلًا كالذي يقضيه الرجال في الاهتمام بوجود عرف سائد يحكم علاقتهم في السجن، ولا يشغلن أنفسهن بمن ستتولى القيادة. علاوةً على ذلك، تميل النساء أكثر من الرجال إلى التكاتف والتعاون معًا للتوصل إلى الكيفية التي يستطعن بها تحمل مدة عقوبتهن في السجن حتى يحين موعد خروجهن. على سبيل المثال، بدلًا من الاستئساد على السجينات المريضات، تتعاون النساء في أغلب الأحيان لتقديم صور المساعدة التي لا تقدمها الخدمات الصحية بالسجون.
منذ بضع سنوات، أقامت بعض السجينات في سجن وسط كاليفورنيا للنساء دعوى قضائية ضد الولاية، ادَّعين فيها أن الرعاية الطبية بالسجن تعاني من قصور شديد. كانت تشاريس شوميت أول اسم بقائمة الادعاء في هذه القضية. عانت تشاريس من فقر دم الخلايا المنجلية. عند تعرض أي مصاب بهذا المرض لنوبة مرضية، لا بد أن يحصل على رعاية طبية على الفور وإلا فسيموت. وفي إحدى الليالي، أُصيبت تشاريس بإحدى الأزمات، وبدأت بالطَّرق على باب زنزانتها طلبًا للمساعدة. لكنها لم تتلقها. وبعد عدة دقائق، استيقظت السيدات في الزنزانات المجاورة، وأدركن ما كان يحدث، وبدأن في الطرق على أبواب زنزاناتهن بدورهن تضامنًا مع تشاريس. وأخيرًا، ظهر أحد الحراس في الطابق، فنظر إلى داخل زنزانة تشاريس وتردد. كان موظفًا مُستجَدًّا ولم يكن على علم بحالتها الطبية. لعله تساءل إن كانت تصرفاتها إحدى ألاعيب السجينات! أظهرت له تشاريس نسخة من ملفها الطبي الذي احتفظت به في زنزانتها، لكنه قال لها إنه غير مهتم بقراءته. فبدأت السجينات الأخريات في حثه على التحرك، فاستدعى قسم الطوارئ الطبية ونُقِلت تشاريس أخيرًا من زنزانتها إلى المستشفى المحلي. وقد سمعتُ قصصًا مشابهة من الدعم الجماعي لسجينات يعانين من اضطرابات عقلية خطيرة.
تعرضت ساندرا للتحرش الجنسي المتكرر على يد جدها منذ كانت في الخامسة من عمرها حتى بلغت العاشرة. وحاولت إخبار والدتها أكثر من مرة أنها لا تريد قضاء الوقت مع جدها وحدهما، لكن والدتها لم تستمع إليها قط. وفي العاشرة، بدأت ساندرا في عصيان والدتها وضرب الصبية في المدرسة، والدخول في مشكلات مع المدرسين. أعطتها والدتها — مدمنة الكحول وغير المهتمة بابنتها الوحيدة — لإحدى الجارات لتربيتها، فهربت ساندرا أكثر من مرة؛ مما دفع مربيتها إلى إرسالها إلى قسم المراهقين في أحد مستشفيات العلاج النفسي المغلقة. وقرر الطبيب النفسي أن ساندرا تعاني من الفصام ووصف لها أدوية مضادة للذهان، لكنه لم يُفصح أبدًا عن تاريخ الاعتداء الجنسي الذي تعرضت له في طفولتها.
ظلت ساندرا في المستشفى حتى بلغت الثامنة عشرة، ثم تركت المستشفى لتحيا حياة مستقلة. وتوقفت عن الحصول على الأدوية، وبدأت تفرط في معاقرة الخمر. وعندما كانت تتناولها، كانت تسلك سلوكًا عنيفًا؛ فإذا تعرض لها أي رجل غريب أثناء معاقرة الخمر، كانت تضربه. نُقِلت مرتين إلى مستشفى المقاطعة للأمراض النفسية، وأودِعت فيه، وأُعطيت حقنًا تحتوي على أدوية مضادة للذهان. وفي كل مرة كانت تترك فيها المستشفى، كانت تتوقف على الفور عن الحصول على الأدوية وتبدأ في معاقرة الخمر مجددًا. وفي سن التاسعة عشرة، لكمت ضابط الشرطة الذي استُدعي للتعامل معها بسبب تصرفها بغلظة في إحدى الحانات. فأُلقي القبض عليها وأودعت السجن، وبعد عدة حوادث من هذا النوع، أُدينت ساندرا بالاعتداء على رجل في إحدى الحانات وحُكِم عليها بالسجن ثلاث سنوات.
وفي السجن، عندما ظنت ساندرا أن ثمة سجينة تنوي إيذاءها، بحثت عن هذه السجينة وهاجمتها. فعوقِبت بقضاء فترة في وحدة العزل الإداري، حيث التقيتُ بها. بدت شعثاء واعترفت لي بسماعها أصواتًا تأمرها بضرب السجينات الأخريات. أخبرتني كذلك بأنها لم تتلقَّ أبدًا أي علاج نفسي في السجن، لكنها تعتقد أن الحراس يضايقونها. وقالت إنهم يسيرون عادةً بجوار زنزانتها ويتهامسون بأن ثمة سجينة أخرى على بُعد بضع زنزانات تنوي إيذاءها. واستطردت قائلةً: «إخباري بذلك يجعلني أَستشيط غضبًا وأبدأ في الصراخ في وجه الحارس ليتوقف عن إغضابي؛ فيعاقبونني بإصدار استمارة ١١٥ [استمارة تأديبية] جديدة ضدي لإهانتي الحارس، ويتحتم علي بذلك قضاء المزيد من الوقت في تلك الوحدة العفنة!»
(٣) ما نوع العلاج الذي يتلقونه؟
في السجن، يكون الأمن مقدمًا على المشكلات السريرية. وفي حالات الخطر، يكون لضباط الأمن السلطة على جميع جوانب الرعاية داخل المؤسسة العقابية. وقد يعني ذلك مشكلات خطيرة للسجناء المضطربين عقليًّا. على سبيل المثال، في العديد من السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة، عند وقوع أي أحداث عنف في ساحة السجن، يصيح الحراس المسلحون الموجودون في الأبراج أو أعلى المباني: «انبطحوا!» ويلزم على جميع السجناء الانبطاح أرضًا ووجوههم للأرض. ويطلق الحراس الرصاص على أي سجين لا ينبطح أرضًا. والعديد من السجناء، الذين يحصلون على أدوية ذات تأثير نفسي، يكونون غير قادرين على التفاعل مع الأمر في حينه بسبب البطء في ردود أفعالهم، سواء أكان بسبب المرض أم الأدوية التي يحصلون عليها. ولقد قرأت العديد من التقارير عن سجناء كانوا يحصلون على أدوية مضادة للذهان وأُطلِق عليهم الرصاص، بل وقُتِلوا أيضًا، في مثل هذه الأحداث. وسمعت أيضًا من عدد كبير من السجناء المصابين بأمراض عقلية أنهم ظلوا في زنزاناتهم طواعية طوال اليوم لخوفهم من الموت رميًا بالرصاص على هذا النحو إذا خرجوا للفناء. لكن الحراس يشيرون إلى أنهم يطلقون النار لحفظ الأمن في ساحة السجن. ويُترَك السجناء الذين يعانون من أمراض عقلية لمواجهة عواقب هذا الأمر.
في حالة دخول أي سجين يعاني من اضطراب عقلي في عراك، يتدخل ضباط الأمن لا موظفو الصحة العقلية لإنهاء الأمر. وتكون النتيجة هي العقاب، لا تكثيف العلاج اللازم للمرض العقلي الذي يعانيه السجين. في الواقع، إذا أودِع السجين في طابق مخصص لأحد برامج علاج الأمراض العقلية، ودخل في عراك مع سجين مريض آخر أو أهان أحد ضباط الأمن بالوحدة؛ فسيُنقَل إلى قسم الحبس العقابي بالسجن ولا يصبح مؤهلًا للحصول على برنامج العلاج. وإذا اشتكى الطبيب النفسي الذي يعالجه من إغفال ضباط الأمن المشكلات الطبية التي يعاني منها المريض لتعجلهم في عقابه؛ فسوف يخسر هذا الطبيب مصداقيته مع ضباط الأمن ويعاني بالتالي من صعوبة في أداء وظيفته.
أخبرني الأطباء النفسيون داخل المؤسسات العقابية، الذين يهتمون بمرضاهم اهتمامًا حقيقيًّا، بأنهم يشعرون عادةً بأن ضباط الأمن يتدخلون على نحو سريع وعنيف للغاية للتعامل مع مرضاهم، ولا يستشيرون فريق العمل الطبي المختص بالأمراض العقلية قبل القيام بذلك. وهناك، بالطبع، العديد من المرات التي يطلب فيها الأطباء السريريون تدخل ضباط الأمن لضمان سلامتهم على الأقل. لكنْ في أوقات أخرى عندما يبدأ هؤلاء الأطباء في كسب ثقة المريض المتمرد الذي يرفض الحصول على الأدوية، يقوم ضباط الأمن بتأديب السجين المضطرب؛ عقابًا له على مخالفة بسيطة نسبيًّا صدرت عنه، ويرفض السجين الغاضب من ثَم العلاج النفسي. وهناك العديد من الصور الأخرى لهذا الموضوع.
(٣-١) المساعدة القاتلة
ستيفن رجل يعاني من مرض عقلي حاد طويل المدى، وسُجِن يوم ٢٥ يوليو عام ١٩٩٥ بسبب «أوامر قضائية لم تُنفَّذ». وشأنه شأن عدد كبير من المصابين بأمراض عقلية حاليًّا، شُخِّصت حالته بأنها حالة مزدوجة (مرض عقلي وتعاطٍ لمواد مخدرة)، وكان يحصل على عقَّار الليثيوم، ويعيش في إحدى دور الرعاية. وأخبر ستيفن الاختصاصي الاجتماعي في مرحلة الاستقبال بالسجن أنه يُعالَج في مصحة عقلية للمرضى الخارجيين بالمقاطعة، وأنه عندما يصاب بالتوتر غالبًا ما يَصفع وجهه؛ فأمر الاختصاصي الاجتماعي بإيداعه في زنزانة أمنية بوحدة العلاج النفسي في الطابق الثامن.
لم يكن ستيفن عنيفًا، بل على العكس كان متعاونًا جدًّا، ولم يبدأ حتى في صفع وجهه عندما أمسك خمسة ضباط ضخام البنية بأطرافه، وأجبروه على الاستلقاء أرضًا، وكتفوه وشدوا ذراعيه لأعلى بقوة وثنوا معصميه بعنف جعله يصرخ متألمًا. وبينما ضغط ضابطان بركبتيهما على صدره، عضَّ لسانه وبدأ يبصق دمًا، وكان واضحًا أنه يعاني من صعوبة في التنفس. ألقى الضباط، بعد ذلك، بطانية حول رأسه ولفوها عند رقبته، ثم جردوه من ملابسه. وحُمِل بعد ذلك ووجهه لأسفل إلى المصعد، مع إمساك ضابطين بذراعيه ورفع آخرين لساقيه (يُسمَّى هذا الإجراء «تعبئة الحقيبة»). جذب أحد الضباط أيضًا البطانية ليحكمها حول رقبة ستيفن الذي أخذ يصرخ متألمًا.
وعندما وصلوا إلى وحدة العلاج النفسي بالطابق الثامن، ألقوا به بعنف على سرير الزنزانة الأمنية. وفي هذه اللحظة، توقف ستيفن عن التنفس، لكن الحراس لم يلاحظوا ذلك إلا بعد أربع دقائق؛ إذ انشغلوا بتقييد أطرافه الأربعة بالسرير. وعندما لاحظ أحد الضباط أخيرًا توقف ستيفن عن التنفس، كانت هناك محاولة غير مجدية لإفاقته في وحدة الإنعاش القلبي. لكن ستيفن لم يفق منذ ذلك الحين من الغيبوبة.
عندما ينظر ضباط الأمن لكل موقف من منظور أمني، تقع أحداث مروِّعة للسجناء المصابين بأمراض عقلية. وعندما يفترض هؤلاء الضباط أن أي سجين يطلب الحصول على رعاية نفسية يحاول التلاعب بهم فقط للتمتع بأجواء أكثر راحةً (سوف أتناول هذه المسألة في الفصل الثالث)، تتعقد مشكلات السجناء المصابين باضطرابات عقلية. وعندما يُصرُّ ضباط الأمن على أن يفصح السجين المضطرب عقليًّا الذي تعرض للاعتداء من سجناء آخرين بأسماء المعتدين عليه قبل السماح له بتلقي أية مساعدة، فإنهم يتسببون بذلك في ضغط لا يُحتَمل على السجين الذي يعاني من عجز بالفعل. بعبارة أخرى، يمكن أن يفتقر ضباط الأمن تمامًا للتعاطف تجاه السجناء الذين يسيطرون عليهم، ولا سيما مَن يعانون من اضطرابات عقلية. والافتقار للتعاطف يمكن أن يُلحِق بهؤلاء السجناء ضررًا بالغًا.
(٤) طريقان إلى العزلة
بينما كنت أتجول في السجون، أفزعني عدد السجناء الذين بقوا في زنزاناتهم مع إطفاء الأنوار في منتصف النهار، وكذا عدد السجناء الذين يعانون من اضطرابات شديدة الموجودين في وحدات الحبس المشدد بكل أنواعها، ولا سيما وحدات الحراسة المشددة. كلتا الحالتين لا تساعدان البتة في شفاء الأمراض النفسية. لكن عددًا كبيرًا أيضًا من السجناء، الذين يعانون من اضطرابات عقلية ويفتقرون إلى الظروف الملائمة التي تشعرهم بقدر كافٍ من الأمان يشجعهم على الخروج من زنزاناتهم، يؤثرون البقاء محبوسين في محبسهم. في الوقت نفسه، قد تذهب مجموعة كبيرة أخرى إلى غرف الترفيه وساحة السجن حيث يوقِعون أنفسهم في المشكلات ويتعرضون للعقاب بأن يُرسَلوا إلى الحبس الانفرادي. وهناك عواقب وخيمة لكلا الخيارين.
(٤-١) الحبس الذاتي في الزنزانة
يختار العديد من السجناء المضطربين عقليًّا البقاء في زنزاناتهم طوال اليوم لتجنب المشكلات. ويسفر مثل هذا الانعزال عن تفاقم حالات الاكتئاب. على سبيل المثال، أفصح لي في إحدى المرات سجين أمريكي من أصول أفريقية في أحد السجون العامة ذات الإجراءات الأمنية المشددة بأنه يعاني من اكتئاب حاد، لكنه يؤثر البقاء في زنزانته طوال اليوم وعدم الخروج إلى ساحة السجن. وأخبرني كذلك بأنه ينام أكثر من أربع عشرة ساعة في اليوم، لكنه يخشى طلب الرعاية الطبية النفسية. وقال لي: «حتى لو تمكنت من الحصول على موعد مع طبيب نفسي، فسوف يراني لبضع دقائق فقط ويصف لي بعض العقاقير. وأنا لا أرغب في أن يعبث أحد بعقلي، ويعطيني عقاقير تحُول دون تفكيري على نحو سليم. فلا بد من أن أحتفظ بقدرتي على التفكير السليم؛ كي أتمكن من الابتعاد عن المشكلات وإنهاء مدة عقوبتي في السجن. أنا قصير القامة [قال ذلك قرب انتهاء جملته]، وأُفضل أن أكون مكتئبًا وبمنأًى عن المشكلات على الخروج إلى ساحة السجن والدخول في شجار، فيلقون بي في الحبس المشدد ويضيفون مدة أخرى إلى مدة الحكم التي أقضيها.»
إن العزلة الاجتماعية والحرمان الحسي، اللذين يمثلان جزءًا من الحبس في زنزانة، يزيدان من سوء الحالات الذهانية. وفي كثير من الأحيان، ينطوي السجين المصاب بمرض ذهاني على نفسه في زنزانته. ونظرًا لأنه يكون قادرًا على البقاء في الزنزانة والاستمرار في تناول وجباته التي تُقدَّم إليه هناك أو في الكافيتريا؛ فإنه لا يُصرح أبدًا بأن حالته تعيق قدراته ولا يتلقى أبدًا معاملة شديدة العنف.
قدمت شهادتي بشأن هذا الرجل إلى المحكمة الفيدرالية عام ١٩٨٩ قائلًا: «كان من الواضح أن هذا الرجل يعاني من الذهان، وكان محبوسًا في زنزانته. لم يكن بإمكانه التفاعل مع الآخرين. وقال الطبيب النفسي بالسجن إنه كان يعاني من حالة ذهان حادة، ومع ذلك رفض فريق التقييم إيداعه الوحدة الصغيرة الخاصة بالمرضى الداخليين المصابين بالذهان الموجودة داخل السجن؛ لأنه كان لا يزال بإمكانه تناول الطعام وحده، مع أنه لم يكن باستطاعته الاستحمام وحده.» وطُلِب مني وصف الرجل، فأجبت قائلًا: «أعتقد أنه لم يكن يرتدي قميصًا، وكان يجلس على الأرض، ويتمتم لنفسه. لم أجرِ له اختبارًا نفسيًّا، لكنني لاحظت أن لديه عَرَضًا من أعراض الذهان؛ وهو الشعر المنتصب على قفاه. كان لديه ذلك العَرَض بكل تأكيد.»
ليس جميع السجناء المصابين بأمراض عقلية، الذين يؤثرون البقاء في زنزاناتهم، يعانون من اضطرابات حادة مثل السجين الذي وصفته في المحكمة ذلك اليوم. لكن بِغَضِّ النظر عما إن كانت الأعراض النفسية بسيطة أو حادة، فإن الحبس في زنزانة دون تفاعل اجتماعي حقيقي أو نشاط هادف يؤدي عادةً إلى تفاقم الاضطرابات العقلية بصورها كافة.
(٤-٢) الهياج والإيداع في الحبس الانفرادي
جيمس رجل أمريكي من أصول أفريقية، يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا، يقضي مدة عقوبته في وحدة الحبس الانفرادي بأحد السجون الأمريكية. تميَّز جيمس بين السجناء الآخرين بحمله درجة البكالوريوس من إحدى الجامعات المرموقة. عندما التقيت به كان يقضي عامه الثامن من مدة عقوبته البالغة خمسين عامًا التي حُكِم عليه بها لقتله والده. لم يكن لديه أي سجل إجرامي سابق، وكان يُقسِم بأن ما حدث كان حادثًا غير مقصود. فيقول: «كنت أحب والدي حبًّا جمًّا. وكان الأمر حادثًا جنونيًّا. تشاجرنا لأن أختي أخبرته بأنني كنت أسرق بعضًا من المال الذي كلفني بإدارته من أجل الأسرة. كانت أختي تكذب عليه، لكنه لم يصدقني. وكان يحتفظ والدي بمسدس لأغراض الحماية، فأطلقت الرصاص عليه.»
حاول جيمس جاهدًا طوال حياته التحكم في حالات الهياج العصبي التي كانت تصيبه، ونجح في ذلك نسبيًّا حتى وفاة والدته. لكنه ما إن دخل السجن حتى بدأ في الدخول في شجار وجدل مع الحراس. وتلقى العديد من الإنذارات التأديبية، حتى أُرسِل أخيرًا إلى وحدة الحبس الانفرادي. يقول جيمس إنه يرغب في الحصول على دورة تُعلِّمه كيفية التحكم في غضبه، لكنه لم يحظَ قط بفرصة فعل ذلك.
كان جيمس مترددًا في الإجابة عن أسئلتي حول الانتحار، لكن الدموع لمعت في عينيه عندما طرحت الموضوع عليه. كان قد بدأ اللقاء بنوع من الاتزان المتعمد، لكن مع مواصلة الحديث صارت أفكاره أكثر تشوشًا. واعترف أخيرًا بسماعه أصواتًا في عقله، وباعتقاده أن هناك شخصًا يحاول استغلاله لنقل أفكار معينة من العالم الآخر. روى لي كذلك عن تعرضه للضرب قبل ذلك الحين ببضعة أشهر في أثناء نقله مُقيَّدًا بالأغلال داخل السجن. فالضابط الذي كان مصاحبًا له شدَّ «المِقود» (وهو حزام يُربَط بأصفاد اليدين، ويُلفُّ تحت أصفاد الساقين، ويمسكه الحارس الذي يسير خلف السجين) فوقع على وجهه على أرضية شديدة الصلابة. انقض حارسان عليه بعد ذلك، وأخذا يركلانه ويضربانه. سألته عن سبب فعلهما ذلك به، فقال لي إنه لا يعرف حقًّا السبب، ثم استدرك قائلًا: «لعل الأمر يتعلق بحقيقة أنه ليس هناك الكثير من السجناء — أو الحراس — ممن تخرجوا في الجامعة مثلي، ومن ثم ربما شعروا بأنني أحاول التعالي عليهم.»
مع استمرار اللقاء، تخلى جيمس عن تحفظه وأفصح لي عن بعض الأفكار التي اعتاد الاحتفاظ بها سرًّا؛ مثل أنه يتمتع بقدرات جنسية هائلة، وأن ذلك هو السبب الحقيقي وراء الحسد الشديد الذي يُكِنه معظم الرجال ضده ورغبتهم في مهاجمته. أخبرني كذلك أنه لا يدخل في مشاجرات إلا لحماية نفسه من اعتداءاتهم. فقال لي: «ثمة أصوات تتردد دائمًا في رأسي وتخبرني بأن مسجونًا أو حارسًا ما على وشك مهاجمتي؛ ولذلك ينبغي عليَّ اتخاذ الخطوة الأولى.» لكن بعد ذلك سيطر عليه الجانب الأكثر عقلانية في شخصيته وأخبرني بأن الشجار يتسبب في إيداعه بالحبس الانفرادي حيث تستحوذ عليه فكرة قتله لوالده، ويبكي كثيرًا، ويفكر باستمرار في الانتحار. إن جيمس أبعد ما يكون عن المجرمين الأكثر اضطرابًا الذين قابلتهم في وحدات الحراسة المشددة، لكن من الواضح أن البيئة القاسية من حوله تعوق ما يبذله من محاولات لتعلم التحكم في أعصابه، وموقفه لا يساعد على الإطلاق في تلقيه علاجًا نفسيًّا فعالًا.
سام شاب أمريكي من أصول أفريقية مفتول العضلات في منتصف العشرينيات من عمره. وجدته في وحدة عزل إداري بأحد السجون الأمريكية حيث أودِع فيها بعد تعاركه مع زميله في الزنزانة. أشار سام إلى أنه يتذكر دائمًا الجريمة التي جلبته إلى السجن. في الواقع، بدأ شجاره مع زميله في الزنزانة عندما نظر إلى وجه زميله ورأى فيه وجه الرجل الذي قتله شريكه في الجريمة التي كانت سبب إيداعه السجن. شعر بالرعب، لكن نظرًا لأنه تعلم تحويل خوفه إلى غضب لينجو بحياته في السجن؛ هاجم زميله في الزنزانة.
لم يكن لدى سام سجل أمراض نفسية أو سجل جنائي قبل أن يُلقى القبض عليه بتهمة الاشتراك في جريمة قتل مع شخص آخر. كان سام يظن أن تلك العملية ليست سوى عملية سطو بسيطة. كل ما هنالك — حسب اعتقاده — أنهما سيدخلان إلى المتجر ويستوليان على شيء ما ثم يهربان. لكنهما ضُبِطا في أثناء ارتكابهما هذه الجريمة، وركض حارس الأمن بالمتجر خلفهما. فأشهر صديق سام مسدسًا، واستدار، وأطلق النيران. فأصابت الرصاصة الحارس في وجهه ليسقط صريعًا. إلى الآن، لا يستطيع سام أن يمحو صورة وجه الحارس من ذاكرته. بل إنه يستيقظ في كثير من الأحيان من نومه بفعل الكوابيس التي يظهر له فيها وجه الحارس المغطى بالدماء ليعذبه. يعاني سام من أرق حاد مزمن، وأخبرني بأنه غير قادر أيضًا على التركيز؛ مما لا يسمح له بفعل أي شيء، بما في ذلك قراءة الكتب. هذا فضلًا عن إجفاله سريعًا عند سماعه أي ضوضاء مفاجئة أو عند دخول شخص ما إلى الغرفة على نحو غير متوقع. وكانت إجاباته ﺑ «نعم» عن معظم العناصر الواردة في قائمة الأعراض الخاصة باضطراب توتر ما بعد الصدمة.
يميل سام إلى عزل نفسه عن الآخرين، لكن بين الحين والآخر يحتك به أحد الأشخاص أو يأخذ منه شيئًا يظن سام أنه يخصه، فتنتابه نوبة غضب عارم. وقد كشف لي عن بعض الجروح التي أُصيب بها، بما في ذلك ندبة في بطنه قال عنها إنها «ترجع إلى المرة التي اضطر الجراحون فيها إلى استئصال الطحال بعد إحدى المشاجرات.» ثمة ندبة أخرى على كتفه تعود إلى إصابته بطعنة، وندبة ثالثة بموضع اختراق رصاصة لجسده، وأخرى عند موضع خروجها. وقد أخبرني أنه لم يدخل أبدًا في أي شجار قبل دخوله السجن. وقد شاهد في طفولته والده السكير وهو يضرب والدته عدة مرات. وكان يبلغ من العمر أيضًا عشر سنوات فقط عندما رأى لأول مرة في حياته عملية إطلاق نيران من سيارة متحركة أفضت إلى قتل أحد الأشخاص. ومنذ دخوله السجن، تورط في عدد من المشاجرات. وهذا هو السبب وراء قضائه فترات طويلة في الحبس المشدد، حسبما قال.
(٥) حلقة مُفرَغة خطيرة
من الواضح أن هذا الأسلوب هو نفسه المُتبَع مع السجناء المصابين بالذهان الذين ينتهي بهم الحال في وحدات الحراسة المشددة. ووحدة الحبس الانفرادي هي أقسى أنواع الحبس المشدد، لكنها ليست الوحيدة. فمعظم السجون ذات الإجراءات الأمنية المتوسطة والمشددة تشتمل على وحدات للحبس المشدد. ذلك فيما عدا السجون التي يوزَّع فيها السجناء على مهاجع؛ ففي هذه السجون يمكن إخضاع جميع السجناء للحبس الانفرادي المشدد. ويوضَع غالبًا السجناء، الذين يُصنَّفون على أن لديهم ميولًا انتحارية أو يعانون من ذهان حاد، في هذا الحبس الانفرادي حتى يتوصل مسئولو السجن إلى قرار بشأن نقلهم إلى وحدة المرضى النفسيين من عدمه. وأي سجن يمكنه تطبيق الحبس الانفرادي على جميع السجناء؛ ويعني ذلك حبس كل السجناء في زنزاناتهم أو مهاجعهم، وهو الإجراء الذي يُنفَّذ عادةً بعد وقوع حادث عنف في السجن. بالإضافة إلى ذلك، تحتوي معظم السجون على وحدة عزل إداري. فريق من السجناء، الذين يتم إيداعهم في وحدة العزل الإداري، يُعاقَب لارتكابه مخالفات تتعلق بالانضباط، وفريق ثانٍ يعاني من اضطرابات عقلية أو لديه ميول انتحارية، وفريق ثالث يحتاج إلى حبس وقائي، وفريق رابع يصل إلى هذه الوحدة؛ لأن إدارة السجن تعجز عن التوصل إلى أي إجراء آخر يمكن تنفيذه معه. والسجون ذات الإجراءات الأمنية المتوسطة والمشددة تتضمن عادةً وحدة عزل إداري أيضًا، ويُطلَق عليها أحيانًا وحدة الحبس الانفرادي حيث يقضي معظم السجناء مددًا من الحبس المشدد لارتكابهم مخالفات تتعلق بالانضباط.
في حالة السجناء المصابين بأمراض عقلية، يقرر مسئولو السجن عادةً أنه بالرغم من أن السجين ربما يعاني من اضطراب عقلي، فإن تمرده أو نوبات الهياج العنيفة الصادرة عنه تعكس «سوء تصرفه» وليس «جنونه». ومن ثم، تُفرَض عقوبة عليه، بدلًا من إخضاعه للعلاج. لكن حتى مفهوم سوء التصرف يتطلب دراسة دقيقة. مما لا شك فيه أن العديد من السجناء الذين يتم إيداعهم في وحدات مراقبة يكون قد صدر عنهم أفعال سيئة للغاية، بما يشمل الجريمة الأصلية التي صدر حكم ضدهم بشأنها، بالإضافة إلى أعمال العنف الصادرة عنهم في أثناء فترة سجنهم. (تُستخدم هذه الوحدات أيضًا لعزل السجناء ذوي الخبرة القانونية والقادة السياسيين وغيرهم ممن يرى المراقبون الأمنيون أنهم يشكلون خطرًا أمنيًّا في السجون). لكننا إذا تركنا هذا الوضع على ما هو عليه — كما لو كان أي نوع من العقاب القاسي هو ما يستحقونه على جرائمهم السابقة — فإننا سنتسبب بذلك على الأرجح في جعلهم أكثر عنفًا وفسادًا في المستقبل بسبب الصدمات التي يعانون منها في أثناء خضوعهم للحبس المشدد.
لا أعني هنا بأي حال من الأحوال أن السجناء، الذين يرتكبون أعمال عنف أو أفعالًا غير قانونية، يجب عدم معاقبتهم. لكن إيداع عدد كبير من السجناء الذين يخرقون القواعد في وحدات الحبس المشدد يزيد من احتمالية لجوء هؤلاء الرجال والنساء إلى أعمال عنف وأفعال مناهضة للمجتمع أكثر سوءًا في المستقبل، سواء في أثناء مدة حبسهم أو بعد إطلاق سراحهم.
تنطبق هذه الحلقة المُفرَغة على السجناء المصابين بالذهان وغير المصابين به على حدٍّ سواء. فقد رأيت وسمعت عن عدد كبير من حالات رشق الغائط في وحدات الحراسة المشددة التي تجولت فيها، والسجناء المتورطون في هذه الأعمال ليسوا دائمًا سجناء معروفين بإصابتهم بحالات ذهان. ويبرر بعضهم هذه التصرفات بأنها الوسيلة الوحيدة المتاحة لديهم للانتقام من الحراس؛ بسبب ما يعتبرونه معاملة وحشية وظالمة. وأخبرني البعض الآخر بأنهم يرشقون سجناء آخرين (يكونون غالبًا من المصابين باضطرابات عقلية) بالغائط لمجرد الانتقام من تصرف مماثل سابق من جانب هؤلاء السجناء الآخرين. وفي بعض الأحيان، لا يكون من الممكن تحديد السجناء المصابين باضطرابات حادة في مثل هذه المواقف. فبعض السجناء يتعلمون إخفاء أعراض المرض، بينما يعاني البعض الآخر من حالة حادة من جنون الارتياب تجعلهم لا يسمحون لأي طبيب سريري بأن يقوم بفحصهم. ولا يمكن أن ننكر أن بعض السجناء أيضًا يتظاهرون بأن لديهم أعراض المرض العقلي، لكنهم ليسوا بالعدد الذي يدعيه الحراس وموظفو الصحة العقلية.
من المعروف عن المجرمين إجمالًا عدم قدرتهم على التحكم في غضبهم أو اتباع الأوامر. يخبرني العديد من المجرمين السابقين، الذين أعالجهم في عيادتي، بأن أفضل وسيلة أمامهم لتجنب المتاعب هي الابتعاد عنها. فبعد احتكاكهم كثيرًا بالقانون، تعلموا محاولة الخروج من أي موقف يتعرضون فيه للاستفزاز أو إثارة غضبهم. لكن في السجن ليس هناك مخرج من مثل هذه المواقف. أوضح لي ذات مرة سجين في إحدى وحدات الحراسة المشددة، وهو أمريكي من أصول أفريقية يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا، السبب وراء دخوله في مشاجرات وإيداعه الحبس المشدد، فقال لي: «ترد على ذهنك أفكار غاضبة، وتظل عالقة به. وترغب في الانتقام من شخص تعرض لك بالأذى. خارج السجن، يمكنك التراجع والمحافظة على هدوئك، لكن هنا في هذا المكان لا يمكنك التراجع أو الاختباء. وما إن يتمكن أحد من إيذائك حتى يستمر في ذلك — سواء أكان من ضباط السجن أم من السجناء الآخرين — وسيدَّعون أنك قد وشيت بهم أو شيئًا من هذا القبيل.» بعض السجناء يتعرضون عادةً لتحدٍّ من جانب غيرهم من السجناء للدخول معهم في عراك، أو يجدون أنفسهم في صراعات مع موظفي السجن. وكقاعدة عامة، في كل مرة يصدر ضدهم إنذار ويُرسَلون إلى مستوًى أكثر تشددًا من الحبس، يقلل الوضع الجديد من إمكانية الانحراف لديهم ومن فرصة الخروج بهدوء من أي موقف ينطوي على خطورة شديدة؛ فلا مهرب في هذه الحالات. وعندما يجيب سجين في وحدة الحبس المشدد عن أي سؤال يطرحه أحد الحراس إجابة ساخرة، أو لا يستجيب بسرعة كافية لأمر مباشر، يصدر ضده إنذار جديد، أو يقرر الحارس الاستهزاء به أو استخدام القوة البدنية لإرغامه على الامتثال.
يتمكن بعض السجناء من الخروج من هذه الوحدة بالفعل. لكن عند عودتهم لمجتمع السجن العادي، يوضَعون تحت مراقبة مشددة للغاية. على سبيل المثال، ثمة قاعدة تحظر السير في مناطق معينة من الحشائش الموجودة في ساحة السجن، لكن الحراس يتغافلون عادةً عن ذلك. لكنك إذا كنت تخضع لمراقبة مشددة، فسوف يصدرون إنذارًا ضدك مع أول خطوة تخطوها على هذه المنطقة من الحشائش؛ ومن ثم، تعود إلى وحدة الإدارة الخاصة وتبدأ في المراحل الخمس بأكملها مجددًا. لقد رأيت الكثير من الرجال ينهارون تحت هذا الضغط، ويجن جنونهم تمامًا.
في كل خطوة، بدءًا من مجتمع السجن العادي مرورًا بوحدة العزل ووصولًا إلى إخراج السجين بالقوة من زنزانته، يعتقد موظفو السجون أن افتراضاتهم السابقة بشأن مدى سوء هؤلاء السجناء قد ثبتت صحتها بدليل هذا النموذج الجديد من العصيان وازدراء السلطة الذي يرونه من جانب السجناء. وفي الوقت نفسه، يزيد اقتناع السجين بتعرضه للازدراء وسوء المعاملة؛ فيزيد غضبه ويقل استعداده لاتباع قواعد تزداد صرامتها تدريجيًّا أو تقل قدرته على الامتثال لها.
•••
إيرل رجل أبيض يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا، قضى في وحدة الحبس الانفرادي نحو ثلاثة أعوام. كان أداء إيرل في المدرسة سيئًا للغاية (الأمر الذي رأى إيرل أنه يرجع إلى معاناته من إعاقة تعلُّم ترتبط بحالة حمى ونوبات مرضية كانت تنتابه في طفولته). وحتى مع فصول التعليم الخاص، لم يتمكن من استكمال تعليمه في المرحلة الإعدادية. ويرجع تاريخه المرضي النفسي واضطراب النوبات الحاد الذي يعاني منه إلى مرحلة الطفولة المبكرة. وقد كان والده، الذي شارك في الحرب الكورية، معاقًا ومدمنَ خمرٍ وسيئ الطباع، فتكفلت والدته بالإنفاق على الأسرة بعملها مساعدة تمريض.
نشأ إيرل في حي يسكنه أصحاب الدخول المتوسطة يقول عنه: «ارتكب جميع الأطفال سرقات بسيطة في الحي، لكنهم كانوا يفلتون من العقاب ويُمسَك بي وحدي دومًا. أعتقد أنني كنت مضطربًا للغاية آنذاك على نحوٍ حالَ دون تخطيطي للهروب من هذه المواقف أو التفكير في حجة جيدة أدافع بها عن نفسي.» وقد شُخِّصت حالته بأنها «اضطراب هوسي اكتئابي مصحوب بأعراض ذهانية»، وصار يخضع للعلاج، لكنه يعاني أيضًا من اضطراب قلق حاد مصحوب بنوبات هلع ورُهاب شديد يرتبط باحتجازه في الزنزانة.
يُرجِع إيرل تاريخ إصابته ﺑ «رُهاب الزنزانة» إلى واقعة حدثت له عند وصوله السجن أول مرة قبل ذلك الحين بعشرة أعوام؛ إذ سحله عدد من السجناء إلى إحدى الزنزانات واغتصبوه فيها أكثر من مرة. ولا شك أنه بجانب التاريخ المَرضي من النوبات الذهانية والتقلبات المزاجية الحادة، يظهر على إيرل العديد من ملامح اضطراب توتر ما بعد الصدمة، بما في ذلك توارد التجارب القاسية السابقة على ذهنه والأرق الحاد الذي بدأ بعد التعرض للاغتصاب، بالإضافة إلى الكوابيس ورد الفعل الإجفالي الشديد، والحياة المُقيَّدة على نحو كبير، وبالطبع نوبات الهلع. وقد صدر إنذار ضده بسبب أول إخلال له بقواعد الانضباط في السجن؛ لأنه رفض تنفيذ أمر مباشر صدر إليه من أحد ضباط السجون بمعاودة الدخول إلى زنزانته. يفسر إيرل ذلك بأنه رفض تنفيذ الأمر في تلك اللحظة؛ لأن خوفه من الاحتجاز في الزنزانة فاق قلقه بشأن التعرض لعقوبة معينة من الضابط لعصيانه الأمر الصادر منه. بيد أن العقوبة تمثلت في مزيد من الاحتجاز في الزنزانة.
يعمد إيرل أيضًا إلى تشويه جسده بإحداث جروح فيه. سألته عن السبب وراء ذلك، فوصف لي على نحو مؤثر للغاية أنه بعد احتجازه في الزنزانة فترة من الوقت، ازداد توتره إلى درجة لا تُحتمَل، وشعر بأنه مُرغَم على إحداث هذه الجروح في جسده. فهو يرى في ذلك السبيل الوحيد لتخفيف التوتر الذي يعاني منه. وقد اكتشف أيضًا، في النهاية، أنه في كل مرة يجرح فيها جسده سواء أكان الجرح حول المعصم أم في البطن، يُخرَج من زنزانته ويُرسَل إلى المستشفى لتخييط موضع الجرح.
يقول إيرل: «ما إن أصل إلى المستشفى حتى أهدأ على الفور، ويتبدد الهلع بمجرد خروجي من الزنزانة.» لكن نظرًا لأن تشويه الذات يُعَد انتهاكًا لقواعد السجن، يُضاف مزيد من الوقت إلى مدة الحبس المشدد التي يقضيها إيرل. وعندما أوضحت له أنه يقضي فترة قصيرة فقط من الوقت في المستشفى لتلقي علاج الطوارئ ثم يعود إلى زنزانته، كان رده: «لكن الأمر يستحق!» فهو يرى أن الهلع الذي يشعر به في زنزانته لا يترك أمامه أي خيار آخر، ويشعر بأن هذه الفترة الزمنية القصيرة من الراحة تستحق الجُرح والألم.
إيرل — شأنه شأن الكثير من السجناء المصابين باضطرابات انفعالية ممن أراهم في وحدات الحبس المشدد — يعاني من اختلال وظيفي كامل، حتى داخل وحدة الحبس الانفرادي. فهو يشعر معظم الوقت بأنه متوتر للغاية على نحو يحُول دون متابعته لأية فكرة أو انخراطه في القراءة أو الكتابة؛ ولذا فهو يذرع المكان جيئةً وذهابًا أو يستلقي متململًا في فراشه طوال النهار ومعظم الليل، محاولًا تتبع أفكاره المتسارعة في ذهنه. ويفزع من الاحتجاز في الزنزانة، لكنه يظل محتجزًا فيها أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا تقريبًا. ولا تؤدي هذه الحلقة المُفرَغة إلا إلى استمرار التوتر وتشويه الذات وازدياد حدتهما. وإيرل ليس سوى واحد من بين مجموعة كبيرة من السجناء المضطربين للغاية الذين يتعرضون للعقاب بسبب ما يعانونه من اضطرابات نفسية، بدلًا من تلقيهم العلاج.
لا ريب أن الهدف المنطقي من وراء الاحتياطات الأمنية القاسية وصور الحرمان الصارخة في السجن هو منع العنف. لكن هل توقف العنف أم أنه نما وزاد؟ هل تمَّ احتواء المرض العقلي أم أنه تفاقم؟ لأسباب عدة — بما فيها التوقف عن تمويل برامج الصحة العقلية الحكومية في المجتمع وقصور خدمات الصحة العقلية داخل السجون — صارت السجون أشبه بمستودعات لأعداد هائلة من الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات حادة. وعندما يُحرَم السجناء من إشباع احتياجاتهم الإنسانية الأساسية — مثل التواصل الكافي مع الأحباء، ومساحة مناسبة للعيش والخصوصية، وشيء بسيط من السيطرة على البيئة المحيطة، والتمتع بمساحة لإبداء الرأي حول ما يتمتعون به من مزايا وصور الحرمان التي تُفرَض عليهم، والتمتع بمساحة للاستفادة من طاقاتهم ومواهبهم، وامتلاك فرصة للتعلم والتطور — يزداد سخطهم باستمرار. تنمو مشاعر الخوف والعداء والارتباك بداخلهم؛ فيتصرف البعض بعنف في صورة سلوكيات سلبية، مثل عصيان الأوامر، أو إلقاء القمامة، أو الصراخ في وجه الضابط.
ولقد صرَّح لي أحد السجناء قائلًا: «الوسيلة الوحيدة لإرغام شخص ما على الاستماع إليك هنا هي أن تصيح في وجهه غاضبًا أو تُلحق الأذى به!» على الجانب الآخر، يتعرض البعض للانهيار أو يحاولون الانتحار. لكن في معظم السجون، إلحاق الضرر بالنفس يُعَد مخالفة للقواعد، ومن ثم تُضاف مدة أخرى إلى مدة الحبس المشدد التي يقضيها السجين. ويتحوَّل السجناء من ثم إلى أفراد مفعمين بالكراهية ومفتقرين إلى خيارات التعبير عن النفس، ويصيرون غير قادرين على تكوين علاقات ودودة لطيفة، وغير مستعدين للعمل أو العيش خارج السجن.
وعلى الرغم من أن عددًا هائلًا من السجناء يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة، فإنهم لا يتلقون العلاج المناسب، وإنما يتعرضون لمعاملة وحشية من موظفي السجن وغيرهم من السجناء على حدٍّ سواء. وعدد كبير من المجرمين المضطربين عقليًّا يدخلون السجن ولديهم تاريخ من المرض العقلي الطويل، لكن ثمة مجموعة أخرى كبيرة من السجناء تنشأ لديهم هذه الاضطرابات التي تصيبهم بالتعاسة بعد دخولهم السجن. في الفصل الثاني من هذا الكتاب، سأتناول بعض العوامل المسببة للضغط النفسي التي تسفر عن معاناة الكثير من السجناء من انهيارات انفعالية في السجن.