إمكانية مقاضاة السجون وحدود ذلك
لقد حسَّنت قضايا السجون من الصحة العقلية للسجناء بطريقتين على الأقل. تتمثل الطريقة الأولى في أن التسويات والأحكام القضائية التي تصدر لصالح السجناء يكون لها أثر مباشر على أحوال السجون وجودة خدمات الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية. أما الطريقة الثانية، فهي أن تجربة الوقوف في المحكمة كندٍّ مكافئ لمن يتحكمون تحكمًا كاملًا في حياة السجين داخل السجن يمنح هذا السجين شعورًا صحيًّا بالقوة وبوجود ملاذ شخصي له. وهذه التجربة يمكن أن تساعد في التخفيف من آلام الكثير من السجناء المتعلقة بالمحن الانفعالية. وقد أدت الدعاوى القانونية التي رُفِعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى تحسينات ملموسة للغاية.
في أغلب الأحيان، ما إن يبدأ السجناء في الفوز بالدعاوى القانونية التي يرفعونها حتى يشرع الساسة في المطالبة بالحد من وصول السجناء إلى المحاكم، وتبدأ إدارات المؤسسات العقابية في مقاومة التغيير بقوة، كما تبدأ السلطات التشريعية على المستويين الفيدرالي ومستوى الولايات في ابتكار طرق لتقييد الملاذ القانوني الذي يمكن للسجناء اللجوء إليه. ولقد أُقِرَّت قوانين جديدة، بما في ذلك قانون إصلاح مقاضاة السجون الفيدرالي، للحد من وصول السجناء إلى المحاكم، وتقييد نطاق الأحكام القضائية فيما يتعلق بأحوال السجون. وقد مورِست ضغوط سياسية كذلك على القضاة الذين يُنظَر إليهم على أنهم «يدللون السجناء». وعملت بعض القرارات القضائية الحديثة على التقليل من شأن نجاحات السجناء في قاعات المحاكم. وتؤثر كل هذه التطورات، أيضًا، على الصحة العقلية للسجناء.
(١) مكاسب مهمة
إن التحسينات التي تتم بأمر المحكمة في أنظمة رعاية الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية تؤدي إلى فوائد مباشرة مهمة. وعندما تأمر المحاكم أنظمة السجون بالتخفيف من بعض الظروف القاسية بها، تحدث تحسينات واضحة في معاناة السجناء المصابين بأمراض عقلية.
أما الفوائد غير المباشرة لمقاضاة السجون، فليست بهذا القدر من الوضوح. على سبيل المثال، عندما يرفع أحد السجناء قضية لتصحيح أحد الانتهاكات ويحصل على حكم لصالحه، تكون إحدى الفوائد غير المباشرة لذلك هي التخفيف من شعوره بالعجز واللاقيمة كسجين. وعندما ينال مجموعة من السجناء فرصتهم في التعبير عن أنفسهم في المحكمة، يشهد المرء الفخر والارتفاع في مستوى تقدير الذات على وجوههم. ويقل الشعور بالاكتئاب لدى البعض، بينما يقل اليأس والرغبة في إلحاق الضرر بالذات لدى البعض الآخر؛ فأخيرًا، ثمة شخص ما يأخذ تظلماتهم على محمل الجِد. كذلك يُكسر أخيرًا حاجز الصمت بشأن الظروف القاسية والمعاملة المسيئة، على الأقل في ذلك اليوم في المحكمة، ويُمنح السجناء الحق في التعبير عن أنفسهم. وعلى عكس المتشككين الذين يدعون أن المقاضاة لا جدوى لها، فقد رأيت تغييرات كبيرة في القضايا التي شاركت فيها. صحيح أن من المستحيل أن تختفي جميع الأهوال بحياة السجون المعاصرة في وقت واحد، لكن التحسينات التي تطرأ على هذه السجون تُحدِث اختلافًا كبيرًا في حياة السجناء.
(١-١) الدعاوى القضائية الجماعية
إن الدعاوى القضائية الجماعية يرفعها السجناء ومناصروهم عندما تكون تظلماتهم واسعة الانتشار على نحو يكفي للتحدث عنهم باعتبارهم جماعة واحدة. وقد تتألف هذه الجماعة من جميع السجناء بإحدى المؤسسات العقابية، أو جميع السجناء في إحدى وحدات الحراسة المشددة، أو جميع السجينات في أحد أنظمة السجون بإحدى الولايات. وفي بعض الأحيان، تجتمع جماعة من السجناء معًا في البداية لصياغة قضيتهم، ثم يبحثون عن محامين من الخارج لتمثيلهم. وفي بعض الأحيان، مثل قضية كين ضد إدارة المؤسسات العقابية بميشيجان، يتولى هؤلاء السجناء مهمة الدفاع عن أنفسهم.
وفي بعض القضايا الأخرى، يسمع المحامون من بعض السجناء عن تظلم مؤسف للغاية، ويجرون الترتيبات اللازمة في السجن الذي يوجد فيه هؤلاء السجناء، يسألون من خلالها السجناء الآخرين إن كانوا يرغبون في الانضمام إلى إحدى القضايا الجماعية أم لا. وفي بعض الأحيان، يقرر القاضي الذي يتلقى عددًا من الشكاوى الفردية من سجناء في سجن واحد أنه قد يكون من المفيد جمع كل هذه الشكاوى في قضية جماعية واحدة. وعندما تُرفَع قضية جماعية أمام القضاء، فإنها تشمل جميع السجناء الذين ينطبق عليهم وصف الأعضاء في الجماعة التي رفعت الدعوى، حتى وإن بدأ عدد قليل منهم نسبيًّا الدعوى القضائية وصاروا مشاركين نشطين فيها. على سبيل المثال، في قضية جيتس ضد دوكماجين، وهي قضية جماعية فيدرالية رُفِعت عام ١٩٨٩ عن جودة خدمات الصحة العقلية في السجون، شملت القضية كل السجناء في مرفق الرعاية الطبية بكاليفورنيا الذين يعانون أمراضًا عقلية.
وبعض المحامين، الذين يمثلون السجناء، يعملون في مكاتب محاماة غير هادفة للربح ومتخصصة في مقاضاة السجون وفي منظمات الحقوق المدنية، بينما يمارس آخرون المحاماة في مكاتبهم الخاصة. وفي القضايا التي تتضمن احتمالية القيام بتسوية مالية، قد يتولى المحامون الدعوى القضائية على أساس الحصول على أتعابهم حال صدور الحكم لصالح موكليهم. وإذا لم يصدر حكم لصالح السجناء في دعواهم القضائية الجماعية، يمكن للمحامين أن يلتمسوا الحصول على أتعابهم من الجهة الفيدرالية أو التابعة للولاية المرفوع ضدها الدعوى. وفي هذه الحالة، يتولى المحامي أو مكتب المحاماة القضية دون أتعاب، ولا يحاول الحصول على أتعاب إلا في حالة فوز موكله. وفي بعض الأحيان، على سبيل المثال في القضايا التي تتضمن أمرًا قضائيًّا بوجوب إحضار السجين أمام المحكمة وتشمل عقوبة إعدام، تدفع المحاكم الأتعاب للمحامين كي يدافعوا عن موكليهم. بعبارة أخرى، هناك العديد من الترتيبات المختلفة التي تسمح للمحامين بتولي قضايا السجون. لكن مثلما سأوضح فيما بعد، غالبًا ما تجعل التشريعات والتوجهات الحديثة في القانون القضائي الأمر أكثر صعوبة على السجناء حاليًّا فيما يتعلق بحصولهم على محامين. ويدرس العديد من السجناء في السجن الكتب القانونية ليصبحوا من «محامي السجون» ويمثلوا أنفسهم أمام القضاء. لكن التغييرات الحديثة في سياسات السجون تحد من إمكانية حصولهم على الكتب القانونية.
(١-٢) التأثير على الصحة العقلية
لقد تقدمت بشهادتي في اثنتي عشرة دعوى قضائية جماعية تتعلق بالأوضاع في الحبس ومدى ملاءمة رعاية الصحة العقلية في السجون منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين. وفي كل قضية، تضمنت المشكلات الازدحام، وعدم ملاءمة الأنشطة (مثل قلة الوقت المخصص للسجناء خارج زنزاناتهم نتيجة للازدحام، وإيداع عدد كبير من السجناء في وحدات الحبس المشدد)، والقصور في منع حالات الانتحار أو الاغتصاب، والاستخدامات غير العادلة للعزل العقابي، وعدم ملاءمة رعاية الصحة العقلية والوقاية من الأضرار للسجناء المعروف عنهم معاناتهم اضطراباتٍ عقلية خطيرة. وفي كل قضية، رُفع الظلم عن المدعين (السجناء كجماعة) حيث تم وضع حد لنسبة الإشغال في السجون، وإنهاء الإشغال المزدوج للزنزانات في وحدات العزل العقابي، والسماح بقضاء عدد معين من الساعات كل أسبوع في مكان لممارسة التمارين الرياضية، وتسهيل الوصول للمكتبات، وتحسين العلاج الطبي والنفسي، ووضع نهاية للتعامل المسيء مع السجناء الذين يتبين أن نتائج اختبار فيروس نقص المناعة البشرية لديهم إيجابية، وأوامر بتعيين المزيد من موظفي رعاية الصحة العقلية ودعم البرامج العلاجية. وهذه انتصارات مهمة.
وبما أنه من المعروف أن الازدحام والتكاسل يزيدان من معدلات العنف والانتحار والانهيارات الانفعالية في السجون، فإن التخفيف من الازدحام بأمر من المحكمة يجعل الحياة أكثر قابلية للتحمل بالنسبة إلى السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة. على سبيل المثال، مع تراجع العنف في ساحات السجون، يزداد شعور السجناء بالاطمئنان عند مغادرتهم زنزاناتهم ومشاركتهم في الأنشطة الاختيارية، كمهام عمل أو فعاليات رياضية. وفرصة المشاركة في أنشطة اجتماعية سلمية تعزز السلوك الملائم وتمنح السجناء الفرصة لاختبار الواقع وتحسين مهاراتهم الاجتماعية. وبذلك، يصير السجناء الذين لديهم ميل للإصابة بالاكتئاب أقل عرضة للانسحاب إلى زنزاناتهم حيث تزيد العزلة من الاكتئاب لديهم.
والزيادة في التواصل الاجتماعي الودي والنشاط التعاوني يقدم لجميع السجناء فرصًا أكثر للتحدث بعضهم مع بعض والحفاظ على صورة أشبه بالحياة الاجتماعية الطبيعية؛ ما يعني عادةً استعدادهم على نحو أفضل للنجاح في المجتمع بعد إطلاق سراحهم. بعبارة أخرى، يعود الحد من الازدحام بالنفع على الصحة العقلية لجميع السجناء، سواء الذين يعانون اضطرابات عقلية أو مَن يبدو عليهم الاستقرار نسبيًّا.
ومع تعزيز خدمات الصحة العقلية بأمر من المحكمة، يلفت السجناء انتباه موظفي رعاية الصحة العقلية على نحو أسرع عندما تظهر عليهم علامات وأعراض الاضطرابات العقلية الخطيرة. وتزداد كثافة العلاج الذي يتلقاه هؤلاء السجناء، ويؤدي ذلك إلى تحسن في التأقلم مع الحياة داخل السجن كما يؤدي إلى تحسن توقعات سير المرض. وفي ظل تحسن العلاج أيضًا يقل عدد السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة ويودعون العزل الوقائي لخرقهم القواعد أو ارتكابهم أعمال عنف، ويزيد عدد مَن يحصلون على العلاج الموصوف لحالتهم المرضية. وليس ذلك سوى عدد قليل فقط من الطرق العديدة التي يخفف بها تحسين أحوال السجن وخدمات الصحة العقلية عناء السجناء المضطربين عقليًّا.
(١-٣) تصويب الأحكام الظالمة
جميع السجناء تقريبًا الذين التقيت بهم كانت لديهم قصص عن الأحكام الظالمة التي تعرضوا لها. وأخبروني بإيقاف الشرطة وتفتيشها لهم، بقسوة عادةً، وإدانتهم بجرائم لم يرتكبوها. وحتى مَن يعترفون منهم بارتكابهم الجرائم التي أُدينوا بها يزعمون أنهم لم يحصلوا على تمثيل قانوني مناسب. ويقولون إنهم تعرضوا لمعاملة وحشية من جانب الحرَّاس وحُرِموا من حقهم في الزيارات أو الذهاب إلى المكتبة، ويدعون أن الحرَّاس يهاجمونهم ثم يصدرون إنذارات تأديبية ضدهم بتهمة «إهانة ضابط»، ويؤكدون أنهم يحصلون على إنذارات لانتهاكات انضباطية ظلمًا، وتصدر ضدهم عقوبات بقضاء مدد زمنية طويلة للغاية في الحبس المشدد. لا شك أن الحمقى فقط هم مَن يصدقون اعتراضات كل سجين وادعاءه البراءة. لكن لا بد أن بعضًا من هذه القصص حقيقية بالفعل. فعندما أكتشف أن جلسات الاستماع والاستئناف التي تحدث في السجون بجميع أنحاء البلاد — وتديرها إدارات المؤسسات العقابية وليس المحاكم — تصدر عنها أحكام قضائية ضد السجناء في أكثر من ٩٠ بالمائة من القضايا، تراودني الشكوك في عدد السجناء الذين صدرت ضدهم أحكام ظالمة بالفعل.
يكون الظلم بيِّنًا أحيانًا، وعندما يتمكن السجين من التعبير عن نفسه بحرية في المحكمة، يكون هناك تعويض لتظلمه. ولا بد، بالطبع، أن يكون لدى السجين المال الكافي ليعثر على محامٍ متفرغ وليتحمل تكاليف عملية المقاضاة التي قد تستمر فترة طويلة جدًّا. هذا جهد هائل لا يتمكن من بذله سوى القلة القليلة من السجناء. لكن عندما ينجح سجين في مسعاه هذا، تصدر في بعض الأحيان أحكام تجدد ثقتي في النظام القانوني، وتجعلني أتساءل عن عدد السجناء الذين يقولون الحقيقة بشأن الاتهامات والانتهاكات الظالمة التي يتعرضون لها، ويُحرَمون من حقهم في التعبير عن أنفسهم بحرية في المحكمة.
قاضى فرانك سميث ولاية نيويورك بتهمة انتهاك حقوقه المدنية والإنسانية في أعقاب تمرد السجناء في سجن أتيكا في سبتمبر عام ١٩٧١. كان السيد سميث متحدثًا رسميًّا عن السجناء في أثناء استيلائهم قصير المدة على زمام الأمور بالسجن. وبعد أن استعاد الحرَّاس سيطرتهم على السجن، يُدَّعَى أنهم أجبروا السيد سميث على السير فوق زجاج مكسور، وضربوا أعضاءه التناسلية بالهراوات، ووضعوا سجائر مشتعلة على جسمه، ومارسوا لعبة الروليت الروسي بتصويب مسدس محشو نحو رأسه. وقد ذكر السيد سميث، الذي صار الآن في منتصف الستينيات من عمره ويعيش خارج السجن، في شهادته أنه بعد أن استعاد الحرَّاس سيطرتهم على سجن أتيكا، أجبروه على الاستلقاء عاريًا على منضدة مدة خمس ساعات حاملًا كرة قدم بذقنه، وأخبروه بأنه إذا سمح للكرة بالتدحرج بعيدًا، فسوف يتعرض للإخصاء أو القتل.
فرانك سميث واحد من بين ألف سجين بسجن أتيكا تقدموا بدعوى قضائية عام ١٩٧٤، وأول مَن حصل على تعويض عما لحق به من أضرار. ففي ٥ يونيو عام ١٩٩٧، أدانت هيئة محلفين نائب مأمور السجن وولاية نيويورك لاستخدامهما القوة المفرطة على نحو ينتهك حقوق السيد سميث الدستورية، وأصدرت أمرًا لولاية نيويورك بتقديم تعويض له يبلغ ٤ ملايين دولار. وقضت إليزابيث فينك، المحامية الرئيسية للسيد سميث، حياتها المهنية بأكملها وهي تعمل في هذه القضية.
لك أن تتخيل الفرق الذي يحدثه الأمر لضحية التعذيب عند إدانة المحكمة للمعتدين عليها وإصدارها أمرًا بنوع من التعويض. فعلى أدنى تقدير، سيكون هناك أثر إيجابي على درجة اضطراب توتر ما بعد الصدمة واستمراريته. لكن فوائد التعويض القانوني تمتد لما هو أكثر من ذلك لدى مَن تُشخَّص حالتهم باضطراب توتر ما بعد الصدمة.
ينطوي المرض العقلي، في جوهره، على شعور المرء بأنه ليس المتصرف في شئون حياته؛ فيشعر الشخص المكتئب بأن أمورًا سيئة للغاية ستحدث وليس بيده شيء يفعله حيالها. ويعتقد المصاب بالهوس الشيءَ نفسه، لكنه يحاول بشكل دفاعي التصرف كما لو كان يتمتع بالتحكم الكامل فيما حوله. أما المصاب بالفصام، فيهرب من واقع لا سلطة له عليه إلى حياة خيالية تتضمن على الأقل احتماليةً ما لرضًا مُتخيَّل. وفي العالم الواقعي، إذا كان الشخص الذي يعاني مرضًا عقليًّا خطيرًا ومستديمًا قادرًا على زيادة شعوره بالقوة، وشعر على نحو واقعي للغاية بأن لديه بعض السلطة على حياته، فستقل حاجته إلى الاستسلام للاكتئاب أو الهروب إلى الأوهام. لا أعني هنا أن الدعاوى القضائية الباهظة التكاليف تُبرَّر فقط بما تحققه من مزايا على مستوى الصحة العقلية؛ وإنما ينبغي أن تنشأ في الأساس لسبب قانوني.
في أية قضية، الفرص المتاحة للسجناء للحصول على تعويض قانوني ملموس للمظالم تمنحهم فرصة مهمة للوصول إلى قدر يسير من الاستقرار العقلي. وعلى الرغم من أنني لا أعرف أي شيء عن حالة فرانك سميث العقلية، فإنه إذا كان يعاني الاكتئاب قبل صدور الحكم القضائي، فأظن أن هذا الحكم الصادر ضد معذبيه قد قدم له الدافع للخروج من اكتئابه والشعور مرة أخرى بأنه يتمتع ببعض الحقوق والصلاحيات كإنسان.
معظم القضايا لا تؤدي إلى مثل هذه الأحكام الرائعة. فيُطلَب مني أحيانًا تقديم رأيي بشأن أمر بسيط للغاية. على سبيل المثال، السجين الذي يعاني اضطرابًا عقليًّا خطيرًا مصحوبًا بالعديد من الهلاوس السمعية والأوهام الارتيابية الحادة، يُصدِر الحراس ضده إنذارات تأديبية مرارًا وتكرارًا لمجادلته إياهم عندما يُمْلُون عليه أمرًا ما. تطلب جماعة محلية لحقوق الإنسان من مكتب محاماة كبير تولي قضية ذلك الرجل. ونظرًا لأن مكتب المحاماة هذا يخصص جزءًا من وقته للقضايا التي لا يحصل فيها على أتعاب، فإنه ينظر في الأمر ويقرر أن يسألني إن كان لدي استعداد لزيارة السجن وتقييم حالة ذلك الرجل أم لا.
ألتقي بهذا الرجل، وألاحظ أنه لا يمكنه أن يتوقف عن الكلام ليعطيني الفرصة الكافية لتبادل الحوار معه. وأُوضح في تقريري أنه يعاني اضطرابًا عاطفيًّا ثنائي القطب (أو هوسًا اكتئابيًّا) مصحوبًا بأعراض ذهانية، وغير قادر على الإطلاق على التوقف عن السيل المتدفق من السباب الذي بدأت في سماعه بمجرد اقترابي من زنزانته. أظن أنه في كل مرة يقترب فيها أحد ضباط السجن من هذا السجين، فإنه يبدأ في التحدث بهذا الأسلوب العدائي، ويقرر الضباط الذين يصدرون ضده الإنذارات التأديبية أنه قد تجاوز الحد الفاصل بين الحديث المسموح به وازدراء الضابط. لكن، مثلما أوضحت، حديث ذلك السجين المفتقر للاحترام ما هو إلا نتيجة مباشرة للاضطراب العقلي الخطير الذي يعانيه؛ ومن ثم ينبغي أن يراه طبيب نفسي بدلًا من أن يتلقى إنذارات تأديبية عديدة أدت إلى إيداعه وحدة الحبس الانفرادي.
في هذه القضية تحديدًا، اتفق معي القاضي في الرأي، وأمر بإخراج السجين من وحدة الحبس الانفرادي وإخضاعه للعلاج النفسي. لكن، بالطبع، في قضايا أخرى يحكم القاضي على الأرجح بأن مرض السجين العقلي لا يبرر خرقه لقواعد السجن؛ ولهذا السبب نجد عددًا هائلًا من السجناء المصابين بذهان حاد في وحدات الحراسة المشددة.
كان جايد في العشرين من عمره عندما أُدين بحيازة سلاح ناري دون ترخيص، وصدر ضده حكم بالسجن عامين بالإضافة إلى أربع سنوات من إطلاق السراح المشروط. وعند وصوله السجن، كان غاضبًا من الحكم الصادر ضده وخائفًا من تعرضه للاعتداء. فكلما تعامل معه أي شخص بعدم احترام، حرص على أن يبادر هو بالاعتداء. ومن ثم، تورط في العديد من الشجارات، وفي كل مرة تصدر ضده وضد خصمه إنذارات لخرق القواعد ويُنقلان إلى وحدة العزل الإداري.
بعد بضعة أشهر في السجن، حصد جايد من إنذارات انتهاك القواعد ما يكفي لإرساله إلى وحدة الحبس الانفرادي في سجن بيليكان باي. وقضى ما تبقى من عقوبته البالغة عامين في هذه الوحدة حيث كان يمكث في زنزانته نحو أربع وعشرين ساعة يوميًّا. وعندما جاء موعد إطلاق سراحه، قاده الحرَّاس إلى بوابة السجن الأمامية، وأُعطي «مبلغ إطلاق السراح» وقيمته ٢٠٠ دولار، وأُطلِق سراحه.
عند وصول جايد إلى المنزل، توجَّه مباشرةً إلى غرفته القديمة. وظهر بعد بضع ساعات ليخبر والدته بأن الغرف في المنزل تبدو ضخمة مقارنةً بالزنزانة التي شغلها ما يقرب من عامين. لاحظت والدته أنه فقد خمسين رطلًا من وزنه في السجن، وشجعته على تناول الطعام. لكنه لم يشعر بالرغبة في الأكل. وكان قلقًا من تناقص وزنه أيضًا، فبدأ في رفع الأثقال مضطرًا.
بعد أن قضت أخت جايد ما يقرب من ليلة كاملة في التحدث معه، أخبرت هذه الأخت البالغة من العمر عشرين عامًا والدتها بأنها تشعر بالقلق على جايد حيث قالت لها: «يبدو أنه في حالة مزاجية غريبة، ماذا لو قرر إلقاء نفسه من النافذة؟ أو فعل ذلك بأحد منا؟» فشعرت والدته بالقلق أيضًا. وبعد أربعة أيام من رجوعه إلى المنزل، اتصلت بضابط إطلاق السراح المشروط وسألته إن كان بإمكانه مساعدتها في العثور على علاج لابنها. فطلب منها ألا تقلق، وقال لها إنه سيهتم بكل شيء. وكان أن وجدت والدته هذا الضابط على باب المنزل ومعه أربعة ضباط شرطة آخرون، فألقوا القبض على جايد وأعادوه إلى السجن.
تمت «مخالفة» إطلاق السراح المشروط الخاص بجايد؛ لأنه اعتبِر «مريضًا عقليًّا وخطرًا على نفسه وعلى الآخرين»، وهي أسباب تلغي إطلاق السراح المشروط في كاليفورنيا. اتصلت والدة جايد، التي صدمها هذا الخبر، بأحد المحامين لتسأله عن سبب إعادة ابنها إلى السجن بعد أن قضى بالفعل مدة عقوبته وعدم خرقه أية قوانين منذ إطلاق سراحه.
بدأ الطبيب النفسي الذي يعمل بالسجن والذي عُيِّن لتقييم حالة جايد، حديثه معه بإعلامه بأن اللقاء بينهما سيكون اختياريًّا بالكامل ولن يتضمن أي نوع من السرية. شعر جايد بالغضب لإيداعه السجن من جديد، وقرر أنه لن يخبر الطبيب النفسي بالكثير في ظل هذه الظروف. وأنهى الفحص النفسي الذي أُجري له بعد خمس عشرة دقيقة.
لم يحصل الطبيب النفسي على الكثير من المعلومات من هذا اللقاء. لكن في تقريره لهيئة إطلاق السراح المشروط، كتب أن جايد هدد بالانتحار أو قتل أمه أو أخته، وأنه كانت تنتابه هلاوس أثناء الأيام الأربعة التي قضاها بالمنزل. وأقرَّ بأنه أثناء اللقاء لم تكن هناك «أدلة واضحة على الذهان» وأن جايد «لم يبدُ عليه أنه يستجيب للمثيرات الداخلية»، كما أنه «لم يفصح عن أفكار محددة تنطوي على ميله للانتحار أو العنف.» لكن نظرًا لأن ضابط إطلاق السراح المشروط قد أوضح في تقريره أن ثمة هلاوس كانت تنتاب جايد وأنه كان يهدد بإلقاء شخص ما من النافذة، شخَّص الطبيب النفسي حالة جايد بأنها «اضطراب ذهاني غير محدد النوعية»، وأوضح رأيه أن جايد يمثل خطرًا على نفسه وعلى الآخرين. وبناءً على هذا التشخيص، قررت هيئة إطلاق السراح المشروط الإبقاء على جايد في السجن مدة عام آخر على أن يقضي معظمه في الحبس الانفرادي.
بعد بضعة شهور، فحصتُ جايد ولم أكتشف أية علامات أو أعراض للذهان لديه. وفسر لي جايد بقاءه في غرفته عندما عاد إلى المنزل بأنه بعد عامين في الحبس الانفرادي، لم يكن مستعدًا للتواصل مع الناس. كان قد خطط للخروج من غرفته تدريجيًّا عند شعوره بالأمان. ولم تكن تراوده قط أية هلاوس، وأنكر كذلك ما قيل عنه بأنه هدَّد بالانتحار أو استخدام العنف. تحققت من الأمر مع والدته، فاكتشفت أن أخته تصوَّرت فقط أن جايد ربما يكون خطيرًا، لكنه لم يقل لها أي شيء على الإطلاق بشأن إلقاء نفسه أو إلقائها من النافذة. وعندما رجع جايد إلى السجن، قرر عدم التحدث مع الأطباء النفسيين والانتظار حتى يحرره أحد الإجراءات القانونية.
أذهلتني سلامة تخطيطه وقدرته على التحكم في غضبه حيال إعادة حبسه ظلمًا بعد أن قضى مدة عقوبته. ولا أعتقد أن هيئة إطلاق السراح المشروط كانت ستأخذ رأيي المهني في الاعتبار لو أن محامي جايد لم يقاضِ الولاية لإطلاق سراحه. لكنه على أية حال أُطلِق سراحه بمجرد أن أدركت إدارة المؤسسات العقابية أن مخالفة إطلاق السراح المشروط الخاص به قد استندت إلى أخطاء في الوقائع وأن الطبيب النفسي قد أخطأ تمامًا عندما افترض أن أي سجين يرفض التحدث إليه، حتى بعد أن أوضح له أن اللقاء اختياري، لا بد أن يكون مصابًا بالذهان أو جنون الارتياب.
ما كان جايد ليتمكن من مجابهة القرار الظالم الذي اتخذته هيئة إطلاق السراح المشروط والفوز بقضيته لولا توكيل والدته محاميًا لتمثيله. لكنَّ هناك عددًا هائلًا من القضايا التي يُحبَس فيها السجين خطأً ولا يتمكن من الحصول على تمثيل قانوني له. والميل لإصدار أحكام أكثر قسوة وإنهاء «تدليل» السجناء يؤدي إلى الحد من إمكانية حصول السجناء حاليًّا على تمثيل قانوني ووصولهم إلى المحاكم.
(١-٤) منح السجناء فرصة للتعبير عن أنفسهم
من المُلهِم دائمًا رؤية مَن يتعرضون لمعاملة سيئة وهم يقاومون ويطالبون بحقوقهم، مثلما يفعل السجناء في المحاكم. داخل السجون، لا يتمتع السجناء إلا بقدر بسيط من السلطة، هذا إن وُجدت من الأساس. وهم يُعاقَبون بقسوة لقولهم أي شيء قد يفسره أي ضابط من ضباط السجن بأنه يفتقر للاحترام. ويخسرون ما يزيد عن ٩٠ بالمائة من جلسات الاستماع التي يدَّعون فيها بأنهم تعرضوا لعقوبات ظالمة. وعندما يمثلون أمام هيئات إطلاق السراح المشروط ويصدر قرار ضدهم، قلما يحق لهم الاستئناف. لكن عندما تُقر المحكمة بأن شكاواهم القانونية صحيحة، ويمْثُلون كمدَّعين في القضايا المدنية، يكون وقوفهم في المحكمة مكافئًا لموقف المدعى عليهم، بمن فيهم مأمور السجن ورئيس إدارة المؤسسات العقابية.
هذه الميزة البسيطة المتمثلة في إمكانية الوصول إلى المحاكم أوضحها لي رجل التقيت به مؤخرًا كان قد خرج من وحدة الحبس الانفرادي لانقضاء مدة عقوبته في السجن بإحدى المؤسسات العقابية في مقاطعة جرين بولاية بنسلفانيا. كان قد ظل في الحبس شبه الانفرادي مدة ثمانية عشر شهرًا حتى انتهت مدة حكمه الثابت وأُطلِق سراحه. تمكن بالكاد ذلك الرجل من الحصول على شهادته الثانوية. وعندما سألته كيف استطاع الحفاظ على قواه العقلية وهو يشاهد السجناء في الزنزانات القريبة وهم يجن جنونهم ويصيحون طوال ساعات الليل ويتراشقون بالغائط. فأجابني: «قاضيت الولاية. طلبت الحصول على كتب في القانون، وقرأتها. وكلما فعلوا شيئًا غير قانوني، كنت أقاضيهم. لم أفز مطلقًا في أي من هذه القضايا — بعضها وصل بالفعل إلى المحكمة — لكن عملية تعلم ما يكفي من الأمور القانونية لأتمكن من الدفاع عن نفسي جعلتني أتمكن من الحفاظ على قواي العقلية طوال كل هذه الشهور التي قضيتها وحيدًا في تلك الزنزانة الموحشة.»
وقد رأيت ظاهرة مماثلة عندما تقدمت بشهادتي في قضية كين ضد إدارة المؤسسات العقابية بميشيجان. في الوقت الذي كانت تُسوِّغ فيه إدارات المؤسسات العقابية قيودًا لا حصر لها على حريات السجناء في صورة إجراءات أمنية، وترفض المحاكم الفيدرالية التدخل في ذلك، رفع ثمانية سجناء، تولوا الدفاع عن أنفسهم أمام محكمة ولاية ميشيجان نيابة عن ٤١ ألف سجين وألفي سجينة، دعوى قضائية جماعية منذ عشر سنوات. ووصلت القضية أخيرًا إلى المحاكمة في أبريل عام ١٩٩٧. ونظرًا لأن قاضي محكمة الولاية أبدى استعدادًا غير معتاد للسماح بالسجناء بتقديم أية أدلة مهمة ما داموا تمكنوا من إثبات أنها ذات صلة، فمن المرجح أن تستمر المحاكمة بعض الوقت.
قاعة المحكمة في قضية كين ضد إدارة المؤسسات العقابية بميشيجان هي صالة ألعاب رياضية في أحد السجون المحلية بالقرب من مدينة جاكسون، حيث توضع طاولات للقاضي والمحامين والشهود، بالإضافة إلى صفوف من المقاعد للصحافة والجماهير. ويصل ما يزيد عن اثني عشر سجينًا وسجينة مكبلين بالأغلال ليجلسوا على مائدة المدعين. وقد تقدمت بشهادتي بشأن الآثار الضارة التي ستتسبب فيها على الأرجح السياسة التقييدية المقترحة — التي تفرض قيودًا على عدد الأغراض التي يمكن للسجناء الاحتفاظ بها في زنزاناتهم وتلزمهم بارتداء زي موحد — على الصحة العقلية للسجناء. على سبيل المثال، أوضح بحثي أن العديد من السجناء في السجون ذات الإجراءات الأمنية المنخفضة سيرفضون الزيارة إذا أُجبِروا على ارتداء زي موحد للسجن، وأن عدم التواصل مع أحبائهم سيؤثر سلبًا على صحتهم العقلية، وسيسفر في النهاية عن محاولة بعضهم الانتحار.
والسجين الذي لديه علم بالأمور القانونية، والذي أعدني للشهادة وقام باستجوابي واستجواب شهود الخصم في المحكمة لم يتخرج قط في الجامعة. لكنه اشتهر في دوائر قضايا السجون بالخبير القانوني العبقري والمبتكر. ويتمتع هذا الرجل بقدر من الثقة يكفي لمواجهة مساعد النائب العام في المحكمة.
لا يزال القضاء ينظر في قضية كين ضد إدارة المؤسسات العقابية بميشيجان، والحكم النهائي للقاضي ليس واضحًا بعد، لكن السجناء يحققون انتصارات بسيطة دومًا. على سبيل المثال، تُسمَّى وحدة الحراسة المشددة في نظام سجن ميشيجان الموجود في إيونيا باسم «إيونيا ماكس» أو «آي ماكس». وتحظر السياسة الإصلاحية للولاية وضع السجناء المضطربين عقليًّا في هذه الوحدة. لكن السجناء/المدعين في القضية وضعوا سجينًا على منصة الشهود كان قد أودِع هذه الوحدة. وشهد ذلك السجين بأنه قد حصل على أدوية مضادة للذهان على مدار أعوام، لكن الطبيب النفسي بالسجن أوقف هذه الأدوية قبل بضعة أشهر من حصوله على إنذار تأديبي أدى إلى نقله إلى وحدة «آي ماكس».
لم يعرف السجين السبب وراء إيقاف الأدوية التي كان يحصل عليها، لكنه اشتكى من أنه من دون هذه الأدوية صار يعاني الأوهام، وعدم القدرة على التحكم في نوبات غضبه، التي دفعت الحرَّاس إلى إصدار إنذار تأديبي ضده. وأثبت السجناء وجهة نظرهم؛ وهي أنه بالرغم من أن السياسة تحظر إيداع السجناء المضطربين عقليًّا وحدات الحراسة المشددة، فإنه من السهل للغاية على الموظفين إيقاف أدوية العلاج النفسي التي يحصل عليها السجناء، وإعلان شفائهم من المرض العقلي، وإيداعهم وحدات الحراسة المشددة. وقد شعر السجناء الجالسون على طاولة المدعين بالفخر الشديد لتمكنهم من تسجيل ذلك في سجل المحكمة. ربما لن تؤدي هذه الشهادة إلى حكم قضائي معين، لكن حقيقة أنه من الممكن رفع قضايا بسبب حرمان المرضى العقليين من أدويتهم قبل إيداعهم الحبس الانفرادي، تعد بمنزلة إخطار للولاية بأن سياساتها العقابية يمكن أن تتكشف في قاعات المحاكم.
(١-٥) إنهاء السرية وكسر حاجز الصمت
ونحن نعرف من وقائع تاريخية سابقة، مثل ممارسات تأجير السجناء في جنوب الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية، أنه بمجرد ابتعاد السجناء عن الأنظار ونسيانهم من الممكن أن يتعرضوا لمعاملة وحشية، كما لو كانوا عبيدًا في الكثير من الأحيان. ولقد ذكرتُ العديد من الأمثلة على القسوة وسوء السلوك الإجرامي الواضح من جانب ضباط السجون، مثل معارك القتال حتى الموت التي يديرها الحرَّاس في سجن كوركوران، والغمر القسري لفينسن في الماء الحارق بسجن بيليكان باي. ولك أن تتخيل الأضرار الناجمة عن ذلك على الصحة العقلية للسجناء! لكن هذه الانتهاكات الغامضة التي تعرض لها السجناء لم يأخذها مسئولو الولايات على محمل الجد إلا بعد أن تسربت أخبارها إلى العناوين الرئيسية للصحف ونشرات الأخبار التليفزيونية.
وفي ضوء ما سبق، يكون من المزعج للغاية إدراك أن الهيئات التشريعية والسلطات العقابية تفرض عددًا متزايدًا من القيود على وصول وسائل الإعلام والجماهير إلى السجون. على سبيل المثال، صدرت أوامر تقييد حرية الرأي والصحافة في العديد من الولايات. وأقرت الهيئة التشريعية بكاليفورنيا مؤخرًا قانونًا يمنع وصول الصحفيين إلى السجناء دون موافقة مسبقة من إدارة المؤسسات العقابية. ويعني ذلك من الناحية العملية عدم السماح بأي لقاءات مع السجناء، إلا إذا أرادت إدارة المؤسسات العقابية عرض أحد السجناء أمام مؤتمر صحفي لتبديد مخاوف العامة بشأن الممارسات الوحشية داخل السجون. لكن هذا القانون يعني أيضًا أن نفس المسئولين، الذين يخضعون للاتهام الفيدرالي لدورهم في حالات القتل التي حدثت في سجن كوركوران، يتحكمون في وصول الصحافة للسجناء الذين شهدوا الشجارات وحوادث إطلاق النار. إن السرية هي الشغل الشاغل هنا، كما لو كان المُشرِّعون والمسئولون الإداريون للمؤسسات العقابية يحاولون التحكم في الأضرار عن طريق الحد من الإعلان عن الانتهاكات التي تحدث خلف القضبان للعامة.
وتلعب القضايا التي تُرفع ضد السجون دورًا رئيسيًّا في كسر حاجز الصمت. فلا يحظى مَن هم خارج السجن بإمكانية دخول السجون إلا بصعوبة شديدة. وقد يسمع الزوار عن أحوال وانتهاكات رهيبة من السجناء الذين يزورونهم، لكنهم لا يستطيعون رؤيتها بأنفسهم. معظم جولاتي في السجون كانت بأمر من المحكمة. فيرفع السجناء قضية جماعية، ويشارك المحامون فيها، وتأمر المحكمة نظام السجن بالسماح للمدعين بقدر كافٍ من إمكانية الوصول إلى السجون لتنفيذ إجراءات قضاياهم، ويجلب المدعون خبراءهم إلى السجن لتقييم الظروف والممارسات بها.
وعندما أطلب الاطلاع على السجل الطبي السريري أو تقرير «التشريح النفسي»، يلتزم السجن بتقديمها لي. وعندما أطلب القيام بجولة في وحدة معينة بالسجن، أو مقابلة سجين أو موظف معين، يلتزم مأمور السجن بأمر من المحكمة بالسماح لي بذلك. ويمنح ذلك الخبراء في الدعاوى القضائية فرصة فريدة لتحديد ما يحدث فعليًّا في المؤسسات العقابية حاليًّا.
وتكون إجراءات المحاكم مُعلَنة. فأي شيء يُكشَف عنه في المحكمة — ما دام أن القاضي لا يحظر إطلاع العامة على المحاكمة — يكون من المتاح نشره لعامة الناس. ولا يعني ذلك أن الصحفيين يتوافدون بأعداد ضخمة على المحاكم ليعرفوا ما يحدث خلف القضبان. فقاعات المحاكم التي قدمت شهادتي فيها كانت خالية نسبيًّا؛ فيدخلها أحيانًا أحد المراسلين الإخباريين أو فريق عمل إخباري بالتليفزيون، لكن القليلين منهم فقط يبقون مدة كافية لمعرفة تفاصيل القضية بأكملها. ومع ذلك، تظل إجراءات المحاكم فرصة نادرة للكشف عن الحقيقة لعامة الناس. وبالطبع، جعل الناس يهتمون بمحن السجناء مسألة أخرى.
والدعاوى القضائية الجماعية المهمة تضع حدًّا للسرية شبه التامة التي تحيط عادةً بالحياة اليومية في السجون. فبعد الزج بفينسن في حوض الاستحمام الذي حرق جلده، قاضى ولاية كاليفورنيا. وأدت قضية جماعية كبيرة أخرى، وهي قضية مدريد ضد جوميز، التي تتضمن نفس الوحدة في سجن بيليكان باي، إلى إعلان أحد القضاة الفيدراليين أن وحدة الحراسة المشددة ليست بالمكان الذي ينبغي وضع السجناء المرضى عقليًّا فيه. وفي كل قضية، تصدرت الأخبار العناوين الرئيسية للصحف وحظيت الجماهير بفرصة نادرة لاكتشاف ما يحدث بالفعل داخل السجون. ومن جديد، تضمن التأثير غير المباشر على صحة السجناء العقلية إنهاء الصمت والتمتع بدرجة من الأمل المتجدد بأن ثمة مَن يهتم بالأسلوب الذي يُعامَلون به.
(١-٦) تطبيق الأحكام أمرٌ ممكنٌ
يزعم بعض المعارضين للحلول القانونية لمشكلات السجون أن نظام السجون يمكن أن يتحدى أوامر المحكمة وقرارات التراضي لأجلٍ غير مُسمًّى؛ ولذلك يُحكَم على الدعاوى القضائية بالفشل. وبالرغم من أنه من الصحيح أن بعض الولايات والحكومات الفيدرالية قد تعاند وتمنع الإصلاح البنَّاء للسجون، فإنه من الصحيح أيضًا أن عددًا أكبر من سلطات السجون المتعقلة يمكن أن تقبل أوامر المحكمة وتُجري تغييرات كبيرة في أسلوب تعاملها مع السجناء.
في أحد الأيام، قُدِّم إلى السجناء في سجن إنديانا ذي الإجراءات الأمنية المشددة وجبات هامبورجر باردة على الغداء. وعندما فتح الكثير من السجناء الشطائر، وجدوا شعرًا ورملًا ممزوجًا باللحم السيِّئ الجودة. لم يستجِبِ الحرَّاس الذين قدموا الطعام لشكاوى السجناء. فقرر بعض السجناء في الوحدة الاحتفاظ بصواني الطعام الخاصة بهم وعليها الهامبورجر الذي لم يأكلوه ليوضحوا لمأمور الوردية سبب رفضهم تناول الطعام.
غضب الحرَّاس من ذلك الرفض، وبدءوا على الفور في القيام بجولات بالزنزانات كلها ليسألوا كل سجين إن كان سيعيد صينية الطعام الخاصة به أم لا. وكان جواب العديد من السجناء: «لن نعيدها إلا بعد تحدثنا مع المأمور بشأن سوء جودة هذا الهامبورجر.» وجأر الحرَّاس على الفور قائلين: «هذا رفض!» ولم يُتفوه بكلمة بعد ذلك. فغادر الحرَّاس القسم، وشكَّلوا فريقًا لإخراج السجناء من الزنزانات بالقوة. بعد ذلك، وجد السجناء أنفسهم أمام خمسة ضباط ضخام الجثة يرتدون ملابس فضِّ الشغب، حيث اقتحموا زنزاناتهم وأخرجوهم منها، واحدًا تلو الآخر. ولزم نقل الكثير من السجناء إلى المستوصف لعلاج جروحهم.
لم يكن غريبًا آنذاك إجراء عمليتين أو ثلاث عمليات لإخراج السجناء بالقوة من الزنزانات كل يوم في هذا السجن. وكشفت الدعوى القضائية للسجناء وتحقيق أجرته منظمة هيومن رايتس ووتش عن حوادث يجتمع فيها الضباط مرارًا وتكرارًا على ضرب السجناء، ثم يتهمونهم «بإهانة ضابط».
سويت القضية الجماعية التي رفعها السجناء في فبراير عام ١٩٩٤ بتوقيع اتفاق تسوية سابق للمحاكمة. وأجريت تغييرات. على سبيل المثال، تمَّ تغيير المشرف العام للسجن. وفي محاولة من المشرف الجديد للالتزام بالحظر الذي يفرضه اتفاق التسوية السابق للمحاكمة بشأن عمليات الضرب والإخراج القسري غير المنطقي من الزنزانات، وضع سياسة تلزم الضباط بمنح السجناء فرصًا عديدة لتغيير رأيهم قبل القيام بعمليات الإخراج القسري من الزنزانات. وأصبح لزامًا على الضباط استدعاء مأمور الوردية إلى الزنزانة ليحاول إقناع السجين المتمرد بالامتثال للأوامر، وتعين عليهم الاتصال بالمشرف نفسه قبل البدء في عملية إخراج السجين بالقوة من الزنزانة. وأدت هذه السياسة الجديدة، على الأقل، إلى تهدئة كلٍّ من الضباط والسجناء على حدٍّ سواء. وكانت النتيجة تراجعًا مفاجئًا وكبيرًا في عدد عمليات إخراج السجناء بالقوة من الزنزانات في هذا السجن.
إذا كان بإمكان إدارة المؤسسات العقابية بإنديانا خفض عدد عمليات الإخراج القسري من الزنزانات على نحو كبير في أحد سجون الحراسة المشددة بمجرد إعادة صياغة السياسة الخاصة ببدء هذه العمليات، فيمكن أيضًا للولايات الأخرى الحد من الأعمال الوحشية ضد السجناء، وتحسين ظروف حياتهم، وتحسين جودة خدمات الصحة العقلية في السجون، هذا إذا أرادت فعل ذلك. لكنها إذا أرادت إعاقة جهود المحاكم الرامية إلى ضمان الحقوق الدستورية للسجناء، فالحقيقة المؤسفة هي أن بإمكانها فعل ذلك أيضًا.
(٢) خطوة للأمام، خطوتان للخلف
إن الدعاوى القضائية صعبة في تنظيمها وباهظة التكلفة في رفعها، ويمكن أن تسفر عن عداوات بين أطرافها، وتؤدي من ثم إلى معاندة المدعى عليهم (الذين يتمثلون غالبًا في إدارة السجون بإحدى الولايات أو إدارة السجون الفيدرالية) ومقاومتهم للتحسينات المفروضة بأمر من المحكمة. وتسود الآن هيمنة الاتجاه المحافظ والدعم الواسع النطاق لأسلوب القانون والنظام في التعامل مع قضايا العدالة الجنائية. وحتى عندما تلفت المعارك القانونية انتباه الجماهير إلى المشاق والانتهاكات التي يعانيها السجناء، يميل الساسة والجهات التشريعية عادةً إلى عدم دعم أو حتى استكشاف إمكانية إصلاح السجون. فهم منشغلون للغاية بخفض الميزانيات؛ ما يحول دون تفكيرهم بجدية في إنفاق المزيد من الأموال على إصلاحات لا يطالب بها الجماهير.
وتُقَرُّ قوانين تهدف إلى الحد من قدرة المحاكم على طلب إصلاح السجون. والقضاة الذين يسمحون للسجناء بالتعبير عن أنفسهم في المحكمة ويحكمون لصالحهم يهاجمهم الساسة المحافظون بتهمة «تدليل السجناء». وفي العديد من القضايا، يتم عرقلة التقدم الذي يحرزه السجناء في المحاكم، وكذلك المكاسب المبكرة المتعلقة بالفوائد التي تعود على الصحة العقلية.
(٢-١) عناد الحكومة
على الرغم من أن قضايا السجون يمكن أن يكون لها الكثير من المزايا، فإن العملية القانونية ليست على قدر عالٍ من الفعالية في ضبط عملية تجديد أنظمة السجون. والمعارك القانونية تؤدي إلى مواقف مناصرة تستقطب الطرفين إلى حدٍّ بعيد. على سبيل المثال، عندما يتهم السجناء نظام السجن بانتهاك حقوقهم الدستورية، يدافع النظام عن ممارساته، ويصبح عادةً أقل مرونة خلال ذلك. وعلى الرغم من أن المدعين قد يفوزون في القضايا الكبيرة، فإنه لا يكون هناك قدر كافٍ من حسن النية بعد المحاكمة لدى حكومة الولاية أو الحكومة الفيدرالية لاستكمال الأساليب المرنة اللازمة لتخفيف معاناة السجناء. وعندما يشكو محامو السجناء، فيما بعد، من أن الحكومة لا تتابع التغييرات الواجب تنفيذها، تنسحب المحاكم من النزاع مشيرةً إلى أنها ليس لديها استعداد للإشراف الدقيق على تحسين نظم السجون على المستوى الفيدرالي ومستوى الولايات. وفي الوقت نفسه، لا يصبح لدى إدارات المؤسسات العقابية المصدومة من هزيمتها القانونية استعداد لإجراء أية تحسينات فيما عدا ما أمرت به المحكمة تحديدًا. ويسفر ذلك في كثير من الأحيان عن مواجهة بين الطرفين؛ ما يؤدي إلى التراجع الشديد في التعاون بين مناصري السجناء والمدافعين عن نظام السجون.
(٢-٢) لعبة الصَّدَف
يمكن أن تقاوم الولايات وأنظمة السجون الفيدرالية التغيير بطرق عدة. على سبيل المثال، من أيسر السبل التي يمكن لنظام السجون اتباعها لإعاقة قدرة السجناء على الفوز بحكم لصالحهم من المحاكم هو أن تنتظر حتى تُرفَع الدعوى القضائية ثم تنقل المشكلة أو الممارسة المسيئة التي دعت لرفع هذه الدعوى إلى سجن آخر لا تغطيه الدعوى أو الاختصاص القضائي للمحكمة. وهذا النوع من المناورة البارعة والمريبة يذكِّرني بلعبة الصَّدَف. ويحرك مَن يقوم بهذه اللعبة صدف الجوز بسرعة شديدة بحيث لا يمكن للملاحظ تخمين أيها يغطي العملة المعدنية. وبالمثل، عندما يرغب مديرو السجون في تحدي روح القانون ضد العقوبات القاسية والوحشية، يمكنهم أن ينقلوا السجناء والبرامج إلى أماكن أخرى بحيث لا يضطرون أبدًا إلى الامتثال بأجزاء كبيرة من حكم المحكمة.
ولقد لاحظت هذه الحيلة للمرة الأولى في قضية توسان ضد إنوموتو. فقد قاضى السجناء في هذه القضية إدارة المؤسسات العقابية في كاليفورنيا، مدعين أن السجناء في الزنزانات المزدوجة بوحدة الحبس الانفرادي (كانت وحدات الحبس الانفرادي موجودة آنذاك في سجني سان كونتين وفولسوم، ولم يكن سجنا بيليكان باي وكوركوران قد بُنيا بعد)، كانوا يُحبسون في الزنزانات نحو أربع وعشرين ساعة يوميًّا، وهو ما كان يشكِّل عقوبة قاسية ووحشية. على سبيل المثال، كان للازدحام آثار سلبية على صحة السجناء العقلية، وكان السجناء المصابون بأمراض عقلية في هذه الوحدات عرضة للتعدي عليهم وإيذائهم. فأصدر القاضي الفيدرالي حكمًا لصالح السجناء، مصدرًا أمرًا بوضع السجناء الموجودين في وحدات الحبس الانفرادي في كلا السجنين في زنزانات فردية.
وبينما كانت الدعوى القضائية الجماعية لا تزال قيد نظر المحكمة، شيَّدت الولاية سجنًا جديدًا مجاورًا لسجن فولسوم. في البداية، أدار سجني «فولسوم القديم» و«فولسوم الجديد» مأمور سجن واحد، لكن إدارة المؤسسات العقابية أعلنت أنهما وحدتان إداريتان منفصلتان. وشُيِّدت وحدة حبس مشدد في سجن فولسوم الجديد، وحُبِس فيها السجناء في زنزانات مزدوجة. وعندما اشتكى محامو السجناء من أن إيداع السجناء زنزانات مزدوجة بوحدات الحبس المشدد في سجن فولسوم الجديد يخالف أمر القاضي في قضية توسان، ردت الولاية على ذلك بأنه نظرًا لأن سجن فولسوم الجديد كيان منفصل؛ فإن أمر القاضي لا يسري على وحدات الحبس المشدد الموجودة فيه. وعلى الرغم من أن الحكم الصادر في قضية توسان كان قابلًا للاستئناف، فإن ادعاء الولاية بأن الحكم لا يسري على سجن فولسوم الجديد كان قابلًا للاستئناف أيضًا. وخسرت الولاية القضية، لكنها استمرت في إيداع سجناء خطرين للغاية زنزانات مزدوجة ببعض من وحدات الحبس الأكثر تشديدًا على الإطلاق في إجراءاتها الأمنية في ذلك الوقت.
شهدتُ هذا النوع من المناورة مرة أخرى في قضية جيتس ضد دوكماجين. رفع السجناء المصابون بأمراض عقلية قضية جماعية ضد ولاية كاليفورنيا، مدعين أن الرعاية التي تُقدَّم إلى السجناء المضطربين عقليًّا في مؤسسة الرعاية الطبية بكاليفورنيا بمدينة فاكافيل كانت غير ملائمة على الإطلاق. قَبِل القاضي الفيدرالي في النهاية بادعاء السجناء، وأمر الولاية بتحسين خدمات الصحة العقلية في تلك المؤسسة. لكن قبل وصول الدعوى القضائية إلى تلك المرحلة، نقلت الولاية نحو ٥٠٠ من إجمالي ١٣٠٠ سجين صُنِّفوا على أنهم مرضى عقليين إلى خارج مؤسسة الرعاية الطبية بكاليفورنيا وأرسلتهم إلى سجون أخرى بأنحاء الولاية. واعترض محامو السجون على أن هؤلاء السجناء الخمسمائة كانوا «جزءًا من المجموعة» التي رفعت قضية جيتس ولا يمكن نقلهم خارج المؤسسة أثناء النظر في القضية. وفي هذا الشأن، خسر المدعون (السجناء).
ادعت الولاية أنه على الرغم من أن هؤلاء السجناء الخمسمائة كانوا يعانون أمراضًا عقلية في الماضي، فإن الأطباء النفسيين المتابعين لهم قرروا (بعد بدء الدعوى القضائية بالفعل) أنهم قد تعافوا بالقدر الكافي لنقلهم إلى مرافق غير علاجية. ولا شك أن إدارة المؤسسات العقابية نقلت فقط الرجال الذين بدا عليهم الاستقرار نسبيًّا في مرحلة معينة. وكان الكثيرون منهم يعانون أمراضًا عقلية خطيرة وطويلة المدى، وتعرضوا لتفاقم في حالاتهم وانهيارات متكررة في السجون التي نُقِلوا إليها، حيث لم يكن يتوافر فيها سوى قدر ضئيل من خدمات الصحة العقلية.
سوف أذكر مثالًا واحدًا آخر للعبة الصَّدَف. ففي ولاية إنديانا، جانبٌ من أسباب الدعوى في القضية، التي تضمنت سجن الإجراءات الأمنية المشددة، تمثَّل في إيداع السجناء المصابين باضطرابات عقلية خطيرة وحدة عزل، تؤدي على الأرجح الظروف القاسية فيها إلى تفاقم الاضطرابات الانفعالية التي يعانونها. وكجزء من اتفاق التسوية السابق للمحاكمة الذي أنهى القضية، وافقت الولاية على عدم إيداع السجناء المضطربين عقليًّا سجن الإجراءات الأمنية المشددة. لكن سرعان ما وُجد عدد كبير من السجناء المصابين بأمراض عقلية في سجن أحدث بالولاية ذي إجراءات أمنية مشددة، وهو وحدة الحبس الانفرادي في مؤسسة واباش فالي العقابية في كارلايل التي لا تغطيها القضية الخاصة بسجن الإجراءات الأمنية المشددة في ولاية إنديانا.
بعبارة أخرى، الاتفاق الذي ينهي أية دعوى قانونية يكون راسخًا فقط بقدر حسن نية الموقعين عليه.
(٢-٣) قانون إصلاح مقاضاة السجون
في ٢٧ أبريل عام ١٩٩٦، وقع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على قانون إصلاح مقاضاة السجون، وهو تشريع وُضِع للحد من وصول السجناء إلى المحاكم الفيدرالية وتقييد قدرة المحاكم على تصحيح المخالفات الدستورية. فوضع هذا القانون قيودًا على الوقت الذي يسري فيه أي حكم تراضٍ حاصل على موافقة المحكمة، بحيث يكون الحد الأقصى له عامين. هذا يمثل صدمة قوية للسجناء ومحاميهم؛ لأن رفع الدعوى الجماعية قد يستغرق شهورًا، ويمكن للولاية أن توقف عملية التنفيذ عن طريق الانتظار شهورًا أو أعوامًا لإجراء التغييرات. ومع تقييد مدة قرار التراضي بعامين فقط، ستقرر مكاتب المحاماة التي تموِّل الدعاوى القضائية الجماعية أن هذه الدعاوى الكبيرة لم تعد مجدية. ويضع قانون إصلاح مقاضاة السجون أيضًا قيودًا صارمة على أنواع التعويضات التي يمكن أن تأمر بها المحكمة، والأتعاب التي يمكن أن تأمر بدفعها لمحامي السجناء، وينهي التنازلات التي دامت طويلًا عن تكاليف المحكمة في حالات السجناء المعوزين، ويستلزم من جميع السجناء دفع أتعاب كبيرة قبل رفع القضية.
حتى الآن، يحقق هذا القانون الهدف الذي وضِع من أجله؛ فقد حدث تراجع كبير في عدد قضايا الاستئناف لأوامر المثول أمام المحاكم وعدد قضايا حقوق السجناء المدنية الأخرى منذ توقيع الرئيس على هذا القانون.
(٢-٤) تراجع المحاكم
يشكل الرأي العام القرارات القضائية. ففي الفترة ما بين الستينيات والثمانينيات من القرن العشرين، قدمت المحاكم آراء افترضت أن السجناء لهم حقوق دستورية معينة لا بد من احترامها. ومنذ مطلع التسعينيات، وعلى الرغم من كف المحاكم عن إنكار أن السجناء لهم حقوق، فقد تراجعت إلى أحكام أكثر تقييدًا، كما لو كانت تؤمن بأن القضاء يجب ألا يبذل جهودًا كبيرة لإصلاح سياسات السجون التي تنتهك حقوق السجناء. وقد قدمت العديد من المحاكم الفيدرالية مؤخرًا قرارات ضد السجناء في قضاياهم الجماعية، مشيرةً إلى أن المحاكم لا بد ألا تملي على الولايات وإدارات المؤسسات العقابية كيفية إدارتها للسجون. وحكمت محاكم أخرى بأن العقوبات القاسية نسبيًّا مقبولة ما دام أن الولايات بإمكانها إثبات أن هذه العقوبات ضرورية لدواعٍ أمنية. لا شك أن هذا التوجه له نتائج سلبية على السجناء المصابين بأمراض عقلية. فاحتمالات أن تصدر المحاكم أوامر لأنظمة السجون بتحسين الظروف القاسية وتطوير خدمات الصحة العقلية في السجون باتت أقل إذا ما قورنت بما كان عليه الحال منذ عقد مضى.
والأسلوب الذي تتعامل به المحاكم مع قضية إعادة التأهيل في السجون يسلط الضوء على القيود الصارمة المفروضة على مقاضاة السجون. يطلب مني محامو السجناء عادة تجنب الخوض في موضوع إعادة التأهيل عند شهادتي في المحكمة. فأسألهم عن السبب، فيقولون لي إنه ما من شرط دستوري يستوجب من إدارات المؤسسات العقابية توفير فرص للسجناء لإعادة تأهيل أنفسهم. ويا له من أمر مؤسف! لكنني عندما أتقدم للشهادة أُذكر نفسي بعدم إظهار الكثير من الحماس بشأن مشروع إعادة تأهيل السجناء؛ مخافة أن يستخدم المدعي العام بالولاية توصياتي غير الواقعية ليشكك في مصداقية شهادتي بأكملها. وفي الفصل العاشر، سأوضح وثاقة الصلة بين برامج التثقيف وإعادة التأهيل والصحة العقلية للسجناء، لكن من الواضح أن وضع برامج مناسبة سيتطلب ما هو أكثر من المقاضاة.
لم يوضَع النظام القانوني ليعكس الرأي العام. في واقع الأمر، يتطلب الدستور الأمريكي من المحاكم الحفاظ على انفصالها عن الحكومة، ومن ثم عن السياسة واستطلاعات الرأي العام. وتضطلع المحاكم بمسئولية التصدي للشعور السائد نحو السجناء المتمثل في «حبسهم إلى الأبد» عندما يدفع هذا الشعور السياسات العقابية إلى انتهاك حقوق السجناء الدستورية والإنسانية. لكن في الوقت الذي يسود فيه الاهتمام بالقانون والنظام، يلزم على كل قاضٍ يسعى لإعادة انتخابه التفكير أكثر من مرة قبل أن يتخذ قرارًا قد يعتبره عامة الناس «متساهلًا مع الجريمة».
ومن الحجج التي قد يتذرع بها من يرغبون في تقييد وصول السجناء إلى المحاكم أن القضايا التي يرفعها هؤلاء السجناء «غير موضوعية»، ويجب ألا يتكبد دافعو الضرائب تكلفة وصول هؤلاء السجناء إلى المحاكم، وهم الذين لا يريدون سوى تحويل السجون إلى منتجعات ترفيهية. في الواقع، هناك بالفعل بعض القضايا «غير الموضوعية». لكن عدد الدعاوى القضائية المستحِقة للنظر فيها ويرفعها السجناء، مثل التي ذكرتها من قبل، يفوق بكثير أعداد القضايا غير الموضوعية. ومن المفترض لمحاكم أي مجتمع ديمقراطي التفكير في القضايا المستحِقة للنظر فيها التي يرفعها السجناء. فالظروف في معظم السجون حاليًّا قاسية وغير إنسانية بالفعل، وخدمات الصحة العقلية تعاني قصورًا شديدًا، والانتهاكات التي يتعرض لها السجناء واسعة الانتشار. ويعاني السجناء محنًا انفعالية حادة جراء المشاق غير المبررة التي يتعرضون لها، وهذه مسألة لا بد أن تفحصها المحاكم بعناية.
•••
أدت القضايا المتعلقة بإصلاح السجون إلى تحسينات مهمة بالتأكيد في أحوال السجون وجودة خدمات الصحة العقلية خلف القضبان. ونتيجة لذلك، يخضع ٤٣٠ سجنًا في الولايات المتحدة حاليًّا لنوع ما من قرارات التراضي أو القرارات القضائية فيما يتعلق بظروف الحبس وجودة الخدمات الصحية وخدمات الصحة العقلية.
لكن التشريعات والقرارات القضائية الحديثة تضع استراتيجية قانونية لجعل إصلاح السجون أكثر صعوبة وتعقيدًا. لذا، على الرغم من أن مقاضاة السجون لا تزال جديرة بالسعي وراءها، ثمة حاجة ماسة لاستراتيجيات أخرى أيضًا. وفي الفصل التالي من هذا الكتاب، سأستعرض بعض التغييرات التي أتصورها فيما يتعلق بظروف الحبس، وعلاج الصحة العقلية، وإعادة التأهيل. وسوف أتناول أيضًا بعض التغييرات في نظام العدالة الجنائية بالكامل التي سيستلزمها الأمر إذا أردنا تحقيق تحسينات كبيرة في خدمات الصحة العقلية.