مقدمة
تعود بنا هذه المقدمة ثلاثين سنة، إلى اليوم الذي سمعت فيه أول اقتراح بتأليف كتاب عن محمد عليه السلام.
وكنت أقيم يومئذ في ضاحية العباسية البحرية على مقربة من الساحة التي كانت معدة للاحتفال بالمولد النبوي في كل عام.
ولنا رهط من الأصدقاء المشتغلين بالأدب، يشتركون في قراءة كتبه العربية والإفرنجية، ويترددون معًا على الأحياء الوطنية، وقلَّما يترددون على غيرها، فلا يزالون متنقلين فترة بعد فترة، بين الحي الحسيني والحي الزينبي، أو بين منشية القلعة، وضاحية العباسية، أو بين الروضة والخليج … على حسب المناسبات، وعلى غير مناسبة في كثير من الأوقات.
وكان رهطًا له نقائض الدنيا مجتمعات: نقائض الشباب، ونقائض الحياة الفنية، ونقائض الاختلاف في البيئة بين ناشئ في العاصمة وناشئ في الريف وناشئ في الصعيد وناشئ في الثغور، إلى غير ذلك من النقائض التي كانت حلية لهذه الجماعة، ولم تكن فيها من دواعي التفرق والشتات.
ومن عجائبها أن الذي كان يغريها بالأحياء الوطنية هو قراءتها في الكتب الإفرنجية التي كانت شائعة بينها؛ لأنهم كانوا يقرءون أكثر ما كانوا يقرءون كتب «ديكنز» و«هازليت» و«لي هانت» و«كارليل» وهم كتَّاب مولعون بعرض الأخلاق الاجتماعية ودراسة العادات المحلية، وتمثيل الريفيين والحضريين في أوضاعهم المختلفة، ولهم فصول عن الأسواق، والدكاكين، والباعة، تفيض بحسن الملاحظة، وبراعة الفكاهة، ومتعة القراءة، وتُعَوِّد من يدمن قراءتها أن يتحرى نظائرها حيثما رآها.
ففي يوم من أيام المولد — والرهط يزورني لِنَؤُمَّ الساحة مجتمعين في المساء — كان الكاتب الإنجليزي العظيم «توماس كارليل» هو محور الحديث كله؛ لأنه كما يعلم الكثيرون بين قراء العربية، صاحب كتاب «الأبطال» الذي عقد فيه فصلًا عن النبي محمد ﷺ، وجعله نموذج البطولة النبوية بين أبطال العالم الذين اختارهم للوصف والتدليل.
وإنا لنتذاكر آراءه ومواضع ثنائه على النبي، إذ بدرت من أحد الحاضرين الغرباء عن الرهط كلمة نابية غضبنا لها واستنكرناها لما فيها من سوء الأدب وسوء الذوق وسوء الطوية. وكان الفتى الذي بدرت منه الكلمة متحذلقًا، يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة … فكان مما قاله: شيء عن النبي والزواج، وشيء عن البطولة، فحواه أن بطولة محمد إنما هي بطولة سيف ودماء!
قلت: «ويحك! … ما سوَّغ أحد السيف كما سوَّغته أنت بهذه القولة النابية!»
وقال صديقنا المازني: «بل السيف أكرم من هذا، وإنما سوغ صاحبنا شيئًا آخر يستحقه … وأشار إلى قدمه!»
وارتفعت لهجة النقاش هنيهة، ثم هدأت بخروج الفتى صاحب الكلمة من النَّدِي، واعتذاره قبل خروجه بتفسير كلامه على معنى مقبول، أو خيِّل إليه أنه مقبول.
وتساءلنا: ما بالنا نقنع بتمجيد «كارليل» للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه … ثم سألني بعض الإخوان: «ما بالك أنت يا فلان لا تضع لقراء العربية كتابًا عن محمد على النمط الحديث؟»
قلت: «أفعل … وأرجو أن يتم ذلك في وقت قريب.»
ولكنه لم يتم في وقت قريب … بل تمَّ بعد ثلاثين سنة! … وشاءت المصادفة العجيبة أن تتمَّ فصوله في مثل الأيام التي سمعت فيها الاقتراح لأول مرة … فكتبت السطر الأخير فيه يوم مولد النبي على حسب الشهور الهجرية، واتفقت هذه المصادفة على غير تدبير مني ولا من أحد؛ لأني لم أدبر لنفسي أوقات الفراغ التي هيَّأت لي إتمام فصوله، وتقسيم العمل فيه يومًا بعد يوم.
•••
والخيرة في الواقع.
والخيرة كذلك في هذا التأخير.
فإنني لو كتبته يومئذ لعدت إلى كتابته الآن من جديد، واحتجت إلى السنين الثلاثين أضيف خبرتها وقراءتها ورياضتها النفسية والفكرية إلى محصول ذلك العمر الباكر؛ إذ هو عمر يستطيع المرء أن يمتلئ فيه إعجابًا بمحمد؛ لأنه عمر الإعجاب والحماسة الروحية، بيد أنه لا يستطيع أن يقيسه بمقياسه وأن يشعر بشعوره في مثل تجاربه، وفي مثل السن التي اضطلع فيها بالرسالة وإن تقارب السن هنا لضرورة لا غنى عنها لتقريب ذلك الشأو البعيد من شتى نواحيه.
أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟!
إنها مسافات في عالم الفكر والروح لو تمثلت مكانًا منظورًا، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار وامتداد النظر بغير قرار.
كم رأي … كم مذهب … كم وسواس … كم محنة … كم مراجعة … كم زلزال يتضعضع له الكيان وتميد معه الدعائم والأركان … كم، وكم في ثلاثين سنة مما يطرق نفسًا لا تعفيها الحياة من التجارب والعوارض لمحة عين في نهار … وكم لذلك كله من أثر في توطيد الرأي وتهدئة الثوائر وتجلية الغبار … وكم يضيف ذلك كله إلى الشباب الباكر الذي كان يحلم يومئذ بالعظمة في كل أوج، وبالأوج المحمدي في عليا مراتب الأنبياء!
الخيرة في الواقع.
الخيرة في ذلك التأخير.
واليوم ونحن نضع كتابنا هذا عن «عبقرية محمد» بين يدي القراء؛ لا نقول إننا قد استوفيناه كما أردناه، ولا إننا فصلنا فيه الغرض الذي توخيناه … ولكننا نقول إننا التزمنا فيه الباعث الذي أوحى الاقتراح بتأليفه لأول مرة. كأننا شرعنا في كتابته مساء ذلك اليوم قبل ثلاثين سنة، فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المحمدي من تلك الأقاويل، التي يلغط بها الأغرار والجهلاء عن حذلقة أو سوء نية، ونظرنا اتفاقًا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد من الحرب ومن الحياة الزوجية؛ لأنهما كانا مثار اللغط تلك الليلة على مقربة من ساحة المولد، وكانا مثار اللغط في كل ما ردده سفهاء الشانئين من الأصلاء والمقتدين في هذا الباب …
فسيرى القارئ أن «عبقرية محمد» عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة، ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة، تضاف إلى السير العربية والإفرنجية، التي حفلت بها «المكتبة المحمدية» حتى الآن؛ لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات، على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار في هذا الموضوع، ثم لا يقال إنه استنفد كل الاستنفاد.
وليس الكتاب شرحًا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعًا عنه، أو مجادلة لخصومه … فهذه أغراض مستوفاة في مواطن شتى، يكتب فيها من هم ذووها ولهم دراية بها وقدرة عليها.
إنما الكتاب تقدير «لعبقرية محمد» بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى.
فمحمد هنا عظيم؛ لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس …
عظيم؛ لأنه على خلق عظيم …
وإيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة، وبين كل قبيل … ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى، لسببين متقاربين لا لسبب واحد: أحدهما: أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة … ولن يتاح لمصلح أن يهدي قومه وهو مغموط الحق، معرض للجفوة والكنود.
والسبب الآخر أن الناس قد اجترءوا على العظمة في زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها … فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسًا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة، حقوق العلية النادرين الذين ينصفهم التمييز، وتظلمهم المساواة … والمساواة هي شرعة السواد الغالبة في العصر الحديث.
•••
ولقد جار هذا الفهم الخاطئ للمساواة على حقوق العظماء السابقين، كما جار على حقوق العظماء من الأحياء والمعاصرين، ثم أغرى الناس بالجور بعد الجور غرورهم بطرائف العصر الحديث، واعتقادهم أنه قد أتى بالجديد الناسخ للقديم في كل شيء … حتى في ملكات النفوس والأذهان، وهي مزية خالدة لا ينسخ فيها الجديد القديم.
يرون أن البخار يلغي الشراع، وربما كان الاختراع السابق أدل على القدرة، وأبين عن الفضل من الاختراع الذي تلاه، ولم يكن ليتلوه لولا ما تقدم عليه …
وينظرون إلى أقطاب الدنيا كأن الأصل في النظر إليهم أن يتجنوا عليهم ويثلبوا كرامتهم، ولا يثوبوا إلى الاعتراف لهم بالفضل إلا مكرهين … بعد أن تفرغ عندهم وسائل التجني والثلب والافتراء.
هذه الآفة حِطَّةٌ تهبط بالخلق الإنساني إلى الحضيض، وتهبط بالرجاء في إصلاح العيوب الخلقية والنفسية إلى ما دون الحضيض …
فماذا يساوي إنسان لا يساوي الإنسان العظيم شيئًا لديه؟ … وأي معرفة بحق من الحقوق يناط بها الرجاء إذا كان حق العظمة بين الناس غير معروف؟ … وإذا ضاع العظيم بين أناس، فكيف لا يضيع بينهم الصغير؟ …
•••
لهذا كان تقدير محمد بالقياس الذي يفهمه المعاصرون ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعًا في هذا الزمن الذي الْتَوَتْ فيه مقاييس التقدير …
إنه لنافع لمن يقدِّرون محمدًا، وليس بنافع لمحمد أن يقدِّروه؛ لأنه في عظمته الخالدة لا يضار بإنكار، ولا ينال منه بغي الجهلاء، إلا كما نال منه بغي الكفار …
وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدًا بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها … لأن مسلمًا يقدر محمدًا على هذا النحو يحب محمدًا مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس.
وحسبنا من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدًا عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إلا أن يَرِينَ العنتُ على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء.
•••
إن عمل محمد لكافٍ جد الكفاية لتخويله المكان الأسنى من التعظيم والإعجاب والثناء …
إنه نقل قومه من الإيمان بالأصنام إلى الإيمان بالله، ولم تكن أصنامًا كأصنام يونان، يحسب للمعجب بها ذوق الجمال إن فاته أن يحسب له هدى الضمير … ولكنها أصنام شائهات كتعاويذ السحر التي تفسد الأذواق وتفسد العقول … فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة إلى عبادة الحق الأعلى … عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه، ونقل العالم كله من ركود إلى حركة، ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة حيوانية إلى كرامة إنسانية، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات …
•••
إن عمله هذا لكافٍ لتخويله المكان الأسنى بين صفوف الأخيار الخالدين، فما من أحد يضن على صاحب هذا العمل بالتوقير على اسم إنسان.
إلا أننا نمضي خطوة وراء هذا، حين نقول إن التعظيم حق «لعبقرية محمد» ولو لم تقترن بعمل محمد …
لأن العبقرية قيمة في النفس قبل أن تُبرزها الأعمال، ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يُغالى بها التقويم …
فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة؛ فهو نبي عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم.
وحسبنا من كتابنا هذا أن يكون بَنَانًا تومِئ إلى تلك العظمة في آفاقها، فإن البَنانَ لأقدر على الإشارة من الباع على الإحاطة، وأفضل من عجز المحيط طاقة المشير …