السيد
الخير المطبوع
قدمنا الكلام في فصول هذا الكتاب عن محمد رئيسًا، ومحمد صديقًا، ومحمد زوجًا، ومحمد أبًا، بعد الكلام على عبقريته في الدعوة، وعبقريته في قيادة الجيوش، وعبقريته في السياسة والإدارة والبلاغة.
وبقي جانب لا تتم بغيره الإحاطة بجوانب النفس الإنسانية في العلاقات بينها وبين سائر النفوس، وهو جانب المعاملة التي تكون بين الرجل ومن هم دونه ممن يملك أمرهم ويقبض على زمامهم ولا يعتصمون منه بعاصم غير عواصم طبعه وخلقه، ونريد بهم الخدم والعبيد والأرقاء، وهي معاملة لها من الدلالة على الأخلاق، ما يندر أن تدل عليه معاملة أخرى، لأنها تأتي من طبائع النفس وعقائدها، ولا تأتي بأمر آمر أو بدعوة داع.
فالصداقة لها الحقوق المتكافئة بين الصديقين لا يستطيع أحدهما أن ينساها زمنًا طويلًا إلا ذكره بها مذكر من صديقه الحافظ لحقوقه، القادر على مقابلة الجفاء بمثله، ولو في طوية نفسه.
والرئاسة قد تخول الرئيس حق السيطرة، وتفرض على المرءوسين واجب الطاعة، غير أنها قل أن تنطلق بغير وازع من خشية الغضب أو خشية الانتقاض يحسب له الرئيس كل الحساب، أو بعض الحساب.
والأب يعطف على بنيه فلا يعجب الناس لعطفه عليهم، لما ركب في طباع جميع الأحياء من حب الأب لولده، وإن اختلف الآباء في صفات العطف وفي استحقاقهم لبر الأبناء.
وكذلك الزوج يرفق بزوجته وليس له كل الاختيار في رفقه، لما يكون بين الزوجين من دالة يعتز بها الضعيف، ويستغني بها أحيانًا عن القوة والرئاسة …
أما العبد المملوك فلا عاصم له غير ما في نفس سيده من رحمة وخير، وإنه لمن الرحمة والخير أن يتبع السيد أمر الدين مع عبيده وخدمه الذين لا ينصرهم عليه ناصر في هذه الدنيا … بل إنها لرحمة تؤثر ولو وقفت عند حدود الأوامر الإلهية، فإذا تجاوزتها إلى طواعية في الخير لم يفرضها الدين، ولم يفرضها العرف، ولم يطلبها العبد نفسه، فتلك هي الرحمة في أصدق معانيها، وهي أدل الدلالات على لباب الأخلاق.
•••
ولقد علم القارئ من فصولنا السابقة أننا لم نكتب هذا الكتاب لشرح الأصول الإسلامية وتفصيل محاسن الدعوة المحمدية، فذلك غرض لا تتسع له هذه الفصول وليس لنا أن نتصدى له بعد مَنْ فَصَّلُوه وكرروا الكتابة فيه …
وإنما نقصد بهذه الفصول إلى غرض قدمناه على كل غرض في موضوعه، وهو بيان البواعث النفسية التي توحي إلى النبي أعماله ومعاملاته، ولا شك في مطابقة هذه البواعث لكل أمر من أوامر الدين وكل نهي من نواهيه إلا أن الخير المطبوع شيء والخير المأمور شيء آخر، والخير المطبوع هو الذي قصدنا إلى بيانه بكل ما بيناه.
ففي كتابنا عن معاملة محمد للعبيد والخدم لا ننوي أن نفصل أحكام الإسلام وأوامر القرآن في هذه المعاملة، وإنما ننوي أن نبين مزية محمد على جميع السادة في هذا الباب، وهي مزية لا تتوافر لمن يقنعون بالتزام الأوامر والحدود، ولا للذين يرتفعون إلى أرفع مرتبة تفرضها هذه الأوامر والحدود.
الإسلام والرق
على أن هذا لا يمنعنا أن نوجز الإشارة بداءة إلى مزية الإسلام بين الأديان الأخرى في مسألة الرق والاستعباد، لأن أناسًا يخلطون بين اعتراف الإسلام بنوع من الرق وبين اعتباره مسئولًا عن وجوده في الزمن القديم، ويردون شيئًا من ذلك إلى عمل النبي عليه السلام …
فمن الواجب أن نذكر أولًا أن دينًا من الأديان الأخرى لم يأمر بإلغاء الرق في شكل من أشكاله، سواء رق الحرب أو رق النخاسة والبيع والشراء، وإن أناسًا من أقطاب المسيحية كالقديس أغسطين سوَّغوه واعتبروه جزاء عادلًا للخطايا التي يقترفها المسترقون، وجاء بعض أحبار الكنيسة فحرموا على الأرقاء شرف الخدمة فيها بالوعظ والهداية، أنفة لها أن يدنسها لؤم العنصر الذي وسموا به الرقيق.
ويجب أن نذكر بعد هذا أن النظام الاقتصادي القديم في أساسه كان مرتبطًا بالاسترقاق أشد الارتباط. فكان إلغاؤه طفرة واحدة أقرب شيء إلى المستحيلات، ولم يكن أنفع في علاجه من التدرج خطوة فخطوة والابتداء بتصعيبه وترغيب الناس عنه، وهو ما شرعه الإسلام.
فالإسلام قد بدأ بتحريم كل رق غير رق الأسرى في الحروب، ثم حسن إطلاقهم وسماه منًّا وعفوًا يشكر فاعله عليه: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (محمد: ٤).
ثم أجاز للأسير أن يشتري نفسه، وأوجب حريته في حالات كثيرة يرجع معظمها إلى إرادته هو، إذا استطاع.
والحق الذي لا مراء فيه أن صنيع الإسلام هذا كان أجمل صنيع لقيه الأرقاء من دين أو شريعة، وأنه إذا كان هناك تمهيد لإلغاء الرق بتة فذلك هو تمهيد الإسلام دون غيره، وهو أقصى ما كان مستطاعًا في نظام العالم القديم: نظام كان عدد الأرقاء فيه يقارب عدد الأحرار، كما جاء في بعض الإحصاءات المروية عن الحضارتين الرومانية واليونانية.
وقد نظر في مسألة الرق عقل من أكبر العقول التي نبغت في أمة اليونان بل في الأمم كافة — ونعني به أرسطو — فأقره وأوجبه لأنه جعله سنة من سنن الفطرة وقيدًا لا فكاك منه لطائفة من الناس، خلقت عاجزة عن ولاية أمرها فلا غنى لها عن سيد ولا موئل لها من والٍ.
معاملة محمد لعبيده
ولو وقف النبي عند هذا الحد في معاملة الأرقاء لأحسن وأجمل وامتاز بأمر دينه على كل محسن إلى الأرقاء في زمانه. إلا أننا نقرر الواقع ولا نتعداه قيد شعرة حين نقول إن كثيرًا من الأبناء لا يتمنون عند آبائهم خيرًا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد وعبيده. ومَنْ مِنَ الآباء يحسن إلى أبنائه خيرًا من إحسان محمد لزيد بن حارثة ولابنه أسامة؟
لقد أعتق زيدًا ورآه أهلًا للزواج بعقيلة من أقرب قريباته إليه وأولاهن بحدبه وتوقيره، وهي التي رآها بعد ذلك أهلًا لزواجه بها وحظوتها لديه. فلم يعطه الحرية وكفى، ولم يعطه المساواة في العيش وكفى، بل رفعه إلى المنزلة الاجتماعية التي يرتفع إليها السادة، ولا يثبتها شيء كما يثبتها شرف المصاهرة.
ثم حفظ هذا البر الأبوي لابنه أسامة، فولاه جيش الشام وهو دون العشرين، وفي الجيش طائفة من أكابر الصحابة، فلو كان للنبي ولد في سنه لما تكفل به أحسن من هذه الكفالة، ولا ميَّزه أشرف من هذا التمييز.
نعم لم نَعْدُ الواقع، ولا تجوزنا في الوصف، حين قلنا إن الابن لا يتمنى خيرًا من معاملة محمد لعبده. فقد عرف زيد فعلًا أن محمدًا خير من أب وخير من أسرة كاملة يرجع إليها وترجع إليه … فبقي معه ولم يذهب معه أبيه، ولم يبق معه إيثارًا لبركة النبوة، فإن محمدًا لم يكن قد أرسل بالدعوة يوم اختاره زيد وآثره على جميع آله. وإنما بقي معه لأنه الإنسان الذي يعرف حتى العبد الرقيق أن آصرة الإنسانية عنده أوثق من آصرة الأبوة عند آخرين.
إن حب الوالد لوليده وراثة ألوف الألوف من الأجيال. بل وراثة الحياة في جميع الأحياء. فإذا بلغ البر بالضعفاء مبلغ الحب الأبوي من القوة فقد بلغ الذروة العليا التي لا مُتَسَنَّم فوقها لراق.
لقد خيرت شريعة الإسلام المحسنين بين المن وإعتاق الأسرى، وبين الفداء بالمال أو المبادلة … فأيهما اختار المالك فهو إحسان.
أما محمد فقد اختار المن، وزاد عليه فأعتق كل أسير صار إلى حوزته، وزاد على العتق تلك الرحمة الأبوية التي شملت كل مُنتمٍ إليه، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلم والوالد من ضرب وتعزير … وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب إلى الملاطفة منها إلى العقاب. ومن ذلك قصة الوصيفة التي أرسلها فأبطأت في الطريق، فما زاد على أن قال لها حين عادت: «لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك!»
ضرب سواك لابن عزيز ليس بالشيء الكثير.
ولكن محمدًا يخشى القصاص إذا استباحه في معاملة وصيفة تهمل أمره، وهو الذي لا يُهْمَل له أمر عند سادة الشرفاء.
وروى أنس أن النبي أرسله في حاجة فانحرف إلى صبيان يلعبون في السوق: «وإذا رسول الله ﷺ قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرت إليه ﷺ وهو يضحك، فقال: يا أنس! … اذهب حيث أمرتك!»
كلمة أمر لا يقولها لخادمه إلا وقد ناداه مدللًا، وقابله ضاحكًا كأنه يعتب على قرين، وقد يلام القرين بأشد من هذا الملام.
وكانت رحمته بعبيد غيره كرحمته بعبيده. فكان يجاملهم ويجبر كسرهم ويقبل منهم الهدية ويكافئ عليها، ويلبي دعوتهم إذا دعوه إلى طعام، ويوصي بهم قائلًا: «هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» و«اتقوا الله في الضعيفين النساء والرقيق.»
البر بالخدمة
وربما كان البر بالخدمة في هذا المقام أكرم وأنفى للهوان من البر بالخدم. فالبر بالخادم عطف عليه أما البر بالخدمة فارتفاع بالخادم إلى مقام السادة حيث لا يأنف السادة من خدمة أنفسهم بأيديهم، وذلك هو البر بالخدمة كما عنيناه، وذلك هو دأب النبي الذي جرى عليه في بيته وبين أهله وخدمه.
فقد كان يحلب شاته ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه، أي البعير التي يستقي عليه الماء. فإذا رأى الخدم لهم عملًا في البيت يماثل عمل سيدهم ومالك أمرهم، فتلك هي المساواة التي تمسح ضير الخدمة وتجبر كسرها، ولا تقتصر على العطف والرحمة.
ولم يقبل عليه السلام خدمة من خادم يأنف الأحرار أن يقضوها له شاكرين. فما كان في رجالات المسلمين كابر ابن كابر إلا كان يتمنى أن يؤدي لنبيه تلك الخدمة التي تطوعت بها نفوس مواليه وأتباعه، وهذا ضرب آخر من ضروب البر بالخدمة والتسوية فيها بين مقام الخادم ومقام المريد. فكان عمل الخادم عنده عمل التلميذ الذي يجلس إلى قدمي أستاذه، حبًّا لا خنوعًا، وتوقيرًا لا مذلة، وأدبًا يفرضه على نفسه وليس بضريبة مكتوبة يفرضها عليه العرف والتأديب.
وعلى هذا كان النبي عليه السلام يكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس فتحمل بينهم على محمل الذلة والخضوع. قال أبو هريرة — رضي الله عنه: «دخلت للسوق مع النبي ﷺ فاشترى سراويل، وقال للوزَّان: زن وأرجح. فوثب الوزان إلى يد رسول الله ﷺ يقبِّلها، فجذب يده وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل فذهبت لأحملها فقال: صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله.»
إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد.
هذه كلمة السيد بإمامته، السيد بنسبه، السيد بسلطانه، السيد بالتفاف القلوب حوله، السيد بسيادته على سره وعلانيته ورأيه وهواه، ولو عمَّت هذه السيادة لبطل الاستعباد، وأصبح تفاوت الدرجات كتفاوت الأعمار شيئًا لا غضاضة فيه على صغير ولا خُنْزُوانة فيه لكبير، إنما هو تقسيم أعمال، وتعاون بين إخوان، وإن لم يكن تعاونًا بين أمثال.