محمد في التاريخ
اتصال التاريخ بمحمد
أردنا بالفصول المتقدمة أن نصف محمدًا في عبقريته، أو محمدًا في نفسه، أو محمدًا في مناقبه التي يتفق على تعظيمها من يدين برسالته الدينية، ومن لا يدين له برسالة.
ونريد بهذا الفصل — وهو خاتمة الكتاب — أن نذكر كلمة موجزة عن محمد في التاريخ، أو محمد في العالم وأحداثه الخالدة. وهو بحث يغنينا فيه الإيجار، لأن العالم كله صفحات تنبئنا بمكان محمد فيه.
محمد في نفسه عظيم بالغ في العظمة، وفاقًا لكل مقياس صحيح يقاس به العظيم عند بني الإنسان في عصور الحضارة.
فما مكان هذه العظمة في التاريخ؟ … وما مكانها في العالم وأحداثه الباقية على تعاقب العصور؟
مكانها في التاريخ أن التاريخ كله بعد محمد متصل به مرهون بعمله، وأن حادثًا واحدًا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهور عمله.
فلا فتوح الشرق والغرب، ولا حركات أوروبا في العصور الوسطى، ولا الحروب الصليبية، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب، ولا كشف القارة الأمريكية، ولا مساجلة الصراع بين الأوروبيين والآسيويين والأفريقيين، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات، ولا الحرب العظمى التي شهدناها قبل بضع وعشرين سنة، ولا الحرب الحاضرة التي نشهدها في هذه الأيام، ولا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلل ذلك جميعه كانت واقعة في الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي ولد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة وإحدى وسبعين سنة من مولد المسيح.
كان التاريخ شيئًا فأصبح شيئًا آخر، توسط بينهما وليد مستهل في مهده بتلك الصيحات التي سمعت في المهود عداد من هبط من الأرحام إلى هذه الغبراء … ما أضعفها يومئذ صيحات في الهواء! ما أقواها بعد ذلك أثرًا في دوافع التاريخ! ما أضخم المعجزة! وما أولانا أن نؤمن بها كلما مضت على ذلك المولد أجيال وأجيال، وما أغنانا أن نبحث عنها قبل ذلك بسنين حيثما بحث عنها المنجمون والعرافون!
على أننا نستعظم الأحداث العظام في تاريخ بني الإنسان بمقدار ما فيها من فتوح الروح، لا بمقدار ما فيها من فتوح البلدان.
وجائز أن يقع في الدنيا طوفان أو زلزال، فيتصل به من أحداث الزحوف والفتوح ما يبدل في التاريخ، ويبتعث دوافع الشعوب.
أما غير الجائز فهو أن تنفتح للإنسان آفاق جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان، وبغير رسالة باطنية تسبق هذه الظواهر التي تهول الأنظار.
ولقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالمًا مغلقًا تحيط به الظلمات، فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد على سيد أو بامتداد التخوم وراء التخوم، ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة، فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم، ودنا به مرتبة إلى الله.
يدين بهذه الحقيقة كل من يدين بحقيقة في عالم الضمير. فمن أنكرها فإنما ينكر تقدم الإنسان كثيرًا أو قليلًا في هذه الطريق.
والحقيقة التي يراها المنصف — مسلمًا كان أو غير مسلم — هي هذه: هي أن فتوح محمد فتوح إيمان، وأن قوة محمد قوة إيمان، وأنه ما من سمة لعمله أوضح من هذه السمة، ولا من تعليل لها أصدق من هذا التعليل. لقد جاء الإغراء الذي أشار إليه العالم الأوروبي وهو داعٍ مهدد في سربه، وجاءه وهو عزيز الشأن بين المؤمنين بدعوته، فما حفل بالإغراء وهو بعيد من مقصده ولا حفل به وهو واصل إليه.
جاءه سيد قومه عتبة بن ربيعة — وهو في مبدأ أمره — فقال له واعدًا ملاطفًا، بعد أن أعياهم تخويفه متوعدين: «يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من خيارنا حسبًا ونسبًا، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها.» فقال عليه السلام: قل يا أبا الوليد.
فقال: «يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رَئِيًّا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.» فما زاد عليه السلام على أن أجابه بآيات من القرآن الكريم، ثم تركه يعود كما أتى …
ثم أدرك النبي غاية ما سعى إليه فلم يدخل له المال ولا المتاع في حساب، ولم يكن النعيم المستطاع أفعل في إغرائه من النعيم الموعود، بل كان النعيم المستطاع فوق ما حلم به عتبة بن ربيعة، وكان النبي أزهد فيه من زهده في النعيم الموعود … فلم كل هذا؟ لم هذا الجهاد؟ ولم هذا العناء؟ ولم هذا الصبر إن لم يكن في سبيل الإيمان؟ وأي نبي له من الإيمان شفاعة أكبر من هذه الشفاعة ورسالة أكبر من هذه الرسالة؟ … وأي إنسان يعرف تعظيم الأنبياء إن لم تظفر نبوة محمد عنده بالتعظيم؟
التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمد وشانئيه؛ حكمه أنفذ من حكم الشانئين والأصدقاء، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين، وأنفذ من حكم المتدينين والملحدين … لأنه حكم الله.
وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذبين، وكان في عمله أعظم الرجال أثرًا في الدنيا، وكان في عقيدته مؤمنًا يبعث الإيمان، وصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان.
وسيطلع في الأفق هلال ويغيب هلال، وسيذهب في الليل قمر ويعود قمر، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جعلت لتأريخ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسم الزرع ولا مواعد الأشغال ولا أدوار الدواوين والحكومات ولا ينتظرونها إلا هداية مع الظلام وسكينة مع الليل؛ أشبه بهداية العقيدة في غياهب الضمير.
يوم الغار
ستطلع الأقمار بعد الأقمار، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية، وكأنها تقبل بمعلم من معالم السماء يومئ إلى بقعة من الأرض هي غار الهجرة، أو يومئ إلى يوم لمحمد هو أجمل أيام محمد، لأنه أدل الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بإلهام لا يعلوه تفكير ولا تعليم.
لمَ كان يوم الهجرة ابتداء التاريخ في الإسلام، ولم يكن يوم الدعوة؟ ولِمَ لم يكن يوم بدر أو يوم ولادة النبي أو يوم حجة الوداع يوم ابتداء التاريخ؟ … كل يوم من هذه الأيام كان في ظاهر الرأي وعاجل النظر أولى بالتأريخ والتمجيد من يوم الفرار بالنفس والعقيدة في جنح الظلام.
فالرجل الذي اختار يوم الهجرة بدءًا لتاريخ الإسلام قد كان أحكم وأعلم بالعقيدة والإيمان ومواقف الخلود من كل مؤرخ وكل مفكر يرى غير ما رآه.
لأن العقائد إنما تقاس بالشدائد ولا تقاس بالفوز والغلب: كل إنسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة، أما النفس التي تعتقد حقًّا ويتجلى فيها انتصار العقيدة حقًّا فهي النفس التي تؤمن في الشدة وتعتقد ومن حولها صنوف البلاء.
وليس يوم أحق بالتأريخ إذن من اليوم الذي هجر فيه النبي بلده؛ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة: ٤٠).
ليقل من قال إن التوقيت بما قبل الهجرة وما بعدها كان توقيتًا معروفًا على عهد النبي ﷺ … وليقل من قال إن دخول المدينة هو المقصود بالتأريخ من الهجرة، وهو يوم عظيم … ليقل من قال هذا أو ذاك، فإن تاريخ النصر في القرآن إذ هو «ثاني اثنين» في الغار.
وإن ابن الخطاب لنبيل ملهم الفؤاد — سواء كان هو المقترح أو مجيب الاقتراح — حين نظر إلى غار «ثور» ولم ينظر في التأريخ إلى نصر المدينة ولا إلى نصر بدر ولا إلى نصر أحد ولا إلى نصر فارس، ونظر إلى تلك «الجنود التي لم تروها» وقد نراها نحن الآن.
يوم الدعوة لم يكن يوم الإسلام الأول، لأن الدعوة كلمة يستطيعها كل إنسان ويستطيع النكول عنها بعد قليل أو كثير.
ويوم ميلاد النبي لم يكن يوم الإسلام الأول، لأن ميلاد محمد لم يكن معجزة الإسلام كما كان ميلاد عيسى معجزة المسيحية، ولأن محمدًا بشر مثلنا في مولده. ولكنه سيد الرسل يوم دعا ويوم نجا بالدعوة إلى حيث تنجو وحيث تسود، وحيث يكون امتحانها الأول في قلب صاحبها وقلب صاحبه الصديق، وهما اثنان في غار.
كذلك تؤرخ العقائد والأديان؛ بالشدة تأريخها وليس بالغنائم والفتوح، وإنها لشيء في القلوب فلْنَعْرفها إذن حين لا تكون إلا في القلوب، وحين يكون كل شيء ظاهر كأنه ينكرها وينفي وجودها، وهي يومئذٍ من الوجود في الصميم.
يوم عقيدة ورجاء
إن يوم الغار ليوم له عبرته وعزاؤه في كل يوم ولا سيما أيام القلق والحيرة والانتظار …
إنه يوم عقيدة فهو يوم رجاء، ويوم نظر إلى المستقبل الذي ينظر إليه من ليس له رضا في حاضر عهده، وحاضر العالم في عهده هذا لا يرضي أحدًا من محبيه … حيثما غلبت الحيرة والقلق في العالم فهنالك أمر واحد كن منه على أتم اليقين؛ كن على يقين أن العالم يبحث عن عقيدة روحية! لأنه يضيق بالحاضر وينظر إلى المستقبل، وكل مستقبل فلا محل له من جوانح الصدور إن لم يكن موضع رجاء ومرجع إيمان، وغاية سعي يستحق الكفاح …
وفي التاريخ الإنساني كله لم تقم قط حركة عظيمة على الماضي الذي لا مستقبل بعده، إنما تقوم الحركات العظمى جميعًا على الرجاء في غد محجوب، أو على شيء يمكن أن يتحقق في حياة الإنسان، وشيء يبقى أبدًا موضع الرجاء البعيد …
لقد كان عليّ فتى يستقبل الدنيا، وكان أبو بكر كهلًا يدبر عنها، يوم أعانا محمدًا في يوم ثور … ولكنهما كانا معًا على أبواب غد واحد ورجاء واحد، يستوي فيه الفتى والكهل والشيخ الدالف إلى قبره، لأنه رجاء الإيمان لا رجاء العيان.
المستقبل للإيمان
ماذا فتح الإسلام لأبي بكر من عوالم الحياة؟ … هل رجع به إلى الماضي أو أقبل به على المستقبل؟ هل مشى به في حركة إلى أمام أو قفل به في رجعة إلى وراء؟ … الحق أن الإسلام مثل المستقبل للشيخوخة كما مثل المستقبل للشباب، وانفصل من حالة لا تبقى ليتصل بحالة يرجى لها البقاء، وكان يفتح أمام أبي بكر — وليس أمام علي وحده — باب الحياة الصالحة في الدنيا وباب الحياة الخالدة في الآخرة … وهكذا كل عقيدة فما هي بعقيدة على أي معنى من معاني الاعتقاد إن كان خيرها كله شيئًا يناله الإنسان في أيامه … فلا مناص في العقيدة من خير وراء أيام الفناء.
لِيذكر هذا جميعه من يتحفزون للنهوض، ومن يبتغون الحركة ويقودون الخطوات المقبلة في عجلة أو أناة.
لن تتحرك أمة إلا إذا فتحت أمامها باب المستقبل، ولن تلتفت إلى الماضي إلا إذا كان فيه التقاء بالمستقبل، ولن تعيره الحياة إلا وهو مبعوث من جديد في صورة الخلق الجديد.
ليذكر هذا من يحارون في أمر العالم اليوم وهو غارق في دمائه، ضائق بحاضره، معرض عن ماضيه …
فيم يحار؟
في طلب المستقبل، في طلب العقيدة، في طلب المسوغ للوجود، لأن الوجود وحده لا يكفي الإنسان إلا أن يكون على طبقة مع الحيوان.
فالإيمان للمستقبل …
وعسى أن يكون المستقبل للإيمان.
وعسى أن يستجد العالم عزاء باقيًا من يوم الغار ومن صاحب يوم الغار.