عبقرية محمد السياسية
سياسة الخصوم والأتباع
السياسة على معانٍ كثيرة في العرف الحديث …
فمنها ما يكون بين بعض الدول وبعض من المراسم والعلاقات، ومنها ما يكون بين هذه الدول من معاهدات وخطط في أعمالها الخارجية، ومنها ما يكون بين الراعي ورعيته أو بين الأحزاب والوزارات من برامج ودعوات … ولكل معنى من هذه المعاني اصطلاحه في العرف الحديث، وإن جمعتها كلمة السياسة في اللغة العربية.
وقد تولى النبي عليه السلام أعمالًا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسة في عموم مدلوله … ولكننا لا نعرف بينها عملًا واحدًا هو أدخل في أبواب السياسة، وأجمع لضروبها، وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعًا، منذ ابتدأ بالدعوة إلى الحج إلى أن انتهى بنقض الميثاق على أيدي قريش …
ففي عهد الحديبية تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه، وفي الاعتماد على السلم والعهد حيث يحسنان ويصلحان، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود.
بدأ بالدعوة إلى الحج، فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته … بل شمل به كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه، فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتها، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى، ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيهها إلى مناوأة محمد والرسالة الإسلامية. فليس محمد وأصحابه أناسًا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها، ولكنهم إذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم، أو يقطعون ما بينهم وبين آبائهم وأجدادهم. فإذا خالفوا قريشًا في شيء فذلك شأن قريش وحدهم أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة، وليس هو بشأن القبائل أجمعين.
ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على الإسلام، بما ادعوا من قطعه للأرزاق وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها الغادون إلى مكة والرائحون منها، فها هو ذا محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام. فإذا حال بينهم حائل وبين ما يقصدون إليه، فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه، ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين …
وقد سمعنا كثيرًا في العصور الحديثة عن المقاومة السلبية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير وجه الحق والحجة.
سمعنا بها في الحركة الهندية التي قام على رأسها غاندي وتابعه فيها بعض مريديه، حتى كان لها من الأثر في إزعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية.
وقيل يومئذ إن غاندي قد تتلمذ في هذه الحركة على المصلح الروسي الكبير ليو تولستوي، وقيل بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضلًا عن الإنسان، قبل أن يشرع ليو تولستوي مذهبه الجديد.
والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيون على حركة غاندي وتبشيره بتلك المقاومة السلبية لاعتقادهم أن الإسلام قد شرع القتال فلا يوائم المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين، من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة.
لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه، ويبين لهم أن الإسلام قد أخذ من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته وأسبابه … فلا هو يركن إلى السيف وحده ولا إلى السلم وحده، بل يضع كليهما حيث يوضع، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار، وليس الآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار.
وقد خرج النبي إلى مكة في رحلة الحديبية حاجًّا لا غازيًا … يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح، إلا ما يؤذن به لغير المقاتلين.
فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعًا للاتفاق بين خصومه على قرار واحد، وقلَّ من أتباعه من أدرك قصده ومرماه حتى الصفوة المختارين.
ولما اتفق الطرفان — المسلمون وقريش — على التعاهد والتهادن، كانت سياسة النبي في قبول الشروط التي طلبتها قريش غاية في الحكمة والقدرة «الدبلوماسية» كما تسمى في اصطلاح الساسة المحدثين …
دعا بعلي بن أبي طالب فقال له: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل بن عمرو مندوب قريش: «أمسك! لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم».
فقال النبي: «اكتب باسمك اللهم.»
ثم قال: «اكتب «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو».»
فقال سهيل: «أمسك! لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.»
وروي أن عليًّا تردد فمسح النبي ما كتب بيده، وأمره أن يكتب «محمد بن عبد الله في موضع محمد رسول الله.»
ثم تعاهدوا على أنَّ مَنْ أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليه في العام الذي يليه، ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قُرُبها، ولا سلاح غيرها.
ولو كان عهد الحديبية هذا قد كتب بعد قتال انهزم فيه المشركون وانتصر فيه المسلمون، لوجب أن يكتب على غير هذا الأسلوب. فيعترف المشركون كرهًا أو طوعًا بصفة النبوة ولا يردون أحدًا من مواليهم أو قاصريهم يذهب إلى النبي ويلحق بالمسلمين.
ولكنه عهد مهادنة أو عهد «إيقاف أعمال العداء إلى حين» كما يسمونه في اصطلاح العصر الحاضر، فلا يعوزه شيء من الأصول المرعية في أمثال هذه العهود، من إثبات صفة المندوبين التي لا إرغام فيها لأحد الطرفين ولا مخالفة لدعوى الفريقين، ومن حِفظِ كلٍّ لِحَقِّه في تجديد دعواه واستئناف مسعاه.
فلو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد إليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الإسلامية، ونقض الوصف الذي يصف به المسلمين، فإن المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قريشًا ليس بمسلم، ولكنه مشرك يشبه قريشًا في دينها وهي أولى به من نبي الإسلام … أما المسلم الذي يرد إلى المشركين مكرهًا فإنما الصلة بينه وبين النبي هي الإسلام، وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين، ولا تتقطع الصلة فيه بالبعد والقرب. فإن كان الرجل ضعيف الدين ففتنوه عن دينه فلا خير فيه، وإن كان وثيق الدين فبقي على دينه فلا خسارة على المسلمين.
وما انقضت فترة وجيرة حتى علمت قريش أنها هي الخاسرة بذلك الشرط الذي حسبته غنمًا لها وخذلانًا لمحمد صلوات الله عليه … فإن المسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده، قد خرجوا إلى طريق القوافل على تجارة قريش يأخذونها وهي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين، فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة، ولا استطاعوا أن يحجزوهم في مكة كما أرادوا يوم أملوا شروطهم في عهد الحديبية، ولو قضى العهد بولاية النبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه.
وتم العهد … فعرف من لم يعرف ما أفاء على الإسلام بعد قليل، فجهر بمحالفة النبي من لم يكن يجهر بولائه … واستراح النبي من قريش ففرغ ليهود خيبر وللممالك الأجنبية يرسل الرسل إلى عظمائها بالدعوة إلى دينه، وفتح الأبواب لمن يفدون إليه ممن أنكروا بغي قريش، وأمِنُوا أن تكون نصرتهم للإسلام حربًا يبتلون فيها بما لا يطيقون.
ويوم نزلت الآية الكريمة على أثر اتفاق الحديبية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (الفتح: ١، ٢).
لم يفقه الكثيرون معناها في حينها، ولم يتبينوا موضع الفتح من ذلك الاتفاق الذي حسبوه محض تسليم، ولكنهم فهموا أي فتح هو بعد سنتين، وعلموا أن من الفتوح ما يكون بغير السيف، وما يشبه الهزيمة في ظاهره عند من يتعجلون ولا يحسنون النظر إلى بعيد …
الفتح المبين
كان في تلك السنة فتح يراه الناظر بعين الغيب ولا يراه الناظر بعينه، ولكنها سنة واحدة ثم رأى الفتح المبين من لا يرون بغير العيون … رأوه وامتلأت عيونهم بالنظر إليه، فسَرَّ قومًا وساء آخرين.
ففي السنة التالية نادى الرسول أصحابه أن يتجهزوا للحج ولا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فخرجوا في شوق المنطلق بعد منع والمنتظر بعد صبر، إلا من استشهد في خيبر وأدركته الوفاة خلال العام، وخرج معهم جمع كبير ممن لم يشهدوا الحديبية يتبعهم النساء والأطفال، وساقوا أمامهم ستين بدنة مقلدات للهدي، وقد حملوا السلاح والدموع والرماح وعلى رأسهم مائة فارس يقودهم محمد بن سلمة.
فلما انتهى الرسول وصحبه إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وعلمت قريش بالنبأ ففزعوا وبعثوا بمكرز بن حفص في نفر منهم فجاءوا يقولون: «والله يا محمد ما عُرِفْتَ صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر … تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القُرب؟» فقال ﷺ: «إني لا أدخل عليهم» قال مكرز: «هو الذي تعرف به؛ البر والوفاء.»
وإنما حمل النبي السلاح للحيطة كما قال لصحبه: «إن هاجنا هائج من القوم كان السلاح قريبًا منا» … وتركه في الحراسة على مقربة من مكة حيث يوصل إليه عند الحاجة إليه.
ثم أقبل عليه السلام على ناقته القصواء وجموع المسلمين محدقون به متوشحون بالسيوف يلبون ويهللون، وأخذ عبد الله بن رواحة بزمام القصواء وهو ينشد:
وأوشك وقد هزته النخوة أن يصيح في قريش صيحة الحرب، فنهاه عمر — رضي الله عنه — وأمر النبي أن ينادي ولا يزيد: «لا إله إلا الله وحده نصر عبده، وأعز جنده وخذل الأحزاب وحده.» فرفع ابن رواحة بها صوته الجهير، وتلاه المسلمون يرددونها وتهتز بها جنبات الوادي القريب. فيسمعها من فارقوا مكة ليكلا يسمعوها ولا يروا ركب النبي يخطو في نواحيها …
وكان الفتح الذي بصر به عيانًا من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة، وأسلم من الضعفاء والأقوياء من كان عصيًّا على الإسلام؛ فريق منهم بهرهم وفاء النبي بعهده مع استطاعة نقضه، وفريق منهم راعهم سمت الدين ورحم الإسلام فيما بين المسلمين، وجمال ما بينهم وبين نبيهم من طاعة وتمكين، وفريق منهم علموا أن العاقبة للإسلام فجنحوا إلى طريق السلامة والسلام، وحسبك أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الإقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وهما في رجاحة الخلق والعقل مثلان متكافئان، وإن كانا لا يتشابهان.
وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور كما تجلت في قيادة الجيوش. فكان على أحسن نجاح في سياسته إذ نادى بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته، وإذ دعا المسلمين وغير المسلمين إلى مصاحبته في رحلته، وإذ توخى ما توخى من طريقة المسالمة وإقامة الحجة في إنفاذ عزيمته، وإذ قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته، وإذ نظر إلى عقباه ووصل به إلى القصد الذي توخاه.