الجزء الأول

طموحات مؤسِّسي الأعمال

(١) شهر العسل

خمسة شهور. تلك هي الفترة التي استغرقها جود كازينز ليتحوَّل ما كان يشعر به من شغفٍ لأن يكون من أصحاب الأعمال إلى قلقٍ وخوف شديدين. ومع أنه لم يؤسِّس شركةً من قبل، ولم يكن يعرف ماذا عليه أن يتوقَّع بالضبط، فقد بدت له الأشهر الخمسة بمثابة شهر عسل قصير للغاية.

ولم تكن كازينز كونسلتينج شركةً بالمفهوم المعتاد. بل كانت مكتبًا لتقديم الخدمات الاستشارية، اتَّخذ من إحدى غرف النوم غير المستخدَمة في منزل جود مقرًّا له. ولم يكن بها موظفون آخرون غيره. ولا توجد بها سياساتٌ داخلية. فلم يكن هناك غير جود وحماسه للعمل وثلاثة عملاء فقط. ولسوء الحظ، كان بالفعل يواجه خطر خسارة اثنين منهم.

(٢) نقطة البداية

خلال السنوات السبع التي سبقت إقدامه على بدء شركته الاستشارية الخاصة، لم يتلقَّ جود في عمله سوى التشجيع والتقدير، مما زاد فقط من شعوره بالإحباط وخيبة الأمل بصفته مؤسسًا لشركة خاصة.

بعد فترة قصيرة وغير مُرضية من العمل في مجال الصحافة بعد تخرُّجه من الكلية، عمِل في قسم التسويق في شركة هاتش تكنولوجي Hatch Technology، وهي شركة واعدة تنمو نموًّا سريعًا وتعمل في مجال تطوير البرمجيات المالية للمستهلكين والشركات الصغيرة. وقد بدأ جود عمله في الشركة مدقِّقًا، وبعد ذلك اجتهد ليشقَّ طريقه في كل قسم من أقسام إدارة التسويق، كما عمل لبعض الوقت في إدارة المنتجات والعمليات.

ونظرًا لما يتمتَّع به جود من أخلاقيات مهنية رائعة، وتواضع وفضول دائم يدفعه للبحث والاطلاع على كلِّ ما يخص عمله، بالإضافة إلى النمو السريع للشركة، فقد نال العديد من الترقيات. وبعد أربع سنوات من العمل في هاتش تكنولوجي، اختير جود وهو لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره ليكون مديرًا لقسم الاتصالات بالشركة، وليصبح مسئولًا مباشرةً أمام نائب رئيس الشركة لشئون التسويق.

وكان مسار جود المهني مثيرًا للإعجاب، إن لم يكن مدهشًا للغاية، في ظل عدم ميله الشديد لمجال التكنولوجيا. وكان على يقينٍ من أن السرَّ الذي يقف وراء نجاحه هو شغفُه الشديد بالتعلم، وليست مهارته في التسويق وقدرته على إقناع العملاء بشراء البرامج. فقد كان الأمر بالنسبة له، كما اعتاد أن يخبر أصدقاءه، كما لو أنه يتلقى أجرًا لكي يذهب إلى مدرسةٍ تعلِّمه الكثير عن عالم التجارة والأعمال.

وكان تولِّي جود وظيفةً لا يفصل بينها وبين فريق كبار التنفيذيِّين بالشركة سوى مستوًى واحد فقط يعني أنه يتعرَّض دائمًا لتحديات مرتبطة بكل جانب من جوانب إدارة الشركة، بدءًا من وضع السياسة إلى الهيكلة والإدارة. وقد كانت جميع هذه المجالات مصدرًا لشعوره بالمتعة في عمله.

ومع هذا، لم يكن جود راضيًا عن أن يظلَّ تعليمه مقصورًا على شركة واحدة فقط. لذا، فقد بدأ يتطوَّع للمشاركة في الكثير من المجالس الاستشارية في الشركات الصغيرة ذات المستقبل الواعد في المنطقة، وقد كانت جميع هذه الشركات سعيدةً للغاية لوجود شخص له مثل موهبته، يقدِّم لها النصائح والاستشارات، خاصةً عندما تكون هذه النصائح دون مقابل.

وقد كان جود ينهل من أي مصدر للمعرفة يتوافر أمامه ويرى أن بإمكانه الاستفادةَ منه، ويكوِّن آراءً قيمة عن كيفية إدارة شركة خاصة به، الأمر الذي أصبح بالنسبة له الهدفَ الأسمى في حياته العملية. وقد كان كلُّ مَن يعرف جود يرى أنه سيصبح يومًا ما رئيسًا تنفيذيًّا لمؤسسةٍ ما.

(٣) حياة هادئة

أما على المستوى الشخصي، فقد كان من الواضح أن حياة جود تسير في الاتجاه الصحيح.

فكان يأمُل هو وزوجته تريزا، التي تزوَّجها منذ ثلاث سنوات، أن ينجبا أطفالًا ويكوِّنا أسرةً صغيرة. وقد اشتريا منذ فترة ليست بالطويلة منزلَهما الأول الذي كان منزلًا ريفيًّا صغيرًا، لكنه جذابٌ للغاية، في أوريندا فوق التلال بالقرب من خليج سان فرانسيسكو. ومع أنهما ليسا من الأثرياء، فقد أصبح وضعهما المالي أكثرَ استقرارًا من أي وقتٍ مضى، والأهم من ذلك أنه أصبح لديهما الكثير من الأصدقاء المقرَّبين في المنطقة. كما أصبحا يشاركان في العديد من الأنشطة الاجتماعية والدينية في المجتمع، ولم يتوانيا عن تقديم يد المساعدة لكلِّ مَن يحتاج إليهما من الأصدقاء والجيران وأفراد العائلة.

ومن خلال التجارب العملية التي كان يواجهها كلَّ يوم، أصبح لدى جود كلُّ ما يحتاج إليه. ولم يكن لديه أي شكوى من المسئوليات التي يتولاها في هاتش تكنولوجي وفي العديد من الشركات الأخرى التي يشترك في مجالسها الاستشارية. وكان عمله مثيرًا ومشوقًا للغاية بالنسبة له، وكانت الأعباء التي يتولاها — مع أنها ثقيلة — لا تمثِّل له مشكلة، ويرى أنه يمكنه التعامل معها. وفي ظل هذه الظروف المناسبة والخبرات التي كان يكتسبها كلَّ يوم، لم يكن لدى جود أي نية لتغيير مسار عمله.

إلى أن حدثت عملية الاندماج.

(٤) الاندماج

مع أنه أعلِن عنها في الصحف بوصفها عمليةَ «اندماج بين أكفاء»، كان جميع الخبراء بالسوق يعلمون أن هاتش تكنولوجي ستكون هي الطرَف الخاسر في عملية الاستحواذ لحساب منافِستها بِل فينانشال سيستمز  Bell Financial Systems التي تفوقها حجمًا بقدرٍ ضئيل. ولقد كان لدى كارتر بِل، الرئيس التنفيذي للشركة الثانية خبرةٌ هائلة في الصناعة تفوق خبرةَ نظيره في شركة هاتش تكنولوجي، ولم يكن ليسمح بأن يفقد السيطرةَ على شركته من جرَّاء هذا الاندماج.
ولكنه لم يشأ أن يتعجَّل قول أو فعل شيء يسبِّب المشكلات أو يحبِط الآخرين بعد إتمام الصفقة مباشرة، فاختار أن يبنيَ فريقًا إداريًّا يشبه سفينة نوح يضم رئيسين لقسم المبيعات، ورئيسين لقسم التسويق، وهكذا. ونتيجة لذلك بدأت بذور السخط تنمو داخل المؤسسة الجديدة، التي أُطلق عليها اسم باتش سيستمز Batch Systems بالجمع ببراعة بين الاسمين القديمين، هاتش وبل. وفيما بعدُ كان الموظفون يتندَّرون حول الاسم ويقولون إنه كان يجب إعادة ترتيب حروفه ليصبح Hell (أي الجحيم).

ولحسن الحظ، بدا أن المحلِّلين الاقتصاديِّين لأوضاع السوق أكثرُ تفضيلًا لعملية الاندماج هذه من الموظفين. لذا، فقد استمتع جود وزملاؤه بمراقبة ارتفاع أسعار أسهم الشركة في البورصة بمرور الأسابيع التي كانت صعبةً للغاية بالنسبة لهم بعد توقيع أوراق الاندماج.

وبالنسبة لجود، قُسِّمت مسئولياته وسلطات منصبه بينه وبين نظيره من شركة بِل؛ لذا فقد تقلَّص دوره قليلًا، وقَبِلَ لَعِبَ دور محدود مديرًا للدعاية والإعلان. وبعد أن نجح في التغلُّب على ما شعر به من إحباط وخيبة أمل في البداية، نتيجةً لتغيير منصبه ومسئولياته؛ تقبَّل جود الوضعَ الجديد. بل وبدأ الوضع الجديد يعجبه حيث أصبح لديه وقت أطول لقضائه مع زوجته، ولممارسة رياضة الجولف التي يحبُّها، وللانضمام إلى مجالسَ استشارية أكثر.

وحاول جود أن يقنِع نفسَه أنه ربما يكون هذا الوضع الجديد هو ما يحتاج إليه ويريده تمامًا.

(٥) الصراعات الداخلية

وبمرور الأسابيع، وجد جود أن القيام بمهامِّ العمل المختلفة أصبح أمرًا أصعبَ كثيرًا. فالاجتماعات أصبحت تستغرق وقتًا أطول وتنعقد انعقادًا مستمرًّا، كما أنها كانت تتطلب قدرًا أكبرَ من الدبلوماسية. وأصبح عقدُ الصفقات السرية هو الوسيلةَ المسيطِرة على عملية اتخاذ القرار والاتصال بين الأقسام، مع التملُّص من المسئولية والإشارة بأصابع الاتهام إلى الآخرين.

ولقد كان جود أمينًا وصادقًا مع نفسه بدرجةٍ كافية ليعترف أن هاتش لم تكن الشركة المثالية قبل عملية الاندماج؛ فقد كانت هناك بعض المصادمات بين الأقسام المختلفة كما كانت هناك منافسةٌ بين الوحدات الإدارية. ولكن بعد الاندماج، تصاعد الموقف إلى مستوًى آخر مختلف تمامًا؛ فقد ازدادت حدة الخلافات والصراعات الداخلية. وتحوَّل الانتباه تحولًا كاملًا إلى الداخل، وبدلًا من التركيز على الأولويات المعهودة للشركات مثل: العملاء والشركات الأخرى المنافِسة، انصبَّ الاهتمام على الصراعات الداخلية بشأن الموازنة والمناصب والألقاب والمسئولية عن الأخطاء.

وفي حين أنه كان من المتوقَّع أن تحتدم هذه الخلافات بين موظفي الشركتين السابقتين، فقد نشأت مستوياتٌ أخرى من الصراع والمنافسة بين موظفي الشركة الواحدة في مجالات أخرى. فقد كان هناك الصراع بين المقر الرئيسي والفروع المختلفة للشركة. وبين إدارة المبيعات والإدارة الهندسية. وحتى داخل قسم التسويق، كانت هناك صراعات داخلية، وبقدرِ ما كانت سخيفة كانت مدمِّرة.

وقد حدث بعد أكثرَ من شهرين من دمج الشركتين ما يمكن أن يكون أغربَ مثال على ذلك. حيث كان من المخطَّط أن يتحول المنتدى الإعلامي الخاص بالشركة إلى وسيلة رائدة للإعلام التجاري، وأن يحمل اسم «عالَم التكنولوجيا اليوم». ولقد كان لكلٍّ من شركتي هاتش وبل قبل الاندماج حضورٌ قوي في عالم الدعاية والإعلان. وبعد الاندماج، في أحد اجتماعات أقسام التسويق الجديدة؛ اقترح جود طريقةً منسَّقة جديدة للدعاية تهدُف إلى مضاعفة التغطية الشاملة التي تحقِّقها شركة باتش في مجال الدعاية، ولكن مع التركيز على توصيل رسالة قوية ومتسقة عن مجموعة المنتَجات الجديدة للشركة.

بعد عرضٍ تقديمي قصير عن الاستراتيجية الإعلانية الجديدة مدعَّم بنماذجَ للرسوم التوضيحية وللإعلانات نفسها، شعر جود بارتياح شديد نتيجةً للاستحسان العام الذي رآه في عيون الحاضرين وعبارات التشجيع التي سمِعها من زملائه الذين يملئون الغرفة مثل: «هذا يبدو جيدًا» و«أرى أن هذا رائع».

وبعد مرور أسبوعين، أغرقت مجلة «عالم التكنولوجيا اليوم» الأسواقَ. وكانت الصفحتان رقما ٤٠ و٤١ تضمان الإعلاناتِ التي صمَّمها جود والتي توضح المجموعة الجديدة من منتجات شركة باتش وتخفيضات الأسعار المتاحة للعملاء الذين يفضِّلون شراء المجموعة بالكامل.

ولكن لسوء الحظ ظهر في الصفحة رقم ٢٨ من المجلة إعلانٌ لا يمتُّ بصلة لمنتجات الشركة الجديدة؛ فقد كان ترويجًا لمنتجات شركة بِل تكنولوجي فقط، دون أدنى ذكرٍ لشركة باتش على الإطلاق. ولم يتوقَّف الأمر عند هذا فقط، بل خُفِّضت أسعار منتجات شركة بِل القديمة إلى سعرٍ أقلَّ من سعر بيع المجموعة بالكامل، وهو بالطبع ما سيشجع العملاء على شراء المنتجات، كل على حدة.

ومع أن جود بطبيعته ليس من الشخصيات التي تميل إلى الغضب والسخط، فقد كان هذا الموقف لطمةً قوية له. وكانت فكرة أن الأشخاص أنفسهم الذين جلسوا أمامه ووافقوا تمامًا على الاستراتيجية الجديدة التي تقدَّم بها، عادوا مرة أخرى إلى أقسام الإنتاج الخاصة بهم وقرَّروا أن ينفذوا حملات الدعاية والإعلان الخاصة بهم، كافيةً لأن تصيبَه بصدمة عنيفة. بالإضافة إلى أنه لم يستطِع أن يستوعب كيف واتتهم الجرأةُ لخفض أسعار منتجاتهم على حساب مصلحة الشركة الجديدة.

ولكن ما أزعج جود أكثرَ من هذا وذاك كان ردَّ الفعل السلبي لرئيسه، رئيسِ قسم التسويق، والمسئولين التنفيذيِّين الآخرين الذين لم يحرِّكوا ساكنًا عندما علموا بهذا الأمر.

لم يفعلوا شيئًا البتة.

لقد توقَّع جود أن تسيطر عليهم موجةٌ من السخط والغضب وخيبة الأمل — وربما يُوجَّه إليه بعض هذا الغضب — ولكنه لم يجِد شيئًا مما توقَّعه. فلم يتلقَّ أيَّ مكالمات تليفونية أو رسائل بالبريد الإلكتروني، ولم يأتِ أحد إلى مكتبه ليسأله عن الخطأ الذي وقع. لم يحدث أيٌّ من هذا. وتساءل جود: «كيف يمكن أن يحدث هذا؟»

وعندئذٍ بدأ الأمر يتضح أمام جود: هناك شخصٌ ما يقف وراء كل هذا. والأشخاص الذين حضروا الاجتماع ووافقوا على اقتراحه لم يكن لهم يدٌ في الأمر. فهم مجرَّد مرءوسين ينفِّذون الأوامر. المشكلة تكمُن في رؤساء الشركة أنفسهم.

لم يستطِع جود أن يمنع نفسه من محاولة معرفةِ ما يحدث بالضبط. فذهب إلى رئيسه وسأله ما إذا كان أحدٌ قد لاحظ هذه المشكلة أو انزعج منها. ولكن كان كلُّ ما فعله رئيسه، مدير التسويق، هو أن تنهَّد وحرك رأسه ووضح له أن مثل هذه الأمور والمشكلات تبِعاتٌ طبيعية لعمليات الاندماج، وأن جود ليس له يدٌ فيها.

مع أن جود كان سعيدًا لأن رئيسه قد أخلى مسئوليته عن هذا الخطأ، فإنه لم يشعر بالراحة، بل سيطر عليه شعورٌ بعدم احترام الإدارة، وقلقٌ شديد حيال مستقبل الشركة.

وفي تلك الليلة في أثناء تناوله العشاء مع زوجته القلِقة، حاول جود أن يقنعها، أو بالأحرى أن يقنع نفسه، بأنه قد تكون هذه هي الطريقة التي تعمل بها المؤسسات الكبيرة. وقرَّر أن يبقى بعيدًا عن المشكلات لفترة، وأن يبذل قصارى جهده في العمل الذي يتولَّى مسئوليته، وأن يزيد من نشاطه الخارجي أكثر، مشيرًا بذلك إلى المشاركة في المجالس الاستشارية للشركات الأخرى.

ولكن جود كان ذكيًّا بدرجة مكَّنته من أن يعرف أن تجاهُل المشكلات والابتعاد عنها ليس الخيار الأمثل بالنسبة له، كما أن المشكلات عمومًا لا تختفي هكذا من تلقاء نفسها دون أن يقوم أحد بحلِّها. بالإضافة إلى أنه لم يكن هذا الشخصَ الذي يمكنه أن يرى المركب وهي تغرَق ويقف مكتوفَ اليدين.

لذا، فقد شرع جود في البحث عن عملٍ آخر وهو مطمئن لاستقراره من الناحية المالية؛ نظرًا للارتفاع المستمر في أسعار الأسهم الخاصة بشركة باتش في البورصة.

(٦) بذور فكرة جديدة

لم يتعجَّب جود كثيرًا من العدد الهائل من المقابلات الشخصية التي أجراها مع العديد من الشركات التي ترغب في أن تستعين بخبراته، ولا من كمِّ العروض التي تلقَّاها نظرًا للازدهار الذي يشهده الاقتصاد والشبكة الضخمة من الأصدقاء التي كوَّنها طوال فترة عمله في مجال الصناعة. ولكن ما أدهشه حقًّا هو شعوره بالمتعة أثناء البحث عن عمل.

فقد منحته كلُّ مقابلة شخصية فرصةً للتعرف على مؤسسات أخرى، وعلى أسواق أخرى، ومجموعة أخرى من التحديات التي يمكن أن تواجهه. ومع أنه لم يستطِع أن يقنع نفسه بالانضمام إلى إحدى هذه الشركات — خاصةً وأنه ما زالت لديه فرصة كبيرة لتحقيق بعض الأرباح من وراء ارتفاع أسعار أسهم باتش — فإنه كلما رفض عرضَ عمل، بدأت تنمو في ذهنه بذور فكرة جديدة. وعندما أدرك أنه لن يجِد التنوع الذي يسعى إليه عند الالتحاق بعمل منتظِم في إحدى الشركات، بدأ يفكر فيما إذا كان يريد حقًّا أن يغيِّر مهنته ويعمل مستشارًا.

وعلى مدارِ الشهرين التاليَين، استمر جود في عقدِ مقابلات شخصية وإشباع رغبته في اكتساب الخبرة في مجال تقديم الاستشارات. ولكن في كل مرة يبدأ فيها دراسةَ هذه الفكرة الجديدة، يجد نفسه مضطرًّا إلى الانخراط في العمل طوال الوقت بسبب مشروع عاجل أو غير ذلك، ويُضطر إلى إرجاء التفكير حتى وقت لاحق. وقد أرهقه هذا الأمر كثيرًا حتى إنه أطلق على هذه الفترة — التي لم تتجاوز الأسابيعَ التسعة — أطولَ فترة مرَّت عليه في حياته المهنية.

ثم حدَث ما كان يتوقعه. ارتفعت أسهم الشركة ارتفاعًا كبيرًا إلى مستوًى يصل إلى ثلاثة أضعاف سعر الاندماج، مع أن الفوضى الداخلية كانت تقود الموظفين إلى حدِّ الجنون. والآن أصبح ما لدى جود في الشركة أكبرَ بكثير، وحتى إذا لم يستمر في الشركة وقتًا كافيًا ليربح المزيد، فما سيحصُل عليه الآن يساوي راتبَ سنتين من العمل. لذا، فقد قرَّر بدوره أن الوقت قد حان للتغيير الجذري، وتنفيذ الفكرة التي طالما راودته، وبدء عمله الخاص في مجال تقديم الاستشارات.

(٧) تغيير المسار

بدأ جود يطرح فكرةَ بدء شركته الخاصة على زوجته تريزا، ولكنَّ ردَّ فِعلها كان صدمة شديدة بالنسبة له.

قالت بلهجة متأنية وهي تضغط على كل حرف من حروف عبارتها: «حسنًا، أنت تعرف أنني أدعمك وأقف بجوارك بكل كياني في كل قراراتك. أنت تعرف ذلك.»

فأومأ برأسه موافقًا، في حين استأنفت هي كلامها.

وقالت: «لكن هذا الأمر لم يَعُد يتعلَّق بنا نحن الاثنين فقط؛ لذا فعلينا أن نتوخى الحذر قليلًا لأننا لم نَعُد مسئولين عن أنفسنا فقط.»

في البداية لم يفهم جود جيدًا ما تعنيه زوجته. ثم أدرك فجأةً ما ترمي إليه.

كانت تريزا حاملًا.

وبعد أن تبادلا التهاني والأماني السعيدة لهذا الحدث الجميل، عادا مرةً أخرى إلى مناقشة مسيرة جود المهنية.

أوضحت تريزا جيدًا الشروط التي ستجعلها توافق على هذه الفكرة وتدعمها. «ما دامت ستوجد خطة واضحة وثابتة لمزايا التأمين الصحي، فأنا معك قلبًا وقالبًا. وأعلم أنك ستبلي بلاءً حسنًا.» وحاولت إدخالَ الطمأنينة إلى نفسه. فقالت: «لا سيما إذا كنت متحمسًا له.»

وقد كان جود يثق بشدة في رأي زوجته أكثرَ من أي شخص آخر، ولم يستطِع أن ينكر أنه متحمِّس للغاية لهذه الفكرة ويريد تنفيذها.

وفي اليوم التالي، ذهب جود إلى العمل وأخبر رئيسه أنه سيترك العمل، وبعد ثلاثة أيام من المداولات والمفاوضات معه كي يستمرَّ في العمل والرفض من جانبه، تمكَّن جود أخيرًا وبعد عناء من ترك العمل والاستقالة من شركة باتش.

ولكن الحرية لها ثَمنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤