الجزء الثاني

الحياة الجديدة

(١) الثمرة الدانية

بعد أن حصل جود على إجازةٍ مدة أسبوع واحد قضاه في ترتيب حجرتين في المنزل؛ إحداهما لتكون غرفة المكتب الخاصة به، والثانية لتكون غرفةً لطفله المنتظَر، أقدم على تنفيذ مشروعه الجديد بكل قوة وحماس.

ونظرًا لأنه كان مصمِّمًا على تجنُّب الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الكثير من رجال الأعمال الذين يبدءون عملهم — مثل الانغماس في اختيار اسم وشعار للشركة (تدور أحداث هذه القصة في عام ١٩٩٥ لذا لم يكن من الضروري أن يكون له موقعٌ على شبكة الإنترنت) — ركَّز جود جهوده على العثور على عملاء لشركته الجديدة. وقد شعرتْ تريزا بالدهشة لأنه نجح بالفعل في الحصول على ثلاثة عملاء خلال أربعة أيام فقط، بالإضافة إلى عميل رابع يقدِّم له الاستشارات دون مقابل.

ومع أن جود كان يروِّج لمكتبه على أنه مستشار عام خبير في شئون التسويق والكفاءة التشغيلية، فقد كان واضحًا بالنسبة له أن قدرته على جذب العملاء تعتمد اعتمادًا كبيرًا على ما أطلق عليه «حروف الصاد الثلاثة»، وهي ثلاث صفات تبدأ جميعها بحرف الصاد، هي: صيته الطيب، وصِلاته التي كوَّنها مع المسئولين التنفيذيِّين، وصِلاته التي اكتسبها في أثناء عمله في المبيعات.

ولكن بعد أن أصبح لدى جود عملاء يطلبون استشاراته وخبراته في مقابل مادي، استسلم وقرَّر أن يقضيَ بعض الوقت في التفكير في التفاصيل الخارجية للشركة. وقد اتَّبع نصيحة زوجته وأطلق عليها كازينز كونسلتينج. ومع أن هذا الاسم لا يبدو مبتكرًا أو خلاقًا، فإنه أعجبهما لأنه يحمل معنًى مزدوجًا. فقد كان جود يقول دائمًا لزوجته إنه يطمح أن تكون علاقته بعملائه أشبهَ بعلاقة أفراد العائلة الواحدة. قد لا يكون قريبًا من الدرجة الأولى، ولكنه قريب بالدرجة الكافية لأن ينال ثقتَهم. كأن يكون من أبناء عمومتهم مثلًا.

وبعد ذلك اقترحت تريزا على زوجها شعارًا بسيطًا ولكنه عمليٌّ ويدل على الاحتراف، ليطبعه جود على بطاقات العمل والأوراق التي تحمل اسم الشركة والفواتير. وهكذا، فبعد تحديد هذه التفاصيل الدقيقة يمكن الإعلان عن ميلاد الشركة رسميًّا.

في الواقع، لم يكن رونق شركته ومكانته الجديدة هو ما يثير حماس جود وسعادته . كان ما يثير حماسه وسعادته هو تنوُّع العملاء الذين سيتعامل معهم، واختلاف مجالات الاستشارات التي سيقدِّمها.

(٢) العملاء

(٢-١) فندق ماديسون

كانت المكالمة التليفونية الأولى التي أجراها جود هي تلك التي تحدَّث فيها إلى دانتي لوكا المدير العام لفندق ماديسون — أقدم وأكبر وأفخم فندق مستقل في سان فرانسيسكو. وقد كان جود عضوًا بارزًا وفعالًا في المجلس الاستشاري للفندق لأكثر من عام، وكان دانتي سعيدًا للغاية للعمل معه مرةً أخرى مستشارًا يقدِّم خدماته مقابل أجر.

وبعد شراء المبنى الأثري القديم منذ خمس سنوات أجرى دانتي عمليةَ تجديد شاملة ومكلِّفة للغاية للمبنى الذي يتكوَّن من ثلاثمائة غرفة بغرض إعادة المكان للشكل الذي يليق بقيمته التاريخية ليكونَ بمنزلة درة منطقة نوب هيل. كما أنه اكتسب شهرةً واسعة في أوساط هذا المجال لأنه قام بتبسيط البنية الإدارية للفندق، والمشاركة الفعَّالة بالمجهود في العمل، وهو أمرٌ كان من النادر أن يقوم به صاحب فندق أو المدير العام له.

للسنوات الثلاث الأولى بعد عملية التجديد وإعادة الهيكلة الإدارية للفندق، ازدهر نشاط فندق ماديسون ازدهارًا ملحوظًا. ولكن مؤخرًا بدأ الإقبال على الفندق ينخفض قليلًا في ظل المنافسة المتزايدة من سلاسل الفنادق الأخرى، التي تهدُف إلى جذب السياح والنزلاء الأثرياء. ومما زاد الأمر سوءًا انتشارُ بعض الشائعات أن الموظفين في الفندق يتلقَّون عروضًا من سلاسل الفنادق المختلفة، مما يهدِّد مكانة الفندق بصفته أحد الفنادق المستقلة القليلة للغاية التي لا تَتْبَع أيَّ سلسلة فنادق.

وقد أقبل دانتي على الاستعانة بخبرات جود على أملِ أن يقدِّم له النصائح التي تساعده على التسويق للفندق بأسلوبٍ لائق يجعله يحتل المكانة التي يستحقها، وأن يضع له استراتيجيةً إدارية واضحة، ويقدم له النصح في أي مجالٍ آخرَ يساعده على إضافة قيمة للفندق.

(٢-٢) مصنع جيه إم جيه للمعدَّات الرياضية

على عكس عالَم السياحة والفنادق الذي يعمل به العميل الأول لشركة جود، يأتي العميل الثاني وهو جيه إم جيه للمعدَّات الرياضية، وهو مصنعٌ لمعدَّات التدريب الرياضية التي يستخدمها المستهلكون أو المؤسسات الرياضية. ويوجد المقر الرئيسي والمصنع الخاص بهذه الشركة في مدينة مانتيكا، وهي مدينة صغيرة على بُعد ستين ميلًا شرق سان فرانسيسكو في وادي سان هواكين الزراعي حيث نشأ وترعرع جود.

ولقد كان براين بايلي الرئيس التنفيذي للشركة عضوًا في مجلس إدارة شركة هاتش منذ وقت طويل، وقد تعرَّف على جود هناك وطالما نظر إليه بعين الاحترام والتقدير نظرًا لكفاءته والتقدُّم المستمر الذي كان يحرِزه في العمل هناك. وقد حاول بايلي بالفعل من قبلُ جعْل جود ينتقل للعمل معه في شركته، إلا أنه لم ينجح في إقناعه بالانتقال للعيش في مانتيكا. ولكن خلال المقابلات القليلة التي جمعتهما معًا، والتي لم تتعدَّ ثلاث أو أربع مرات، كوَّنا علاقة قوية إلى حدٍّ ما.

وقد كان براين يحاول أن يجد وسيلة لتخفيض نفقات الشركة للمنافسة مع الشركات الأخرى عبْر البحار التي تبيع بأسعارٍ أرخصَ دون أن يؤثِّر ذلك سلبًا على جودة المنتجات أو القدرة الإنتاجية للمصنع. لذا، فقد لجأ إلى الاستعانة بخدمات جود لكي يساعده على تحقيق هدفه.

(٢-٣) مستشفى الأطفال

لم يكتفِ براين بالاستعانة بخبراتِ جود مستشارًا ليساعده في شركته، بل إنه زكَّاه لدى عميلة وصديقة قديمة له. هذه العميلة هي ليندسي واجنر، وبالطبع فهي ليست تلك الممثلة الشهيرة التي تحمل الاسم نفسَه، ولكنها الرئيسة التنفيذية لمستشفى الأطفال في ساكرامنتو. ولقد كانت ليندسي واجنر طبيبة أطفال قرابة خمسة عشر عامًا قبل أن تبدأ في تولي الأعمال الإدارية والتدرُّج في المناصب الإدارية.

لم يكن قد مضى على تولي ليندسي منصبَ الرئيسة التنفيذية للمستشفى سوى أربعة أسابيع، ولم تكن مستعدة بعدُ للاستعانة بمستشار. ولكن بعد اجتماع قصير مع جود لم يتعدَّ ساعات قليلة، قرَّرت أنه هو بالضبط مَن تحتاج إليه لمساعدتها في الانتقال لممارسة مهام منصبها الجديد.

(٢-٤) كنيسة كوربس كريستي

وأخيرًا، وافق جود على مساعدة الأب رالف كولومبانو، راعي كنيسة كوربس كريستي في وولنت كريك بكاليفورنيا. كان الأب رالف هو مَن أتم مراسم زواج جود وتريزا، وكان وقتها قسًّا في أبرشية مختلفة، وقد عيِّن مؤخرًا في كنيسة كوربس كريستي لإدارتها.

عندما سألت تريزا جود أيُّ العملاء يثير حماسه أكثرَ ويجعله متشوقًا للعمل معه، لم يستطِع جود أن يحدِّد. بالنسبة للفندق، كان الأمر مشوقًا ومثيرًا بالنسبة له لأنه، وبعد السفر سنواتٍ طويلة من أجل العمل، سينظر إلى الأمور من وجهة نظر المستهلِك وليس الإدارة. ومع أن جود قد حضر العديد من الاجتماعات للمجلس الاستشاري للفندق وشهِد حفل زفاف هناك مصادفةً، فإنه لم يُقِم فيه على الإطلاق ولو ليلةً واحدة. لذا، فقد كان يشعر برغبةٍ قوية في إلقاء نظرة على الفندق من الداخل من كثَب، وأن يرى ما يجري وراء الستار لكي يعرف السرَّ وراء النجاح الذي حقَّقه هذا الفندق، أو في هذه الحالة المعوِّقات التي تحول دون استمرار هذا النجاح.

أما بالنسبة للمستشفى، فقد كان جود متلهفًا للعمل لحسابه للعديد من الأسباب. أوَّلها أن المجال معقَّد ومختلف تمامًا عمَّا اعتاد القيام به. بالإضافة إلى ذلك، وجد أن طبيعة العمل الطبي الذي يستمر طوال اليوم دون أن تكون له مواعيدُ محددة، والأهمية الشديدة التي تمثِّلها هذه المهنة، أشياءُ مبهرة ومثيرة للغاية مقارنةً بالعمل في مجال البرمجيات الذي يتميز بالثبات النسبي. والسبب الأهم من هذا وذاك، هو أن تريزا كانت ستضع طفلهما الأول بعد ثمانية أشهر، وقد كان جود متلهفًا لمعرفة المزيد عن المراحل التي ستمر بها زوجته خلال فترة الحمل.

وبالطبع كان جود سعيدًا بالعمل مع الأب رالف في كنيسة كوربس كريستي؛ لأن هذا العمل سيكون بمثابة فرصة رائعة لردِّ الجميل للكنيسة ولصديق قديم، وهو شيء كان جود دائمًا يرغب في القيام به، ولكنه لم يكن يدري كيف يمكنه أن يسهم. بالإضافة إلى ذلك، كان جود يشعر ببعض الفضول لمعرفة كيف تُدار الكنيسة ما بين يومي الإثنين والسبت.

وعلى الرغم من الإثارة والأهمية التي يمثِّلها العمل لحساب جميع العملاء السابقين، فقد كانت شركة الأجهزة الرياضية هي التي تستحوذ على أكبر اهتمام من جانب جود. ولا يرجع هذا فقط إلى أن المشكلة التي تواجهها الشركة مشكلةٌ جوهرية، ولكن أيضًا لأن عالَم التصنيع كان دائمًا يبهر جود إبهارًا غريبًا، حيث يجد أن مفاهيمَ مثل إدارة الجودة والمنتَجات تكون ملموسةً أكثر في هذا العالم مقارنةً بها في عالم التكنولوجيا المتقدمة. وعلى مدار الفترة التي تعامل فيها مع براين بايلي أصبح جود معجبًا بأسلوب الإدارة المباشر الذي يعمل به، وكان متلهفًا لأن يرى هذا النظام من قربٍ من داخل الإدارة.

لم تكن الطريقة التي سيساعد بها جود هؤلاء العملاء أو سيضيف بها قيمةً لأعمالهم واضحةً في ذهنه. ولكن نظرًا لخبرته القديمة في المجالس الاستشارية ومراقبته لعمل كثير من المستشارين الذين كانت تستعين بهم شركة هاتش على مدار فترة عمله بها، فقد كان واثقًا من أنه سيجد الوسيلةَ المناسبة ليثبت لهم أنه مستشار كفء وأنه لن يخذلَهم. ولكنه، في الوقت نفسه، كان لا يتوقَّف عن التساؤل عما إذا كان قد أغفل شيئًا في خضمِّ هذه الأحداث.

(٣) خبراتٌ متنوعة

على مدار الشهور الثلاثة الأولى، كان جود يعمل بحرِّية ويتنقَّل بين الشركات المختلفة التي استعانت بخدماته. ففي بعض الأحيان، يذهب إلى مصنع المعدَّات الطبية، أو يتجوَّل في إدارة مستشفى الأطفال، أو يصطحب تريزا معه إلى الفندق لكي يجريا نوعًا من «البحث الميداني» في فندق ماديسون.

وقد استمتع جود كثيرًا وأحبَّ مراقبة المشكلات الحقيقية في العمل على أرض الواقع ومحاولة حلِّها، أكثرَ من استمتاعه بالأنشطة الجديدة التي يقوم بها. وقد كان يشعر بالسعادة في كلِّ ما يفعله، سواء أكان يتحدث إلى بعض العملاء في المصنع أم يقابل بعض النزلاء في الفندق أم يراقب العمليات في المستشفى. بل ولقد كان يعترف للعملاء بمدى استمتاعه بالتحدُّث إليهم. وكان دائمًا ما يقول لزوجته إنه قد خُلق ليكون مستشارًا يقدِّم النصائح باستمرار لأشخاص مختلفين.

وعلى غرارِ ما يحدث مع معظم مَن يحبُّون عملهم، فقد أحرز جود نجاحًا هائلًا في عمله. ففي خلال هذه الشهور القليلة الأولى، تمكَّن وحدَه من التوصل لوسائلَ تقدِّم إسهاماتٍ قيمة لكل عميل من عملائه.

ففي فندق ماديسون، نجح جود في أن يقنعَ دانتي بأن يحوِّل الأموال التي ينفقها على التسويق لتحقيق هدف جديد وهو محاولة جذب المسافرين الأثرياء الباحثين عن الراحة والرفاهية بدلًا من إنفاقها على محاولة جذب المسافرين من رجال الأعمال. وقد رأى أنه في حين أن سلاسل الفنادق الكبيرة المنافِسة لفندق ماديسون استطاعت أن تجذب إليها رجالَ الأعمال الذين يبحثون عن أسعارٍ أقلَّ وتوافرِ تكنولوجيا متقدِّمة في الغرف؛ فإنها لم تستطِع أن تمنح زائري سان فرانسيسكو الجوَّ المميز والإحساس الفريد الذي يمنحهم إياه فندق ماديسون. وقد شجَّع جود دانتي على عدم المنافسة على الأسعار، ولكن على أن يعمل على توطيد مكانة الفندق وأن يجعله مزارًا للنزلاء الأثرياء المستعدين لدفع الكثير مقابل الحصول على خدمة متميزة.

وفي مستشفى الأطفال في ساكرامنتو، ساعد جود ليندسي المنهمِكة في عملها الذي لا ينتهي في استخدام شاشة مراقبة بسيطة في الإدارة؛ حتى ترى بنفسها ثمرةَ نجاح العشرات من المبادرات التي دخلت حيزَ التنفيذ في المستشفى. وقد ساعدها هذا على تجنُّب إهدار الوقت في العديد من المشروعات التي تبدو عاجلةً وتأخذ قدرًا من الاهتمام لا تستحقه. كما بدأ أيضًا في إجراء مكالمات أسبوعية معها لكي يمنحها فرصةً للتحدُّث بحرية عن موضوعاتٍ حساسة لم تكن تستطيع طرْحَها على زملائها في الإدارة.

وبالنسبة لمصنع المعدَّات الرياضية، ونظرًا لكون جود مبتدئًا في هذا المجال وينظر لعملية التصنيع بعين المراقب وليس الخبير، بالإضافة إلى حماسه الشديد فقد تمكَّن من التوصل إلى أن هناك عملياتِ تصنيع مطوَّلة وزائدة دون جدوى، أغفلها مديرو المصنع بعد سنواتٍ من الاعتياد على وجودها. أما رغبته الواضحة للجميع في طرح أسئلة تكون أحيانًا بسيطةً لدرجةٍ مخجلة، وتواضعه في التعامل معهم فقد جعلت المشرفين في المصنع يثقون به. وكان هؤلاء المشرفون قد اعتادوا التعاملَ مع المستشارين الإداريين المغرورين الذين يتلقَّون مبالغَ باهظة ويتعاملون معهم باستعلاء. ولذا كانوا أكثرَ استعدادًا للاستماع إلى اقتراحات جود وأفكاره.

وبالنسبة لكنيسة كوربس كريستي، فقد فضَّل الأب رالف أن ينتظر شهورًا قليلة قبل أن يطلب من جود الحضورَ لممارسة مهامِّ عمله. حيث إن إدارة الكنيسة كانت على وشْك تغيير بعض العاملين بها، لذا، فقد رأى أن يبدأ في تنفيذ مبادرة الاستعانة بمستشار بعد أن يحدث التغيير وتستقر الأمور في نِصابها.

وعمومًا، شعر جود أن شركته الصغيرة وصلت لأفضل مستوًى يمكن أن تصل إليه شركة عمرها ثلاثة شهور في مجال الأعمال. وكان العائد المادي للشركة كبيرًا. بالإضافة إلى أن الشركة حازت ثقةَ العملاء الذين تبدو عليهم السعادة بالنتائج التي توصلوا إليها.

أما بالنسبة لزوجته، فقد أحبَّت كثيرًا جدول أعمال زوجها الذي أصبح أكثر مرونةً، ومن ثَمَّ أصبح يقضي معها وقتًا أطول، خاصةً أنها وصلت تقريبًا إلى منتصف شهور الحمل. وهكذا، أصبح جود يستمتع كثيرًا بعمله وحياته، حتى إنه كان يتساءل لماذا لم يتَّخذ هذه الخطوة الرائعة من قبل!

وبعد ذلك بدأت الإثارة تزور عالَمه الهادئ.

(٤) المفاجأة السعيدة

كان أولُ خبر تلقَّاه جود بعد هذه الفترة القليلة من استقرار حياته العملية والشخصية، مفاجأةً مذهلة له. لذلك فهو لن ينسى أبدًا هذه اللحظة.

بدأ الأمر عندما كان واقفًا بجوار زوجته التي ترقد على سرير الفحص الطبي في مركز جون موير الطبي الذي تتابع فيه تطورَ الحمل ونموَّ الطفل. وبينما كانت الممرِّضة تقوم بتدليك بطن تريزا بمادة هلامية طبية، لم يستطِع جود أن يقاوم محاولة تحليل سلوكيات وحركات الأطباء والممرضات من حوله ويتساءل كيف سيكون بإمكانه مساعدةُ مستشفى الأطفال للوصول إلى مستوى كفاءة أعلى إداريًّا. وفي هذه اللحظة سمِع الجملة التي لم تكن لتغيبَ عن ذاكرته أبدًا.

قالت الممرضة: «واو.» كان ثمَّة نبرةُ اندهاش في صوتها. وكانت الممرضة تحرِّك جهازًا طبيًّا صغيرًا يشبه العصا على الجزء الأوسط من بطن تريزا، وتنظر إلى شاشةٍ لم يستطِع جود أو زوجته رؤيتها.

وهنا تملَّك الذعر من جود وتريزا وصرخا في آنٍ واحد: «ما الخَطْب؟»

لم تُجبهما الممرضة على الفور، ولكن قطَّبت ما بين حاجبيها، ونظرت بتركيز شديد إلى الشاشة، ثم بدأت في تحريك الشاشة الكبيرة ببطء حتى يتمكَّن الزوجان من رؤيتها. وتحوَّلت نظرتها إلى ابتسامة سعادة كبيرة. وقالت: «هل تريان ما أراه؟»

نظر جود وتريزا إلى الصورة المتحركة على الشاشة الخضراء بتمعُّن ولكنهما لم يتمكَّنا من فهمِ ما يشاهدانه. وفجأةً أجهشت تريزا بالبكاء. وصاحت: «يا إلهي! إنهما توءمان.»

وهنا اقترب جود من الشاشة أكثرَ ورأى ما رأته زوجته. نعم إنهما طفلان. لم يصدِّق كلٌّ منهما نفسه وهما يشاهدان الجنينين يتحركان ويتلويان. وهمس جود: «نعم توءمان. يا إلهي!» ثم احتضن زوجته ومسح بيده دموعَ الفرح والسعادة التي انهالت من عينيها وأغرقت وجهها.

وصف جود فيما بعدُ مشاعرَه في هذه اللحظة قائلًا إنه لم يشعر بمثل هذه الإثارة الممزوجة بالخوف من قبل. أما لمسةُ الخوف هذه فسببُها الإحساسُ بالمسئولية المضاعفة التي يتحمَّلها الآن حيث سيكون عليه الاعتناءُ بطفلين والإنفاق عليهما بدلًا من طفل واحد. أما فكرة ليالي الأرق التي ردَّدها الكثيرون على مسامعه، والتي طالما تجاهلها واعتبرها مبالغةً فقد بدأت تبدو مخيفةً له.

ولكن لم يفكِّر جود قط في المشكلات المالية التي قد يسبِّبها إنجاب توءمين. خاصة وأن الأمور تسير على ما يرام في شركته الاستشارية الجديدة.

(٥) بداية المشكلات

لقد كان اليومُ الذي تلقَّى فيه جود خبرَ حملِ زوجته لتوءمين يومًا زاخرًا بالأحداث لديه. حيث كان عليه مساعدةُ زوجته على تقبُّل الوضع الجديد عاطفيًّا والتعامل مع هذا التغيير الجذري في الخطط التي كانت ترسمها في ذهنها، والاتصال بأفراد الأسرة لنقلِ الخبر إليهم، ومحاولة العثور على وسيلةٍ لجعل الغرفة التي أعدَّها لطفل واحد تتَّسع لطفلين، وهكذا أمضى جود يومَه بالكامل فلم يكن لديه وقتٌ لقراءة الصحف أو مشاهدة الأخبار. لذا، فقد اندهش للغاية عندما قرأ الصحيفةَ في الصباح التالي ووجد خبرًا يتحدَّث عن واحدة من أسوأ الأزمات التي أصابت سوق الأسهم منذ خمس سنوات.

قرأ جود عبارةً أكَّد فيها كاتب المقالة للمستثمرين أن حركة التصحيح وتدهور أسعار الأسهم لم تُصِب كلَّ القطاعات في سوق الأسهم كما كان يخشى المراقبون من قبل. فتنفَّس الصُّعَداء. ولكنه عاد سريعًا إلى القلق الشديد عندما استكمل قراءةَ المقال. قال المقال: «لقد أثَّر هذا الهبوط تأثيرًا أساسيًّا على قِطاع شركات التكنولوجيا.»

ألقى جود نظرةً على الجزء المتبقي من المقال، ثم نظر إلى الرسم التخطيطي في الصفحة الداخلية في الجزء الخاص بعالَم الأعمال من المجلة. وقرأ وهو يشعر بقُشعريرة باردة تسري في جسده أسماءَ الشركات التي تأثَّرت كثيرًا بسقوط البورصة. وقد احتلَّت شركة باتش المرتبةَ الرابعة بين الشركات المتضررة. وقد خسِر سهم الشركة أكثرَ من ثلاثين بالمائة من قيمته في يوم واحد فقط. وهنا شعر جود بأن ما كان يعتمد عليه ليكون المخزون الاستراتيجي الخاص به قد تقلَّص جدًّا.

وحاول جود أن يمنح نفسَه بعضَ الأمل وهو يقنِع نفسه أن أسواق الأسهم لديها القدرةُ على الارتفاع مرةً أخرى بعد سقوطٍ حادٍّ استمرَّ يومًا واحدًا. ولكن سريعًا ما تحطَّم هذا الأمل أيضًا عندما انخفض سهم الشركة بنسبة عشرين بالمائة أخرى من قيمته ظهرَ اليوم التالي.

ومما زاد الأمورَ سوءًا، أن جود شعر بأنه ربما يكون قد شارك بنفسه في تضخيم مشكلاته المالية. وقد تولَّد لديه هذا الإحساس عندما قرأ في اليوم التالي مقالًا في جريدة «وول ستريت جورنال» عن أكثرِ الشركات التي تضرَّرت من سقوط أسعار البورصة. وطبقًا لهذا المقال، فإن أحدَ العوامل التي ساعدت في سقوط شركة باتش، أكثرَ من مثيلاتها في الصناعة كان خسارةَ الشركة المستمرة للكوادر والموهوبين من الموظفين، الذين يعملون تحت إشراف كبار المسئولين التنفيذيِّين، خاصةً في مجالي الهندسة والتسويق، وهو المجال الذي كان يعمل به جود.

(٦) تفاقمُ المشكلات

لم يكن من طبيعة جود القلقُ على عمله. فقد شاهد والده الذي كان يمتلِك متجرًا للبقالة منذ قرابة ثلاثين سنة في موديستو يواجه تقلُّبات الحياة، ويتعرَّض للكثير من الأزمات وأوقات الازدهار التي تواجه أيَّ شخص يدير عمله الخاص. كما مرَّ جود نفسُه بمرحلة صعبة عندما قرر ترْكَ عمله الصحفي في شيكاغو والعودةَ إلى كاليفورنيا ليخوض غمار العمل في عالم التكنولوجيا، دون أن يكون له اتصالاتٌ بأي شخص أو خبرة سابقة في المجال. واصطحب تريزا معه في هذه المغامرة على الرغم من نصائح الكثير من أصدقائها بألا يفعلا هذا.

لذا فقد قرَّر جود ألا يترك نفسه فريسةً للإحباط وخيبة الأمل بسبب انتظار ميلاد طفل آخر، وتوقَّع نكسةً مالية وشيكة. ولكن كان هذا قبل أن يعرفَ أن تريزا غالبًا ما ستضع التوءمَين قبل شهر من تاريخ الولادة المتوقَّع.

ولكن ليندسي طمأنته قائلةً إن هذا الأمر طبيعي للغاية في مثل هذه الحالات. كما أخبرته أيضًا أنها ستُضطر إلى تخفيض المقابل المادي الذي يتلقَّاه إلى النصف على الأقل حتى يتمَّ الانتهاء من إعداد ميزانية العام التالي. وقالت إن الأمر قد لا يستغرق أكثرَ من شهرين لتسويةِ هذه المسألة.

ولم تكن هذه هي نهايةَ الأخبار السيئة التي استمرت في السقوط على رأس جود.

بينما كان جود يقود سيارته عائدًا إلى منزله من المستشفى تلقَّى اتصالًا هاتفيًّا من براين بايلي. وكان من الواضح أن لديه أخبارًا سارة. وقال براين بايلي بسعادة حقيقية: «لا أدري كيف أشكرك على ما فعلتَ من أجل الشركة، وعلى المجهود العظيم الذي بذلتَه مع فريق تجميع المعدَّات في وقت سابق من هذا الشهر. سنضع كلَّ ما أبديته من نصائح وتعليقات في الاعتبار في عمليتَي التصميم والشراء، وسيؤدي ذلك إلى توفير مبلغ كبير من النفقات في نهاية هذا العام. كنتُ أعلم جيدًا أنك مستشار ماهر، ولكني لم أكن أعلم أن الأمر بهذه السهولة.»

حتى هذه النقطة من المحادثة كان جود يشعر بالراحة لتلقيه خبرًا سعيدًا، ولكنه فوجئ بالآخر يستأنف حديثه.

«لذا، يسُرُّ الشركة أن تشكرك على نصائحك النفيسة، وتتعهَّد لك بإنهاء كافة المعاملات المالية للاستشارة في نهاية هذا الشهر؛ أرسل لنا الفواتير وغيرها وسنرسل لك النقودَ في نهاية هذا الشهر.»

شعر جود بالذهول من هذا الخبر، ولكنه لم يشأ أن يجعل براين يشعر بذلك. لذا فقد أجاب وكأنه كان يتوقَّع هذه المكالمة منذ وقت طويل. وقال: «لا بأس. سأرسل لك كلَّ شيء غدًا.»

ولكنه في الوقت ذاته لم يشأ أن يفقد أحدَ عملائه بهذه البساطة، فسأله: «هل تَودُّ أن أساعدك في أي شيء آخر؟»

وعندما لم يُجِبه براين مباشرة، اعتقد جود أن هذا الأمر لم يخطر له من قبل، والأهم من ذلك أنه بدأ يفكر فيه.

ولكن براين أجابه: «لا يوجد شيء معيَّن في ذهني الآن. هل تفكِّر في شيء محدَّد؟»

وفي الواقع، لم يكن جود يتوقَّع هذا السؤال، ولكنه استجمع أفكاره سريعًا. وقال: «حسنًا، لقد كنت أفكِّر في التسويق مثلًا. ولا أدري في الواقع ما أداء قسم المبيعات لديكم.»

ولكن براين أجاب على الفور وبأسلوب مهذَّب. فقال: «لا. لقد أنهينا مؤخرًا تقييمًا للعمل في قسم التسويق، ونجحنا في ضم خبير في هذا المجال من إحدى الشركات المنافِسة. والأمور في قسم المبيعات تسير على ما يرام. ولا أعتقد أننا نحتاج إلى مساعدة في هذين المجالين.»

لم يشأ جود أن ينقل إلى براين ما يشعر به من إحباطٍ وخيبة أمل؛ لذا فقد أنهى المكالمة في لهجةٍ تجمع ما بين الثقة واللامبالاة قائلًا: «عظيم. إذن أرجو ألا تتردَّد في إخباري إذا ما احتجتَ إلى مساعدتي.»

«بالتأكيد. فلقد أديتَ معنا عملًا رائعًا. وأتمنى أن نبقى على اتصال.»

رحَّب جود كثيرًا بالأمر، وبعد أن وضع السماعة بدأ يفكِّر في أنه ربما كانت فكرة العمل الاستشاري هذه فكرةً سيئة من الأساس.

(٧) تحليل الموقف

بدأ جود في دراسة وتحليل الموقف المتأزم الذي كان يواجهه، وأدرك أنه يعاني مشكلتَين. تتمثَّل المشكلة الأولى في الحاجة إلى المزيد من العملاء. وهذا أمرٌ بديهي. ورغم أنه يمتلك ما يكفي للنفقات وسداد الفواتير ستة شهور قادمة، وكان لا يزال لديه أسهم لدى شركة باتش ويتوقَّع أن تعود الأسعار إلى مستوياتها الطبيعية، فإن الأمل بداخله كان يضعُف يومًا بعد يوم.

والمشكلة الثانية هي أنه كان يحتاج إلى التركيز على تقديم الاستشارات في مجالٍ محدَّد لهؤلاء العملاء. لم يشعر جود قط، حتى ذلك الوقت، أنه يحتاج إلى التركيز على مجال معيَّن في تقديم الاستشارات. فعندما كان يتطوَّع للمشاركة في مجالسَ استشارية، لم يكن يحتاج إلى التركيز على مجال معيَّن في الاستشارات. بالإضافة إلى هذا، كان دائمًا على أتم استعداد لإفادة عملائه ومساعدتهم في جميع المجالات، مع أنه كان يعرض خدماته عليهم بصفته خبيرًا في شئون التسويق والإدارة فقط. ولكن لم يخطر بباله قط أن الحفاظ على هؤلاء العملاء سيتطلب برنامجَ عمل محدَّدًا وواضحًا.

حتى عندما كان جود يعمل مسئولًا تنفيذيًّا في مجال التسويق، كان فخورًا جدًّا بأنه غير متخصص في مجال محدَّد، وأنه خبير عام في المجالات كافة. وقد كان يعتقد أن هذا سوف يساعده كثيرًا في عمله استشاريًّا، وفي مساعدته على تجنُّب أن يحصر فكرَه وخبراته في مجال معيَّن وأن يصبح محدودَ الأفق. أما الآن، فهو يحاول أن يفكر في المجال الذي تصل خبراته فيه إلى حد التخصص، ولكنه لا يجد شيئًا.

وبعد أن أضناه التفكير أسبوعًا كاملًا دون جدوى، بدأ جود يرى أنه قد ارتكب خطأ فادحًا. وقال في نفسه: «سأصبح قريبًا عائلًا لأسرة تتكوَّن من أربعة أفراد. فهل أنا مجنون؟» وقرَّر أن يتوقف تمامًا عن هذا العمل وأن ينقل قراره هذا إلى زوجته على العشاء.

(٨) تحديد المصير

لم تكَد تريزا تسمع ما قاله زوجها حتى استنكرته تمامًا. قالت: «مهلًا مهلًا! هل تنكر أنك قد استمتعتَ بعملك خلال الشهور القليلة الماضية أكثرَ من السنوات الخمس السابقة بأكملها؟»

لم ينكر جود ذلك، ولكنه استدرك قائلًا: «حسنًا، لقد استمتعتُ بعملي كثيرًا، ولكني أحب أن أكون راعي بقر، فهل كَوني أحبُّ شيئًا يعني بالضرورة أنني يجب أن أفعله.»

«هذا ليس صحيحًا.»

ارتبك جود. وأجابها بحيرة: «إذًا هل تعتقدين أنني يجب أن أكون …»

«ستكون راعيَ بقر سيئًا للغاية.» وابتسمت، فأجبرته على الضحك.

«لكنك مستشار ناجح. وقد كنت تردِّد بنفسك دائمًا أنك خُلقت لتكون مستشارًا. ومواجهة عقبة في العمل الذي تحبُّه لا تعني أن تعود ثانيةً إلى هاتش أو باتش أو أيًّا كان اسم الشركة وأنت تجرُّ أذيالَ الخيبة.»

وافق جود على الفور وبسعادة شديدة على ما قالته زوجته، وكأنه كان يحتاج فقط إلى مساندتها، وقرَّر أن يعود ويكرِّس نفسه للأعمال الاستشارية. ولكن ما لم يكن يعرفه هو أنه سيلجأ إلى باتش بأسرعَ مما توقَّع.

(٩) استكشاف المشكلة

قرَّر جود دراسةَ المشكلة بدقة والبحث فيها لإيجاد حلٍّ مناسب، وقد بدأ هذه الخطوة بما كان سينصح به أيَّ رجل أعمال آخر يطلب استشارته. بدأ بسؤال العملاء عما يريدونه بالضبط.

ما الأشياء التي تؤرِّقهم ليلًا؟ وما المشكلات التي قد تفقدهم صوابهم؟ وما المشكلات التي تجعلهم يفكِّرون في ترك العمل في بعض الأحيان؟ وماذا يريدون أن يغيِّروا في المجالات المختلفة التي يعملون بها؟

تحدَّث جود إلى ليندسي وبراين ودانتي وحتى إلى الأب رالف، بالإضافة إلى عدد من المسئولين التنفيذيِّين الذين يعرفهم. وسجَّل الحوار الذي كان يدور بينه وبين كلٍّ منهم، ودوَّن أكبرَ عدد ممكن من الملاحظات. وبعد ذلك استمع إلى الشرائط التي سجَّلها، وأخذ يفحص الملاحظات التي دوَّنها؛ بحثًا عن الشيء الذي يستطيع أن يصِفه بأنه المشكلة الملحَّة التي تؤرق الجميع.

وجد أن عددًا قليلًا فقط من المسئولين التنفيذيِّين تحدَّث عن الجودة. بينما لم يهتمَّ معظمهم بها.

وتحدَّث اثنان منهم فقط عن مشكلاتهم الخاصة بالقوى العاملة. ولكنه عندما واجه هذه المشكلةَ أثناء عمله في المستشفى كان التعامل معها مسئوليةَ الاتحادات والنقابات المختصة، كما كان دانتي يحب أن يتولى هذا الأمر بنفسه إذا لم تَسِر الأمور في الفندق على ما يرام.

كما وجد جود أيضًا أن جميع مَن تحدث إليهم أشاروا إلى تحديات التكنولوجيا الحديثة، ولكنهم كان لديهم العديد من المستشارين الذين كرَّسوا أنفسهم للبحث في هذا المجال وتقديم استشارات فيه، بينما جود لم يكن ماهرًا في الأعمال التقنية أو مهتمًّا بها.

ولم يتوصَّل جود إلى شيء إلا عندما بدأ يراجع ملاحظاته للمرة الثالثة، وبمجرد أن لاحظ ما كان يبحث عنه تمتم قائلًا: «وجدتها! وجدتها.»

(١٠) الاكتشاف

لقد ذكرها دانتي مرتين في حديثه معه. وأشارت إليها ليندسي باستخدام مصطلحاتٍ متعددة في ثلاثة مواقف مختلفة. حتى الأب رالف أشار إليها بأسلوبٍ يوضح مدى ما يعانيه بسببها. كما ذكرها العديد من المسئولين التنفيذيِّين بالاسم. لقد اشتكى الجميع من هذه المشكلة، فيما عدا براين.

صراعات الأقسام.

وقد أطلق عليها البعض: «صراعات الأقسام»، أو «الحروب الضارية بين الأقسام»، أو «غياب التعاون بين الأقسام». ولكن، مع اختلاف التسميات، فإن جذور جميع المشكلات تعود إلى وجود عزلةٍ وصراعات داخلية بين الأقسام.

فعلى سبيل المثال، وصفت ليندسي المشكلةَ في مستشفى الأطفال بأن الأطباء وطاقم العمل يَبدون أحيانًا وكأنهم في حالة حرب داخلية. أما في الفندق، فقد فشِل دانتي في جعل موظفي المكتب الأمامي يتعاونون مع موظفي خدمة الغرف والصيانة. وقد أذهله الأب رالف حين أخبره أن مجلس الرعية ولجنة الآباء-المدرسين يتنازعان على كيفية استخدام مرافق المدرسة في إجازة نهاية الأسبوع.

ثم فكَّر جود فيما كان يحدث في باتش. كان ثمَّة صراعات بين العاملين في المقر الرئيسي والعاملين في الفروع الميدانية. وصراعات بين الموظفين في قسم الهندسة وقسم المبيعات. وصراعات بين موظفي هاتش وموظفي بِل. صراعات في كل مكان.

لقد كان الأمر واضحًا أمامه طوال الوقت، ولكنه لم يفكِّر قط في مدى انتشار المشكلة في جميع المجالات، وأنها تؤرق رؤساء مجالس الإدارات، وتسبِّب العديد من المشكلات للمؤسسات المختلفة. وببطء أخذ جود يُقنِع نفسه بأن مشكلة العزلة والصراعات الداخلية هذه هي ما يحتاج أن يركِّز جهوده عليه، ويبدأ في التفكير في وسيلة للتعامل معه، ومساعدة عملائه على التخلص منه.

والآن، وبعد أن توصَّل إلى المشكلة التي يريد دراستها، عليه أن يبحث عن حلٍّ لها يكون واثقًا من قدرته على تنفيذه، انطلاقًا من الخبرة التي اكتسبها في التعامل مع هذه المشكلة منذ عمله في باتش، ويكون قادرًا أيضًا على إقناع عملائه بمنحه فرصةً لتطبيق هذا الحل، ومساعدتهم في التخلُّص من هذه المشكلة. وقد بدا له أن الجزء الثاني من المهمة هو الأصعب، لذا فقد قرَّر أن يبدأ به.

(١١) الترويج للفكرة الجديدة

كانت المكالمة الأولى التي أجراها جود هذه المرة أيضًا مع دانتي لوكا. كان دانتي لا يزال عميلًا لديه، ومن ثَم شعر جود أنه من الأفضل البدء به حيث إنه لا يزال يعمل لديه بالفعل ويستطيع أن يعرض عليه الأمر ويرى ردَّ فعله.

أجاب مدير الفندق: «هل تمزح؟ إذا ساعدتني في إقناع هؤلاء الناس بالعمل معًا، فسوف أضاعف أجرَك.»

وقد كان جود يأمُل حقًّا أن يكون دانتي صادقًا في مسألة مضاعفة الأجر هذه.

ولم تكن ليندسي أقلَّ حماسًا من دانتي في هذا الشأن، ولكن كانت لا تزال عملية تخطيط التمويل هي العائقَ الذي يقف أمامها. فقالت: «أنت تعرف جيدًا أن أكثرَ شيء أريده الآن هو أن أجعلك تساعدني في رأبِ الصَّدع بين الأطباء والممرضات والمرضى الذين يأتون إلى المستشفى. ولكن يجب أولًا أن أحصل على الموافقة على الميزانية والتمويل.» ثم توقَّفت لحظةً لتفكر في الأمر. واستأنفت قائلة: «تعلمُ أنني أنا الرئيس التنفيذي لهذا المستشفى اللعين. دعني أرَ إن كان بإمكاني أن أوفِّر التمويلَ بطريقةٍ ما حتى تستطيعَ أن تبدأ تنفيذ خطتك مبكرًا. أمهلني ثلاثة أسابيع فقط، وسأحاول حلَّ هذه المسألة.»

بغضِّ النظر عن تأخير تنفيذ الخطة في المستشفى، شعر جود أنه حقَّق نجاحًا باهرًا باكتشاف هذه المشكلة. ولكنه أدرك أنه يحتاج إلى عميل آخر على الأقل. ففكَّر في التحدُّث إلى براين، ولكنه تراجع عن هذه الفكرة. فقد تذكَّر جود أن براين لم يشتكِ قط من مثل هذه الصراعات في شركته.

ثم جالت بذهن جود فكرةٌ غريبة إما أن تكون أكثرَ الأفكار التي خطرت له ذكاءً أو أكثرها غباءً. لماذا لا يتَّصل بشركة باتش ويعرض عليهم خدماته في هذا الأمر؟

من ناحيةٍ، هذه الشركة تعاني بلا شك صراعاتٍ داخلية بين الأقسام. كما أن جود كان يعرف المؤسسة جيدًا عن ظهر قلب.

ومن ناحيةٍ أخرى، لن يرحِّب المسئولون التنفيذيون بالشركة به بالطبع، خاصةً بعد المقالة التي نُشرت بعد سقوط أسهم الشركة والتي تعزو الأمرَ إلى تخلي الكوادر الفكرية والمهارات الإدارية عن الشركة. حتى إذا ما تغاضى المسئولون هناك عن هذا الأمر ونظروا لأبعد من ذلك، فهل سيثقون به؟ أم سينظرون إليه على أنه دخيلٌ، ولن يقدِّروا إمكانياته حقَّ قدْرِها؟

وكعادته كلما واجه مشكلة أو أضناه التفكير بأمرٍ ما، لجأ جود لزوجته تريزا.

«يجب أن تتحدَّث إليهم دون تردُّد. فما أسوأ شيء يمكن أن يحدث لك؟»

جفَل جود. وأجابها قائلًا: «إن أسوأ شيء يمكن أن يحدث هو أن يجرِّدوني مما تبقى لي من تقدير واحترام!»

ابتسمت تريزا وهي تعلم أن زوجها يحاول أن يخفِّف عن نفسه بالمزاح. وقالت: «حسنًا، وماذا يمكنهم أن يفعلوا غير ذلك؟»

وهنا ضحِك جود. وقال: «حسنًا. أنا أعرف. أقصى ما يمكنهم أن يفعلوه هو أن يرفضوا العرض. وفي الغالب لن يسخروا مني أمامي. سينتظرون حتى أغادر ثم يسخرون مني.»

«لا أعتقد أنهم سيسخرون منك. بل إني أتوقَّع أن يقبلوا عرْضَك بنسبةٍ أكثر من ٧٥٪.»

«كيف تتوقَّعين هذا؟ هل نسيت أنني قد استقلت؟ كما أن الوضع المادي للشركة متدهور للغاية الآن. ألا تعتقدين أنهم سيرفضونني تمامًا وبأسلوب مهين أيضًا؟»

هزَّت تريزا رأسها نفيًا بثقة وتأكيد. وقالت: «نعم. أعتقد أنهم سيرونك الآن من منظورٍ مختلف. فأنت الآن شخصٌ غريب من خارج الشركة. وتذكَّر أيضًا أنك أنت مَن أنهيت العمل معهم. ومجرَّد استعادتك، ولو استشاريًّا فقط، سيكون بمثابة تعويض لهم. وكما قُلت فإن وضعهم المادي متدهور، وسوف ينظرون إلى الأمر على أنهم لن يخسروا أكثرَ مما خسروه بالفعل، وربما يريدون أن يضموك إلى المركب قبل أن يغرَق تمامًا.»

استغرق جود في التفكير فترةً قصيرة. ثم قال في حَيرة: «في الواقع لا أدري.»

«خذْ برأيي. وأنا واثقة من أنهم سيَقبلون عرْضك، وأراهنك على ذلك بمبلغ خمسين دولارًا.»

وبالتدريج بدأ جود يتحمَّس للفكرة. فقال لها: «تعلمين، أنا متأكد من أن براين بايلي سيكون على استعداد لأن يخبرهم كيف ساعدته في شركته للمعدَّات الرياضية.»

عندما شعرت تريزا بأنه على وشْك أن يقبل الأمر حثَّته أكثرَ على اتخاذ هذه الخطوة. قالت: «وليس لديك ما تخسره.»

قاطعها جود قائلًا: «باستثناء احترامي لنفسي.»

«وخمسين دولارًا.»

(١٢) بدء التطبيق العملي

شعرَ جود بدهشة شديدة عندما لم يلاقِ أيَّ متاعب تُذْكر في ترتيب موعد للقاء كارتر بِل الرئيسِ التنفيذي لشركة باتش.

ونظرًا لأنه لم يكن قد كوَّن معه علاقة شخصية قوية قبل أن يترك الشركة، فقد تعجَّب كثيرًا من ترحيب كارتر به، وحماسه للقائه في المكالمة التليفونية القصيرة التي جرَت بينهما. فلم تكن هذه هي الصورة التي رسمها في ذهنه عنه. وتساءل عما إذا كانت الأزمة التي تعرَّضت لها الشركة مؤخرًا قد أنزلت الرجل من عليائه.

ومع أنه لم يستطِع أن يحدِّد ما إذا كانت تزكية براين له هي التي فتحت أمامه أبواب الشركة أم إن وجهة نظر زوجته حول ضم المزيد من الركَّاب قبل غرق المركب صحيحة، فقد بدأ جود يشعر بأن احتمال قبول العرض قائم، وأنه من المحتَمل أن يخسر الرهان مع زوجته.

ولكن لسوء الحظ، ورغم أن جود تمكَّن سريعًا من ترتيب لقاء مع كارتر، فإن هذا اللقاء لن يكون قبل عشرة أيام لأن كارتر كان على وشْك القيام بجولة تحليلية ليقنعَ خبراء الصناعة والمستثمرين أن الشركة تسير في الطريق الصحيح تحت قيادته.

لم يوهِن هذا التأخير من عزيمة جود وقرَّر أن هذه الفترة فرصةٌ مناسِبة لتطوير واختبار الحل الذي توصَّل إليه للتعامل مع مشكلة العزلة والصراعات الداخلية في الشركات. وسيبدأ تطبيق هذا الحل في فندق ماديسون.

بعد أن فكَّر جود في الأمر جيدًا، قرَّر أن يطرح على دانتي اقتراحًا يتكون من شقين؛ لإلغاء الحدود التي تقف بين أقسام الخدمات من ناحية، وتضمُّ خدمة الغرف والصيانة، والموظفين المسئولين عن الاعتناء بالاحتياجات الشخصية للنزلاء، مثل: الملابس وغيرها، وخدمة توصيل الحقائب للغرف، وفريق الاستعلامات، وموظفي الاستقبال وموظفي حجز الغرف وتحضير كشوف حسابات النزلاء في المكتب الأمامي من ناحيةٍ أخرى.

ويشمل الجزء الأول من الاقتراح إعادةَ هيكلة خطط الأجور للأقسام جزئيًّا مع التأكيد الشديد على الأهداف العامة للفندق مثل: إرضاء النزلاء، وتحسين مستوى الخدمة، وتحسين الأداء العام للفندق، وزيادة الأرباح. لم يجِد جود صعوبةً كبيرة في إقناع دانتي ومسئول شئون الموارد البشرية لديه في الفندق بهذا الجزء. بل لقد وجدا فكرةَ جود رائعة. ولم يصدِّق جود أنهما لم يحاولا تطبيقَ هذا الأمر من قبل، ولكنه لم يخبرهما بهذا على أيِّ حال.

أما الجزء الثاني من الاقتراح فكان يتمثَّل في الاجتماع بأكبر عدد ممكن من الموظفين من القسمين المتنازعين. وكان إقناع الإدارة بهذا الأمر سهلًا أيضًا. ولكن تنفيذه كان أمرًا مختلفًا تمامًا.

(١٣) وضعُ الخطة في حيِّز التنفيذ

تدفَّق قرابة خمسة وستين موظفًا يمثلون الوحدتين الإداريتين الرئيسيتين في الفندق إلى إحدى قاعات الفندق المتوسطة الحجم بالطابق الأول والمخصَّصة لإقامة الاحتفالات. (وبالطبع لم يتمكَّن الجميع من الحضور حتى لا يتوقفَ العمل تمامًا في الفندق.) وبمجرد أن استقرُّوا في أماكنهم، تعجَّب جود كثيرًا من روح الود التي كانت تسود بين الموظفين؛ فقد كانوا يضحكون ويتحدَّث بعضهم إلى بعض كما لو كانوا على وشْك أن يشاهدوا فيلمًا سينمائيًّا معًا. ولكنه توقَّع أن هذا المرح لن يسود طويلًا.

كان دانتي يرأس الاجتماع ويجلس إلى جواره مدير قسم الخدمات، الذي يشرف على خدمة الغرف وأعمال الصيانة في الفندق، ومديرة المكتب الأمامي للفندق، التي كانت مسئولة عن كل شيء بدءًا من موظفي الاستقبال والحجز، إلى موظفي الاستعلامات وفريق توصيل الحقائب للغرف، ومن ثَم افتتح دانتي الجلسة. قال: «إن السبب الرئيسي لهذا الاجتماع هو تحسينُ العلاقات بين الأقسام المختلفة في الفندق. ولسنا هنا للإشارة بأصابع الاتهام إلى أي فرد على أنه السبب في هذه الفُرقة، أو للتحدُّث عن الماضي، ولكن للاتفاق على تحسين جوِّ العمل من أجل تحقيق تجربةٍ أفضلَ لنزلاء الفندق ومن أجلنا أيضًا عن طريق التخلص من كلِّ ما يعوقنا عن المضي قُدمًا.»

ومع أن الجميع كان يولي صاحبَ الفندق ومديره العام اهتمامَه، فإن أحدًا لم ينبِس ببنت شَفة. فقام دانتي بتقديم مستشاره.

فقال: «لقد كان السيد جود كازينز عضوًا في الهيئة الاستشارية للفندق منذ بضع سنوات، وسوف يتولى إدارةَ هذا الاجتماع. وأنا واثق تمامًا من أن هذا الاجتماع سيكون تدريبًا جيدًا ومثيرًا بالنسبة لكم.» لم تكن نبرة صوت دانتي تدُل على أنه «واثق» على الإطلاق، وإنما كان يأمُل ذلك فحسب.

أنهى دانتي كلمتَه ونهَض مغادرًا حجرة الاجتماعات هو والمسئولون التنفيذيون، تاركًا زمامَ الأمور بالكامل في يد جود.

بمجرد أن أغلقوا بابَ الغرفة خلفهم، لاحظ جود تغييرًا طفيفًا، لكنه واضح، في لغة جسد وتعبيرات وجوه الموظفين الجالسين أمامه في الاجتماع. وبعيدًا عن حَفنة الأشخاص الذين رآهم جود يديرون عيونهم في وجوه بعضهم بعضًا في اشمئزاز بعد أن غادر رؤساؤهم، كان أكثر ما أدهشه هو التغيير المفاجئ من الإنصات والاهتمام الشديدين إلى عدم التركيز والاحترام الذي أولوه إياه.

شعر جود بأنه كالفريسة الضعيفة التي أُلقيت بين براثن وحش مفترس، أو كالمدرس البديل الذي تركوه وحيدًا في فصلٍ مليء بالطلاب المشاغبين، وأدرك على الفور أنه إذا لم يبدأ سريعًا في تنفيذ خطته وينجح في فرض سيطرته على الاجتماع، فسوف يفترسه هؤلاء الموظفون.

(١٤) بدء التدريبات

بدأ جود محاولةَ استعادة السيطرة على الموقف بفعل شيء يكره القيام به، ولكنه رأى أنه ضروري للغاية لتحقيقِ ما يحاول الوصول إليه. «حسنًا، أريد أن يتحرَّك نصف كل قسم ويتبادلوا الأماكن مع أفرادٍ من القسم الآخر. لا أريدكم أن تجلسوا جميعًا مع الأشخاص الذين تعملون معهم. هذا يعني أن ينهضَ نصفُ مَن في الغرفة ويتحركوا إلى منضدة أخرى.»

في البداية، لم يتحرك أيٌّ منهم من مكانه.

ولكن جود قال بلهجةٍ صارمة: «هيا، أنا جادٌّ فيما أقول. اختاروا شخصين أو ثلاثة في كل منضدة لينتقلوا إلى منضدة أخرى، وليأخذوا أغراضهم معهم.»

ببطء بدأ الناس يقفون ويجمعون أغراضهم. وبعد خمس دقائق من الفوضى النسبية عاد الهدوء إلى القاعة بعد إعادة تنظيم أماكن جلوسهم، وكان جود جاهزًا ليبدأ، وإن كان قد بدأ يشعر بضيقهم منه بعد أن أرغمهم على مغادرة أماكنهم بجوار زملائهم حيث يشعرون بالأمان.

بدأ جود الحديثَ قائلًا: «أعرف جيدًا أن الكثيرين منكم يعرف بعضُهم بعضًا، ولكنني أودُّ أن نقضيَ الخمس عشرة دقيقة التالية في تقديم أنفسكم. ولكن بدلًا من الاكتفاء بذكر الاسم والوظيفة، أريدكم أن تجيبوا عن سؤال آخر شديد الأهمية وهو: ما أسوأ وظيفة عمِلت بها في حياتك؟»

ثم توقَّف هنيهةً لكي يمنحهم فرصةً ليستوعبوا الأمر. ثم استأنف: «وبالطبع على ألا تكون هذه الوظيفة هي وظيفتك الحالية.»

ضحِك الجميع من هذه الإضافة.

«حسنًا، يمكنكم البدء.»

مرةً أخرى استغرق منهم الأمر بعضَ الوقت للتفكير والاستعداد، ولكن خلال دقائق قليلة بدأ الجميع يتناقشون ويضحكون. فشعر جود بأن الوضع يتحسَّن، ولكنه كان على يقين أيضًا من أن هذه هي نقطة البداية فقط.

عندما انتهت هذه المناقشات، أعطاهم جود التعليمات التالية.

«الآن أريد من كل منضدة أن تأخذ قرابة نصف ساعة لتدوين قائمة بالمعوِّقات التي تحول دون أن يقوموا بعملهم على أكمل وجه. ومن الممكن أن تتضمَّن هذه القائمة أيَّ شيء وكل شيء. ولا تقلقوا كثيرًا بشأن أسلوب التعبير عن هذه المعوِّقات أو تصنيفها. لا يهمني تصنيفها على الإطلاق. كلُّ ما يهمني هو أن تدوِّنوا ما ترون أنه عائق بالنسبة لكم.»

وأشار إلى لوحات العرض المنتشرة في أرجاء القاعة. ثم طلب منهم اختيارَ شخصٍ من كل فريق ليقومَ بتدوين القائمة، وشخصٍ آخرَ ليتحدَّث بالنيابة عن المجموعة بعد الانتهاء من وضع القائمة.

عاد الضَّحك والحركة والحديث إلى الغرفة مرةً أخرى، ولكن بشكل أكبر هذه المرة، فشعر جود أنه على وشْك التخلص من مشكلة العزلة التي تمنع الموظفين في الفندق من التعاون معًا وتتسبَّب في صراعات داخلية بينهم. ولكنه كان مخطئًا.

عندما انتهى الجميع من تدوين الأشياء التي يعانونها في عملهم، ذهب جود إلى كل منضدة وطلب من المتحدِّث عنها أن يخبره بما توصلوا إليه، وبعد عشر دقائق، أصبح لدى جود قائمةٌ بالعديد من الموضوعات مدوَّنة على أوراق. لقد نجح جود في أقلَّ من ساعة من بدء الاجتماع أن يجعل الجميع يحدِّدون المشكلات التي تؤرِّقهم في عملهم.

طلب منهم جود بعد ذلك أخْذَ راحة قصيرة، وقضى الدقائق القليلة التالية في محاولة تصنيف المشكلات المختلفة إلى خمس فئات طبيعية.
  • (١)

    التأخير الشديد في تنظيف الغرف لاستقبال النزلاء الجدد

  • (٢)

    الحصول على معلومات خاطئة من مكتب الاستقبال عن الأولويات في ترتيب غرف النزلاء

  • (٣)

    الوصول المفاجئ لمجموعات كبيرة من النزلاء في الوقت نفسه

  • (٤)

    رفْض موظفي الاستقبال والاستعلامات مساعدةَ الآخرين في غير اختصاصاتهم، في الأوقات التي يصل فيها ضغط العمل إلى ذُروته

  • (٥)

    سوء معاملة المسئولين عن خدمة الغرف من قِبل موظفي المكتب الأمامي

    وما إن نظر جود إلى القائمة التي توصَّل إليها، حتى اتضحت أمامه الخطوط العريضة التي سيعمل عليها في النصف الثاني من الاجتماع

(١٥) الانقسام

بعد عودة الجميع إلى القاعة بعد فترة الراحة، لاحظ جود شيئًا لم يتوقَّع حدوثه، فقد عاد كل شخص إلى مكانه الأصلي وليس إلى ذلك المكان الذي طلب منه جود الانتقال إليه من قبل.

كان المسئولون عن خدمة الغرف يجلسون معًا، وكذلك المسئولون عن توصيل الحقائب، وموظفو الاستقبال، وموظفو الاستعلامات. ورغم أنه لم يشأ أن يستخدم هذا الأسلوب ثانيةً، فقد طلب منهم جود العودةَ إلى الأماكن التي كانوا يجلسون فيها قبل فترة الراحة، وهو ما فعله الموظفون ولكن بتذمُّر أكثرَ هذه المرة.

عندما عاد كل شخص إلى مكانه الجديد مرةً أخرى، لاحظ جود أنهم يقرءون الملخَّص الذي يتكوَّن من خمس نقاط الذي تركه أمامهم. والأفضل من هذا عنده أن العديد منهم كان يومئ برأسه إيجابًا موافقًا على أن هذه هي أسباب الخلاف. هذه هي المشكلات.

ومن ثَم بدأ العمل. «هل لدى أيٍّ منكم أسئلة في هذا الخصوص قبل أن نبدأ الجزء التالي من اجتماع اليوم؟ لأن ما سنفعله الآن هو أننا سنركز على إيجاد حلول لهذه المشكلات.» وقبل أن يبدأ جود، ارتفعت يدٌ وحيدة في نهاية القاعة.

لقد كانت يد إحدى مشرفات المكتب الأمامي؛ كانت سيدة طويلة شقراء الشعر تعقِده في الخلف على شكل كعكة. وقالت: «هل ستطلب منا اختيار إحدى هذه النقاط والعمل عليها؟» واستكملت دون أن تنتظر إجابته. فقالت: «لأنني أريد أن أناقش النقطة الأولى.» مشيرةً بذلك إلى النقطة المتعلقة بتأخير تنظيف الغرف للنزلاء.

لاحظ جود أن العديد من موظفي خدمة الغرف بدءوا ينظرون إليها.

فقال: «لا، سأقوم بتوزيع الموضوعات عشوائيًّا على كل منضدة حتى يحظى كل موضوع بالقدْر الذي يستحقه من الاهتمام.» وبدأ بالفعل في تنفيذِ ما قال.

ولمدة نصف ساعة، بدأ الموظفون يناقشون الحلول الممكنة للمشكلات المتنوعة. وشجَّعهم جود على الإدلاء بآرائهم، حتى إذا كانت المشكلة المطروحة لا ترتبط مباشرةً بتخصُّص عملهم.

ولكن عندما بدأ جود يستمع إلى آرائهم، لم تكن النتائج جيدة ومثمرة.

فبغضِّ النظر عن المكان الذي يجلسون فيه، كان يبدو أن موظفي خدمة الغرف لا يرون العالم إلا من منظور خدمة الغرف، وموظفي المكتب الأمامي من منظور المكتب الأمامي، وهكذا. ولم يكن أيٌّ منهم دبلوماسيًّا.

في لحظة من اللحظات، اقترح أحد مشرفي المكتب الأمامي أن تقوم إدارة الفندق بتغيير الكثير من موظفي خدمة الغرف، وتعيين أشخاص أكثرَ حماسًا. وطلب أحد موظفي الاستعلامات أن يُعاد تنظيم إدارة قسمَي خدمة الغرف وأعمال الصيانة ليكونا تحت إمرة مدير المكتب الأمامي مباشرة. وبالطبع، قوبل هذا الاقتراح بصيحات استهجان ورفضٍ من قبل بعض موظفي خدمة الغرف، ودفع أحد عمال الصيانة للشكوى من أن موظفي الاستعلامات يطلقون على موظفات خدمة الغرف الخادمات أو الأسوأ من ذلك «ماسحات الحمَّامات».

وهكذا أخذ كلٌّ منهم يشير بأصابع الاتهام إلى مسئولين من الأقسام الأخرى مقتنِعًا بأنهم السبب في المشكلات التي يعانيها الفندق، وأنهم يهتمون بالجزء الذي يخص عملهم فقط من الفندق دون أن يضعوا في الاعتبار أيَّ شيء آخر.

وعند هذه النقطة، رأى جود صورةً حية للعزلة والصراعات الداخلية داخل فندق ماديسون. ولسوء الحظ، كان الشيء الوحيد الذي نجحت هذه الجلسة فيه حتى هذه اللحظة هو تقوية الحواجز الموجودة بالفعل بين الأقسام بسبب هذه المواجهة المباشرة، وكان على جود أن يجِد حلًّا لإنقاذ الموقف بدلًا من أن يتدهور أكثرَ من هذا. لذا فقد آثر المجازفة.

(١٦) تبادُل الأدوار

قال جود: «أريد من كل شخص أن يعود إلى منضدته الأصلية ويجلس بجوار الأشخاص الذين يعمل معهم.» وفي هذه المرة، رحَّب الجميع بالاقتراح واستجابوا له بسرعة وعادوا إلى أماكنهم. وبعد أن استقر الجميع في أماكنهم، بدأ يشرح لهم التدريب التالي.

أشار جود إلى منضدةٍ يجتمع عليها موظفو الاستعلامات قائلًا: «أريد منكم أن تلعبوا دورَ موظفي خدمة الغرف.» صاحت سيدة كبيرة في السن تجلس في آخر القاعة: «هل تقصد أن نلعب دور الخادمات!» انفجر عددٌ كبير من الحضور بالضحك.

تجاهل جود الموقفَ وأشار إلى المنضدة التي يجلس عليها موظفو خدمة الغرف وقال: «وأريد منكم أن تلعبوا دورَ موظفي المكتب الأمامي.»

اتَّجه جود بعد ذلك إلى كل منضدة وأعطاهم الدورَ الذي يريدهم أن يلعبوه، والذي سيكون مختلفًا عن طبيعة عملهم. ثم بدأ يشرح لهم الأمر. فقال: «عندما أختار أيَّ منضدة أريدكم أن تلعبوا الدورَ الذي أسندته إليكم بإتقان قدْرَ الإمكان، وأن تصِفوا لي المشكلات من وجهة نظر الدور الذي تلعبونه. ولكن فلتفعلوا ذلك بإنصاف وموضوعية. أريدكم أن تتقمَّصوا الأدوار جيدًا.»

ارتفعت في القاعة أصوات ضحكات عصبية.

أشار جود إلى موظفي خدمة الغرف الذين يلعبون دورَ موظفي المكتب الأمامي. وقال: «أين تكمُن المشكلة من وجهة نظركم؟»

بعد هنيهة من الصمت، تطوَّع أحدهم بالحديث. وقال: «المشكلة تكمُن في موظفي خدمة الغرف هؤلاء، إنهم بطيئون وكسولون. ولا يعيرون النزلاء أيَّ اهتمام على الإطلاق. كلُّ ما يهمهم هو الانتهاء من العمل والعودة إلى منازلهم، ولا يفهمون أبدًا الضغط والعبء الذي يقع على كواهلنا.»

ضحِك عددٌ من الحضور، واستحسن الكثيرون هذا الأداء الدقيق الذي يعبِّر بالضبط عما كان أحد موظفي المكتب الأمامي سيقوله.

لم يستطِع جود الآن أن يتراجع عن هذا الأمر. فأشار إلى منضدةٍ تضم موظفي الاستعلامات وقال: «أين تكمُن المشكلة في رأيكم يا موظفي خدمة الغرف؟»

نهض شاب طويل له لحية صغيرة متحدثًا بصوتٍ أنثوي مقلدًا موظفات خدمة الغرف. وقال: «نعم، ولكن لماذا نجتهد في العمل على أي حال؟ نحن لا نحصُل على بقشيش. وحتى إذا ما عملنا بجِد وانتهينا من تنظيف الغرف سريعًا فإننا لا نحظى بالتقدير اللائق. ولا عجب في ظل هذه المعاملة أن تترك اثنتان من أفضل الموظفات العملَ الشهر الماضي. بالإضافة إلى أن أحدًا لا يساعدنا على الإطلاق. فهل تعتقد أنه يمكن أن يتنازل أحد السخفاء المتأنقين في الأسفل ويقبَل أن يصعد من آنٍ لآخر إلى الغرف ويقوم بتنظيفها؟»

انفجر الجميع بالضحك، واندفع جميع موظفي خدمة الغرف في استحسانِ ما قاله.

استكمل جود التمرينَ واتجه إلى منضدة عمال الصيانة الذين من المفترض أن يلعبوا دور موظفي الاستعلامات. وسألهم: «في رأيكم، ما المشكلة الحقيقية؟»

بعد مرور هنيهة أطولَ من الوقت، تحدَّث أحد الموظفين القدامى بعصبية. وقال: «حسنًا، إننا نجلس هنا في الرَّدهة الرئيسية، ونشاهد كلَّ ما يحدث، ونرى أن السبب في هذه المشكلة هو غياب التواصل.»

فسأله جود: «ماذا تعني؟» أجاب وهو يشير إلى المنضدة التي تضم موظفي خدمة الغرف الذين يلعبون دور موظفي الاستقبال: «حسنًا، إن موظفي المكتب الأمامي هؤلاء لا يتحدَّثون مع الناس الذين يعملون بالأعلى، أو خدمة الغرف، إلى أن يكون هناك حالة طارئة. وفي هذا الوقت يكون الأوان قد فات. وعندما تنتهي هذه الحالة الطارئة، فإنهم لا يفكرون حتى في الصعود إلى أعلى مرةً أخرى والتعبير عن شكرهم لهؤلاء الأشخاص. وكأنهم أفضلُ منهم أو أنهم توصَّلوا لحل هذه المشكلة وحدَهم.»

توقَّف عامل الصيانة عن الحديث ثم استأنف بانفعال أكثر.

وقال: «وعندما يتَّصلون بعمال الصيانة لإصلاح مرحاض أو شيء آخر، فإنهم يتعاملون معهم وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. ألا يكفيهم أننا، أقصد أنهم، يقومون بإصلاح وتنظيف المراحيض، حتى يعاملوهم بتعالٍ أيضًا. إن ما يزيد الأمر سوءًا هو أنهم يحتقرونهم. اللعنة، إننا المسئولون عن الحفاظ على المظهر الجمالي والحضاري لهذا الفندق.»

لم يضحك أحدٌ هذه المرة. واحمرَّ وجه الرجل خجلًا.

شكر جود عامل الصيانة على مشاركته، واستمر على هذا المنوال حتى أعطى لكل منضدة أكثرَ من فرصة للتعبير عن رأيها. وبعدما انتهى من هذا التدريب، طرح عليهم سؤالًا تمنى لو أن أحدهم يجيبه عنه.

قال جود: «إذن، ما رأيكم في كلِّ ما قيل؟»

خيَّم صمت مطبِق على القاعة بعد طرح هذا السؤال.

بعد ذلك رفعت موظفةٌ من أصل إسباني — اسمها استيلا تعمل في خدمة الغرف — يدَها وانتظرت حتى يسمح لها جود بالحديث. فأشار إليها جود أن تتحدَّث فقالت: «في الواقع، أعتقد أن كلًّا منا يبذل قصارى جهده.»

هذا كلُّ ما في الأمر. وقد كان كافيًا.

نظر جود إلى ساعته وأدرك أنه قد استغرق عشر دقائق أكثرَ من الوقت المخصَّص للاجتماع. لذا فقد شكر الجميع على صبرهم وتعاونهم معه وأكَّد لهم أنه سوف يطرح ملاحظاته على الفريق التنفيذي في الفندق في اليوم التالي.

بعد أن خرج الموظفون من القاعة، لم يستطِع جود أن ينكر أنه كان يشعر بالراحة إلى حدٍّ ما، وليس السبب الوحيد في هذا أن الاجتماع قد انتهى. ولكنه رأى أنه ما زال لا يملِك كل المعلومات التي يحتاج إليها؛ لذا فقد طلب من مشرفي الأقسام الفرعية المختلفة أن يبقَوا دقائقَ قليلة.

انتقل مشرفو الأقسام الفرعية الأربعة: الذين يشرفون على خدمة الغرف، وأعمال الصيانة، والمكتب الأمامي والاستعلامات والذي يشرف أيضًا على خدمة نقل الحقائب؛ إلى المنضدة الأمامية في القاعة. وعندما خرج الجميع من القاعة وأغلق الباب، بدأ جود حديثه.

«ما الذي يحدث هنا بالضبط أيها السادة؟»

(١٧) مشرفو الأقسام

بعد هنيهة من الصمت، تحدَّثت مشرفة المكتب الأمامي. قالت: «بدايةً، الكثير من الأشخاص الذين يعملون في الفندق لا يحبُّ أحدهم الآخر. أعني أن البيئات الاجتماعية لموظفي خدمة الغرف والصيانة الذين يعملون في الطابق العلوي تختلف كليةً عن مثيلاتها لمن يعملون في الطابق الأول من الفندق، كما أن لكلٍّ منهم اهتماماتٍ مختلفة. وهذا الأمر ليس مقصورًا على هذا الفندق فقط؛ فهذا هو الحال في جميع الفنادق التي عمِلت بها.»

أومأت مشرفة خدمة الغرف برأسها إيجابًا مؤيدةً وجهةَ نظر مشرفة المكتب الأمامي، مع أن جود لم يكن واثقًا من أنها تؤيد هذه الفكرة حقًّا.

وعلى كل حال، لم يكن هذا هو موقفَ مشرف الاستعلامات الذي هزَّ رأسه معترضًا. وقال: «مهلًا لحظة. لقد عملت في فنادقَ لم يكن فيها هذا القدْر من التوتر والخلاف بين الأقسام. وأعتقد أن السبب في هذا ليس أن الموظفين لا يستطيعون التعامل مع أحدهم الآخر، أو أنهم ببساطة مختلفون. والدليل على هذا أن نصف موظفي الاستعلامات في قسمي يشتركون في مباريات كرة القدم مع عمال الصيانة في الإجازات الأسبوعية.»

فسأله جود راغبًا في الوصول لإجابة: «إذن، فيمَ تكمُن المشكلة؟».

فهزَّ الرجل كتفيه وقال: «أنا لا أعلم في الواقع أين المشكلة.»

نظر جود إلى قائمة الموضوعات الموجودة على لوحات العرض. وقال: «حسنًا، دعونا نتناول أحدَ هذه الموضوعات. ماذا عن الوصول المفاجئ لأفواج كبيرة من النزلاء، ما سببُ هذه المفاجأة وعدم إتاحة الفرصة للاستعداد لاستقبالهم؟»

لم تتردَّد المشرفة المسئولة عن المكتب الأمامي في الحديث. وبدأت تشرح قائلة: «حسنًا، لقد اعتدنا عقْدَ اجتماعاتٍ لجميع العاملين في الفندق قبل وصول الأفواج الكبيرة من النزلاء، مما يمنح الجميع فرصةً لطرح الأسئلة التي تدور في أذهانهم وأن يسمعوا تعليمات دانتي والمسئولين التنفيذيِّين الآخرين. ولكن منذ حوالي ستة أشهر توقفنا عن هذا الأمر.»

رغِب جود في معرفة المزيد. فقال: «لماذا؟»

فهزَّت مشرفة المكتب الأمامي رأسها. وقالت: «لستُ متأكدة.»

اندفع مشرف الاستعلامات إلى الحديث مرةً أخرى: «أنا أعرف السبب. فقد اشتكى البعض من هذه الاجتماعات، فقرَّر دانتي أن يترك كل قسم يتولى شئون إخبار موظفيه بالمستجدات.»

فسأله جود «مَن الذي اشتكى؟»

تردَّد مشرف موظفي الاستعلامات قليلًا قبل أن يقول: «نحن آخر مَن تسأله عن هذا الأمر!» ثم نظر إلى زملائه كما لو كان ينتظر تأييدهم لموقفه. ثم قال: «ولكني أؤكد لك أن السبب ليس أحدًا منَّا.»

على الرغم من أن جود كان يريد أن يعرف من السبب في هذا، فإنه تراجع عن الإلحاح في السؤال مرةً أخرى، وفكَّر في أنه قد يكون أحدَ الإداريِّين الذين يعملون مع دانتي.

نظر جود إلى القائمة مرةً أخرى وسأل المشرفين: «ما سببُ مشكلة عدم الاحترام التي تحدَّث عنها الكثيرون هنا؟ وما حجمُ هذه المشكلة على أرض الواقع؟»

هذه المرة تطوَّع مشرف قسم الصيانة.

«أعتقد أنه من المعتاد للأقسام التي تتعامل مباشرةً مع النزلاء أن ينظروا إلينا — مشيرًا إلى نفسه وإلى مشرفة خدمة الغرف — على أننا أقلُّ منهم أهميةً. وهذا أمرٌ سيئ بالطبع، ولكنه ليس مقصورًا فقط على فندق ماديسون، بل إنه يحدث في كل مكان.»

فسأله جود: «وماذا عن الألقاب والمصطلحات التي يستخدمها بعضهم للإشارة إلى بعضٍ؟»

ضحِك مشرف قسم الصيانة. وقال: «إن هذا طبيعي ويحدث في كل مكان أيضًا.»

وافقته مشرفة المكتب الأمامي بإيماءة من رأسها. وقالت: «هذا صحيح، ولكن هناك اختلاف واحد.»

فسألها جود عن هذا الاختلاف.

فقالت ضاحكة: «هل تريدني أن أعترفَ على نفسي؟» وضحِك الجميع.

قال جود مشجعًا إياهم على الحديث: «هيا. فليخبرني أحدكم.»

أجابته مشرفة خدمة الغرف بحذرٍ: «دعنا فقط نكتفي بالقول إن هذه المصطلحات لا تُستخدَم من قِبل الموظفين فقط.» مرةً أخرى قرَّر جود ألا يلح في طلب المزيد.

اتجه جود بعد ذلك إلى تغيير الموضوع وطرحَ عليهم أهمَّ سؤال في الجلسة، وهو: لماذا ينخفض مستوى رضا النزلاء؟

أجابه مشرف الاستعلامات: «ألا ترى بعد كل هذا أن السبب واضح؟ إذا كان جميع الموظفين في الفندق بدءًا من الاستقبال والاستعلامات إلى خدمة الغرف والصيانة لا يستطيعون التواصلَ بعضهم مع بعض، ألا تعتقد أن النزلاء سيلاحظون هذا؟ وفي ظل بيئة العمل هذه، بالطبع لن تكون غرف النزلاء جاهزة؛ لأن أحدًا من المكتب الأمامي لن يخبر أحدًا من خدمة الغرف، أيُّ غرفة يجب عليهم تنظيفها أولًا. وإذا تعطَّل التليفزيون في إحدى الغرف يتصل النزيل ليخبرَ المكتب الأمامي. وعندما لا يذهب موظف الصيانة على الفور ليصلح الجهاز، يعود النزيل ليشكوَ إلى المكتب الأمامي الذي يقوم بدوره بإلقاء اللوم على عامل الصيانة، والنتيجةُ في النهاية أن الجميع يبدو مقصرًا أمام النزلاء، ويبدو مستوى الخدمة سيئًا. لا يمكنك إخفاءُ مثل هذه الأمور عن النزلاء. إنهم سيلاحظون بلا شك.»

لم يعترض أحدٌ على ما قاله مشرف الاستعلامات.

ولكن مشرف أعمال الصيانة تولَّى زمام الحديث. وقال: «وفي خضم هذه الأحداث يطلب رئيس الإدارة المالية منا أن نخفض عددَ عمال الصيانة العاملين في القسم لخفض المصاريف، ومساعد المدير العام يريد أن يقلل الوقت اللازم للاستجابة لطلبات النزلاء. وبالطبع يريدنا دانتي أن نستغرق أطولَ وقت ممكن مع العميل للتأكُّد من أن مشكلة الصيانة التي يواجهها قد انتهت وأنه راضٍ إلى أقصى حد. وفي النهاية، كلُّ ما نتلقاه هو اللوم والتوبيخ من المكتب الأمامي لأننا لا نقوم بعملنا على أكمل وجه. وبسبب كلِّ هذا أنا على وشْك خسارة الموظف الثالث هذا العام.»

فسألته مشرفة المكتب الأمامي: «مَن ذلك الذي يريد أن يترك العمل؟»

فأجابها: «رايموند يريد أن يترك العمل.»

فصرخت قائلة: «مستحيل أن يترك رايموند العمل؛ إنه أفضلُ عامل صيانة لديك.»

فأجابها مدير الاستعلامات: «الموظفون الأكفاء هم دائمًا مَن يتركون العمل أولًا.»

أخيرًا شعر جود بأن لديه ما يكفي من المعلومات. لذا فقد شكر الجميع لبقائهم معه ومساعدته في الحصول على ما يريده من معلومات، وعاد إلى المنزل.

وقضى جود ليلته يفحص الملاحظات التي دوَّنها، ويضع ملخصًا للاقتراحات التي ينصح الإدارة بأن تنفِّذها للتعامل مع جميع العوامل التي تسبِّب العزلة والمشكلات الأخرى بين الأقسام وتمنعها من العمل معًا بروح الجماعة. ومع أن جود كان يشعر بالارتياح تجاه ما توصَّل إليه وما سيقوله لدانتي وفريقه في اليوم التالي، فإنه كان يشعر بالقلق تجاه الطريقة التي سينقل بها هذه النصائحَ لدانتي وكيف سيتقبلها الأخير.

(١٨) الانفجار

عندما وصل جود إلى الفندق للاجتماع بدانتي والمسئولين التنفيذيِّين الآخرين وإخبارهم بما توصَّل إليه، استقبلوه جميعًا استقبالًا حارًّا.

وابتسم دانتي وهو يقول: «سمعت أن الأمور سارت على ما يرام بالأمس.»

وتدخَّل مساعد المدير العام في الحديث. فقال: «لقد أخبرني كلُّ مَن تحدثت إليه أنه قد استمتع بالجلسة كثيرًا. حتى موظفو الاستعلامات الذين يصعُب إرضاؤهم قالوا إنها لم تكن سيئة. وبالطبع يعني الحصول على هذه الشهادة منهم أنها كانت ممتازة.»

شعر جود بعد سماع هذه العبارات بالثقة تتدفَّق إلى عروقه تجاه ما كان على وشْك أن يفعله. وبعد دقائق قليلة من تبادل عبارات المجاملة الضاحكة والمهذَّبة، اتجه جود إلى لوحة العرض في الجزء الأمامي من قاعة الاجتماعات وبدأ تقديمَ ما لديه من معلومات.

بدأ جود الحديث قائلًا: «لا أريد أن أهدر الكثير من وقتكم اليوم. لذا فسوف ألخِّص لكم ما توصَّلت إليه في اجتماعي مع الموظفين بالأمس وما أعتقد أن بإمكاننا القيامَ به لتحسين مستوى التعاون بين أقسام الخدمات والمكتب الأمامي الذي له تعامُل مباشِر مع النزلاء.»

ارتسمت على ملامح المسئولين التنفيذيِّين بالشركة علاماتُ الاهتمام واللهفة للاستماع إليه؛ لذا فقد دخل إلى صلب الموضوع مباشرة. فقال: «في البداية، أود أن أؤكد لكم أنه بالفعل توجد مشكلة خطيرة بين الأقسام المختلفة، وأنها تضر بالصالح العام للفندق، وستستمر على هذا المنوال إذا لم نفعل شيئًا حيالها.»

بعد سماع هذه العبارة تغيَّرت تعبيرات وجوه المسئولين. وتحوَّل الفضول والصراحة إلى مواقفَ دفاعية.

دانتي وحدَه بقي مهتمًّا بعد سماعِ ما قاله جود. وقال: «أخبِرنا عمَّا تعتقد أنه السبب في كل هذا.»

تنحنح جود وبدأ يشرح الأمر. قال: «في البداية، يبدو أن كل قسم يفهم الأولويات التي تحدِّدونها له بطريقة مختلفة.» تمنَّى جود ألا يسأله أحد في هذه النقطة وأن تكون عبارته واضحة بما فيه الكفاية. ولكنها لم تكن كذلك.

سألت مديرة المكتب الأمامي عمَّا يعنيه بمفهوم الأولويات. وكانت نبرتها تنِمُّ عن أنها لن تتقبل النتيجة أيًّا كانت.

قرَّر جود أن يبدأ شرح هذه النقطة باستخدام أبسط مثال حتى لا يثيرَ سخط أيٍّ منهم. فقال: «على سبيل المثال، موضوع التأخر في تسليم الغرفة وتسوية الحساب في مقابل إدخال النزلاء الجدد في غرفهم عند وصولهم. لا يبدو أن موظفي المكتب الأمامي يعرفون كيف يديرون وينظِّمون هذا الأمر، ونتيجةً لذلك يقع موظفو خدمة الغرف في مأزق لا يدرون كيف يتخلَّصون منه.»

بمجرد أن انتهى جود من عبارته، اندفعت مديرة المكتب الأمامي. فقالت: «أعتقد أنك لا تعبِّر عن الموقف تعبيرًا صحيحًا. إن الموظفين في المكتب الأمامي يعرفون أولوياتهم جيدًا، ويقومون بعملهم على أكمل وجه. وما تقوله الآن ما هو إلا عذرٌ واهٍ يتذرَّع به موظفو خدمة الغرف.» وعندها أدركت أن ما قالته يفتقر إلى الحيادية، وأن أسلوبها يبدو دفاعيًّا للغاية. فاستأنفت: «ولكن أظن أنه لا مانع من توضيح الأمور أكثرَ للموظفين.» لم يبدُ أنها تعني ما تقول.

ابتسم رئيس أقسام الخدمات على الإضافة الأخيرة. وقال في لهجة ساخرة: «لا أدري. أظن أنه قد يكون هناك تقصيرٌ أكثر مما أنت على دراية به. إننا بالطبع سنجد الأمور أسهلَ إذا ما توقَّف موظفو المكتب الأمامي عن إخبار النزلاء بأنهم يستطيعون البقاء كما يحبُّون. أعني أننا يجب أن نقرِّر مَن الذي يمكن أن نجازف بأن نضايقه. النزيل الذي وصل للفندق لتوه، أم النزيل الذي يغادر الفندق. إننا لا نستطيع أن نقوم بمعجزاتٍ هنا.»

بدت مديرة المكتب الأمامي مستعدةً لخوض غمار مناقشة حادة مع زميلها، ولكنها التفتت إلى جود. وقالت: «هل هناك شيء آخر؟»

نظر جود إلى ملاحظاته. وقال: «في الواقع هناك العشرات من النقاط. من أين تريدينني أن أبدأ؟»

أجابه دانتي بسرعة هذه المرة. فقال: «أريدك أن تخبرَني بالتحديد كيف ترى أن كل هذه الأشياء تضرُّ بالصالح العام للفندق؟»

أخذ جود نفَسًا عميقًا. واستأنف قائلًا: «في البداية، تسبَّبت هذه العزلة والصراعات في أن كثيرًا من الموظفين الأكفاء تركوا العمل، وهو ما يؤدي إلى توطيد الفُرقة بين الصفوف أكثرَ، وتَرْكِ انطباعٍ سيئ لدى الباقين.»

لم يعلِّق أحد على هذه النقطة فاستكمل جود حديثه.

«كما أن هذا يتيح فرصةً كبيرة للموظفين للجوء إلى البحث عن فرصٍ عمل أخرى في سلاسل الفنادق الكثيرة في المنطقة. أعني أنه إذا لم يشعر الموظفون بالانتماء للمكان الذي يعملون فيه، والارتباط بزملائهم فإنهم بكل تأكيد سيبحثون عنه في أي مكان آخر.»

لم يستطِع جود أن يحدِّد ما يفكر فيه المديرون التنفيذيون للفندق. فقرَّر أن يتابع ما يقوله إلى النهاية، سواء أكانوا يوافقونه الرأيَ أم يشعرون بالإحباط نتيجةً للطريقة التي يصِف بها جوَّ العمل الذي سمحوا له أن يسيطر على الفندق.

واصل جود سعيه بإصرار. وقال: «وبالطبع هناك عامل النزلاء. فكما أخبرني مشرفو الأقسام الفرعية بالأمس، من المستحيل ألا يؤثِّر كلُّ ذلك عليهم. وأعتقد أنكم لن تتمكنوا من إصلاح مشكلة رضا النزلاء إلى أن تتمكنوا من جعل هؤلاء الموظفين يعاون بعضهم بعضًا.»

عند هذه النقطة سأله رئيس الإدارة المالية للشركة في لهجةِ تحدٍّ: «ماذا تقترح إذًا؟»

تردَّد جود لحظةً ونظر إلى الملاحظات المدوَّنة أمامه. ثم قال: «حسنًا، الشيء الأول الذي يجدُر بكم أن تفكروا في تطبيقه هو برنامج لتبادل الأدوار الوظيفية.»

قطَّب بعض المديرين التنفيذيِّين ما بين حاجبيهم، الأمر الذي فسَّره جود خطأً على أنهم لم يفهموا جيدًا ماذا يعني. فقال موضحًا: «إذا منحتم الموظفين فرصةَ القيام ببعض مهام العمل التي يقوم بها زملاؤهم، فإنهم …»

قاطعه دانتي. وقال: «حسنًا، نحن نفهم هذه الفكرة جيدًا. فقد جرَّبنا تطبيقها العامَ الماضي.»

اندهش جود. وقال: «وماذا كانت النتائج؟»

أجابته مديرة المكاتب الأمامية بسخرية. فقالت: «ألا تستطيع معرفةَ النتائج بنفسك بناءً على ما رأيته أمس؟»

تطوَّع دانتي لشرحِ الأمر هذه المرة. وقال: «أعتقد أنهم تقبَّلوا الأمر جيدًا. ولكن التطبيق لم يغيِّر السلوكيات كثيرًا. ماذا لديك أيضًا من اقتراحات؟»

«أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة النظر في برنامج توجيه الموظفين الجدد. وذلك لمنحهم صورةً أفضل عن أسلوب سير العمل في الفندق من منظور عام وشامل، وليس فقط من منظور محدود يقتصر على طبيعة عملهم. بمعنى أن نمنح كلَّ شخص صورةً كاملةً عن طبيعة مشاركته في عملية تشغيل الفندق.»

لم يبدُ أن أحدًا منهم تأثَّر بالفكرة أو حتى نالت إعجابه، مع أن رئيس الموارد البشرية كتبها في ملاحظاته.

استأنف جود: «كما أني أقترح العودةَ إلى الاجتماعات التي كانت تُعقد من قبلُ وتضم جميعَ الأقسام، خاصةً عند الاستعداد لاستقبال أفواج كبيرة من النزلاء. وفي الواقع، أنا مندهش إلى حدٍّ ما لأنكم توقَّفتم عن عقدِ هذه الاجتماعات.»

سارت موجةٌ من الهمهمة في الغرفة.

ثم ردَّ عليه رئيس أقسام الخدمات مفسرًا. فقال: «كلُّ ما في الأمر أننا لم نَعُد نرى أنها مفيدة.»

«ولِمَ؟»

«لقد وجدنا أنه من الممكن أن يعقد المسئول عن كل قسم من الأقسام هذه الاجتماعات مع موظفيه فقط، وأنه لا داعيَ لإهدار وقت الجميع في عقد اجتماعات شاملة تستغرق وقتًا أطول.» بدا أن الرجل غيرُ مقتنع هو شخصيًّا بهذا التبرير.

«هل لديك ما تضيفه إلى هذه الاقتراحات؟» لم يكن دانتي هو مَن طرح السؤال هذه المرة، ولكن رئيس الإدارة المالية. وقد فعل ذلك بأسلوب ينِمُّ عن أن لا شيء مما اقترحه جود قد أثار إعجابَه أو حتى اهتمامه.

«هل فكرتم من قبل في جمعِ الإكراميات والبقشيش الذي يتلقَّاه الموظفون وتقسيمه بين الجميع، حتى أولئك الذين يلعبون أدوارًا غير بارزة؟»

جعل ردُّ فِعل المسئولين التنفيذيِّين — الذي لم يتجاوز ضحكات ونظرات ساخرة — جود يشعر كأنه طلب منهم شيئًا غريبًا ومهينًا يفقدهم المميزات التي تُبرِزهم عن الآخرين.

رغم شعور جود بالإحراج والضيق، فإنه قرَّر أن يحاول إقناعهم بالفكرة مهما كانت النتائج. «أعتقد أن هناك الكثير من الجنود المجهولين في الفندق، الذين يعملون بجِد ويبذلون قصارى جهدهم لنيل رضا النزلاء والوصول إلى أعلى مستويات الخدمة، ولكنهم لا يحصلون على ما يستحقونه من مكافآت على مجهوداتهم اليومية. وعندما يرون الآخرين وهم يعملون بالقدْرِ نفسه أو أقل ويحصلون على مكافآت، فإن هذا الأمر يوهِن من عزيمتهم وإخلاصهم في العمل إلى حدٍّ ما.»

هزَّ دانتي رأسه. وأجاب: «للأسف هذه المشكلة ليس لها حلٌّ يا صديقي. فهي موجودة منذ بدء الاستثمار والعمل في هذا المجال، وهو شيء لا يمكننا أن نشرع في تغييره الآن.»

نظر رئيس الإدارة المالية إلى دانتي وقال بسخرية: «كم ندفع لهذا الرجل مقابل هذا الهراء؟»

واندفع رئيس أقسام الخدمات ليشاركه سخريته. وقال: «وهل ندفع له حقًّا؟ لقد كنت أعتقد أنه يقوم بهذا العمل بلا مقابل.» وانفجر الجميع بالضحك.

ومع أنه كان يعرف أنهم يحاولون إغاظته، فإنه لم يستطِع أن يمنع موجة الغضب التي تدفَّقت بشدة في عروقه، فقرَّر أن يردَّ على سخريتهم هذه بطريقته. وعندما سمح لكبريائه بالتملُّك منه، اتخذ قرارًا سيندم عليه فيما بعدُ.

«في الواقع، هناك موضوعٌ آخر كنت أودُّ طرحه عليكم، وأعتقد أنه أحد الأسباب الجوهرية لمشكلة العزلة بين الأقسام والصراعات الداخلية التي تعانونها.» وتوقَّف قليلًا. ثم استكمل: «وهذا الموضوع يتعلَّق بكم أنتم.»

أثار الجزء الأخير من عبارة جود اهتمامَ الجميع. فاختفت بقايا الابتسامات الساخرة من وجوههم.

«أعتقد أنه يجب أن تحرصوا على أن تكونوا قدوةً حسنة لموظفيكم فيما يخص تعاون وتفاعل بعضكم مع بعض كرؤساء للأقسام المختلفة.»

شعر دانتي أن هذا الكلام نظريٌّ صرِف، وأنه يحتاج إلى قليل من الشرح. لذا فقد قال: «اضرب لي مثلًا عمليًّا. ماذا تقصد؟»

«حسنًا، على سبيل المثال، من الأفضل ألا يسمع الموظفون أحدًا من الموجودين في هذه الغرفة يطلِق لقبَ «ماسحات الحمَّامات» على موظفات خدمة الغرف.»

حاول اثنانِ من المديرين التنفيذيِّين ألا يضحكا، في حين شعر اثنانِ آخران بالخجل.

ولكن لم يستمرَّ هذا الموقف طويلًا حيث اندفعت مديرة المكتب الأمامي وقالت بحدة في لهجة توحي بأنها لا تصدِّق ما يحدث: «لا تُسِئْ فهمي، ولكنك أضعتَ وقتَ عمل قرابة مائة موظف بالأمس، وكلُّ ما توصلت إليه هو أن نتوقَّف عن نعت بعضنا بعضًا بألفاظ غير لائقة؟ إنني حقًّا أتمنى ألا تكون تكلفة الاستعانة بخدماتك كبيرة.» وابتسمت في الجزء الأخير من عبارتها محاولةً تحويلَ الإهانة التي وجَّهتها إلى جود إلى مزاح، ولكن لم يبتسم أحد لمحاولتها هذه.

كان جود على وشْك أن يندفع ويردَّ عليها ويخبرها أن هذه النقطة التي تثير سخريتها واحدة فقط من بين أربعة أشياء اقترحها، وأنه ما زال لديه سبعُ صفحات من الملاحظات تصف بدقة أبعادَ المشكلة في الفندق، وأنه إذا لم يكن الفريق التنفيذي بالفندق يريد سماعَ أي شيء يشير إلى أنهم مخطئون فما كان عليهم من الأساس أن يطلبوا منه …

ولكن قبل أن يسترسل جود في أفكاره ويبدأ في الردِّ عليها بالفعل، تدخَّل دانتي. «اسمعوا جميعًا، أعتقد أن جود يشير إلى شيء مهم هنا. من الأفضل أن نكون حذرين جميعًا فيما نقول أو نفعل أمام موظفينا. حتى إذا كنا جميعًا نعلم أننا نمزح وأن الجميع يتقبَّلون ما نقول، فإن هذا يترك انطباعًا سيئًا.»

لم يُجِب أحدٌ على ما قاله دانتي.

فقرَّر دانتي أن ينهيَ الجلسة بالكامل. فقال: «كما أني أود أن أشكر جود كثيرًا على وقته والجهد الذي بذله بالأمس، وأقترح أن نضع النقاط التي أثارها في الاعتبار وندرسها جيدًا. وبالطبع فإن دراسة الأمر من منظور شخص آخر من خارج الفندق ستساعدنا كثيرًا، حتى وإن كانت هذه النظرة تؤكد لنا فقط ما نعرفه بالفعل.»

ولقد كان هذا الحديث في الواقع بمثابة قنبلة فجَّرها دانتي لينسف بها كلَّ ما كان جود يفكِّر به. فقد كان من الأفضل بالنسبة له أن يقول دانتي: «حسنًا، ما قلته حتى الآن لم يكن مفيدًا، ولم يُضِف لنا أيَّ شيء جديد، ولن ننفِّذه على أي حال.» ومع أنه كان يدرك أن دانتي يحاول إنقاذَه من موظفيه الذين كانوا على استعداد لإمطاره بوابل من العبارات والتعليقات الساخرة والمهينة، فقد كان يتمنَّى أن يُظهِر بعضَ الدعم والتأييد له في الوقت الذي كانت تهاجمه فيه مديرة المكتب الأمامي بانتقاداتها اللاذعة.

وعندما اتَّجه المسئولون التنفيذيون لمغادرة القاعة، شعر جود بغصةٍ ومرارة في حلقه وإحساس غريب بالفشل لم يشعر به في حياته.

(١٩) تصدُّع العلاقة

عندما غادر الجميع قاعةَ الاجتماعات، أغلق دانتي البابَ والتفت إلى جود وابتسم ابتسامةً متكلفة. وقال: «كان هذا مسليًا بالتأكيد.»

وابتسم الاثنان بمرارة.

في هذه اللحظة تملكتْ جود كثير من المشاعر المتضاربة. أولًا، كان يشعر بالإحباط من الأسلوب الصبياني الذي تعامل به المسئولون التنفيذيون معه. كما شعر بالخيانة من جانب دانتي لأنه لم يسانده بالشكل الذي توقَّعه منه عندما أنهى الاجتماع فجأةً، ولم يسمح له بالدفاع عن نفسه أمام سيلِ الاتهامات والاستهزاء الذي تلقَّاه من موظفيه، مع أنه يتفهم جيدًا دوافعه لإنهاء المناقشة. ولكن الشعور الذي سيطر عليه هو الإحراج الشديد.

«اسمع يا دانتي، أنا آسف لأنني …»

رفع دانتي يده. وقال: «لا تعتذر. لا بأس.» وتنهَّد وهو يفكر في الأمر. «أعني أنه كان من الأفضل لو كنتَ ذكرتَ مسألة المدير التنفيذي الذي يطلق ألقابًا مهينة على بعض الموظفات؛ لأن الأمر بدا الآن وكأنك تلقي الرمال على أعيننا. ولكننا، في الواقع، كنا بحاجة لأن نسمع مثل هذه الأشياء، وبالطبع لم يكن بعض المسئولين على المستوى المطلوب من التفهُّم. ولكني أعدك بأن أتحدَّث إليهم.»

مع أن هذا الحديث قد أراح جود قليلًا، فإنه لم يستطِع أن يمنع نفسه من التفكير في تبِعات ما حدث. فقال: «أعتقد أنه لم يَعُد من الممكن أن أتمتَّع بمصداقية لدى موظفيك الآن، ولا أعتقد أنهم سيثقون بي. لذا فسأتفهَّم الموقف جيدًا إذا قمت بإلغاء الاتفاق الذي عقدناه.»

هزَّ دانتي رأسه نفيًا. وقال: «اسمعني، لا أريد أن نبالغ في تقديرِ ما حدث للتو. ولكنني في الوقت نفسه لن أكذبَ عليك. فهذا هو الفريق الذي أعمل معه كلَّ يوم وهو الفريق الذي يدير فندقي، وأنت مستشار لفترة معينة من الوقت. فإذا لم نتمكَّن من التعامل معًا فسوف أضطر إلى …» ولم يكمل عبارته، ولكن بالطبع فهِم جود ما يعنيه تمامًا. فاستكمل دانتي مديرًا دفةَ الحوار إلى جانب آخر من الموضوع نفسه: «ولكنك لا يزال لديك بضعة أسابيع في العَقد على أي حال، أليس كذلك؟»

أومأ جود برأسه.

فقال الآخر: «إذًا دعنا نعيد النظر في هذا الموقف عندما تهدأ العاصفة قليلًا.» ثم ربَّت على كتفه وهو يصطحبه إلى باب الفندق الأمامي. وقال: «لقد أثَرتَ في ذهني العديد من الموضوعات لأفكر بها وأدرسها اليوم.»

شكر جود عميلَه وعاد إلى منزله وهو يشعر بقلقٍ أكثرَ على مستقبل شركته ومستقبله المهني والموقف المالي له ولعائلته. ولم يستطِع أن ينكر أنه يشعر باليأس والإحباط. ولكن قد يكون اليأس في بعض الأحيان دافعًا قويًّا لمزيد من النجاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤