الجزء الثالث

سِباقٌ مع الزمن

(١) البحث عن حلٍّ

أسبوع واحد. لم يكن أمام جود سوى أسبوع واحد ليحرز تقدُّمًا في البحث عن حلٍّ لمشكلة العزلة والصراعات الداخلية بين الأقسام المختلفة؛ حيث إن هذا هو موعد انعقاد ورشة عمله التالية في مستشفى الأطفال. وعلى الفور انهمك في دراسة الأمر طوال الوقت وراح يفكر فيه ويقرأ كلَّ ما يقع تحت يده مما يرتبط بسياسات الشركات والمؤسسات.

ولكن ما لم يكن جود يعرفه هو أنه لن يجدَ الحل في أي كتاب. ولكن الحل سيجده بطريقة أصعبَ مما كان يتصوَّر.

(٢) الإنذار

لم يكن جود يحظى بالكثير من ساعات النوم بعد ما حدث في فندق ماديسون. أو بالأحرى، منذ أن انتهى عمله مع براين في مصنع المعدَّات الرياضية. أما الآن، فبالإضافة إلى مشكلاته المالية، أصبح جود يفكِّر في حلٍّ لمشكلة العزلة بين الأقسام المختلفة وما تسبِّبه من صراعات داخلية. أضِف إلى هذا آلامَ الحمل التي تتعرَّض لها تريزا في الليل؛ لذا فلم يكن من الغريب أن جود كان مستيقظًا في تلك الليلة المشهودة.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة واثنتين وثلاثين دقيقة صباحًا. وجود لن ينسى ذلك أبدًا. كانت زوجته تتقلب بجواره وهي تئن وتتأوه من الألم طوال الليل، ولكن كان هذا الأمر إلى حدٍّ ما معتادًا؛ نظرًا لحجم الطفلين بداخلها وحركتهما الدائمة في أحشائها. ولكن في هذه الليلة كان هناك شيء مختلف، وقبل أن يدقَّ منبه جود بساعة تقريبًا، اعتدلت تريزا من نومها وجلست على الفراش تتأوه بشدة.

سألها جود: «هل أنتِ بخير؟»

أومأت تريزا برأسها. وقالت: «نعم، أظن ذلك.» ولكنَّ إجابتها لم تكن مقنِعة. وبعد ذلك رأيا دمًا على الفراش.

وعندما أدرك أنها لن تستطيع السير، اتصل بالإسعاف على الفور لنقلها إلى المستشفى، ولم يكن أمامهما شيء سوى الانتظار والدعاء.

وبعد مرور سبع دقائق، وصلت عربةُ الإسعاف أمام المنزل، وبعد قرابة اثنتي عشرة دقيقة كانوا في طريقهم إلى مركز جون موير الطبي الذي كان يبعد قرابة ثمانية أميال عن منزلهما الجديد.

وللحظة فكَّر جود كيف سيعود هو وزوجته من المستشفى بعد علاجها والاطمئنان عليها وقد وصلا إلى هناك في عربة الإسعاف. ولكن أعاده صراخُ تريزا الذي كان يرتفع مع ازدياد الألم إلى أرض الواقع. وبينما كان اختصاصي الطوارئ في سيارة الإسعاف يتولَّى رعاية تريزا، أمسك جود يدها وهو يبتسم لها محاوِلًا بثَّ الطمأنينة في نفسها.

وبعد دقائق قليلة، وصلت سيارة الإسعاف إلى قسم الطوارئ بالمستشفى حيث أدخلها فريقُ الطوارئ من سيارة الإسعاف إلى هناك، واستقبلتها ممرضتان ومسئول إداري.

أخذ جود يشرح لهم ما حدث، وطرح عليه المسئول الإداري بعضَ الأسئلة عن حالة تريزا وطلب بعض معلوماتها الشخصية. ومنها: الاسم والعنوان ورقم التأمين الاجتماعي، ومثل هذه الأمور.

كان الأطباء في غرفة الطوارئ يحيطون بتريزا ويولونها عنايتهم بكل هدوء واهتمام، فيقيسون درجة حرارتها ومعدَّلات نبضها والعديد من الأمور الطبية الأخرى المرتبطة بصحتها هي وطفليها. وفي الوقت نفسه، كانت هناك ممرضة تشرح لجود ماذا كان يحدث، مع أنه لم يكن يستوعب الكثيرَ منه حيث كان مندمجًا بكيانه كله في مراقبة وجه زوجته والدعاء لها من كل قلبه دعاءً لم يَدْعُه من قبل. ثم تحوَّل الطبيب عن الاهتمام بتريزا وابتعد عنها قليلًا ليتحدَّث إليه.

فقال: «إنها بخير الآن وكذلك الطفلان. ولكننا نحاول الاتصالَ بالطبيب أندرو لوك من قسم النساء والتوليد؛ لكي يتولَّى مسئولية الاعتناء بزوجتك وطفليك في هذه المرحلة. وهو الآن موجودٌ هنا في المركز، وسيكون لديه بالطبع فكرةٌ أفضل عمَّا يجب القيام به في مثل هذه الحالة.»

وسمِع جود إحدى الممرضات تتحدَّث في الهاتف، دون أن تنتظر لأن يطلُب منها الطبيب ذلك. كانت تقول: «مرحبًا، معك جين داون من غرفة الطوارئ. نحتاج إلى الطبيب لوك على الفور. توجد سيدةٌ تجاوزت الشهر السابع من شهور الحمل ولديها نزيفٌ خفيف. شكرًا لك.»

وصل الطبيب لوك بعد قرابة خمس دقائق. وتحدَّث قليلًا إلى طبيب قسم الطوارئ ثم اتجه إلى المريضة على الفور.

وتحدَّث إليها وهو يبتسم ويمسك يدَها قائلًا: «مرحبًا يا تريزا، كيف حالك؟» وأخذ يراقب نبضَ قلبي الطفلين على شاشات القلب وشاشة كمبيوتر الموجات فوق الصوتية التي أُعِدَّت قبل وقت قصير. وبعد قرابة خمس عشرة ثانية، ابتسم الطبيب وهو يومئ برأسه لتريزا وأدار عينيه في الغرفة بحثًا عن زوجها، حتى استقرَّت عيناه على جود.

«هل أنت زوجها؟»

أومأ له جود بالإيجاب ولكنه لم يستطِع التحدُّث.

توجَّه إليه الطبيب بالحديث بسرعة ولكن بلهجة واثقة حاول بها أن يطمئنه: «أنا الطبيب لوك. كل شيء يسير على ما يرام الآن. ولكننا سنصطحب زوجتك إلى غرفة العمليات تحسبًا لأي ظرف.»

اندفع جود يسأله عما يعنيه بعبارة «تحسبًا لأي ظرف» هذه.

فأجابه الطبيب بهدوء ليخفِّف من ذعره: «تحسبًا لأننا لم نتمكَّن من منع الطفلين من الخروج إلى الدنيا الآن.»

تجمَّد جود في مكانه وسأله في ذهول: «هل تعني أن تريزا ستضع طفلينا الآن؟»

ابتسم الطبيب والتفت ناحيةَ الممرضات. «هيا ننقل المريضة إلى غرفة العمليات على الفور.» انصرفت إحدى الممرضات لإجراء مكالمة هاتفية بينما ذهبت الأخرى لعملِ شيءٍ ما باستخدام الكمبيوتر. في حين استأنف الطبيب إعطاءَ الأوامر قائلًا: «وليتصل أحدٌ بالطبيب شميتز ويطلب منه أن يقابلني هناك خلال عشر دقائق.»

وبمجرَّد أن تفرَّقت الممرضات للقيام بعملهن، صاحت إحداهن في نهاية الغرفة بصوتٍ عالٍ: «جانيت، تعالَيْ إلى هنا! إننا نحتاج إلى طلب محلول الماغنسيوم والتحضير لحقن المريضة به في الوريد.» نظر جود إلى مصدر الصوت حيث كانت الممرضة تصيح، ليرى ممرضةً أخرى استنتج من تحركاتها أنها جانيت. مع أنها لم تُبدِ ما يشير إلى أن هذا الأمر قد فاجأها بالفعل، أجْرت مكالمة هاتفية، من الواضح أنها كانت مع غرفة العمليات، وكانت في الوقت نفسِه تُعِدُّ مستندًا ما.

«ما محلول الماغنسيوم؟» طرح جود السؤالَ دون أن يوجهه لشخص محدَّد.

وبمجرَّد أن أغلقت جانيت الهاتف شرحت له بهدوء أنه محلول يساعد على تأجيلِ عملية الولادة قليلًا.

وفي غضون دقائقَ قليلة، جاء اثنان من الممرضين إلى الغرفة ونقلا تريزا إلى سرير المرضى المتنقِّل، ودفعاها إلى خارج قسم الطوارئ. وعلى بابِ الغرفة تولَّى رجلٌ يرتدي ملابسَ الأمن المهمة بدلًا من أحد الممرضين الذي اختفى تمامًا بعد أن رفع شعر تريزا بعيدًا عن عينيها وطمأنها قائلًا: «ستكونين بخير.»

وقبل أن يعرف جود ماذا كان يحدث، ظهر ممرضان آخران كان أحدهما يراقب شاشةَ الجهاز الذي كانوا يدفعونه بالقرب من تريزا بينما كان الآخر يملأ بعضَ الاستمارات ويفسح الطريقَ أمام السرير المتنقل وكانت الساعة وقتَها لا تتجاوز الخامسة وخمس عشرة دقيقة.

تحرَّك جود سريعًا ليسيرَ بالقرب من زوجته لكي يكون بجوارها وهم يجتازون الرواق. وأمسك بيدها بينما كانوا يدفعونها بسرعة ورفق إلى المصعد، ثم إلى الطابق الرابع ثم إلى قسم الولادة.

وبمجرَّد أن دخلوا قسمَ الولادة استقبلتهم ممرضةٌ ترتدي ثوبًا قرنفليًّا منقوشًا بزهور جميلة، وابتسمت مرحِّبة بزوجته ومحاولة الاطمئنانَ عليها. «مرحبًا يا تريزا. هل أنت بخير؟»

رأى جود زوجتَه وهي تحاول الابتسامَ على الرغم مما تشعر به من آلام، وتومئ برأسها للممرضة الوقورة ذات الوجه الملائكي. «مَن هذه المرأة الرائعة؟» تذكَّر جود كيف كان يتساءل لجزء من الثانية قبل أن يقوده أحدُ الممرضين إلى خارج غرفة العمليات، حيث أبهره الضوء الساطع والشكل المميز للغرفة. وبعد أن بدَّل ملابسه وارتدى معطف العمليات المعقَّم، عاد إلى غرفة العمليات مع زوجته مرةً أخرى.

بعد دقيقة مرَّت عليهما وكأنها دهرٌ كامل، دخل الطبيب لوك وهو يرتدي معطف العمليات الخاص به. واتَّجه إلى تريزا مباشرةً متجاهلًا جود تمامًا، وابتسم مرحِّبًا بها ثم التفت إلى واحدة من الممرضات وسألها: «هل وصل الطبيب شميتز أم لا؟»

وبمجرَّد أن أنهى سؤاله دخل الغرفةَ رجل آخر. كان ذا شعر أشعث ويرتدي معطفًا مختلفَ اللون عن معاطف الآخرين. وتبادل ابتسامات الترحيب مع الطبيب لوك الذي قال: «حسنًا، ها قد وصل.»

«مرحبًا يا أندي.» رحَّب الطبيب لوك بزميله قبل أن يلتفت إلى تريزا. ويسألها: «وكيف حالك أنتِ؟»

بادلته تريزا الابتسامةَ وهي في حالة مزرية. وقالت: «أنا بخير.»

«حسنًا، أنت على وشْك استقبال طفلتين.»

«ولكنني لا أزال في النصف الأول من الشهر السابع …»

ولكن الطبيب قاطعها مبتسمًا. وقال: «هذا يحدُث كثيرًا.» وربَّت على يدها برفق وطلب من الممرضة أن تستدعيَ طبيب التخدير لكي تبدأ عملية الوضع.

(٣) الأُسرة الجديدة

في الخامسة والدقيقة الخامسة والأربعين صباحًا نجح الطبيبان لوك وشميتز في إخراج التوءمين إلى الحياة عن طريق عملية قيصرية. ونظَّفت الممرضاتُ على الفور الطفلتين اللتين يبلغ وزن كلٍّ منهما ثلاثة أرطال ونقلوهما على الفور إلى وحدة رعاية الأطفال المبتسرين في الغرفة المجاورة.

وقد طمأن الطبيبان الوالدين بأن الأمور سارت على ما يرام، وأنهما سيتمكَّنان من رؤية الطفلتين بعد فترة وجيزة. نُقلت تريزا بعد ذلك إلى غرفة الإفاقة، وبمجرد أن ذهبت ألقى جود نفسَه على مقعدٍ خارج وحدة رعاية المبتسرين. ونظر إلى ساعته، كانت الساعة الآن الخامسةَ وسبعًا وخمسين دقيقة صباحًا.

تعجَّب جود كثيرًا مما حدث. فهذه الفترة الزاخرة بالأحداث منذ استيقظ هو وزوجته في فراشهما حتى تلك اللحظة التي استقرت فيها الأمور وخرجت طفلتاه إلى الدنيا استغرقت أقلَّ من تسعين دقيقة. الحياة لن تصبح كما كانت من قبل أبدًا.

(٤) سباقٌ مع الزمن

ظلت تريزا في المستشفى ثلاثة أيام بعد الولادة تخضع لرعاية الأطباء في غرفةٍ على بُعد خمسة عشر مترًا من وحدة رعاية الأطفال المبتسرين حيث تخضع طفلتاها هايلي وإيميلي للرعاية طَوال الوقت.

وقد وضَّح لها طبيب الأطفال ورئيس وحدة رعاية الأطفال المبتسرين أن الطفلتين يجب أن تبقيا في المستشفى ثلاثة أسابيع على الأقل. وفي هذه الأثناء، من الأفضل أن يأتيَ الوالدان لزيارة الطفلتين وأن يبقيا معهما بعضَ الوقت، ولكن نظرًا لميلاد الطفلتين قبل ميعاد الولادة الطبيعي فلن يتمكنا من حملِهما، ولن يكون بمقدور تريزا إرضاعُهما بالطريقة الطبيعية مدة أسبوع أو أكثر. ورغم ذلك، فإن إسهام جود وتريزا سيكون غايةً في الأهمية بالنسبة للطفلتين. وكانت مجرد فكرة أنهما سيعودان إلى المنزل دون الطفلتين فكرةً محزنة للغاية.

وعندما اطمأن الأطباء على تريزا وقرَّروا السماح لها بمغادرة المستشفى والعودة إلى المنزل، كان هناك بعض الارتباك والفوضى في تحديد القسم المسئول عن السماح لها بالمغادرة، وأي قسم سيطالب شركة التأمين المسئولة عن تريزا بسداد التكاليف، وعلى أي أساس سيتم تحديدُ المقابل الذي يطالب به المستشفى. ونظرًا للإرهاق البدني والمعاناة العاطفية التي كانت تريزا تعانيهما، كان هذا الارتباك شاقًّا للغاية بالنسبة لها وأزعجتها هذه الفوضى أيَّما إزعاج. وبعد مرور أكثر من ساعة من التأخير وإجراء المكالمات الهاتفية، استطاعت تريزا أخيرًا أن تغادر المستشفى.

أدرك جود، بعد أن وصل هو وزوجته إلى المنزل والتقطا أنفاسهما، أنَّ عليه أن يعمل بأقصى طاقته في الفترة التي ستقضيها الطفلتان في المستشفى؛ وذلك حتى يتوقَّف عن التفكير فيهما والقلق عليهما من ناحية، وأيضًا لكي يحافظَ على سير عمله حسب الجدول الزمني الذي حدَّده له، بل وأن يسبقَه أيضًا لكي يستطيعَ توفيرَ وقتٍ أكبرَ لقضائه معهما في المنزل عندما تخرجان من المستشفى. كما أن والدة تريزا ستأتي وتبقى معهما شهرًا؛ لذا لم يكن أمام جود الكثير من المهام في المنزل قبل وصول الطفلتين.

كان جود قد أجَّل جلسةَ العمل التي كان سيعقدها في مستشفى الأطفال عندما وضعت زوجته. لذا، ووفقًا للمعطيات الجديدة، قرَّر أن يحاول إعادةَ تحديد موعد قريب لعَقد هذه الجلسة، وقد شعر بسعادة حقيقية عندما تمكَّنت ليندسي من تحديد موعد جديد بعد أيام قليلة من الموعد الأساسي. ولم يكن أمام جود سوى خمسة أيام فقط حتى يتوصَّل إلى طريقة يجعل بها جلسة العمل القادمة مثمرةً وأفضل من سابقتها.

(٥) المفاجأة

قرَّر جود وتريزا زيارةَ الطفلتين في المستشفى ثلاث مرات يوميًّا. مرةً في الصباح وأخرى في المساء، وسيذهبان معًا. والثالثة في الظهيرة يقوم بها جود وحدَه بينما تنال تريزا قسطًا من الراحة ثم تذهب لزيارتهما بعد ذلك لكي تساعد في إرضاعهما.

وفي طريقه إلى المستشفى في أول زيارة منفردة لطفلتيه، لم يستطِع جود التوقُّف عن التفكير في ذلك اليوم الذي وصل فيه إلى المستشفى فجرًا في سيارة الإسعاف مع زوجته. ومع أنه لم يمضِ أسبوع واحد على هذا الأمر، فقد بدا وكأنه قد مرَّ عليه عدة شهور.

وعندما أوقف سيارته في موقف السيارات بالمستشفى، قرَّر أن يذهب إلى قسم الطوارئ أولًا بدلًا من الدخول إلى وحدة رعاية الأطفال المبتسرين من المدخل العادي، وذلك ليشكر جميع الأطباء والممرضات الذين قاموا برعاية زوجته حتى انتقلت إلى غرفة الولادة.

وفي طريقه إلى قسم استقبال الطوارئ، عاد الشعور بالفزع الشديد الذي سيطر عليه قبل أسبوع يسري في عروقه مرةً أخرى. حيث بدأ يستعيد ذكرى كلِّ ما حدث في ذلك الصباح الغريب.

وبدأ يتذكَّر كيف كان مسئول الطوارئ هادئًا رابطَ الجأش. وكيف كانت سرعة الممرضات حين استقبلن زوجتَه على الباب. وكيف كان الأطباء حازمين. وكيف كانت استجابة هيئة التمريض بالكامل سريعةً ومناسِبة للموقف. ثم كيف سارت الإجراءات بعد ذلك واتخذ الجميع القرارات المناسبة، فحتى الأخطاء التي ارتُكبت تلك الليلةَ تم التعامل معها وإصلاحها على الفور.

لقد كان الموقف أشبهَ بلوحة غريبة وجميلة من الفوضى والتنسيق والتواصل. فقد كان الجميع يعملون بتوافق وتناغم شديدين، ونجح الأمر بالفعل.

وفجأةً خطرت على ذهن جود فكرة. «معظم هؤلاء الأشخاص من أقسامٍ مختلفة.»

وعند هذه النقطة، بدأت الأفكار تتوالى في ذهن جود ليتوصَّل إلى الحل الذي سيخلِّصه من جميع مشكلاته.

(٦) بناء الفكرة

في وقت لاحق من ذلك اليوم، وبعد قضاء أمسية هادئة في مراقبة الطفلتين ثم توديعهما بأعينٍ دامعة، أوصل جود زوجتَه ووالدتَها إلى المنزل وذهب إلى مكتبه للعمل. وكان يعلم جيدًا أنه لن يهدأ له بالٌ أو يغمض له جَفن حتى يجمع أفكاره ويرتِّبها فيما يخص النظرية الجديدة التي توصَّل إليها.

وفي الصباح التالي، بمجرَّد أن غادر جود المستشفى بعد زيارته الأولى لطفلتيه في الصباح، تحدَّث إلى ليندسي لكي يخبرها بفكرته. ولكن بدلًا من أن يصرِّح لها بما يدور في ذهنه على الفور، فكَّر في اتباع أسلوبٍ أكثرَ دهاء لاختبار نظريته دون أن يجعل عميلته تتحيز للفكرة أو ضدها.

فسألها: «حسنًا، بعيدًا عن المشكلة القائمة بين الممرضات وقسم الاستقبال، ما الأقسامُ الأخرى في المستشفى التي تعاني مشكلةَ العزلة هذه؟»

لم تتردَّد ليندسي على الإطلاق. وقالت: «كلُّ الأقسام التي تخطر على بالك. الأطباء في مقابل الممرضات، والإدارة في مقابل الأطباء، والمديرون في مقابل فريق الأطباء المنتدَبين. أعتقد أن كلَّ شخص في هذا المستشفى يرى نفسه عضوًا في القسم الذي يعمل به فقط، أكثرَ من كونه جزءًا من المستشفى عمومًا.»

قرَّر جود أن يدفعها أكثرَ للاسترسال في الحديث. فسألها: «هل هناك أيُّ مثال لم تظهر فيه هذه المشكلة؟» لم تُجِبه ليندسي على الفور، فحاول هو أن يستحثَّها أكثرَ على الكلام. فقال: «هل توجد أيُّ أقسام أو أماكن في المستشفى لا يهتم موظفوها كثيرًا بانتمائهم إلى أقسامٍ داخلية، ويعمل بعضهم مع بعض بروح الفريق؟»

وعندما لم تُجِبه ليندسي على الفور تركها تأخذُ ما تشاء من الوقت للتفكير.

«لا.» أجابته أخيرًا.

شعر جود بخيبة الأمل. حتى استأنفت ليندسي حديثَها. «فيما عدا قسم الطوارئ، لا أعتقد أن هناك قسمًا آخرَ في هذا المستشفى …»

فقاطعها جود: «ماذا قلت للتو؟»

«قلت إنني لا أعتقد أن هناك قسمًا في المستشفى لم تستشرِ فيه مشكلة …»

فقاطعها جود مرةً أخرى. «قلتِ ما عدا قسمَ الطوارئ؟»

«حسنًا، نعم. ولكن قسم الطوارئ في الحقيقة لا يمكن اعتباره قسمًا. فهو كيانٌ منفصل تمامًا.»

بدا جود فجأةً مهتمًّا بالأمر بصفة خاصة. «ماذا تعنين؟»

فأجابت: «في الواقع، هذا هو المكان الوحيد في المستشفى الذي لا يعاني المشكلات الكثيرة التي تحدُث بين الأقسام الأخرى. ولكن أعتقد أن هذا هو الحال في جميع المستشفيات. وبالتأكيد في جميع المستشفيات التي عملتُ بها.»

«في رأيك، ما السببُ في هذا؟»

قالت وهي تقلِّب الأمر في ذهنها: «في الواقع لا أدري. أعتقد أنهم لا يجدون وقتًا لمثل هذا الهراء.»

ولكن ليندسي قرَّرت فجأةً أن تتراجع عن إجابتها. فقالت: «لكن الآن، بينما أفكِّر في الأمر، أتذكَّر بعضَ المرات التي كان هناك فيها جدلٌ وخلافات في قسم الطوارئ حول الميزانية ومشاركة الموارد.»

فسألها جود في محاولةٍ للدفاع عن اكتشافه: «أتقصدين أن الأطباء والممرضات في قسم الطوارئ كانوا يختلفون حول أيٍّ من الأقسام عليه أن يسدِّد ثَمن المعدَّات والتجهيزات؟»

«لا. ليس الأطباء والممرضات في قسم الطوارئ نفسِه. بل أعني أثناء انعقاد جلسات مناقشة الميزانية واجتماعات أعضاء الهيئة الإدارية.»

«ولماذا تعتقدين أن هذا الأمر لم يحدُث على الإطلاق في قسم الطوارئ نفسه؟» ألقى جود هذا السؤال وهو يتمنى سماعَ إجابة محدَّدة.

صمتَت ليندسي لحظة. ثم قالت: «لأنه لن يقف أيُّ شخص له قلب ينبض أمام مريض في حالة خطرة أو ينزف حتى الموت، ويفكِّر في مثل هذه الأمور أو في السياسات الداخلية لكل قسم. هذا هو الوضع الذي يتعامل معه قسم الطوارئ.»

وقد كانت هذه هي بالفعل الإجابة التي يتمنَّى جود سماعها.

(٧) فكرة عبقرية

في أثناء جلسته وزوجته مع طفلتيهما وعلى الرغم مما يشعران به من تعبٍ وإرهاق يختلط بالسعادة والفخر، شرح جود لزوجته تجربتَه مع قسم الطوارئ في اليوم الذي وضعت فيه الطفلتين، والحوار الذي دار بينه وبين ليندسي.

ومع أنَّ الوقت أو الظروف لم تكن مناسِبة بالنسبة لتريزا لكي تنتبه بكل كِيانها لِما يقوله زوجها كما اعتادت أن تفعل، فقد أبدت واحدًا من أفضل الاقتراحات التي طرحتها على زوجها. قالت: «يجب أن تتحدَّث إلى براين الرئيس التنفيذي لمصنع المعدَّات الرياضية.»

«ولِمَ؟» أراد جود أن يعرفَ ما تفكر فيه.

«ألم يقُل لك من قبل إنه لا يحتاج إلى مساعدة في هذه المشكلة؟»

«بلى، هذا ما قاله. وقد أنهيت عملي معه.»

«وهل سألته عن السبب؟»

لم يتحلَّ جود بالصبر اللازم ليفهم ما تقصده زوجته فاندفع يجيب: «نعم، لقد قال إنه استعان بشخصٍ خبير في شئون التسويق ولا يحتاج إلى أي مساعدة في المبيعات …»

قاطعته زوجته عند هذه النقطة. وقالت: «ما أعنيه هو هل ذَكَرَ لك السبب الذي يجعل بيئة المصنع خاليةً تمامًا من مشكلة العزلة والصراعات هذه؟ فقد تتعلَّم منه بعض أساليب معالجتها.»

أراد جود بعد سماع هذه الفكرة العبقرية أن يجادل زوجته لبعض الوقت حتى لا يُضطر أن يقول لها إنه لم يفكر في هذا الأمر من قبل. ولكنه لم يستطِع. فقال: «إنها حقًّا فكرة رائعة. أغارُ منكِ حين تفعلين هذا.»

تبادل الاثنان الضحكات وعادا ليوليا انتباههما بالكامل إلى إيميلي وهايلي.

(٨) النظرة الثانية

كان براين في مكتبه حينما اتصل به جود.

«مرحبًا يا جود. هل من جديد؟»

أجاب جود: «ليس الكثير.» وعندما أدرك ما قد يعنيه جوابه استدرك قائلًا: «ماذا أقول؟ في الحقيقة، كلُّ أخباري جديدة، فقد وضعت تريزا طفلتينا منذ أربعة أيام.»

بدا الاهتمام الشديد على براين. وقال: «كنت أعتقد أنها ستضع بعد شهرين. فهل الأمور على ما يرام؟»

«نعم، الطفلتان بخير، مع أنهما ستبقيان في المستشفى ثلاثة أسابيع على الأقل. حتى تكبرا قليلًا، وتنمو رئتاهما بطريقة تمكِّنهما من التنفس في الهواء العادي. ولكن كل شيء على ما يرام.»

«الحمد لله. وأشكرك كثيرًا لأنك اهتممت بأن تتصل بي وتخبرني.»

تردَّد جود قليلًا. ولكنه قال: «في الواقع السبب وراء اتصالي هو العمل.»

ضحِك براين. وقال: «لا أصدِّق أنك تجد وقتًا للعمل في هذه الفترة العصيبة. وما رأي زوجتك في هذا؟»

«إنها بخير. كما أن والدتها تمكُث معنا في المنزل لبعض الوقت ونتبادل الزيارات إلى المستشفى لنرى الطفلتين. ولا يوجد أمامنا أشياءُ كثيرة نستطيع القيام بها في الوقت الحالي. وعلى أي حال، كنت أودُّ مقابلتك غدًا لبضع دقائق بشأن أمرٍ ما.»

«دعني أرى جدول مواعيدي غدًا.» وتوقَّف عن الحديث لحظةً ثم عاد: «حسنًا، ليس لديَّ ارتباطات غدًا قبل التاسعة صباحًا، ثم من وقت الظهيرة وحتى الثالثة.»

«ما رأيك لو أتيتُ لمقابلتك في الواحدة ظهرًا؟»

«عظيم. بالمناسبة، أريد أن أسألك عن شيء. أين وضَعَت زوجتُك؟»

«في المستشفى.»

ضحِك براين. وقال «بالطبع أنا أعرف أنها في المستشفى. لا بد أن الإرهاق يؤثِّر على قدرتك على التركيز. ما أعنيه هو أي مستشفًى؟»

ضحِك جود أيضًا. وقال: «مستشفى جون موير في وولنت كريك. نعم، أنت محقٌّ فأنا متعب للغاية.»

فسأله براين: «وهل سمح الأطباء لزوجتك بمغادرة المستشفى؟»

وجد جود هذا السؤال مضحكًا حيث إن الإجابة واضحة من سياق الحوار، إلا أنه لم يتردَّد وأخبره أنها غادرت المستشفى.

فردَّ عليه براين قائلًا: «حسنًا، هذا جيد. احصلا أنتما الاثنان على قسط من الراحة. وسأراك غدًا.»

وقد كان جود يتطلع إلى هذا اللقاء بشدة.

(٩) دراسةٌ ميدانية

وصل جود إلى مكتب براين في اليوم التالي بعد الظهيرة، وشكره بشدة على باقة الزهور الجميلة التي أرسلها إلى تريزا في ذلك الصباح، ثم قرَّر بعد ذلك أن يدخل مباشرة في صلب الموضوع. وقرَّر أن يكون صريحًا حتى لا يضيعَ وقته أو وقت براين.

فقال: «أريد أن أعرف منك لماذا تعتقد أنه لا توجد عزلة أو صراعات داخلية بين الأقسام المختلفة في مصنعك؟»

ابتسم براين. وقال: «يبدو وكأنك لا تصدِّقني!»

شعر جود بالخجل فتراجع قليلًا. وقال: «ليس هذا ما أعنيه. ولكن ألا تعتقد أنه من الممكن أن تكون مثل هذه المشكلات موجودة هنا وأنت لا تعلم بها؟» قالها وهو يتحرَّك إلى النافذة التي تُطِلُّ على الساحة الداخلية للمصنع.

فأجاب براين على الفور دون تردُّد: «لا أعتقد هذا. ولكن إذا كانت هناك بعض المشكلات فأتمنى أن أعرفها حتى أتمكنَ من التعامل معها.» ثم توقَّف لحظة للتفكير، ووضع راحة يده المبسوطة أمامه على المكتب بثبات. وقال: «ولكن سأخبرك بشيء. ما المانع أن تذهب أنت إلى أقسام المصنع وتحاول اكتشافَ هذا الأمر بنفسك؟»

شعر جود بالدهشة من هذه الإجابة. وسأله: «ماذا تقصد؟»

فقال له: «ما أقصده هو أن تذهب وتجلس مع هؤلاء العمال والموظفين في المصنع. واسألهم عن رأيهم في هذا الأمر. تحدَّثْ إلى أي شخص في المصنع. فمعظمهم يعرفونك جيدًا لعملك معنا فيما سبق؛ لذا فلن ينزعج أحدٌ منهم من الأسئلة التي تطرحها. وبالطبع لك مطلَق الحرية في أن تجعل أسئلتك غير مباشرة حتى لا يلجئوا إلى تجميل إجاباتهم، حتى تصل إلى الحقيقة المطلَقة.»

تردَّد جود بعض التردُّد، وسأله: «هل أنت متأكد من أنك تريد مني القيام بهذا؟»

«نعم. ولِمَ لا؟ لا أعتقد أنك ستجد أيَّ شيء، ولكني أريدك أن تحاول على أي حال. بل وسأدفع لك أجرًا عن الساعات التي ستقضيها هنا أيضًا.»

هز جود رأسه بالنفي وضحِك قائلًا: «لا، ليس عليك أن تدفع لي أي شيء على الإطلاق. ولكني سأقبل عرْضَك الأول فيما يخص عمل دراسة ميدانية على أرض المصنع.»

«حسنًا، اذهبْ وأجرِ الدراسة التي تريدها. وعُد بعد ساعتين وأخبرني بما توصَّلت إليه.»

نظر جود إلى ساعته واتَّجه نحو الباب. وقال: «اتفقنا، أراك بعد ساعتين.»

(١٠) مهمةٌ استطلاعية

شعر جود وهو يتجوَّل في قاعات المصنع ويسأل العمال بعضَ الأسئلة كأنه ضابط بوليس يعمل متخفيًا.

وحرصًا منه على ألا يجعل العمال يتحيَّزون ضد جهةٍ ما كانت أسئلته محدَّدة، فقد كان يطرح سؤالين فقط على كلِّ مَن يتحدَّث إليه: ماذا يحدث في المصنع هنا وترى أنه جيد؟ وماذا يحدث هنا وترى أنه ليس جيدًا؟

ومع أن بعض الموظفين والعمال الجدد كانوا يَبدون قلقين إلى حدٍّ ما وهم يخبرون شخصًا غريبًا بأي معلومات عن الشركة، فإن معظم الذين تحدَّث إليهم جود كانوا سعداء بالحديث معه. ليس فقط بالحديث عن مميزات الشركة ولكن عن عيوبها أيضًا.

اشتكى بعضهم من أن الميزانية محدودةٌ للغاية. ورأى بعضهم الآخر أن المنشأة بحاجة إلى التوسُّع. بينما أراد آخرون تخفيضَ عدد المنتجات التي يقوم المصنع بإنتاجها. ولكن — عمومًا — تأكَّد جود من أن فكرته السابقة عن شركة براين صحيحة، وأن الأخير يدير الشركة بكفاءة واقتدار.

لم يبدأ جود في طرح أسئلة مباشِرة بدرجةٍ أكبرَ وفي صميم المشكلة إلا بعد أن انتهى العاملون من الإجابة عن السؤال الثاني. فبدأ يسأل العمال من الأقسام المختلفة: «هل تحب التعامل مع موظفي الإدارة المالية؟» أو يسأل موظفًا من المبيعات: «هل تعتقد أن موظفي قسم التسويق يفعلون ما يكفي لمساعدتكم على بيع المنتجات؟» ولم يحصُل على أي إجابة تدُل على وجود عزلة بين الأقسام أو صراعات داخلية في المصنع.

ثم بدأ جود بعد ذلك يطرح مجموعةً من الأسئلة المباشرة اليائسة إلى حدٍّ ما، التي اعتقد أنها قد تثير العمالَ للإشارة إلى وجود صراعات داخلية بين الأقسام المختلفة. مثل: «ما الأقسامُ التي يرهبون التعامل معها؟» و«ما الأقسام التي يفضِّلون اللجوء إليها في حالة احتياج بعض الموارد من داخل الشركة؟» وقد أثارت معظم هذه الأسئلة نظرات الحَيرة في عيون الجميع أكثرَ من أي شيء آخر.

وبعد أكثرَ من تسعين دقيقة، قرَّر جود أن يتوقف. وعاد إلى مكتب براين يسيطر عليه إحساسٌ بخيبة الأمل والإعجاب في الوقت نفسه. فقال: «حسنًا، إنني أستسلم.»

فداعبه براين ببعض الخبث. وقال: «لكن ما زال أمامك نصف الساعة. ربما يكون قد فاتك شيءٌ ما.»

«لا، لم يفُتني شيء، أريد أن أعرف الإجابة فحسب.»

«أي إجابة؟»

«كيف تمكَّنت من هذا؟ وما السرُّ وراء جوِّ العمل النقي الذي تدير به مصنعك؟»

عندئذٍ قال براين شيئًا لم يكن جود يرغب في سماعه. «لا أدري.»

قال جود وهو يحثُّه على الكلام: «هيا يا براين. أخبرني.»

ابتسم براين. وقال: «أنا أعني ما أقوله حقًّا. أنا لا أعلم السرَّ في ذلك. فالأمر يسير كما تراه هكذا دون أي دواعٍ أو أسباب.» ثم نظر إلى السقف قليلًا وكأنه يبحث فيه عن إجابة. ثم نظر إلى جود مباشرةً وقال: «لدي فكرة جيدة لكلينا.»

قبل أن يسأله جود، استرسل براين في الشرح: «لماذا لا تحاول أنت معرفةَ السبب؟ أعني سأدعك تنزل إلى المصنع وترى كيف تسير الأمور هناك. فأنا أحبُّ أن أعرف لماذا نحن مختلفون عن الشركات الأخرى حتى نستطيع أن نظل هكذا، ونستمر في أداءِ ما يميِّزنا عنهم.»

في الظروف العادية، لم يكن جود ليتحمَّس لعملٍ دون مقابل في ظل الظروف التي يمر بها، ولكنه رأى أن هذا الأمر قد يكون بالضبط ما يحتاج إليه.

وكان محقًّا تمامًا في هذا.

(١١) مفتاح الحل

قضى جود الأيام الثلاثة التالية في الانتقال جيئةً وذهابًا من منزله إلى المستشفى إلى مصنع المعدَّات الرياضية في مانتيكا، مما منحه الكثير من الوقت ليفكر في كثير من الأمور.

وفي خلال هذه الأيام الثلاثة، حضر اجتماعين للمسئولين التنفيذيين بالمصنع؛ الأول كان يناقش التشغيل، والآخر خاصٌّ بمناقشة استراتيجية الشركة. كما قضى ثلاث ساعات في قلب المصنع يشاهد العمال وهم يعملون، ويراقب باهتمام شديد ممثلي الأقسام المختلفة هناك. كما أنه كثيرًا ما ذهب إلى ساحة انتظار السيارات لكي يعرف متى يصل الموظفون، ومع مَن يذهبون لتناول الغداء، ومَن يبقى منهم لوقت متأخر، وحتى الأماكن التي يوقِفون فيها سياراتهم.

ثم حدَث ذات مرة وهو في الغرفة التي يجلس بها في وقت الراحة ويحتسي كوبًا من القهوة أن وجد كتيبًا صغيرًا يوضِّح الإنجاز الذي يبحث عنه. كان تاريخًا مختصرًا لمصنع جيه إم جيه، بدايةً من إنشائه منذ حوالي اثنتي عشرة سنة حتى الوقت الحالي.

وعندما بدأ جود يتصفح الكتيب، وجد بداخله رسمًا بيانيًّا يوضح العائدَ الإجمالي السنوي والأرباح التي تحققها الشركة. ولقد كان المؤشران يرتفعان باعتدال في السنوات الثماني الأولى، ثم فجأة انخفض العائد الإجمالي إلى النصف وانخفضت الأرباح بطريقة مأسوية. وبعد عام واحد فقط، قفز مؤشرا العائد الإجمالي والأرباح إلى أعلى معدَّلاتهما، واستمر الحال هكذا في السنوات الثلاث التالية.

لم يجِد جود أيَّ شيء مكتوب يفسِّر هذا التدهور الشديد، فذهب لكي يسأل براين عن سرِّ هذا التغير الشديد في أداء الشركة. ولكن لسوء الحظ، لم يكن الأخير موجودًا في مكتبه؛ لذا فقد كان على جود أن ينتظر يومًا آخرَ حتى يحصل على إجابات للأسئلة التي تدور بذهنه.

(١٢) درسُ التاريخ

بعد زيارته الصباحية إلى المستشفى حيث كانت طفلتاه تظهر عليهما بالفعل بعضُ علامات النمو والتحسُّن، قصد جود مباشرةً مكتب براين.

«هل اكتشفت السرَّ؟» بدا أن براين كان يتمنى بصدقٍ أن يكون جود قد اكتشف السببَ بالفعل.

فردَّ عليه جود: «ليس بعدُ، لكن لديَّ بعض الأسئلة التي أود طرْحَها عليك.»

ضحِك براين. وقال: «لقد أصبح الأمر أشبهَ بلعبة حل الألغاز. ولكن على أي حال سَلني ما بدا لك.»

«ماذا حدث للشركة منذ أربعة أعوام؟»

«هل تقصد الأزمة التي تعرَّضت لها الشركة؟»

بدَت الحَيرة في عيني جود.

فسأله براين بدهشة: «أوَلَم تكن تعلم شيئًا عنها؟»

هزَّ جود رأسه.

فاستكمل الآخر: «يا إلهي. أعتقد أن هذه الأزمة تبدو لي وكأنها وقعَت بالأمس، وأشعر كأن الجميع يعرفون ما مرَّت به الشركة.»

واسترسل براين يشرح ما اصطلح على تسميته من قبل جميع العاملين بالمصنع بأنه «نقطة التحوُّل».

فقال: «اشترى أحد الأندية الصحية في لوس أنجلوس من المصنع خمسة عشر جهازًا للسير والركض في المكان، ثم وقع حادثٌ لأحد المتدربين في هذا النادي أثناء استخدامه أحدَ هذه الأجهزة، وصادف أن هذا الشخص كان مشهورًا إلى حدٍّ ما. ووصل الخبر إلى الصحافة وألقى النادي الصحي اللومَ علينا، واستفاد المنافسون من هذه الواقعة، وللأسف، استمعنا إلى النصيحة التي تفتقر إلى الحكمة أو الخبرة التي أعطاها لنا محامونا ولم نقُم بإجراء أي حديث أو بيان صحفي حول الأمر؛ لأن هذا قد لا يكون في صالحنا في المحكمة.

وفي خلال أسبوع واحد من هذه الواقعة، بدأ العملاء يُلغون طلبات الشراء ويعيدون المعدَّات التي اشتروها مؤخرًا ويستردُّون نقودهم. وبالطبع، توقَّفت مبيعات المصنع ووجدنا أنفسنا نواجه كارثة الاستغناء عن نسبة كبيرة من العمال، واحتمال إغلاق المصنع في غضون ستة أشهر.»

وهنا أضاف براين أهمَّ تعليق. «أتعلم، في بعض الأحيان، أنظر إلى ما حدث على أنه أفضلُ شيء حدث لهذا المصنع.»

(١٣) اللغز

حاول جود أن يتوقَّع ما سيقوله براين بعد ذلك، ولكنه لم يشأ أن يضيع الوقت في هذا، وأراد أن يسمعه منه مباشرةً حتى يتأكد من أنه لا يختلق الأشياء.

قال براين: «لقد اجتمعتُ بكل الموظفين والعمال في المصنع في قاعة الاجتماعات الكبرى، وأخبرتهم أنه أمامنا ستة أسابيع فقط لاستعادة سُمعتنا. وهذا يعني إثباتَ أن منتجاتنا آمنة، وإعادة بناء سُمعتنا في السوق، وإصلاح علاقتنا مع أهم عملاء للمصنع، وإعادة الثقة إلى نفوس العاملين هنا.» وأشار إلى طابق التصنيع. ثم استأنف حديثه: «وعلينا أن نتجنَّب أن يقاضينا هذا النادي الصحي.»

لم يستطِع جود الصبر حتى يستكمل براين الحديث وحدَه، فاستحثه على الكلام قائلًا: «وماذا حدث بعد ذلك؟»

فأجابه: «حسنًا، أرسلنا مهندسَين فنيَّين من المصنع إلى لوس أنجلوس لزيارة النادي الصحي لكي يريا إن كان النادي قد ركَّب الأجهزة بطريقة غير صحيحة أم لا، وكان هذا بالفعل ما حدث. ولم يكن الأمر مفاجأةً بالنسبة لنا لأننا نعلم أن أجهزتنا آمنة تمامًا. وبعد ذلك، قمنا بمخاطرة لم تَرُق لمحامينا كثيرًا. فقد نشرنا إعلاناتٍ في صفحات كاملة في أكبر أربع صحف تجارية ذكرنا فيها القصة كاملة. ثم أرسلنا نسخًا من هذه الإعلانات بعد تكبيرها إلى ثلاثة أضعاف حجمها العادي إلى كل شخص كان لنا اتصال به وكل عميل اشترى ماكينة من الماكينات التي أنتجناها خلال السنوات الخمس السابقة للحادث.»

اتَّسعت عينا جود عن آخرهما.

فضحِك براين. وأجاب عن السؤال الذي لم يطرحه جود: «نعم، كان الأسلوب غريبًا لدرجة الجنون، أليس كذلك؟ ولكن أتدري مَن كان صاحب هذه الفكرة؟» واستكمل دون أن ينتظر إجابةً من جود: «إنها مهندسة فنية في الثانية والعشرين من عمرها، تعمل في قسم مراقبة الجودة. فتاة لم تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها. فلقد وجدنا أن أفضل وسيلة لرفع الروح المعنوية هي إشراك الجميع في الأمر، وربما أيضًا إثارة غضبهم مما حدَث لنا. وفي الواقع، لقد كانت مشاركتهم فعَّالة، فقد اقترحوا أفكارًا لم يكن أحدٌ منَّا يجرؤ على التفكير فيها.»

فسأله جود: «وهل فزتَ في الدعوى التي أقامها النادي الصحي ضد المصنع؟»

فأجاب: «لا، لقد سوَّينا الأمر. دفعنا قرابة عشرين ألف دولار.»

بدت الحَيرة على وجه جود. وقال: «ولكني ظننت أنه لم يكن خطأكم.»

«نعم، لم يكن خطأنا. ولكننا كنا سنهدر الكثير من الوقت والمال في اللجوء إلى القضاء. أعلم جيدًا أن ما فعلناه لم يكن صحيحًا، ولكن للأسف هذا هو النظام القضائي في هذه الأيام، خاصة في كاليفورنيا. ولكننا في الواقع لم نهتمَّ كثيرًا بهذا الأمر آنذاك؛ لأننا كنا مستغرقِين للغاية في العمل في محاولة للوفاء بطلبات الشراء التي بدأت تنهال علينا في غضون أسابيع قليلة من نشر الإعلانات. كما أننا قد وافقنا على دفع مبلغ التسوية لذلك النادي في لوس أنجلوس بعد أن وافق على شراء خمسة وعشرين جهازًا آخرَ من مصنعنا.»

بدأ الحماس يتدفَّق إلى عروق جود. ثم قال: «أخبرني الحقيقةَ يا براين. هل كانت هناك عزلة أو صراعات داخلية بين الأقسام قبل أن يتعرَّض المصنع لهذه الأزمة؟»

فكَّر براين لحظة. وقال: «حسنًا، ذات مرة اضطُررت إلى إقالة بعض رؤساء الأقسام؛ لأنهم لم يكونوا يهتمون بالشركة بوصفها كيانًا يكمل بعضه بعضًا، بنفس درجة اهتمامهم بالأقسام التي يرأسونها ويتعاملون معها كأنها ممتلكات خاصة لهم وليست جزءًا من الشركة. فإذا كان هذا ما تعنيه، فأعتقد أننا كنا نعاني هذه المشكلة فيما سبق.»

«وماذا عن فترةِ ما قبل تولِّيك إدارةَ المصنع؟»

أومأ براين. وقال: «نعم، أتذكر أني قد سمِعت أنه في فترة من الفترات كانت مكاتب المسئولين التنفيذيين وأقسام التسويق في مبنًى غير مبنى المصنع؛ لأن رئيس قسم التسويق رأى أن موظفيه يجب أن يعملوا في بيئة عمل مناسبة لطبيعة عملهم. كما كانت أيضًا الرحلات التشجيعية مقصورةً على الموظفين في قسم المبيعات فقط، ولكن عندما توليتُ أنا إدارة المصنع جعلتها شاملةً لجميع العاملين في المصنع. وبالطبع لم يكن جميع العاملين في المبيعات سعداء بهذا القرار في البداية.»

«وماذا بعد ذلك؟ هل ظهرت أيُّ مشكلات أخرى من هذا النوع منذ أن توليتَ أنت منصبك؟»

فكَّر براين بعمق. وقال: «في الواقع، لا أذكر شيئًا مهمًّا. فيما عدا ربما عندما تبدأ الأمور في السير بسلاسة شديدة. في الغالب حينها يبدأ بعض الموظفين في الالتفات إلى المشكلات الداخلية. ولكن منذ الأزمة الشديدة التي تعرَّض لها المصنع ونحن نعمل معًا بروح تعاون رائعة.»

شكر جود براين بشدة على وقته ومجهوده واتَّجه نحو الباب مسرعًا ليغادر.

فاستوقفه براين وسأله: «إذًا أنت تعتقد أن هذه الأزمة كان لها دورٌ في خلق بيئة العمل النقية التي نعمل في ظلها هنا؟»

فابتسم جود. وقال: «سأخبرك بكل شيء فيما بعدُ.»

(١٤) خُطة العمل

كان جود يدرك جيدًا أن الأسبوعين التاليَين سيحدِّدان مصيرَ مهنته مستشارًا. وفي هذه الأثناء، سيحاول أن يركِّز على كلِّ ما رواه له براين، ويحاول تحليله بدقةٍ لكي يتوصل من خلاله إلى حلٍّ فعَّال، وبعد ذلك سيحاول التخطيطَ لجلسة عمل ناجحة في مستشفى الأطفال. وإذا سار الأمر على ما يرام، فسيعود إلى فندق ماديسون ليحاول مرةً أخرى، ثم يجهِّز نفسه لمقابلة كارتر بِل في شركة باتش.

لقد كانت هذه هي خُطة جود على أي حال. ولكنه كلَّ يوم كان يزداد علمًا بأن الأمور لا تسير دائمًا وفقًا للخطة المرسومة.

(١٥) نداء الفرصة

بمجرد أن أوقف جود سيارته في مرأب السيارات بالمستشفى للقيام بزيارته المسائية لطفلتيه، انطلق رنينُ هاتفه. وعلى الفور عرفَ كودَ المنطقة والرقم وأدرك أنها شركة باتش.

وقد كان الاتصال بالفعل من مساعِدة كارتر بِل.

«مرحبًا يا جود، أنا أتصل بالنيابة عن كارتر. لقد تغيَّرت خطة رحلة كارتر، ولذا لن يستطيع مقابلتك الأسبوع القادم.»

وقبل أن يشعر جود بالإحباط الشديد استكملت المساعِدة قائلة: «ولكنه يستطيع مقابلتك غدًا في التاسعة صباحًا.»

ودون أن يمنح جود نفسَه فرصة للتفكير فيما يقول، رد يقول: «عظيم.»

«حسنًا، سننتظرك في التاسعة غدًا.» وأنهى الطرفان المكالمة.

وقبل أن يدرك جود ما حدَث بالفعل، وجد نفسه يواجه مشكلةً عويصة تحتاج إلى حلٍّ، فهو لم يبدأ بعدُ الدراسةَ التحليلية التي كان يعتزم إجراءها. وتساءل في نفسه ماذا سيفعل بعد هذا التغيير الشامل في الخُطط؟

(١٦) التقدُّم للأمام

عندما جلس جود بجوار زوجته ليراقبا طفلتيهما، أخذ يشرح لها ما جرى بينه وبين مساعِدة كارتر أثناء مكالمتهما الهاتفية.

وكالعادة، أخذت تريزا تعمل على تهدئة زوجها وبثِّ الطمأنينة في نفسه. فقالت: «لم يكن بإمكانك بالطبع رفضُ تغيير الموعد وتعجيله إلى الغد. وإلا مَن كان يدري كم من الوقت ستحتاج إليه لكي تتمكن من العودة وترتيب موعد آخر مع كارتر.»

وافق جود على كلام زوجته وحاول أن يركِّز تفكيره على طفلتيه وأن يتوقَّف عن التفكير في العمل. وقد كان للزيارات التي يقوم بها جود للمستشفى تأثيرٌ مزدوجٌ عليه.

فمن ناحية، كانت تعمل على تهدئته ومساعدته على وضعِ مشكلات الحياة في إطارها الحقيقي المحدود، وإدراك أن مشكلات العمل ليست بهذه الأهمية الشديدة. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت هذه الزيارات تذكِّره بمسئولياته المالية تجاه أسرته. وكالعادة ألغى كلٌّ من العاملَين تأثير الآخر، وتركاه يعود إلى المنزل وهو لا يشعر بأي تغيير في مشاعره أو الضغط الواقع عليه.

وحتى منتصف الليل، كان جود ما زال يحاول تحديدَ ما سيقوله غدًا في اجتماعه في شركة باتش، وفي قرابة الخامسة صباحًا، رأى جود أنَّ ما يعانيه الآن إما أن يكون طبيعيًّا نتيجةً لجميع الظروف التي مرَّ بها، أو أنه فَقَدَ قدرتَه على تقدير قيمة وكفاءةِ ما يفعله. وأيًّا كان السبب، فقد كان عليه أن يتجاهله ويحاول السيطرة على أعصابه، وترتيب أفكاره حتى يأخذ حمَّامًا سريعًا ويذهب إلى المستشفى ثم إلى مكتب كارتر في تمام التاسعة.

ومع أنه كان متعبًا للغاية وغيرَ واثق تمامًا مما سيقوم به في الاجتماع، فقد كان يحاول مواساةَ نفسه بأنه يعرف طبيعةَ عمل كارتر جيدًا وطبيعة شركة باتش من الداخل. ولكن ما لم يكن يعرفه هو أن هذين الأمرين فقط أكثرُ أهميةً بكثير مما يمكن أن يتخيَّله.

(١٧) كارتر

عندما دخل جود إلى شركة باتش للمرة الأولى منذ استقالته، لم يشعر بالمشاعر الغريبة التي توقَّعها. ولكن مع ذلك، فقد كان عائدًا ليقابل المديرَ التنفيذي للشركة. ولسوء الحظ، فقد اختفت النبرة الودودة التي تحدَّث بها كارتر إلى جود في المكالمة الهاتفية بمجرد بدء الاجتماع.

«حسنًا، ما الذي أتيت لتتحدَّث معي بشأنه؟» كانت هذه هي العبارة التي افتتح بها كارتر الاجتماعَ بمجرد أن جلس جود على الكرسي الجلدي المقابل لمكتبه. وقبل أن يجيب جود، استكمل كارتر كلامه. فقال: «فأنا ليس لديَّ سوى خمس عشرة دقيقة قبل الاجتماع التالي.»

بذل جود قصارى جهده لكيلا يُظهِر استياءه من نبرة الصوت التي افتتح كارتر بها المقابلة، أو من الوقت القصير للغاية المتاح أمامه. بل وقرَّر أيضًا أن يتجاوز مشاعر الخوف والقلق بداخله ويدخل إلى صلب الموضوع مباشرةً.

فقال: «إليك العرْضَ الذي جئتُ من أجله. أنا أعتقد أن باتش تعاني مشكلةً كبيرة، هي العزلة والصراعات الداخلية بين الأقسام المختلفة في الشركة، وأن هذه المشكلة تكلِّف الشركة الكثير. وأعتقد أنك لن تتمكَّن من التحكم في زمام الأمور تحكُّمًا كاملًا حتى تتخلص من السياسات التي تسبِّب تلك الحروب الداخلية بين الأقسام. فالموظفون في الشركة يركِّزون بشدةٍ على المشكلات الداخلية ويتجاهلون العملاء، وهذا يمنح الشركات المنافِسةَ فرصةً للتقدم عليكم.»

جاء ردُّ كارتر أسرعَ مما توقَّع جود. فقال: «لقد سئمتُ بشدة من سماع الحديث في هذا الموضوع. فالجميع يعتقد أن …»

كان الإرهاق الشديد الذي يشعر به جود، بالإضافة إلى بعض الشجاعة، هما ما دفعه إلى مقاطعة رئيسه السابق. فقال له: «اسمع، إذا كنت تعتقد أنني أختلق هذا الأمر فما عليك سوى التحدُّث إلى الموظفين العاديِّين وليس المديرين …»

قاطعه كارتر بدوره. وقال: «تختلق الأمر؟ مَن قال إنك تختلق الأمر؟ أنا لا أنكر وجود المشكلة. إنها موجودة في كل مكان هنا.»

شعر جود ببعض الراحة لهذا الاعتراف الصريح، إلا أنه لم يدرِ كيف يعيد توجيهَ أفكاره. ولكن من حسن حظه أن كارتر أكمل كلامه.

قال: «لقد مرَّ ما يقرُب من عام منذ اندماج الشركتين، ولكن ما زال بعض الموظفين يتحدثون عن هاتش سيستمز وبِل تكنولوجي. وفي الواقع، هذا أمرٌ غريب ومزعج، فمع انخفاض أسهم الشركة بهذا القْدر المرعب، كان من المفروض أن يتوقَّف الجميع عن التفكير في الشركتين القديمتين وينتبهوا إلى الشركة الجديدة لكي تحقق النجاح المرجوَّ.»

انتظر جود هذه المرةَ حتى أنهى كارتر حديثه. وقال: «هذا أمرٌ غريب إلى حدٍّ ما بالنسبة لي. فقد كنت أتوقَّع أنه بعد مرور هذه الفترة ستكون مشكلة الشركتين المنفصلتين قد اختفت من الكيان الجديد. وإذا كانت ثمَّة مشكلة، فقد كنت أتوقَّع أنها خلافاتٌ قائمة بين الأقسام في الشركة الجديدة.»

«هل تمزح؟ هل نسيتَ ما حدث عند نشر الإعلان قبل أن تترك الشركة؟ إن الموظفين ما زالوا يشتكون من أني لا أسند مناصبَ ومسئوليات كبيرة لموظفي شركة هاتش السابقين، ونفس الشيء بالنسبة لموظفي شركة بِل.»

بدأ جود عند هذه النقطة يشعر وكأن كارتر يتحدَّث إليه بصفة شخصية أو يفضي إليه بسرٍّ؛ لذا فقد تشجَّع قليلًا وقال: «هل تعني أن هذه المشكلة موجودة أيضًا بين أعضاء الفريق الذي يعمل معك شخصيًّا؟»

بعد لحظة من الصمت أومأ كارتر برأسه إيجابًا. وقال: «نعم. ولهذا السبب فقد استبدلت نصفهم تقريبًا في الأشهر الثلاثة الماضية.»

كان هذا الخبر بمثابة مفاجأة بالنسبة لجود الذي كان يجد متابعةَ أي أخبار عن الشركة أمرًا صعبًا بعد أن فقد الأمل في أن تعود إلى سابق عهدها.

فسأل جود محاولًا ألا يظهر له أن هذه هي المرة الأولى التي يعرف فيها بهذا الأمر: «وهل نجح الأمر بعد ذلك؟»

فكَّر كارتر قليلًا قبل أن يجيب. ثم قال: «لقد عيَّنتُ بالطبع الأشخاصَ المناسبين. وخفَّضتُ مؤخرًا عددَ أعضاء المجلس التنفيذي إلى عدد يسهُل التحكم فيه.»

«وكيف يُعامِل الفريق الجديد بعضه بعضًا؟»

«حسنًا، لقد استعنَّا بخبير في بناء فِرق العمل، لمساعدتنا في التعامل مع الأمور كفريق متعاون.»

«وكيف سارت الأمور؟» ألقى جود هذا السؤال وهو يتوقَّع أخبارًا سيئة.

«لقد كان هذا الشخص رائعًا حقًّا. أو على الأقل هذا ما رأيته فيه. شعرت أننا قد أحرزنا تقدمًا هائلًا، وشعر الجميع بذلك أيضًا. فلم يشتكِ أيُّ شخص من هذا الأمر على الإطلاق، وأكاد أقسم أننا نعمل بروح الفريق المتماسك مثل أي فريق عمل آخر عمِلت معه. فلم يَعُد هناك أيٌّ من ذلك الهراء العدواني الذي كان يؤثِّر بالسلب على الشركة، وتقريبًا لم يَعُد هناك أيٌّ من شائعات القنوات الخلفية التي من المؤكَّد أنك تعاملت معها قبل أن تترك الشركة؟»

«أين المشكلة إذًا؟»

هزَّ كارتر كتفيه. وقال: «لا أدري. على الرغم من التحسُّن الذي حقَّقناه في تكوين روح الفريق، ما زالت الأقسام بمَعزِل بعضها عن بعض، وما زالت هناك صراعات داخلية. وما زال الموظفون في قسم التسويق يشتكون من القسم الهندسي، وما زال قسم المبيعات يرى أن قسم التسويق لا يقوم بعمله كما ينبغي للترويج للمنتجات. وهكذا فالجميع يشتكي من الجميع.»

«وهل أنت واثقٌ من أن أعضاء المجلس الذي ترأسه قد تخلَّصوا من هذه المشكلة بالفعل، أم إنهم فقط بارعون في إخفاء الأمر عليك؟»

فكَّر كارتر في الأمر قليلًا ثم أومأ برأسه مؤكدًا. وقال: «نعم، إن هؤلاء الأشخاص لا يحمل بعضهم لبعض ضغائنَ، ويحبُّون التعامل معًا حقًّا. فأنا ماهر في اكتشاف مثل هذه الأمور. إن الأمر في المجلس اختلف الآن عن ذي قبل. إنهم يريدون حقًّا أن ينجحوا، ولا يهتمون لمن يُنسب الفضل في هذا النجاح.»

سأل جود وكأنه يريد الاطمئنان: «هل أنت واثق من هذا؟»

«نعم أنا واثق من هذا. لماذا؟ ألا تصدِّقني؟» سأله كارتر بشيء من العصبية، وكأن الإلحاح على هذه النقطة قد استفزه.

ولم يشأ جود بالطبع أن يخسره. فقال بسرعة: «بلى، أصدِّقك بالطبع. لا أقصد هذا. فأنا أعتقد أنك على دراية كافية بما يحدث هنا. كلُّ ما في الأمر أنه إذا كان ما تقوله صحيحًا، فأعتقد أنني أعرف كيف يمكنني مساعدتك.»

تحوَّل انتباه كارتر الآن من التركيز على مشكلته الخاصة إلى التركيز على تقييم المستشار الذي يجلس أمامه.

استطرد جود وموجةٌ من الثقة تتدفَّق إلى عروقه، وتختلط مع مشاعر اليأس المتأجِّجة في داخله. وقال: «في الواقع، أنا واثقٌ من قدرتي على مساعدتك في حل هذه المشكلة.»

شعر جود بأن كارتر يصدِّقه ويقدِّر أسلوبه المباشر الصريح. وشعر أيضًا أنه قد انتهى مما جاء من أجله وطرح عرضه للدراسة، وكان مستعدًّا مع كلِّ ما يشعر به من تعب وإرهاق أن يغادر الشركة. بل وأخذ يفكر أيضًا أنه في خلال دقائقَ معدودة سيخرج من هذه الغرفة وقد فاز بعميل آخر.

ولكن قطعَ رنين الهاتف أفكاره. والتقط كارتر السماعةَ وقضى الدقيقتين التاليتين مستغرِقًا في المكالمة الهاتفية. وعندما أعاد السماعة إلى مكانها التفتَ إلى جود. وقال: «حسنًا، لقد حان موعد الاجتماع التالي. ما جدولُ مواعيدك اليوم؟»

اندهش جود من السؤال. ولكنه أجاب: «حسنًا، في الظهيرة لديَّ موعدٌ في …»

فقاطعه الآخر. وقال: «إذًا ليس لديك أيُّ ارتباطات حتى الظهيرة؟»

هزَّ جود رأسه نفيًا.

فقال كارتر: «عظيم. تعالَ معي.»

وقبل أن يدرك جود ماذا يحدُث، وجد نفسه يتبع كارتر بِل عبر الرواق إلى غرفة الاجتماعات، حيث ينتظر مجلس الإدارة. كان عدد أفراد المجلس سبعة فقط، منهم ثلاثة أفراد لم يرَهم جود من قبل.

ورغم أنه حاول أن يَظهر واثقًا من نفسه قدْر الإمكان، خاصةً أنه لم ينَم لفترة طويلة، فإنه لم يستطِع التوقف عن التفكير في الورطة التي أوقع نفسَه فيها.

(١٨) الاختبار المفاجئ

لم يُضِع كارتر وقتًا. وطرح الأمرَ على أعضاء مجلس الإدارة فور بدء الاجتماع قائلًا: «مرحبًا بكم جميعًا. أعلم جيدًا أننا من المفترض أن نناقش اليوم بعضَ الأمور المتعلقة بالميزانية، ولكني سأجري تغييرًا بسيطًا للخطط.»

ثم التفَت إلى جود الذي كان يجلس الآن إلى الطرف الآخر من مائدة الاجتماعات بالقرب من لوحة العرض البيضاء. وأكمل: «أعتقد أنكم جميعًا تتذكَّرون جود كازينز الذي كان مسئولًا عن الدعاية والإعلان والبرامج الأخرى المرتبِطة بهما في الشركة، حين كان زاكري رئيسًا للتسويق. وهو هنا لقضاء بعض الوقت معنا لمساعدتنا في إيجاد وسيلة للتخلُّص من مشكلة العزلة والصراعات الداخلية بين الأقسام، والتي ظلَّت تؤرقني بشدة طوال الأشهر الستة الماضية.»

كان رئيس الإدارة المالية هو أوَّل مَن تحدَّث. فقال: «هل يعني هذا أننا لن نناقش الأمور المتعلِّقة بالميزانية اليوم، فقد قضى موظفيَّ اللياليَ الثلاث الماضية يعملون بجدٍّ من أجل …»

قاطعه كارتر. وقال: «حقيقةً يا دان لا أدري ما إذا كنا سنتمكَّن من مناقشة الأمور المتعلِّقة بالميزانية اليوم أم لا. ومن فضلك لا تُسِئ فهْمي، ولكن سيكون من الأفضل لو توقَّفت عن الإشارة إليهم على أنهم موظفوك.» ثم التفَت إلى أحد المديرين التنفيذيين الآخرين. وقال: «أو موظفوك. أو موظفو أيٍّ منكم.»

شعر الجميع بذهول شديد من التأنيب الصريح — وإن كان بأسلوب مهذَّب — الذي افتتح به رئيسهم الجلسة، فلم ينطق أيٌّ منهم بشيء للدفاع عن نفسه أمام كارتر الذي استكمل تأنيبه. وقال: «ما أعنيه هو أن هؤلاء ليسوا موظفيكم بل موظفو الشركة، وهدفهم الأول هو خدمة الشركة، ويجب أن يتوقَّف كلٌّ منكم عن التفكير في القسم الذي يرأسه فقط، وكأنه عالمه الخاص، والتفكير في أي من الأقسام يحصُل على ميزانيةٍ أكبرَ وبه عدد أكبر من الموظفين ثم …»

لم يعرف كارتر كيف يُنهي جملته. فالتفت مرة أخرى إلى دان وقال: «ثم ما الفائدة من مناقشة الميزانية إذا كان كل شخص منكم يسعى فقط لأن يكسب أكثرَ المميزات للقسم الخاص به متجاهلًا مصلحةَ الشركة؟ إن جود على حقٍّ فيما قاله عن هذه الشركة.»

أراد جود أن يوقف سيلَ الاتهامات الذي أمطر به الرئيس التنفيذي رءوسَ أعضاء مجلس إدارته، ولكن كان الأوان قد فات.

فقد استكمل الرئيس تأنيبه قائلًا: «إننا لن نناقش هذا الأمر ما دام أن الوضع ما زال على ما هو عليه. وأريد أن أخبركم بشيء آخر: إنه ليس خطأ موظفينا. إنه خطؤنا نحن.»

رفع رئيس قسم المبيعات يدَه لكي يتحدث، وقد كان جود يعرفه جيدًا منذ أن كان يعمل في باتش، ولكنه لم ينتظر أن يسمح له كارتر بالحديث. وابتسم موجِّهًا حديثه إلى جود بقليل من الدهشة وسأله: «هل أنت مَن قال هذا؟»

وقبل أن يجيبه جود جاء الرد من كارتر. فقال: «بل أنا مَن يقول هذا الكلام.» فالتفت إليه رئيس المبيعات. وقال مدافعًا: «مهلًا يا كارتر. لقد قطعنا شوطًا كبيرًا في التعامل مع هذا الأمر بالفعل خلال الشهور القليلة الماضية. وأعتقد بصدقٍ أننا قد تخلَّصنا من هذه المشكلة، ومن الأسباب التي تدعو الموظفين إلى اتهام بعضهم بعضًا، واستخدام الطرق الملتوية والقنوات الخلفية في التعامل مع الأقسام الأخرى.»

أومأ واحد أو اثنان من المسئولين الآخرين الحاضرين موافقين على هذا الرأي.

وهنا تحدَّث رئيس قسم الهندسة. وقال: «إذا كان الأمر هكذا، فلماذا إذًا لا تتقدَّم الشركة. ولماذا ما زال الموظفون في الشركة لا يستطيعون التعامل جيدًا بعضهم مع بعض؟»

رفع كارتر يدَه منهيًا هذه المناقشة. وقال: «وهذا سيكون محورَ اجتماع اليوم.»

ساد الغرفةَ صمتٌ مطبِق بعد هذه الجملة. ونظر كارتر نحو جود وعاد ليجلس في مكانه. وتحوَّل انتباه الجميع إلى الموظف السابق في قسم التسويق بالشركة.

(١٩) العاطفة العمياء

وقف جود واتَّجه نحو لوحة العرض البيضاء وهو لا يعرف بالضبط كيف سيبدأ. ثم قرَّر فجأة أن يبدأ بطرح سؤال على الحاضرين.

فقال: «هل عمل أحدكم فيما مضى في شركة في وقتٍ كانت تتعرض فيه لأزمة طاحنة؟»

بعد هنيهة من الصمت الحائر، تحدَّث رئيس قسم المبيعات وهو يبتسم. فقال: «أعتقد أن هذا هو وضعنا الحالي هنا.»

ضحِك جميع مَن في الغرفة بمرارة فيما عدا كارتر.

فواصل جود حديثَه. وقال: «لا، ما أعنيه هو أزمةٌ حقيقية. أزمةٌ كان الوضع فيها متأزمًا للغاية. ذلك النوع من الأزمات الذي نقول فيه إن «السفينة على وشْك أن تغرَق.»»

مرَّت دقيقة أخرى من الصمت قطَعه رئيس الإدارة المالية. فقال: «لقد عمِلت من قبل في مؤسسةٍ ما وتعرَّضنا لموقف كان الجميع فيه على يقينٍ من أن السفينة على وشْك أن تغرَق.»

استحثَّه جود على الكلام أكثرَ. فسأله: «وماذا كان هذا الموقف؟»

فأجاب رئيس الإدارة المالية بوجهٍ لا يحمل أيَّ تعبيرات. وقال: «لقد كنت في البحرية الأمريكية في فيتنام. واصطدم قاربنا بلَغْم مائي صغير وكان على شفا الغرق.»

انفجر الجميع بالضحك مرةً أخرى. حتى إن كارتر نفسه ضحِك.

وضحِك جود معهم ولكنه واصل حثَّهم على الحديث. وقال: «حسنًا، ماذا عن موقفٍ يرتبط بعالم الأعمال.»

خفَّت حدةُ التوتر الذي كان يسود الغرفة، فتشجع الجميع للمشاركة في الحوار.

رفع رئيس قسم المبيعات يدَه ليتكلم. وقال: «منذ عدة سنوات، كنت أعمل في مصنع لتصنيع أجهزة المطابخ في الغرب الأوسط. وكنا نبيع أطنانًا من الأفران والمواقد. ثم تغيَّرت سياسة التجارة وبدأ المصنِّعون الأجانب الذين يستخدمون عمالةً رخيصة يطرحون منتجاتهم الأرخص ثمنًا في الأسواق، وتقلَّصت مبيعات المصنع تقلُّصًا رهيبًا.»

«حسنًا. وماذا فعلتم؟»

«في البداية، شعرنا بالاستياء الشديد والغضب لِما وصل إليه حال المصنع، ثم بدأت المناقشات حول تخفيض تكلفة الإنتاج. ولكننا سرعان ما اكتشفنا أننا لن نستطيع المنافسة على الأسعار.»

شعر جود بأن أعضاء المجلس الآخرين مهتمُّون بالفعل بهذه القصة ويشعرون بالفضول لمعرفةِ ما حدث. فلم يشأ أن يخسر هذه الفرصة فاستحثَّ رئيس المبيعات على استكمال قصته. وقال: «استمِرَّ من فضلك.»

«قررنا بعد ذلك تحديثَ آليات العمل في المصنع وتوجيهها لتصنيع منتجاتٍ قادرة على المنافسة في أسواق المنتجات الباهظة الثمن من الطراز الرفيع، وذلك للحفاظ على هامش الربح الخاص بنا. وكان علينا القيامُ بذلك في أقل من سنة وإلا فسينتهي أمرُ المصنع وأمرُنا معه.»

«ثم؟»

«أعتقد أننا نجحنا في هذا، أليس لدى بعضكم على الأقل موقدٌ أو فرنٌ يحمل شعار شركة ديويت في منازلكم الآن؟»

أومأ معظم المجتمعين بالإيجاب وهم مبهورون بصلتهم الشخصية بهذه القصة.

في حين استكمل هو قائلًا: «لقد نجحنا في إعادة الشركة إلى وضعها في ستة أشهر.»

وعند هذه النقطة كان جود جاهزًا لتولي زمام الأمور بعد أن أحسَّ ببعض الطمأنينة تتسلل إلى نفسه. فقال: «لماذا في رأيك نجحتم في هذا؟ أعني أن معظم الشركات التي أعرفها لا تستطيع استعادةَ مكانتها في السوق في ست سنوات وليس ستة أشهر.»

فأجابه مدير المبيعات على الفور ودون تردُّد. قال: «لم يكن أمامنا خيار آخر.»

«بالضبط.» أجابه جود بحرارة وحماس. ثم استكمل: «فقد كان المصنع في أزمة. وكان لا بد من أن يعمل الجميع معًا لأنهم في القارب نفسِه وإلا سيغرق بهم جميعًا. فالتعرُّض لمثل هذه الأزمات هو حقًّا الذي يُخرِج أفضلَ ما في الشركات.»

وهنا تدخَّل رئيس الإدارة المالية. وقال: «هذا صحيح. عندما أنظر إلى الماضي الآن وأتذكَّر مسيرتي المهنية أجدُ أن أفضل الأعمال التي قمنا بها كانت عند التعرُّض لموقفٍ عصيب حيث لا يكون لدينا خيارٌ آخر سوى الوصول إلى تلك النتيجة.»

وعند هذه النقطة تدخَّل كارتر وطرح سؤالًا. «إذًا فأنت تقترح أن نخلق أزمةً حتى نجعل الموظفين يتعاونون معًا؟»

صمت جود قليلًا وكأنه يفكر في السؤال. ثم قال: «حسنًا، لو أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للتخلُّص من هذه العزلة والصراعات الداخلية وتحسين بيئة العمل، فالإجابة هي نعم.»

فوجئ جميع الحاضرين بهذه الإجابة وشعر جود أنه يفقد ثقتَهم بعد أن كسب تأييدهم المبدئي لنظريته. وكان هذا ما يريده بالضبط.

فأضاف بسرعة: «ولكني لا أعتقد أن هذه هي الطريقة المثلى للقيام بهذا الأمر.»

تنفَّس كارتر الصُّعَداء بعد هذه الإضافة.

في حين واصل جود كلامه. وقال: «أعتقد أن أيَّ شركة يجب أن تجد وسيلةً لحثِّ جميع الموظفين على العمل معًا، وجمْعهم حول هدف رئيسي يسعى إليه الجميع قبل التعرُّض لأزمةٍ ما.»

عاد الجميع ينتبه إليه مرةً أخرى، وكان على وشْك أن يواصل كلامه. إلى أن تحدَّثت المستشارة القانونية للشركة. «ولكن في بعض الأحيان لا يؤدي التعرض للأزمات إلى هذه النهاية السعيدة. فقد تفشل محاولات إنقاذ المركب فتغرق بالفعل. وقد عمِلت في شركتين بالفعل من قبلُ حيث أدَّى التعرُّض للأزمات إلى تدمير المكان والعلاقة بين الموظفين.»

بدأ جود يشعر وكأنه في مباراةِ ملاكمة حيث فاجأه خَصمه بضربةٍ بعد أن كاد يسقطه هو بالضربة القاضية. فتوقَّف وحاول جمْع أفكاره لبعض الوقت.

ثم طرأت الفكرة على ذهنه. فقال: «هذا صحيح. فإن التعرُّض للأزمات ينتج عنه إحدى نتيجتين تتساوى احتمالات وقوع أيٍّ منهما؛ فقد تدمِّر هذه الأزمات المؤسسةَ بالكامل وتزيد أيضًا من العزلة والصراعات الداخلية بين الأقسام، أو تقضي على هذه المشكلات والانقسامات وتجمع الموظفين على هدفٍ واحد. ويعتمد هذا الأمر على ما يفعله المسئولون التنفيذيون للمؤسَّسة في هذا الموقف.»

«ماذا يعني ذلك؟» أراد كارتر أن يعرف حقًّا.

فاستدار جود إلى مدير المبيعات. وقال: «ماذا فعلتم في مصنع أجهزة المطابخ يا سيدي؟»

«ماذا تعني؟»

«أعني كيف نجحتم في جمْع الموظفين حول هدفٍ واحد وتوصَّلتم إلى الهدف الذي سعيتم إليه؟» طرح جود هذا السؤال وهو لا يكاد يصدِّق أنه يقف الآن في اجتماع مجلس إدارة شركته القديمة يستجوب واحدًا من المديرين التنفيذيين تسبَّب في أن يقدم استقالته منذ ثمانية أشهر. وقال في نفسه: «يا له من موقفٍ مختلف عندما تتحدَّث إليهم بينما لا تقع تحت قيادتهم.»

أخذ مدير المبيعات يفكِّر بالأمر قليلًا. ثم قال: «لا أدري حقًّا. فقد قمنا بالكثير من الأشياء.»

تحلَّى جود بالصبر قليلًا. وجعل سؤاله أكثرَ تحديدًا: «نعم، ولكن ماذا كانت أهم وأبرز هذه الأشياء؟»

استغرق مدير المبيعات في التفكير ثلاث ثوانٍ بدَت طويلة للغاية ثم بدأ الحديث. وقال: «أعتقد أن الشيء الأول الذي تحدَّثنا عنه كان إعادةَ تصميم المنتجات من حيث الشكل وأنظمة التشغيل الخاصة بها. كما كان علينا أن نغيِّر علامتنا التجارية لنعكس السوقَ الجديدة التي كنا نسعى للمنافسة فيها. وغيَّرنا شعارَ الشركة، ونظام الضمان، ومن ثمَّ غيَّرنا نظامَ الدعاية والإعلان.»

كان جود يحاول الاستفادة لأقصى حد ممكن مما يقوله مدير المبيعات. فاتجه إلى لوحة العرض البيضاء وأخذ يدوِّن عليها: «إعادة تصميم المنتج» و«تغيير العلامة التجارية للشركة.»

كما كان يحثُّه برفق على الاستمرار في الحديث قائلًا: «استمِرَّ.»

استأنف الآخر شرْح خُطة العمل التي نفَّذوها قائلًا: «وكان علينا أيضًا أن نعيد تسعير المنتجات المختلفة. ثم نقوم بحملات ضخمة للاتفاق على سياسة التسويق مع موزعينا وتجار الجملة الذين سيمثلوننا في الأسواق. وقد كان هذا عملًا ضخمًا لنقوم به.»

كان جود يدوِّن على لوحة العرض: «إعادة تسعير المنتجات»، «الاتفاق على سياسة محدَّدة مع الموزعين».

نظر مدير المبيعات إلى لوحة العرض التي دوَّن عليها جود ملاحظاته وأخذ يفكر بعمق في الموقف. ثم قال: «يا إلهي. كان علينا أيضًا أن نعلِّم موظفينا التفكيرَ في عملنا، والحديث عنه بأسلوب مختلف. فقمنا بإعداد برامجَ ضخمة لإعادة تدريب الموظفين.»

دوَّن جود هذه الملاحظة الأخيرة: «برامج إعادة تدريب للموظفين»، وسأله: «هل هناك شيء آخر؟»

«نعم، لقد كان هناك المئات من الأشياء الأخرى التي قمنا بها. ولكن هذه هي أهمُّها وأبرزُها. وأعتقد أن جميع تلك الأشياء الأخرى كانت تصنَّف تحت هذه الفئات التي دوَّنتَها. وفي الواقع، بعد أن ذكَّرتني بهذا الموقف، أذكر أننا كان لدينا قائمة تشبه تلك التي دوَّنتها بنفسك، وكنا نستخدمها جدولَ أعمالٍ في كل اجتماع لنا لفترة تصل إلى عام كامل. وأعتقد أنها كانت تحتوي على ثماني أو تسع فئات، ولكني لا أستطيع تذكُّرها جميعًا الآن.»

بدأ الحماس يتدفَّق في عروق جود الآن. وشعر أنه يقترب أكثرَ وأكثر من هدفه. فسأل جميع الحاضرين بنبرةٍ خرجت أعلى مما أرادها: «ما رأيكم في هذا؟ كيف ترون تطبيقَ خطة العمل هذه هنا في باتش؟»

ابتسم كارتر، أو ضحِك تقريبًا، على حماس المستشار الشاب. وسأله متعجبًا عمَّا يعنيه وما علاقةُ باتش بهذا الأمر.

فضحِك الجميع. حتى إن جود نفسه ابتسم، مندهشًا من حماسه الشديد. وقال: «أعتقد أنه لا يوجد ما يمنع وضْع قائمة قصيرة بالأهداف الكبرى التي تعنيكم. تظاهروا أنكم تتعرَّضون لأزمةٍ ما.»

شعر جميع مَن في الغرفة بالحَيرة والارتباك ما بين الشك والرغبة في تجربة الأمر وبين قبولِ ورفضِ ما عرضه جود.

ولكن كارتر أخذ زمامَ المبادرة عندما وقف واتجه إلى اللوحة، وحثَّ جود على تبادل الأماكن معه والجلوس في مكان رئيس مجلس الإدارة، الذي كان المقعد الوحيد الخالي على المائدة.

وقال: «لديَّ فكرة. ما الشعار الذي كان يجتمع حوله جميعُ الموظفين في مصنع ديويت؟» موجِّهًا سؤاله لمدير المبيعات.

فأجاب مدير المبيعات ضاحكًا: «البقاء. البقاء عن طريق استعادة مكانة المصنع.»

كتب كارتر الجملةَ على اللوحة فوق العناصر الخمسة الأخرى. «إذن، فهذا هو تعريفك للبقاء؟» كانت جملةً استفهامية وخبرية في الوقت نفسه.

«نعم.»

«ودُون هذا الشعار، كان من المستحيل أن تعرف العناصر الخمسة الأساسية. هل هذا صحيح؟»

والآن أومأ الجميع موافقين.

«إذن، فما هو شعارنا؟» بعد هنيهةٍ من الصمت، واصل حديثه. «هذا السؤال يحتاج إلى جواب. أريدكم جميعًا أن تفكروا في الإجابة عنه الآن. إذا كان شعار مصنع ديويت هو البقاءَ عن طريق استعادة مكانة المصنع، فما هو الشعار الذي يجب أن نتجمَّع حوله.»

لم يشعر جود في حياته قط بمثل هذه السعادة. فإن هذا لم يكن يعني فقط أن كارتر قد اقتنع بفكرته، بل وكان يساعده أيضًا في اكتشاف علاج المشكلة.

عاد كارتر بعد ذلك إلى مكانه وأعطى القلم الذي كان يستخدمه للكتابة على لوحة العرض إلى جود. وقال له: «عُد أنت لتولي رئاسة الجلسة. فأنا أريد أن أفكر في الأمر بنفسي أيضًا.»

عاد جود إلى مكانه بجوار لوحة العرض، وعاد كارتر إلى مكانه ليشارك معاونيه في البحث عن حل.

وبعد دقيقتين كاملتين، رأى جود أن بعضهم قد انتهى بالفعل من تدوينِ ما يريد، فبدأ الكلام. «حسنًا، ماذا لديكم هنا؟»

كان رئيس الإدارة المالية هو أوَّل مَن أجاب. وقال: «أعتقد أننا بحاجة إلى ترشيد النفقات، والحدِّ من المصروفات الزائدة غير الضرورية.»

دوَّن جود هذا الاقتراحَ على اللوحة، ثم التفت إلى رئيس قسم الهندسة متسائلًا.

فقال رئيس قسم الهندسة: «أعتقد أننا بحاجة للتوقُّف عن تصنيع المنتجات التي لا تدرُّ أرباحًا والتركيز على المنتجات التي نرى أن لها مستقبلًا أفضلَ في الأسواق.»

دوَّن جود هذا الاقتراح أيضًا، ثم التفت إلى رئيس قسم المبيعات. «أريد أن أعرف ما المكانةُ التي من المتوقَّع أن نصل إليها في السوق في الفترة القادمة، وكيف يمكننا بثُّ رسالتنا وأهدافنا إلى المستهلكين بطريقة صحيحة وواضحة.»

كان التالي هو رئيس قسم التسويق. وقال موافقًا: «أنا أؤيدك تمامًا. فتوصيل الرسالة إلى العميل بطريقة صحيحة شيء مهم وخطير.»

وافقت رئيسة خدمة العملاء على رأي زميلها رئيس قسم الهندسة، وأيَّدت فكرة التوقف عن تصنيع المنتجات غير الضرورية، بينما أيَّدت المستشارة القانونية للشركة فكرةَ ترشيد النفقات والحد من المصروفات.

وفي النهاية، أدلى كارتر بدلوه في الأمر. فقال: «أنا أؤيد جميعَ هذه الاقتراحات. وأريد أن أضيف شيئًا آخر يخصُّ الموظفين العاملين بالشركة. أعتقد أن هناك بعضَ المناصب الأساسية تحتاج إلى تعيين أشخاص مناسبين بها، كما أن لدينا بعضَ الموظفين الذين لا يتفق أداؤهم مع المستوى الذي تتطلبه الشركة، أو لا تتفق ثقافتهم وأفكارهم مع المناصب التي يشغَلونها.»

بعد أن انتهى جود من تدوينِ ما قاله كارتر نظر إليه فوجده يقطِّب ما بين حاجبيه. فسأله: «ما الخَطْب؟»

فوجئ كارتر بالسؤال. فقال: «ماذا تعني؟»

فأجابه جود قائلًا: «إنك تبدو متجهمًا.»

ابتسم كارتر وهو لا يدرك أن تعبيرات وجهه تُفصح عن مكنون صدره. فقال: «لا أدري. ولكن كنت أتمنى أن يكون هناك هدفٌ واضح ورئيسي نجتمع حوله.»

بدأ الجميع ينظرون إلى لوحة العرض البيضاء.

ثم نظر جود إليها. لقد كانت الأفكار التي اقترحها المسئولون هي المقوِّمات الأساسية التي ستساعدهم على تحقيق الهدف الذي ستسعى إليه الشركة. أما الهدف نفسُه الذي سيجتمع الموظفون على تحقيقه فقد كان شيئًا مختلفًا تمامًا.

قال جود بهدوء: «أعتقد أنني أفهم جيدًا ما تعنيه.» ثم اتجه نحو لوحة العرض وبدأ في رسم مربَّع فوق الإجابات التي سجَّلها هناك. وقال: «إن ما ذكرتموه هي العناصر الأساسية التي ستساعدنا على تحقيق الهدف. أما الهدف والشعار الذي سنسعى لتحقيقه فسيكون شيئًا كهذا.»

ثم كتب العبارة التالية داخل المربع: «استكمالُ عملية الدمج وإطلاق الشركة الجديدة.»

تراجع جود بعد أن كتب هذه العبارة وانتظر ردَّ فعل المجتمعين. وقد جاء ردُّ الفعل الأول من رئيس الإدارة المالية. قال الرجل: «نعم، أعتقد أن هذا هو الهدف المناسب.»

لم يعبِّر أحد آخر عن رأيه لعدة ثوانٍ أخرى بدَت طويلة للغاية بالنسبة لجود.

بعد ذلك قال كارتر: «نعم. أعتقد بالفعل أن هذا ما يجب علينا أن نفعله.»

بدأ الجميع يؤيدون هذه الفكرةَ أيضًا وشعر جود بأنهم لم يكونوا يوافقون فقط لمجرد أن رئيسهم قد وافق عليها، ولكن لأنهم يؤمنون أنها هي بالضبط ما كانوا يبحثون عنه.

ثم رفع رئيس الإدارة المالية يدَه. وقال: «ما الإطار الزمني الذي نتحدث عنه هنا؟»

لم يُجِب أحدٌ عن السؤال مباشرة؛ لذا فقد وضَّح سؤاله. وقال: «أعني متى من المتوقَّع أن نكون قد انتهينا من تحقيق هذا الهدف؟»

أجابه جود: «لا أدري» وقد كان بالفعل لا يدري وغير متأكد من الإجابة الصحيحة ومتلهفًا أيضًا لسماعِ ما يفكر به المجتمعون. فقال: «ما الفترة التي ترون أنها مناسبة؟»

فسأله كارتر: «ألا توجد قاعدة عامة لهذا الأمر؟ سَنة على سبيل المثال؟»

قطَّب جود ما بين حاجبيه. وقال: «هذا ما تفعله معظم الشركات. ولكني لا أعتقد أن هناك منطقًا حقيقيًّا يقف وراء تحديد هذه الفترة بالذات فيما عدا الدورةَ المعتادة في التخطيط والجدول المالي.»

وانتظر قليلًا ليرى ما إذا كان لدى أيٍّ منهم رأيٌ مختلف، ثم واصل حديثه. «ما أعنيه هو أن الإطار الزمني في رأيي يعتمد على ما ترونه مناسبًا، وما ترون أنه واقعي وذو معنًى في المجال الذي تعملون به.»

رفعت رئيسة الموارد البشرية يدَها وتحدَّثت للمرة الأولى. قالت: «نعم، في إحدى الشركات الجديدة التي كنت أعمل فيها، كنا ننظر إلى الأمر على أنه يستغرق أسابيعَ أو شهورًا، ولكن عندما عمِلت لفترة في إحدى الجامعات، كانت الفترة دائمًا سنة أو أكثر. فأنت تعلم أن مثل هذه الأمور تتحرك ببطء شديد في الدوائر الأكاديمية. أما بالنسبة لشركتنا هذه فأعتقد أننا سنستغرق فترةً ما بين الفترتين.»

بدا هذا الرأي معقولًا بالنسبة للجميع. لذا فقد عبَّر كارتر عن هذه الأفكار بطرح السؤال مباشرة. «في اعتقادكم كم سيستغرق الأمر بالنسبة لشركتنا؟ ما الفترة التي ستكون مقبولة وفي الوقت نفسه واقعيةً بالنسبة لمجال عملنا؟»

كان مدير المبيعات هو أوَّل مَن تحدَّث. حيث قال: «أعتقد أنه يمكننا القيام بهذا الأمر في شهر واحد. فقد مرَّ أكثرُ من عام على انتهاء عملية الدمج اللعينة تلك.»

ولكن رئيس الإدارة المالية اعترض على ذلك. وقال: «كنت أود أن أوافقك على هذا الرأي، ولكن الحقيقة هي أننا لم نبدأ في التعامل مع بعض جوانب هذا الأمر بعدُ على الإطلاق، كما أنه سيستغرق وقتًا أطول من هذا بكثير. لذا فأنا أرى أن نمنح أنفسنا عامًا كاملًا.»

«عامًا كاملًا؟!» أجاب مدير المبيعات في ذهول.

استمع جود إلى آراء وأفكار المسئولين التنفيذيين في الشركة، وتلقى العديد من الإجابات، يتراوح معظمها ما بين ثلاثة أشهر وستة أشهر. فنظر إلى كارتر. وقال: «حسنًا ليس لدينا إجابة محدَّدة هنا. فماذا تقترح؟»

فكَّر كارتر قليلًا ثم حسم رأيه بسرعة قائلًا: «أعتقد أن خمسة أشهر فترة كافية. فهذا يمنحنا فرصةً حتى نهاية العام. فإذا كانت فترة قصيرة فهذا أفضل لكي نعمل بجِد أكبر.»

وافق المجتمعون على هذا الرأي بإيماءات من رءوسهم.

وتأكَّد جود من أنهم جميعًا يرون هذا الإطارَ الزمني مناسبًا وأنهم قد اقتنعوا بنظريته. وفي هذه اللحظة فقط، شعر بارتياح شديد وذهب عنه إحساسه بالتعب والإرهاق عندما شعر بأنه قد حقَّق النجاح الذي كان يتطلع إليه.

(٢٠) التقييم الموضوعي

مع أن جود كان سعيدًا للغاية بالنجاح الذي حقَّقه عندما اقتنع الفريق التنفيذي للشركة بآرائه التي كوَّنها من وحي اللحظة، فقد قرَّر أنه يجب أن يوطِّد هذا الفكر الجديد أكثرَ لكي يتأكَّد من أنه سينجح.

لذا فقد عاد إلى لوحة العرض البيضاء ومسح كلَّ ما كان مكتوبًا عليها ثم أعاد كتابته بأسلوب أكثرَ وضوحًا وترتيبًا لكي تتضح أبعاد الخُطة بالنسبة لهم:

إكمال عملية الدَّمج وإطلاق الشركة الجديدة

  • التخلُّص من النفقات الزائدة

  • إلغاء المنتجات غير الضرورية والتركيز على المنتجات المربِحة

  • استبدال الموظفين غير الأكفاء وتعيين آخرين مؤهلين في المناصب الأساسية

  • إدخال تحسينات على رسائل التسويق وعروض القيمة

بعد أن انتهى جود من كتابةِ ما يريد قال: «حسنًا، إذا قمنا بترشيد النفقات، وقمنا بتقليل عدد المنتجات التي نعمل على تصنيعها، ونجحنا في تحسين الرسالة التي نودُّ توصيلها للمستهلك، وانتهينا من مشكلة تعيين الموظفين المناسبين والتخلُّص من غير المناسبين، فهل سنكون واثقين من أننا انتهينا تمامًا من عملية الدمج وأصبحنا نعمل في شركة واحدة جديدة؟»

في البداية لم يحرِّك أحدٌ من الحاضرين ساكنًا. فقد كانوا، على غرار جود نفسه، ينظرون إلى المخطط الواضح أمامهم ويفكرون بعمق.

أعاد جود السؤال بصيغة أخرى. فقال: «هل ترون أننا قد أغفلنا شيئًا ما؟ بمعنى هل لو نجحنا في الأشهر الخمسة القادمة في تنفيذ هذه الأشياء فحسب، نكون قد نجحنا فيما نسعى إليه؟»

أجاب رئيس الإدارة المالية على الفور. وقال: «بالطبع لا. علينا أن نحدِّد الأرقام المطلوبة.»

وافقه رئيس المبيعات بإيماءة من رأسه. ونظر كارتر إلى جود وكأنه يقول له: «نعم، ماذا عن الأرقام؟»

صُدم جود للحظة. وقبل أن يتمكَّن من الإجابة عن السؤال، تدخلت المستشارة القانونية. وقالت: «نعم، كما يجب علينا التعامل مع القضيتين اللتين تحدثنا عنهما الأسبوع الماضي.»

وأضافت رئيسة الموارد البشرية: «كما أن لدينا تقاريرَ الأداء والتدريب على الأعمال الإدارية.»

شعر جود أن نتائج هذه الجلسة تتحطَّم أمام عينيه. وتساءل كيف أغفلوا جميعَ هذه الأنشطة الحيوية المهمة؟ وحاول بجِد أن يكتشف كيف سيمكنه إدخالُ هذه العناصر الجديدة تحت الهدف الرئيسي الذي حدَّدوه، ولكن باءت محاولاته بالفشل.

ولحسن حظه، أنقذه كارتر من كل هذا. فقد تدخَّل قائلًا: «انتظروا قليلًا. إن ما تتحدثون عنه الآن هو محور عمل كلٍّ منا.»

نظر إليه الجميع بحَيرة فاستكمل حديثه. «إن هذه الأشياء هي أساس عملنا وهي ما سنظل نقوم به طوال الوقت. فسنظل دائمًا نضع الأرقام والميزانيات التي نعمل وفقًا لها، ونتعامل مع القضايا ونضع تقارير الأداء السنوية وبرامج التدريب. وهذا ما تقوم به الأقسام المختلفة في الشركة مثل: الدعاية والحسابات وتطوير المنتجات والموارد البشرية.»

وأخيرًا أدرك جود ما يرمي إليه الرئيس التنفيذي أيضًا. فقال: «إذن فهذه هي المتطلبات المستمرة اللازمة لتشغيل المصنع، وهذا هو ما تقومون به طَوال الوقت. أما هذه العناصر الأخرى، فهي مقصورة على فترة الأشهر الخمسة التي حدَّدناها فقط؛ لأنه بعد هذه الفترة إما أن ينتهيَ العمل بها أو تصبح قياسية وعادية بالنسبة لطبيعة عملكم»، قال ذلك وهو يتحرَّك في اتجاه لوحة العرض ويشير إلى المكتوب عليها.

أضاف كارتر إلى الشرح الذي وضَّحه جود. «وبالطبع، فإننا إذا لم نقُم بهذه الأمور التشغيلية المعتادة فإن شيئًا من العناصر الجديدة التي حدَّدناها لن يجديَ. وأيضًا إذا ركَّزنا جهودنا عليها فقط دون الاهتمام بالعناصر الخمسة فلن نحقق أيَّ تقدم من أي نوع في المؤسَّسة.»

بدأ المسئولون التنفيذيون بالشركة في الاقتناع بالأمر تدريجيًّا واحدًا تلو الآخر. ولكن لم تكن هذه هي نهاية العقبات، فدائمًا ما يكون هناك المزيد.

(٢١) الفريق الأول

بمجرَّد أن بدا أن الفريق التنفيذي للشركة على وشْك الانتهاء من مناقشة النموذج الموضَّح على لوحة العرض وتقبَّله تمامًا كما هو، رفعت المستشارة القانونية يدها. وقالت: «في الواقع ما زلت لا أدري ما دوري في هذه العملية. بمعنى: أين الجزء الذي يخصني ويقع في نطاق مسئولياتي من بين كل هذا؟»

خيَّم صمتٌ على القاعة بينما كان كل شخص يبحث عن إجابة لسؤالها. وأرادت رئيسة الموارد البشرية أن تشعر زميلتها بأن لها دورًا تلعبه في عملية التطوير، وأنها ستشارك في حل مشكلة الشركة. فقالت: «بالطبع إن لكِ دورًا مهمًّا. فسوف نحتاج إلى استشاراتك القانونية فيما يخص توصيل رسائل أفضل لعملاء الشركة عن نشاطها. كما أنني سأحتاج إلى مساعدتك في إنهاء عمل الموظفين الذين سوف تستغني عنهم الشركة.»

كان من الواضح أن هذا الحديث قد نجح في إرضاء المستشارة القانونية نسبيًّا. ولكن كارتر تدخَّل في الكلام. «انتظروا قليلًا. أنا في الواقع لا يروقني سؤالك هذا على الإطلاق.» كانت هناك نبرةُ ضيق في صوته.

فنظر إليه الجميع بحَيرة.

فاستكمل هو قائلًا: «إن الهدف من هذا الاجتماع ليس إيجادَ وسيلة تناسب مجال عمل كلٍّ منَّا. وأنا حقًّا لا أهتم بالأقسام المختلفة التي تعملون بها، ولا بالألقاب التي تحملونها، ولا حتى بنطاق مسئوليات كلٍّ منكم. ما أريده هنا هو أن يركز الجميع على أهم شيء اجتمعنا من أجله، بغضِّ النظر عن القسم الذي يقع هذا الهدف في نطاق مسئولياته.»

ثم نظر إلى المستشارة القانونية. وقال: «وهذا يعني أنني أريدك أنتِ بصفتك عضوًا في هذا الفريق أن تشاركي في الأمر وتكوني مهتمة ومتحمسة لكل شيء يرتبط بالمنتجات والتسويق، مثل اهتمامك بكلِّ ما هو متعلق بالقضايا القانونية. ولهذا استعنتُ بكِ في فريقي. ليس لأنك محامية جيدة ولكن لأن بإمكانك المساهمةَ في العمل الذي يقوم به هذا المجلس.»

تمنى جود في هذه اللحظة لو أنه كان يسجل الجلسة، ولكنه عاد وفكَّر أنه لن ينسى هذا اليوم مهما حدث. ثم فضَّل العودة إلى المشاركة في التوضيح الذي أضافه كارتر.

«كما أن الهدف التالي الذي قد نسعى لتحقيقه بعد تحقيق الهدف الحالي ربما يحتوي على جانب قانوني، ولكن هذا بدوره لا يعني أن أحدًا غيرك في هذه الغرفة لن يكون مشتركًا في تنفيذه.»

فأضاف رئيس قسم الهندسة تعليقًا، وهو نادرًا ما يفعل، ولكنه كان تعليقًا ذكيًّا. «إن الأمر كما لو أننا من المفترض أن نتغاضى عن ألقابنا ومجالات تخصُّصنا عندما نكون معًا، ثم نعود ونرتدي ثيابنا المهنية مرةً أخرى عندما يعود كلٌّ منا إلى القسم الذي يديره.»

أومأ الجميع برأسه متفهمًا القاعدةَ الجديدة.

وأضاف رئيس الإدارة المالية بلهجة مرِحة ضاحكة: «يا للعبقرية، انظروا مَن صاحب هذا الاقتراح العبقري!»

تبادل الجميع الضحكات المرحة، في حين نظر كارتر إلى جود وأومأ برأسه مستحسنًا ما حدَث في هذه الجلسة، ومعبرًا عن رضاه التام عمَّا توصلوا إليه. «هذا رائع.»

لم يشعر جود في حياته بالسعادة لكونه مستشارًا أكثرَ من هذه اللحظة. والآن كلُّ ما عليه القيام به هو إيجاد طريقة لاكتساب المزيد من العملاء للإنفاق على أسرته.

(٢٢) العودة إلى الأرض

بعد الوصول إلى هذه النقطة، قرَّر كارتر أن الوقت قد حان للعودة للعمل وفقًا لجدول الأعمال المعدِّ مسبقًا للجلسة، فشكر جود كثيرًا على مساعدته. وشاركه في هذا المسئولون الآخرون وأثنَوا على جود بعبارات المديح والاستحسان، حتى إن البعض منهم أبدى سعادته لرؤيته مرةً أخرى.

اصطحب كارتر جود حتى الباب وقال له: «سأكون خارج المدينة خمسةَ أيام بدءًا من الغد. وعندما أعود دعنا نتحدَّث عما نحتاج إلى القيام به لتنفيذِ ما توصلنا إليه في جلسة اليوم.»

وافق جود على هذا وودَّعه ثم غادر الشركة. وهو يتمنى أن يستعين به كارتر مستشارًا مقابلَ أجر مادي، وألا يكتفيَ بتنفيذ فكرته فقط دون الاستعانة به هو شخصيًّا. قرر جود بعد ذلك الاستفادةَ من الشعور بالثقة والنجاح الذي يجتاحه في الإعداد لجلسة جيدة وفعَّالة في مستشفى الأطفال في اليوم التالي، بل ومحاولة العودة مرةً أخرى لتطبيق أسلوب آخر في فندق ماديسون.

ولكنه كان يحتاج إلى رؤيةِ طفلتيه أولًا. وبعد أن قضى جود خمسًا وأربعين دقيقة وهو ينظر بإعجاب وحب إلى طفلتيه، أخذ يقص على زوجته أحداثَ يومه الزاخر. فذكَّرته بمبلغ الخمسين دولارًا قيمة الرهان الذي كان بينهما في هذا الشأن. وقالت: «سوف أحصُل على مبلغ الرهان في صورة دعوة عشاء في مطعمٍ راقٍ. ماذا عن مطعم «لارك كريك»؟»

وافق جود على طلبها. وفي أثناء تناولهما العشاء، كان نموُّ الطفلتين ومدى التقدُّم الذي تحرزانه والوقت المتوقَّع لعودتهما إلى المنزل هو محورَ الحديث. ثم لبضع دقائق شجَّعت تريزا زوجها على التركيز على الخطوات القادمة في عمله في شركته.

قال جود إنه يحتاج إلى ثلاثة عملاء على الأقل، يدفعون له بانتظام لكي يستطيع الاستمرار في هذا العمل والاعتماد عليه اعتمادًا كاملًا مصدرًا للدخل. كما أنه إذا استطاع الاشتراك في مشروع من حين لآخر لكي يكون مُكملًا لعمل المكتب، ثم تمكَّن من رفع أتعابه بالتدريج، فستكون الأمور على ما يرام بحلول نهاية العام.

لم تكن تريزا تشعر بالقلق حيال هذا الأمر. ولكن جود عزا هذا إلى تركيزها الكامل على الطفلتين في الوقت الحالي، وإلى تفاؤلها غير المحدود، وإيمانها بقدرات زوجها. ولكن، ولسوء الحظ، لم يكن هو نفسه يملك هذا القدْر من الثقة، وكان يدرك أنه لو لم يقدَّر له النجاح في مستشفى الأطفال، فسيصبح عدد العملاء الذين يدفعون له بانتظام صفرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤