تمهيد
سأحاول في هذه المحاضرات أن ألِمَّ إلمامًا وافيًا بنشأة الصحافة في العراق وتطورها، وما كان لها من الآثار في صفحات الحياة في العراق من سياسةٍ واجتماع وأدب. وبديهي أن نتناول الموضوع من ناحية الاستعراض وسرد الوقائع بما يقتضيه البحث العلمي الصِّرف من حيادٍ ودقة.
وتاريخ الصحافة لكل شعب يمثل جانبًا من حياة ذلك الشعب في الحقبة التي وُجدت فيه صحافته، وتتجلى أهمية هذا التاريخ في واقع الحركة التعليمية في العالم الذي سبقنا في هذا المضمار، حيث وُجدت له صحافة؛ ففي أمريكا مثلًا، وُضعت مادة تاريخ الصحافة في منهج المدارس المعنية بهذه الشئون منذ سنة ١٨٦٩، بينما أخذوا في تدريس الفن الصحفي في عهد متأخر ليس أبعد من سنة ١٩٠٨ عندما أُسِّست أول مدرسة للصحافة في كولومبيا.
وقد تكونت عندي فكرة منذ زمن بعيد، أن تاريخ الصحافة العربية يصور بعض مظاهر اليقظة ودرجات النهوض للعالم العربي.
هذه الحقيقة تنطبق على كل قطر عربي.
ينحصر نطاق بحثنا في محاضرات الفصل الدراسي الحالي في: نشوء الصحافة في العراق بظهور أول جريدة بمعناها الصحفي سنة ١٨٦٩، وننظر بعدها في صحافة العهد العثماني؛ أي قبل أن ينفصل العراق عن تركية، ونحيط بطور الصحافة التي خلقها الجيش البريطاني المحتل، والصحف التي صدرت في ظل حكومة الاحتلال البريطانية.
ونجلو صحافة الثورة العراقية سنة ١٩٢٠.
ثم نأخذ في استعراض حال الصحافة منذ تأسيس مملكة العراق الحديثة سنة ١٩٢١، ولا سيما صحف الأحزاب السياسية.
ونلتفت إلى تنوُّع الصحف الأدبية والعلمية وغيرها من المجلات المختصة بالعلوم والفنون وأساليب الكتابة الصحفية ومشاركة المرأة؛ إلى غير ذلك مما يتصل بموضوعنا. ولا بدَّ من أن نصف العمل الصحفي وحالة الصحافة من وجوهها المهنية والمادية وصفًا يوصلنا إلى إدراك المرحلة التي قطعها العراق في هذا الميدان.
كما أننا سنخص حرية الصحافة في وادي الرافدَين ببحث وافٍ. أما الفترة التي نتحدث عنها فتبتدئ بميلاد الصحافة في العراق وتنتهي بنشوب الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩.
كنت أود، عملًا بطريقة التعليم الجامعي، أن أفتتح محاضراتي باستعراض المراجع التي تستقون من ينابيعها متابعتكم هذه الأبحاث. ولكن المؤسف أن الموضوع بِكر فيما يختص بصحافة العراق؛ فلم يتقدم أحد إلى معالجة هذه الناحية من نهضتنا الفكرية معاجلة علمية، والتوفر لدراستها بما تستحقه خطورتها. وغاية ما نجد بين أيدينا بضع مقالات ضئيلة المادة أذيعت في صحف ومجلات في العراق أو الخارج، اكتفى معظمها بسرد أسماء الصحف لبعض الفترات من الزمن، وأسماء أصحابها وهم في الغالب مُحَرِّروها. وقد جمعتْ رسالةٌ طُبعت في بغداد سنة ١٩٣٥ فهارس الصحافة التي ظهرت إلى ذلك اليوم. وكل ما نشر في هذا الباب لم يزد كثيرًا على ما ورد عن العراق في الفهرس العام الذي جعله الفيكونت فيليب دي طرازي المجلد الرابع من كتابه «تاريخ الصحافة العربية» المطبوع سنة ١٩٣٣.
أوائل الصحافة
اعتاد الذين يؤرخون للصحافة عند كل أمة أن يُرجعوا تاريخ الصحافة إلى عهدٍ سحيق جدًّا من العصور القديمة. وإني لأقتصر على الإلمام إلى ما يخص العراق منها.
ولا بدعَ في هذا الرأي؛ فقد حدَّثنا التاريخ بأن الملك حموربي — العربي النجار في مذهب بعض المحققين — كان يذيع أوامر عماله وموظفي مملكته في الأقاليم بأن يحضروا إلى بابل احتفاءً بموسم جز الغنم، وهو من أعيادهم، وصدف في إحدى السنوات أن الشهر القمري لم يوافق الموعد الشمسي المعيَّن لجز الغنم، فأذاع الملك في ممثليه كلهم موعزًا إليهم بأن يسموا الشهر المذكور أيلول الثاني، وهذا نوع من المراسيم الملكية قد نشرت عندئذٍ في لونٍ من «الوقائع العراقية».
وإذا كان عماد العمل الصحفي في هذا العصر الدعاية للسياسات والأفكار والمبادئ، فقد وُجدت في ودائع خزانة الإمبراطور آشور بانيبال في نينوى سجلاتٌ مفصلة ومنسقة بحسب تواريخها وحوادثها، ولا سيما ما اتصل بحروب الملوك وفتوحهم وما شيدوه وعمروه. ويرى المؤرخ بريستد أن معظم تلك الأخبار — كأكثر الأخبار الرسمية — كان يقصد بها إلى نشر دعوةٍ أو ترويج لمبدأ، بحيث يفهم معاصروهم أن ليس هناك قوة تستطيع أن تقارعهم.
وهذا يُقرُّ في أذهاننا أن سكان العراق القدماء كانت لهم صحافتهم على تلك الطريقة. ونجد صحيفة من هذه الصحف الخالدة تحوي جانبًا من «قصة الطوفان» مكتوبة على رَقْمِ الطين المشوي في المتحف البريطاني بلندن. وقد أُخذت من المكتبة الإمبراطورية المشيدة قبل ما يزيد على الألفين والخمسمائة سنة.
ومن أحدث ما كشفت عنه مديرية الآثار في بغداد في أيامنا، وهي تنقِّب في أطلال عقر قوف، رَقْمٌ من الطين المشوي مقسَّم إلى اثني عشر جدولًا يبين أسماء الأشهر البابلية الاثني عشر مبتدئًا بنيسان (أبريل) معرِّفًا كل يوم من حيث السعد والنحس وما يجب على الشعب عمله، وهذا أشبه ما يكون بما تذيعه الصحف في هذه الأعوام من بلاغات وزراء الداخلية في تطبيق القوانين والمراسيم المختصة بالأمن وسلامة الدولة، أو بيانات وزراء الاقتصاد والتموين حول المواد المعاشية وبيعها وشرائها.
وللآشوريين في هذه الصحافة الحجرية أو الطينية سَبْقٌ آخر، فهم أول مَن ابتدع الصحافة المصورة، فكانوا يرقمون حوادث انتصاراتهم وبجانب الرَّقْمِ يصورون بالألوان صور الأسرى من ملوك ورعايا، بينها بعض مشاهد تصوِّر التمثيل بهم، ويعرضونها في قصورهم وأبهائهم العامة وشوارعهم الكبرى، ويلقى المرء نماذج من هذه الرُّقم المصورة في متحفَيْ بغداد ولندن.
وقد اجتازت الصحافة أطوارًا قبل اختراع المطبعة، حيث كانت تُلقى الأخبار والآراء مشافهة ثم طفق أصحابها ينسخون هذه الأحاديث، وهي مرحلة الصحف الخطية في تاريخ الصناعة، وللشعوب العربية ومنها العراق تاريخٌ طويل عريض في الرواية وتناقل الأشعار.
كما أن الصحافة السياسية والمصاولات الحزبية في أنهر الجرائد في هذا العصر قد تجسمت بشكل بارز فيما هدرت به ألسنة الشعراء من المفاخرة والمنابزة والهجاء والمنافحة عن القبائل والأسر، بل هناك من استخدم إنشاد الشعر العربي للإعلان التجاري.
وإذا كانت الصحافة الخطية قد شاعت في إيطاليا في القرن الخامس عشر فصناعة النسخ والوراقة قد ازدهرت كل الازدهار في العصور الوسطى في البصرة والكوفة وبغداد، وتعاطاها نبغاء ذوو مواهب فياضة، أذكر منهم واحدًا هو أبو حيان التوحيدي. وأبو حيان لم يتفوق في نسخ الصحف فحسب، بل يصفه تاريخ الأدب على رأس الكتَّاب في أسلوب ابتكره وهو من صميم الفنون الصحفية؛ فقد تفرد بإبداعه في الصور القلمية للشخصيات التي عرفها وعاشرها، وفي وصف الحلقات والأندية في مجتمعه.
هذا استطراد لا مناص منه عند التطرق إلى الصحافة في التاريخ. وها نحن أولاء ندخل في موضوع الصحافة بمعناها الحديث، والتي عُرفت بعد اختراع المطبعة.
أول جريدة عربية
لهذا تبقى اليد في إنشاء أول جريدة عربية لمحمد علي باشا في إيجاده الوقائع المصرية سنة ١٨٢٨. أما في العراق فالثابت أن الوالي مدحت باشا هو مؤسس أول مطبعة بالحروف في بغداد ومنشئ أول جريدة باسم «الزوراء» سنة ١٨٦٩. وقد ظلَّت الجريدة الرسمية لولاية بغداد إلى يوم احتل الجيش البريطاني بلد الرشيد سنة ١٩١٧ في خلال الحرب العالمية الأولى.
بيد أنه وردت في بعض أسفار رحَّالي الإفرنج ومنهم الإنجليز تلميحات وإشارات إلى أن أول صحيفة ظهرت في بغداد كانت تُعرف باسم «جرنال العراق»، أنشأها داود باشا الكرجي — الوالي الشهير — عندما تسلَّم منصب الولاية سنة ١٨١٦، وكانت تُطبع في مطبعة حجرية وتُنشر في اللغتين العربية والتركية، وتُذاع فيها وقائع القبائل، وأنباء القطر العراقي وأخبار الدولة العثمانية، وقوانين البلاد وأوامر الوالي ونواهيه، والإصلاحات الواجب إجراؤها، وأسماء الموظفين، مع غيرها من الحوادث الخارجية، وكانت تُوزع على قواد الجيش وكبار الموظفين وأعيان المدينة وأشرافها، وتُعلق منها نسخ على جدران دار الإمارة ليطلع عليها من يهمه الوقوف على أخبار الدولة وتقدمها. هذا ما عثرتُ عليه في كتب الرحَّالين، ومنهم غروفس وفريزر وتيلر. وزاد عليهم سجل ألبوت المخطوط وحشر معهم أسفار رتش وبكنكهام وبورتر وروسو.
فإذا صحَّ هذا النبأ الذي يفتقر إلى كثير من التحقيق والبرهنة، يكون العراق قد سبق مصر في تاريخ الصحافة العربية. وإن كان ناقل هذه الرواية لم يُشر إلى مؤلف بالذات واسم كتابه ورقم الصفحة التي ورد فيها هذا الحادث الصحفي.