الصحافة بعد الدستور
ما انبثق نور الدستور في العالم العثماني سنة ١٩٠٨ ورُفع الحجر على الآراء حتى انطلقت الأقلام من عِقالها، وخرج المفكرون إلى ساحة الحرية، وكانت الصحافة من مجالَيْ بروز هذا الانقلاب في حياة الشعب، فأخذت الصحف تكتب ما كان يعز كتابته أو التطرق إليه في العهد البائد، فلبست الصحافة ثوبًا زاهيًا من المقالات الحرة والأقوال الصريحة والأخبار الطريفة؛ فعظُم إقبال القراء عليها، وزاد انتشارها، وأقبل الكتَّاب والساسة ورجال الفكر على إصدار الصحف ولم يكتفوا بالجرائد اليومية أو الأسبوعية، بل أنشئُوا المجلات والنشرات الدورية وسلاسل الكتب التي تفنَّنوا في مضامينها.
وكان نصيب العراق من البلاد العثمانية أن سرَت إليه هذه الموجة، فهبَّ المشتغلون بالسياسة والكتَّابُ لإنشاء الصحف والمجلات يكتبونها باللغتين التركية والعربية، حتى بلغت هذه الصحف في بغداد وحدها في خلال سنتين خمسًا وعشرين جريدة ومجلة، إلا أن صحفنا لم تسلم من الآفات التي بدت أعراضها في الصحف العثمانية قاطبة، فإن ازديادها الفاحش مع نقص الخبرة وإعواز الدُّرْبَة عند محرريها جعلهم يشطون في كتاباتهم، ولا سيما في الجدل السياسي والحزبي، فظهرت في أنهرها مهاترات شخصية يندى لها الجبين، مما جعل الرجعيين يقعون على فريسة باردة فخرجوا من أوجارهم وطفقوا ينددون بحرية الصحافة التي خلعها الدستور على الأقلام غير المدربة والصحافيين الجدد الهوج. وقد بدا رد الفعل واضحًا عندما نظر البرلمان العثماني في ذلك الوقت في قانون المطبوعات، فثارت في وجه الحكومة عاصفة من النقد اللاذع على هذه الحرية المتيسرة الممنوحة للصحافة.
ومن الناحية المادية لم يستطع منشئو الصحف في العراق أن ينهضوا بها على أساس مشروعات اقتصادية، كما هي الحال في الصحف الأوروبية والأمريكية والصحف المصرية في جيلنا؛ لهذا أخفق القسم الأعظم منها ولم يقوَ على الصمود ففارق الحياة من أول الشوط أو بعد خطوات قصار.
أصيبت الصحافة العراقية من مطلع حياتها بالأمراض الوبيلة التي تُصاب بها الصحف في العالم من مخاتلة وكذب وزيغ، إلا أن هاتيك الصحف عند الأقوام تكون أقلِّية لا يُؤْبَهُ بها بجانب الأكثرية الصحفية التي يستقيم سلوكها، فتتفوق الصحف المحترمة المفيدة على صحف المرتزقة التي تعيش طفيلية؛ لهذا لا تجد جريدة عراقية الآن علت بها السن ويرجع ميلادها إلى مطلع تاريخ صحافتنا. كما أن هذه الصحف في ظل العلم العثماني خلقتها ظروف وأوضاع وأغراض خاصة ذهبت بذهابها، وقُضي عليها فور تغيير الحال، فضلًا عن ندرة الصحافيين وحملة الأقلام في ذلك الطور ممن احتسبوا حياتهم للعمل الصحفي وخدمة الشعب بالقلب وما يسطرون من آراء ومبادئ.
جريدة بغداد
إن أول جريدة أهلية أو شعبية عرفتها عاصمتنا سُميت «بغداد» أنشأها فرع «حزب الاتحاد والترقي» العثماني، الذي قام بالانقلاب الدستوري لتكون لسانه، وعهِد بإدارة سياستها إلى رئيس هذا الفرع مراد بك سليمان أخي الفريق محمود شوكت باشا أحد رجال الانقلاب المذكور، صدرت ثلاث مرَّات في الأسبوع باللغتين العربية والتركية، ورأسَ تحرير قسمها العربي معروف الرصافي، وكتب فيها الأدباء البارزون عندئذٍ كالزهاوي وفهمي المدرس ويوسف غنيمة وكاظم الدجيلي، وانبرت تروِّج سياسة الحزب الحاكم، وتبث الأفكار المؤيدة للانقلاب الدستوري.
غير أن جريدة بغداد بعد أن ضعف الحزب الحاكم أخذت بالتضاؤل وتركها محررها العربي، فقرر الحزب إيقافها في سنتها الثانية، مع أنها في ازدهارها كانت من أوسع الصحف انتشارًا، حتى ليذكر أنها ضربت الرقم القياسي في سعة الذيوع عندما وصفت حادثة ٣١ آذار الرجعية المعروفة في إسطنبول، وحركة الإنقاذ التي أعقبتها والتي قضت على الحكم الحميدي، وكان يقود حركة الإنقاذ محمود شوكت باشا. وقد بلغت نسخها المبيعة ذلك اليوم ثلاثة آلاف، بينما لم يكن في تلك الأيام يعلو أكبر عدد لأية جريدة عراقية مقروءة على ألف نسخة، والبقية تنحدر إلى خمسمائة فما دون ذلك.
ثم كثرت الصحف التي وصلت إلى تسع وستين جريدة وعشرين مجلة بين أسبوعية وشهرية، ولم تكن بين الصحف يومية غير جريدة «بغداد» هذه في بعض أشُهرها، وجريدتَي «الزهور» و«صدى الإسلام» في سني الحرب العالمية الأولى. أما البقية فتُنشر في الغالب مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع.
ويظهر أن الحكومة العثمانية بعد أن طغى سيل الصحف لديها ورأت اضطراب حياة أكثرها من الناحيتين المادية والأدبية، وضاقت ذرعًا بالصحفيين الأجرئاء عمدت إلى طريقة لتصفية الصحف، فصدر أمر وزارة الداخلية في الآستانة سنة ١٩١١ بأن الجرائد التي أُخذ امتيازها ولم تُنشر حتى ٥ آذار (مارس) من تلك السنة، أو نُشر بضعة أعداد منها ثم احتجبت إلى هذا التاريخ تُلغى امتيازاتها. وهكذا قضى وزير الداخلية التركي بشطبة قلم على ثماني وثلاثين جريدة، فلم يبقَ في مدينة السلام غير خمس جرائد، بينها «الزوراء» الرسمية ومجلتان.
وقد وجد المفكرون العراقيون ورجال السياسة في الصحافة معوانًا لهم على الدعاية لآرائهم، فكانت صحفهم في خلال الحكم العثماني تؤيد السلطة أو تقارعها، وتتحزب لهذا الحزب أو خصمه، ولكن الظاهرة التي تلفت نظر المتفحص وتدلُّ على معانٍ كبيرة أن أغلب صحف العراق في ذلك الزمن كانت معارضة للحزب الحاكم، ولم يقف بجانب هذا الحزب غير جريدتين. أما بقية الصحف في بغداد والبصرة والموصل فكانت تروج لسياسة «حزب الحرية والائتلاف» المعارض «لحزب الاتحاد والترقي»، أو أن تعبر هذه الصحف عن انتفاض الشعب تحت نَيْرِ الحاكم الغريب ومحاولته الإفلات، وبينها جرائد دعت للفكرة القومية ومهَّدت للنهضة العربية بلسان صريح وإيمان قويم.
ويسجل تاريخ الصحافة في زمن الحكم الغابر مواقف مشهودة في هذا الميدان، كما أن الصراع كان عنيفًا بين بعض الصحافيين والوالي، ومرجع الشكوى وزارة الداخلية في الآستانة، وقد انتصر في بعض الحادثات الصحافي العراقي على الوالي التركي الذي كثيرًا ما تذرع بسلطان دكتاتوري مخيف، كما أن روح التمرد من الظلم ومحاسبة المسئولين تغلغل في الصحف في تلك الحقبة.
ولعل صحف الفكاهة والهزل على قلتها قد قامت بدور أعمق تأثيرًا في هذا المجال، وإن كان النقد الساخر ينقلب عادة — في العراق وفي الشرق العربي عامة — إلى السب والقذف، فتغدو أقلام الكاتبين مقاريض أعراض وأبواق تشنيع، مما أدى في قضايا عديدة بالصحافيين إلى أقفاص الاتهام في المحاكم ودُفع بهم إلى أعمال السجون.
وبديهي عندما نستعرض تاريخ الصحافة في قطر من الأقطار في محاضرات كهذه، لا يمكن أن نسرد أسماء جميع الصحف وأحوالها، ولا سيما إذا كانت الواحدة لا تعيش أكثر من بضعة أعداد أو بضعة أشهر، كما هي حال صحفنا في العهد العثماني، بحيث صارت «اللازمة» لإحدى مجلاتنا العلمية عندما تقرظ جريدة جديدة أن تختم كلمتها بالدعاء لها بالحياة؛ لئلَّا تكون كغيرها تلتمع ولا تلبث أن تختفي بسرعة، فخليق بنا أن نبحث الجرائد ذات الشخصية والأثر في مجتمعها.
جريدة الرقيب
جعلنا خطة «الرقيب» حرة إلى آخر درجة، تذكر المسيء وتقبح فعله مهما كان شريفًا عالمًا فاضلًا غنيًّا، وتذكر المحسن وتقدر إحسانه مهما كان خاملًا فقيرًا بلا فرق بينهما؛ إذ بدون ذلك تذهب مزية المحسن ضحية عدم شهرته وغناه، وذلك مما يخالف العقل؛ لأن الحسنة حسنة وإن كانت من بيت الإحسان فهي الأحسن، والسيئة سيئة وإن كانت من بيت الشرف فهي أسوأ.
عاشت هذه الجريدة ما يزيد على السنتين ولم تقصر همها على السياسة، بل جالت في ميدان الاجتماع جولات، وعالجت مشكلة التربية والتعليم وحثت على التهذيب وترقية الفِكر، وتناولت مسائل لُغوية طريفة في إرجاع أصل الألفاظ والتعابير والأمثال العامية العراقية إلى معانيها وأصولها الفصيحة، ولصاحبها مؤلف مخطوط ثمين في هذا الموضوع استعان في مباحثه بأصول السيد محمد سعيد آل مصطفى الخليل وضعها في هذه المسائل.
ومما انفردت به جريدة «الرقيب» أنها كانت تعلق على كثير من الشئون والقضايا تعليقًا يتضمن رأي الجريدة في الموضوع الذي تعالجه، على خلاف ما كانت تفعله أكثرية الصحف من نقل مقالات الغير وآرائهم. وقد ساعد على قوة الجريدة وعلو شأنها وتأثيرها المركز الذي يتمتع به صاحبها في وطنه من وجاهة وفضل.
وعُني ثنيان بتقصِّي أحوال القطر العراقي بأنحائه؛ فهو ينشر على الدوام رسائل من الأقاليم، وتُسمى عندنا «الألوية»، ببحث شأن كل صقع وفق حاجاته.
وأخذت الرقيب على عاتقها انتقاد الوالي ناظم باشا عندما حظر تقديم العرائض إلى المراجع الحكومية باللغة العربية مريدًا إياها باللغة التركية، مما أساء الرأي العام، فلم يكن من الوالي إلا أن استدعى الصحافي وهدده بأن يقصم ظهره إذا تعرض لانتقاد تصرف الحكومة، فاضطر عبد اللطيف إلى السكوت.
وقد كلفت صاحبَ «الرقيب» جرأتُه ثمنًا غاليًا؛ إذ أصبح بتحريض من السلطة والخصوم عرضة لتهجم ذوي الأقلام المأجورة وصحف المرتزقة مما ولَّد مشادة عنيفة بين الطرفين انجرت إلى أبواب المحاكم، واتخذها بعض من لا ضمير لهم أساليب دنيئة في مقاومة الرجل ومضايقته، ولكنه لم يبالِ بهذه التضحيات وظلَّ مواصلًا نهجه حتى اضطر إلى تعطيل جريدته، واستطاع أن يفلت من يد خصمه الوالي، فقصد إلى الشام فمصر وتوجه منها إلى الآستانة، وبقي هناك إلى حين عُزل الوالي من منصبه.
جريدة بين النهرَيْن
ومن الصحف البارزة جريدة «بين النهرَيْن» صدرت في ٦ كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٩٠٩ باللغتين العربية والتركية، وكانت أول أمرها للتاجر يعقوب العاني إخبارية صِرفة ممالئة للحكومة، ثم تسلمها محمود الطبقجلي يحرر قسمها التركي، وأناط كتابة القسم العربي بقريبه كامل الطبقجلي، وهو تاجر ذكي عشق الكتابة وعلق بالنظم وهوي الصحافة وكان حادَّ القلم، وفي هذه الصحيفة بدأ الكاتب إبراهيم صالح شكر وخزاته الدامية.
وجدَّ محمود الطبقجلي في العمل السياسي وقد انتخب رئيسًا لفرع الحزب المعارض «الحرية والائتلاف»؛ إذ اشتد ساعد هذا الحزب وانضم إليه فريق من الشباب النابه، بينهم حمدي الباجه جي، فجعل جريدته لسان الحزب فأقبل عليها القراء، وذاع صيتها في العراق وخارجه وطفقت تظهر ثلاث مرات في الأسبوع بعد أن كانت أسبوعية.
وعنفت معارضة الجريدة بعد أن أقصى الفريق ناظم باشا والي بغداد عن منصبه، فعاد إلى إستانبول حيث قُتل بيد خصومه، فوقفت للوالي الجديد جمال باشا بالمرصاد، مع أن جمال هذا سلك مع الصحافيين طريقًا تؤدي إلى التفاهم، وأخذ يؤدب لهم المآدب، ويتحدث إليهم بأنه يعظِّم من شأن العرب ويُكبر مدنيتهم ويعرف مكانتهم في الماضي والمستقبل؛ لهذا قال في مذكراته المنشورة بعد مصرعه أنه سبق أن درس «القضية العربية» عندما كان واليًا في بغداد.
وتحسب «بين النهرين» أول جريدة انتصرت للفكرة العربية ونبَّهت إلى نزعة الطورانية التي تشربها زعماء الاتحاديين الترك. وقد اندفع صاحبها في هذا المضمار عقب أن تلقى من شكري العسلي مبعوث الشام كتابًا يطلعه على ما يبيت الحاكمون في قسطنطينية من التفريق بين عنصري الأمة العرب والترك، بوضعهم إشارة على اسم كل ضابط عربي في الجيش العثماني أو موظف في الخدمة المدنية ليحولوا دون ترقيته، فانبرى الطبقجلي يحمل على الحكومة فاضحًا خططها الجهنمية بلهجة قاسية، مما دفع الجيش إلى مقاضاته في المحاكم والحكم عليه غيابًا.
أما والحياة مهددة فلأختمنَّ حياة الصحافة والنشر قبل أن تختم حياتي.
ولم يكتفِ صاحب الجريدة ومحرروها بتحطيم أقلامهم، بل هاجروا إلى البصرة حيث كان حزب المعارضة قويًّا وملجأ أمينًا للمعارضين بزعامة السيد طالب باشا النقيب.
جريدة الرياض
وها أنني أنتقل إلى التحدث عن جريدة ذات لون خاص في الصحف العراقية، بل في الصحف العربية قاطبة في ذلك الجيل؛ فقد كان يقيم في الكرخ من بغداد وجيه نجدي هو الشيخ جار الله الدخيل من أهل القصيم، يتصل بوشيجة نسب بالأمراء آل سعود وآل الرشيد، ومع جار الله وكالة لابن الرشيد في الخطة العراقية، وله تجارة واسعة وهو يهيمن على طريق البادية وقوافلها، وبإمرته أهناد الإبل يشتغل بتجارتها ويستخدمها في المواصلات يوم لم تكن في البلاد سيارات ولا قُطر ولا طائرات، ولهذا الزعيم مضيف يعج برواده من البدو والحضر، فأراد أن تكون له جريدة تعضد نفوذه وتوسعه وتخدم تلك الأصقاع المجهولة في عالم النشر يومئذٍ، وسهل مهمته ابن أخٍ له شاب نابه «سليمان الدخيل»، جاء من بغداد من القصيم ودرس على بعض الأساتذة منهم محمود شكري الألوسي، واتصل بالطبقة المفكرة والمشتغلين بالسياسة، فأصدر جريدة «الرياض» متخذًا اسمها من قاعدة نجد، واستعان بطالب نجيب في المدرسة الإعدادية ذي موهبة كتابية اعتاد أن يترك مدرسته ويعيش في مكاتب الجرائد هو إبراهيم حلمي العمر.
ظهرت جريدة «الرياض» في ٧ كانون الثاني (يناير) سنة ١٩١٠ أسبوعية عربية اللهجة أدبية المشرب، وإن لم تكن قويمة اللسان ولا مشرقة البيان، إلا أنَّ صفتها التي انمازت بها هي العناية الفائقة بأخبار نجد وجزيرة العرب وإمارات الخليج العربي.
ويجب أن نعترف ونحن نحلل تسرب الفكرة العربية إلى الأذهان في حكم الترك الذين لم يكونوا يريدون للنزعة القومية انتشارًا، بأن «الرياض» خدمت «القضية العربية» بما أحدثت من كثرة الضجيج والكتابة عن قلب الجزيرة وينبوع العروبة؛ فقد أذاعت الأحاديث عن العرب المعاصرين وقبائلهم ومنازلهم ومنازعاتهم وغزواتهم وحربهم وسلمهم بنطاق واسع، أثَّر على العقول ولفتها إلى هذه الرقعة من العالم العربي.
وليس عليكم بعد ذلك أن تدققوا أو تلحفوا في تمحيص صحة ما ترويه صحيفة «الرياض» من أخبار الإمارات العربية وسلطات الخليج وزعامات البوادي، فالمبالغة بادية عليها، ولكن هذا لا يهم الكاتب أو الناشر، إنما المهم أن أكثر مروياتها تشيع في عالم الصحافة، فتتناقلها الجرائد في العراق والشام ومصر. وقد تشغل بعض مروياتها من هذا اللون أسلاك البرق ودواوين الدولة العثمانية أيامًا بل أشهرًا، بينما يكون الحادث من أساسه من مبتدعات خيال مدير «الرياض» أو محررها.
ولم يقف سليمان الدخيل عند الصحافة السياسية والأسبوعية، بل أنشأ مجلة «الحياة»، شهرية وأسس دار طبع ونشر، فنشر موجز «عنوان المجد في تاريخ نجد» لابن بشر، وألَّف ونشر «العقد المتلألئ في حساب اللآلئ» عن صناعة الغوص على اللؤلؤ في الخليج وقيمته، ومن أعجب حوادث نشر هذه الدار أنها طبعت كتاب «حساب الجفر» منسوبًا إلى «ابن العربي» فتلقفته الأيدي وذاع بين القراء ودر على الدار أرباحًا، وحقيقة الكتاب من نتاج مكتب تحرير «الرياض» أوحته قريحة سليمان أو إبراهيم أو أحدهما.
جريدة مصباح الشرق
ومن الجرائد التي ساهمت في خدمة النهضة القومية على ضفاف دجلة والفرات «مصباح الشرق»، أنشأها عبد الحسين الأزري الذي أصدر أول الأمر جريدة «الروضة» أدبية، ثم «مصباح الشرق» «فالمصباح» «فالمصباح الأغر»، صحف سياسية تتعطل الواحدة فيقيم الأخرى مكانها، وهي جريدة باللسان العربي وحده، أسبوعية بدا نورها في غرة آب (أغسطس) سنة ١٩١٠، وكان انتقادها ذا وقع أليم على السلطة، فصارت تتربص بصاحبها حتى إذا سبق غيره من الصحافيين في إذاعة مصرع فريد بك والي البصرة في اغتياله السياسي المعروف بتأثير حزب المعارضة هناك اتهمته بأن له ضلعًا في معرفة المؤامرة مقدمًا، وحاكمته وحكمت عليه بغرامة، واستمرت الجريدة تصدر إلى أن اعتقل منشئها في الحرب العظمى الأولى وصودرت مطبعته.
جريدة الرصافة
ومن الصحف الجريئة «الرصافة» لصاحبها صادق الأعرجي، ظهرت في ١٧ حزيران (يونيو) سنة ١٩١٠، فلما عطلتها الحكومة بعد عام استعاض عنها بجريدة «الصاعقة» التي كان قد بدأ ينشرها مؤسسها عبد الكريم الشخلي في ٨ حزيران (يونيو) سنة ١٩١١. وقد غضب الوالي مما نشرته في عددها الجديد بعد هذا التحايل، فأوعز إلى أحدهم من الدهماء بشكوى الأعرجي إلى المحاكم بتهمة ملفقة، فأوقف الكاتب في السجن، فأهاج هذا الظلم إحساس الناس، فتجمهر خلق كثير في سراي الحكومة احتجاجًا على اعتقال الكاتب المقدام. وقد شجع هذه الحركة الوجيهة عيسى الجميل الذي يتمتع بزعامة شعبية، فأبرق بالمضابط إلى قاعدة السلطنة «إستانبول» فصدر أمر وزارة الداخلية بالإفراج عن الصحفي المضطهد.
جريدة النهضة
وتفاقمت النعرة القومي عند أهل بغداد، ولا سيما بعد انعقاد «المؤتمر العربي الأول» في باريس سنة ١٩١٣، وكثرت الجمعيات السياسية السرية والعلنية في أنحاء الإمبراطورية، وقوي ساعد المطالبين باللامركزية وإبراز شخصية الأمة العربية وكيانها، فنهض فريقٌ من الشباب المتوثب فأسس «النادي العلمي الوطني» ببغداد، وتقدم أكثر العاملين فيه حماسة مزاحم الأمين الباجه جي، فأصدر جريدة «النهضة» في ٣ تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٩١٣، فإذا هي الصحيفة القومية الفذة بين زميلاتها، جهيرة الصوت بليغة التعبير في محاسبة الحكومة العثمانية، والمناداة بحقوق العرب، وعهد بتحريرها إلى إبراهيم حلمي العمر محرر جريدة «الرياض»، فتجلت فيها مواهبه الكتابية وطارت شهرته، إلا أن الحكومة لم تتحمل لهجتها النارية فعُطلت بعد عددها الحادي عشر، وهرب مؤسسها ومحررها إلى البصرة لاجئيْنِ إلى طالب باشا النقيب، حيث اجتمع نفرٌ من حملة الأقلام والصحفيين البغداديين منهم غير من ذكرنا رشيد الهاشمي الشاعر الكاتب وصادق الأعرجي ومحيي الدين الكيلاني صاحب جريدة «النور».
جريدة الإيقاظ
ولم يقتصر الجهاد الصحفي على بغداد في تلك الأيام، بل شاركتها بعض الحواضر منها البصرة، فأول صحيفة أهلية فيها جريدة «الإيقاظ» التي أصدرها المحامي سليمان فيضي الموصلي في ٢ أيار (مايو) سنة ١٩٠٩، وهي جريدة أدبية إخبارية وطنية كما كتب عليها: تُنشر مرة في الأسبوع بأربع صفحات بالعربية والتركية. وكان مديرها المسئول ومحرر القسم التركي فيها مكتوبي زاده عمر فوزي المحامي.
حيث إن البصرة دون سائر البلاد العثمانية خالية من جريدة تحرك همم ساكنيها وتنشر جميل ذكرها، غير جريدة الولاية «بصرة»، وهي لانشغالها بالأمور الرسمية لا تلتفت إلى شيء من ذلك، بادرنا لإصدار جريدة عربية أسبوعية معنونة باسم «الإيقاظ» تفاؤلًا بإيقاظها الوطن من غفلة رقاده وإنهاضًا له من حضيض وهاده.
وقد التزمنا من أن يكون مسلك جريدتنا هذه نصرة المظلوم والأخذ بيد المحروم ونشر أعمال المحسنين، وشهرة أفعال المسيئين والحفظ لحقوق الوطن وأبنائه والمبادرة إلى كل ما يعود بترقيته وإعلائه، سالكين في كل ذلك منهج الحق باذلين الجهد في توخي الصدق، قابلين لنشر المقالات الواردة إلى محل إدارتنا من داخل الولاية، أو خارجها سياسية كانت أو أدبية أو فكاهية، بشرط أن تكون خالية من الدسائس النفسانية والأغراض الشخصية … إلخ.
فهي جريدة أدبية إخبارية وطنية، ولا يخفى وجه التسمية الإيقاظ على من له في العربية أدنى إلمام، بل هو بقرب مأخذه موضوع على طرف الثمام … إلخ.
وطبيعي أن هذه الجريدة رغمًا عن مبدأها الحر، كانت تسبِّح بحمد السلطان وتذيع أخبار الحزب الحاكم، واهتمت بالأخلاق العامة والآداب الإسلامية، ودققت في نشر أخبار إقليم البصرة.
ومن فنون الكتابة فيها حوار قصير بعنوان «مصاحبة» — وهو اصطلاح تركي — يتناول بالنقد والتنبيه أمورًا اجتماعية أو نواقص في الدوائر الرسمية. وقد هاجمت جريدة «إقدام» التركية في الآستانة لطعنها في «العنصر العربي».
وحثَّ سليمان فيضي في جريدته على التعليم، وطالب بمجانيته وبخاصة التعليم الصناعي، وكتب في ذلك سلسلة مقالات إصلاحية داعيًا إلى العمل والنهوض حول «معنى الإيقاظ» اسم الجريدة، ودافع عن نشر اللغة العربية في الدواوين ومعاهد التعليم، وحلى بعض الأعداد بصور كاريكاتورية، ولكنها بدائية من حيث فن التصوير.
يقول صاحبها في «مذكراته»: إنه أوقفها في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٩١٠ بسبب سفره إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، مع أن الجريدة لقيت رواجًا في داخل البلاد العراقية، وكان لها مشتركون في إمارات الخليج والحجاز والهند وسنغافورة.
جريدة التهذيب
وهنالك جريدة بصرية أخرى هي «التهذيب» أنشأها محمد أمين عالي باش أعيان، سياسية علمية أدبية أخلاقية، تنشر مرة في الأسبوع باللغتين العربية والتركية، برز عددها الأول في ١ حزيران (يونيو) سنة ١٩٠٩. وقد كتبت مقالات افتتاحية عدة في تشجيع تعليم المرأة وتهذيبها، وطالبت بتعريق شركة الملاحة الإنكليزية «لنج»، كما ألحت على وجوب تأليف مجلس الإدارة لولاية البصرة، وحث القوم على التبرع للأسطول العثماني.
وكان إنشاؤها ركيكًا، وكثير من افتتاحياتها مقتبسة من صحف مصر والشام. وقد عطلها صاحبها في شهر آزار (مارس) سنة ١٩١٠.
جريدة الدستور
ومن الصحف جليلة الخطر في البصرة جريدة «الدستور» التي أسسها أولًا عبد الله الزهير في ٢٢ كانون الثاني (يناير) سنة ١٩١٢، فلما أصبح عضوًا في مجلس النواب العثماني انتقل امتيازها إلى عبد الوهاب الطباطبائي فنفخ فيها روحًا جديدًا، وتضافر على الكتابة فيها نخبة من أدباء الثغر، منهم أخواه عبد المحسن وعبد العزيز الطباطبائي وإسماعيل السامرائي، وكانت لسان الحزب المعارض. وقد جلب لها الحزب مطبعة من أوروبا مما لم يفعله حزب سياسي آخر في عراقنا، وغدت دار الجريدة ندوة لأحرار الكُتاب والسياسيين من البصريين، أو من كان يهرب إلى البصرة من البغداديين فرارًا من إرهاق الحكومة وضغطها.
ولما عطلت «الدستور» صدرت باسم «صدى الدستور»، وبقيت مثابرة على خدمة النهضة الفكرية، ومن مقالاتها الرنانة التي كتبها أحد محرريها سليمان فيضي صاحب جريدة «الإيقاظ» التي تحدثنا عنها بعنوان: «الجاسوسية في عهد الحرية» وقد هزت السلطة هزًّا، وكان لكتاباتها تأثير عميق في الرأي العام، وبقيت تُنشر إلى احتلال البريطانيين البصرة في كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٩١٤.
جريدة نينوى
وما عرفت الموصل الصحافة الأهلية قبل جريدة «نينوى» التي صدرت في تموز (يوليو) سنة ١٩٠٩ لصاحبها فتح الله رسم ومديرها المسئول محمد أمين الفخري، وكان يكتب فيها علي حكمت، وهي علمية أدبية سياسية تصدر مرة في الأسبوع باللغتين العربية والتركية. وقد عُرفت باعتدالها في سياستها وتحاشي إغضاب الحكومة.
جريدة النجاح
فلما أُسس فرع «حزب الحرية والائتلاف» المعارض في الحدباء أصدر جريدة «النجاح» صاحب امتيازها محمد توفيق، وكان يكتب فيها «خير الدين العمري»، ظهرت في ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩١٠ (١٣٢٨ﻫ) وبقيت تصدر سنة ونصف سنة ثم أوقفها صاحبها.
•••
يلاحظ مما تقدم أن معظم الجرائد التي صدرت في العراق في العهد العثماني تُكتب باللغتين العربية والتركية — لغة الدولة الرسمية — وبعضها تركية بحتة، وبينها جرائد باللغة الفارسية.
كانت لغة جرائد بغداد في العهد العثماني خليطًا من جميع اللغات التي بها متكلمون في الزوراء، فترى فيها التركية والكردية والفرنسية والإنكليزية والهندية والفارسية، ولغة مؤلفة حروف ألفاظها من كل هذه اللغات معًا أو من بعض منها.
هذا من حيث اللغة والأسلوب. أما من ناحية الموضوعات، فمن البداهة بمكان أن شيوع الأمية شيوعًا مريعًا في ذلك العهد، والتخلف الثقافي جعلا وجود الكتاب نادرًا جدًّا، والصحافة صناعة خاصة لا يخوض غمارها إلا من يتمتع بموهبة لمعالجة الكتابة السياسية ونحوها، ولم يكن يقدم على الكتابة في الصحف في الفترة التي نبحث عنها حملة العلوم الدينية وأشياخ التدريس والفقهاء؛ إذ إن الكثيرين منهم كانوا يرون الكتابة في الجرائد السيارة مزريًا بصاحبها، وبعضهم يعتقد أن هذه الصحف لا تنشر إلا الأكاذيب، فهم يَرْبَئُونَ بأنفسهم أن يساهموا في التحرير فيها.
كما أن خصاصة أصحاب الصحف جعلتهم عاجزين عن أن يدفعوا أجورًا للكاتبين إذا وجدوا، فتجد الواحد منهم يجمع في شخصه بين المالك للجريدة ورئيس التحرير والمخبر ومدير الإدارة. وقد يكون الموزع أيضًا.
- الأول: تعهد الحكومة العثمانية في المدارس إهمال تعليم اللغة العربية، فيخرج الطالب منها لا يعرف لغته نافرًا منها.
- الثاني: أن الانقلاب الدستوري العثماني بإفساحه الحرية للصحافة سهَّل للعوام الصِّرف إنشاء صحف عامية في العراق، جعلوها واسطة تعيُّش واتجار، فتمكن الأغبياء من التطاول إلى مقامات العلماء، وتسلق مقاعد الكتَّاب والأدباء، فأخذت تلك الصحف الساقطة تمثل ملاك الأمة الأدبي بما لا يزيد عليه من السقوط، ولا غَرْوَ إذا كان موضع سخرية الأمم الراقية، وذلك هو الذي منع جماعة كتابنا من ترويجها واعتضادها، مع أن في زوايا العراق ثُلَّةً من كبار الكتَّاب وقد عُرفوا بآثارهم في صحف مصر والشام.
والغريب أن هؤلاء الأدباء الذين يشير إليهم الكاتب كمحمد حبيب العبيدي والزهاوي والرصافي والشبيبي كانوا ينشرون قصائدهم ومقالاتهم في صحف الخارج فتنقلها صحف بغداد عنها.
لم يكن في العراق من أرباب القلم شيء يُذكر، بل كان هناك شعراء يقومون مقام الصحف في المدح والقدح.
كذلك فقد ساد الفترة اللاحقة على الحرب توتر العلاقات الدولية؛ الذي انتهى إلى وقوع الحرب الكورية. وقد كان من آثارها زيادة الطلب فترة ما على القطن المصري وغيره من المواد الأولية. وقد استمر ذلك التوتر حتى بعد انتهاء تلك الحرب، وانقسم العالم أساسًا إلى كتلتين: الشرقية والغربية، وكان ذلك سببًا في تزايد اهتمام الكتلة الغربية ببلاد الشرق الأوسط، بما فيها مصر بالطبع، وذلك لوجود منابع الزيت في هذه المنطقة، ولما لها من أهمية حربية، ويمكن أن نجد لكل ذلك صدًى فيما قدمته أمريكا أحيانًا إلى مصر وبعض البلاد العربية الأخرى من إعانات مالية أو فنية.
أما في الحقل الاجتماعي فقلما ناصرت هاتيك الصحف الأفكار المتطرفة، ويكفي أن ألمِّح إلى موقف بعض الصحف والمجلات في الحملة على «جميل صدقي الزهاوي» لمقالته في جريدة «المؤيد» المصرية في «الانتصار لحقوق المرأة»، مما اضطر بعض الكتَّاب المصريين أمثال ولي الدين يكَن والدكتور شبلي شميل إلى أن ينتصروا له.
وأما تلك الصحف من ناحية الإخراج ورداءة الطبع فحدِّث ولا حرج؛ لأن الطباعة كانت بدائية، والمواصلات قليلة والورق عزيز المنال في الأسواق، وليس بين ممن اضطلعوا بالعمل الصحفي من فكَّر في جلب الورق من أوروبا لقلة المطبوع من جريدته.
فإذا أضفنا إلى كل هذه النواقص في الوسائل والأدوات الجوَّ الخانق الذي كان يعيش فيه الصحفيون في تلك المرحلة والعسف والاضطهاد، مما سنتبسط فيه عند البحث عن حرية الصحافة؛ أدركنا عوامل تأخر الصحافة في أول نشوئها في العراق.