الصحافة في خلال الحرب العالمية الأولى
(١) في ظل الحكم العثماني
لما كانت معظم الصحف العراقية قد أيدت المعارضة للحزب الحاكم — الاتحاد والترقي — في الدور العثماني؛ فقد انتهز الحاكمون من هذا الحزب غمة الحرب العالمية سنة ١٩١٤ فرصة للإيقاع بالصحفيين المعارضين والتنكيل بهم.
وسبق ظلام الحرب قيام الحكومة العثمانية بتعديل «قانون المطبوعات» لزيادة التشديد على الصحافيين الأحرار واضطهادهم، فأقيمت على بعض الكُتاب وأرباب الصحف الدعاوى في المحاكم، بحيث بلغت ٤٨ دعوى في غضون خمس سنوات خرجوا من أكثرها أبرياء وغُرموا في بعض القضايا.
وكانت إدارة الحكم ثنائية بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية للعثمانيين فإذا تعرضت جريدة للجيش أو الشرطة تحفزت السلطة العسكرية للتنكيل بالصحفي والحكم عليه، وفي بعض الأحيان وجدنا هاتين السلطتين تصطدمان ببعضهما بعضًا كما جرى لصاحب جريدة «الإيقاظ» سليمان فيضي عندما انتقد «الدرك»، فهمَّ قائد الجيش في البصرة بحبسه، ولم تُفِدْ حماية وكيل الوالي له إلا أن قوة المعارضة الأهلية تجمعت فأطلقته من الموقف.
نشرت جريدة «الرياض» قصيدة «لمحمد الهاشمي» عرَّض فيها بالطغاة في إيران والظلم اللاحق بالمسلمين في تونس والجزائر، وما يعانيه أهل القفقاس من ذلٍّ، ودعا الشاعر على قيصر الروسية بمنقلب الظالمين، فما كان من الحكومة التركية في بغداد إلا أن قاضت الصحافي والشاعر، فحكمت المحكمة على كلٍّ منهما بالسجن ثلاثة أشهر.
ولم يكن الوالي العسوف يتورع من أن يضرب الصحافي بيده، كما حدث لإبراهيم حلمي العمر، الذي كتب في جريدة مصرية مقالًا حمل فيه على الاتحاديين والوالي يومئذٍ في العراق جاويد بك، وبيده قيادة الجيش أيضًا بعد أن أعلنت الحرب فحبس الوالي الكاتب أولًا ثم جاء به إلى ردهة استقباله في ديوانه وصار يضربه ضربًا مبرحًا بعصاه على مرأى ومسمع من الجمهور، فتشفع له زميل هو صادق الأعرجي صاحب جريدة «الرصافة» الذي أصبح عضوًا في مجلس الولاية بعد اعتزاله الصحافة، فأنقذه من مخالبه.
ولما وجدت الحكومة أن صحف البصرة تتمتع بنوع من الحصانة مكتسبة من هيبة زعيم المعارضة هناك «طالب باشا النقيب»، وتأثيره على السلطة مما يجرئ هذه الجرائد على الإمعان في النقد والمقاومة، أوفدت وزارة الداخلية في إستانبول إلى والي البصرة في أخريات سنة ١٩١٣ بإقفال جميع الصحف الموجودة في الثغر والإمساك عن منح امتياز أية جريدة جديدة.
وما أن احتلت الجنود الإنكليزية البصرة بعد اندلاع نيران الحرب الأولى حتى شددت الحكومة العثمانية الخناق على الصحافيين وطاردتهم بحجة ظروف الحرب الاستثنائية، فعطلت الجرائد الأهلية كلها ولم تُبقِ إلا جريدة واحدة «الزهور» لصاحبها «محمد رشيد الصفار» لموالاتها للحكومة وتأييدها سياسة الحاكمين. وقد ثبت الرجل على خطته ولم يتحول عنها حتى إذا انسحب العثمانيون من بغداد إزاء زحف القوات البريطانية التحق بهم، واستأنف عمله الصحفي في الموصل بعد أن جعل جريدته الجديدة باسم «دعوة الحق».
ورأى العثمانيون في سحابة الحرب أن يستعينوا بالصحافة في بث الدعاية لهم والتشنيع لمحاربيهم، فأسسوا في بغداد جريدة يومية دعوها «صدى الإسلام» باللغتين العربية والتركية، يُشرف على نشرها الجيش برئاسة قائده العام في هذه المنطقة نور الدين بك الذي عُرف بعد ذلك في تاريخ النهضة الكمالية باسم نور الدين باشا «فاتح أزمير»، وناطوا إدارة سياستها برئيس بلدية بغداد رءوف الجادرجي.
ولم يكتفِ المتحكمون بتعطيل الصحف المعارضة، بل لاحقوا الصحفيين المعارضين أو ذوي النزعة القومية العربية، فنفوا كلا من عبد الحسين الأزري صاحب «المصباح»، ورزوق داود من شباب النادي العلمي الوطني، وداود صليوا صاحب جريدة «صدى بابل»، والأب أنستاس ماري الكرملي صاحب «لغة العرب»، إلى قيري من بلاد الأناضول، حيث قضوا في منفاهم السحيق بعض سني الحرب، كما نفوا إبراهيم صالح شكر صاحب مجلة «الرياحين» وعبد اللطيف ثنيان صاحب «الرقيب» إلى الموصل، وإبراهيم حلمي العمر إلى بتليس، وفرَّ سليمان الدخيل صاحب «الرياض» إلى نجد.
ولم يقتصر أذى الصحفيين على النفي في غياهب الحرب، بل ساق جمال باشا قائد الفيلق الرابع اثنين منهما إلى «ديوان الحرب العرفي» في عاليه؛ أولهما: أحمد عزة الأعظمي، وقد كان يصدر مجلة شهرية باسم «لسان العرب» في فروق تنافح عن الفكرة العربية وتبشر بالرسالة التحريرية بلهجة عنيفة وأسلوب فصيح. وقد غير صاحبها اسمها في سنتها الثانية، فجعلها «المنتدى الأدبي»؛ إذ غدت لسان هذه الجمعية السياسية العربية التي ضمت شباب العرب في العاصمة العثمانية.
سيق هذا الصحافي إلى المحكمة العرفية حيث قضى ثلاثة أشهر في حبس يتجرع العذاب ولم تسفر محاكمته عن اتهامه؛ إذ لم يجدوا بين أيديهم وثيقة تدينه ولم يشهد عليه غير شاهد واحد ولا اعترف هو بكلمة بما عمله أو من عرفه رغمًا عن تعذيبه وإرهابه، كما أن فطنته أنقذت الكثيرين من إخوانه وزملائه المجاهدين من التهلكة، بل الموت المحتم، فإنه كان يقيم في الآستانة لما كشر الحزب المسيطر عن أنيابه نحو العرب وخاصة المشتغلين بالسياسة الاستقلالية، فقبل أن يُلقى القبض عليه أتلف كل ما كان لديه من كتب ومنشورات لجمعيات قومية سرية وشخصيات تعمل للإنقاذ في السر والعلن، ولا سيما أن «المنتدى الأدبي» المذكور كان ملتقى هؤلاء الرجال ومباءة نشاطهم، كما كانت مجلته ينبوعًا لكثير مما يُذاع في الموضوع في المجلة وغيرها أو عن طريقه.
كان يجمع «المنتدى الأدبي» كل الطلاب العرب، ويبث فيهم الفكرة القومية ونهضة العرب بأية واسطة كانت، وكلما انتهى فريق منهم بدروسه، حمل الأفكار وبثها حيث يعين في الوظيفة في البلاد العربية، وأن النشرات التي تحرض العرب على الثورة وقتل الترك كانت ترد إلى الشباب العرب في ضمن الجرائد المرسلة إلى مدير مجلة المنتدى الأدبي ومحررها أحمد عزة الأعظمي، فيقرءونها كلهم ويشترك معه في توزيعها عاصم بسيسو، وكان هذا الصحفي يجمع الشباب العربي من مدارسهم الملكية والعسكرية في إدارة مجلة «لسان العرب» ويقرأ عليهم تلك النشرات.
أما الصحافي الثاني المرسل إلى الديوان العرفي في عاليه فهو إبراهيم حلمي العمر، الذي لم تفده مشاركته في تحرير جريدة «صدى الإسلام» التي ألمعنا إليها.
إلا أن الحظ أنجده فإنه وصل المحكمة العرفية في لبنان بعد أن نفذ حكم الإعدام في قوافل الشهداء الثلاث، ثم نشبت «الثورة العربية الكبرى» في الحجاز، فخطأ الكثيرون من حكام إستانبول سلوك جمال باشا وسياسته الانتقامية في بر الشام وحملوه تبعة إغاظة الأمة العربية وتعجيل انفجار نقمتها، فأوعزت إليه الحكومة المركزية بفض الديوان العرفي في عاليه. وهكذا نجا إبراهيم حلمي العمر من حبل المشنقة بعد أن توسط له جماعة من وجوه الشام وأدبائهم بينهم محمد كرد علي منشئ «المقتبس» الجريدة والمجلة، وكان إبراهيم من مراسليها في بغداد.
ويظهر أن كرد علي لم يكتفِ بالشفاعة للكاتب العراقي عند جمال باشا فينقذه من الأذى، بل أوجد له رزقًا بضمه إلى محرري جريدة «الشرق» التي أصدرها القائد المذكور، وحشد لها كبار العلماء والأدباء محمد كرد علي وشكيب أرسلان ومحمد حبيب العبيدي الموصلي وتاج الدين الحسيني وغيرهم.
(٢) في ظل الاحتلال البريطاني
هذا ما كان من أمر الصحافة في العراق في ظل الحكم العثماني.
وننتقل الآن إلى صفحة جديدة من الحياة العراقية عندما احتل الإنكليز بلادنا في خلال الحرب العالمية الأولى.
أغار الإنكليز على البصرة فاحتلوها في كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٩١٤، فالتفتوا إلى الصحافة يستعينون بها على توطيد سلطانهم وترسيخ سياستهم وللصحف مقامها في نظر القوم، وفي حياتهم العامة ومجالي إمبراطوريتهم، بحيث ذهبت كلمة لويد جورج داهيتهم، في أعقاب تلك الحرب: «إنما كسبنا الحرب بواسطة الصحافة.» قولًا مأثورًا يَتيه به الصحافيون.
جريدة الأوقات البصرية
فكان أول ما فعلوه بعد استيلائهم على «مطبعة الولاية» الرسمية بالبصرة ابتياعهم المطابع الأهلية الثلاث التي كانت في المدينة، فطفقوا يطبعون بها نشرة يومية باللغتين العربية والإنكليزية تحمل برقيات رويتر، وجلها أخبار حربية تنقل إلى القراء ما يجري في ميادين القتال المختلفة.
برزت «الأوقات البصرية» مكتوبة باللغات الأربع العربية والتركية والفارسية والإنكليزية، وحرر فيها المستر جون فلبي — وهو بعد ذلك الحاج عبد الله فلبي المستشرق السياسي الإنكليزي.
ولا شك في أن هذه الصحيفة قد أُنشئت لتخدم أغراض السلطة المحتلة، وتروج لسياسة الحلفاء وتذيع مبادئهم التي يعلنونها للناس، فضلًا عن استغراق أكثر أعمدتها بأخبار الحرب ومراحلها.
وقد أصدر الجيش المحتل بجانب هذه الصحيفة اليومية مجلة أسبوعية مصورة بعنوان: «العراق في زمن الحرب»، حَوَت صورًا للوقائع الحربية في العراق مع صور الشخصيات العراقية — من الفريق الموالي طبعًا — ولا سيما شيوخ القبائل ومناظر ومشاهد لهذه البلاد.
فلما وصلت القوات البريطانية بغداد واحتلتها، وانتقلت بهذه المرحلة حكومة الاحتلال المركزية إلى بغداد سنة ١٩١٧، تولى سليمان الزهير أحد وجوه البصرة جريدة «الأوقات البصرية» بطريقة الالتزام من الجيش، وعُني بأن يجعلها جريدة أهلية واستقدم لها محررًا من مصر هو «عطا عوم»، صحافي مصري مخضرم من الزملاء الأوائل لتوفيق حبيب «الصحافي العجوز» في تحرير مجلة «فرعون»، وعاشت الجريدة بعهدة المالك الجديد أو الملتزم إلى سنة ١٩٢١ عند تأسيس دولة العراق الحديثة، فلم يبقَ معنًى لوجودها فغابت عن الأنظار.
جريدة العرب
أما في بغداد فبعد أن استتب للمحتلين الأمر أرادوا خلق جريدة قوية تخدم أغراضهم وتنشر خططهم وتُطلع الجماهير على سياستهم الظاهرة، وبخاصة بعد أن بلغت الحرب هذا الشوط واستولى الإنكليز على قسمٍ كبير من الأراضي العراقية، ولا تزال جيوشهم تُقاتل للاستيلاء على بقية الأقسام، فوضعوا نصب أعينهم مشروع جريدة يومية، فلم تمضِ عليهم ثلاثة أشهر حتى استطاعوا أن يطلعوا على الناس بهذه الجريدة. وقد دعوها «العرب».
تتخذ التدابير لإصدار جريدة محلية عربية، وهي الجريدة التي طال تشوقنا إلى صدورها، ولم يعقنا عن ذلك إلى الآن إلا فقدان الورق، فبعد إجراءات رسمية عديدة توصلنا إلى تحقيق هذه الرغبة. وقد عهد بإدارة سياستها وتحريرها إلى المستر جون فيلبي — ممن ولي مناصب مهمة في حكومة الاحتلال في قطرنا — أما هيئة تحريرها فقد ألفناها من أصدقائي الأقربين — الأصدقاء العرب — ونتوقع أن نحتفل بصدور عددها الأول في غرة تموز (يوليو)، وسنجعلها جريدة ذات شأن وسميناها «العرب»؛ لأنها أول جريدة تصدر في العهد الجديد من حرية العرب — على حد تعبيرها.
كان القوم يرون تسميتها ﺑ «الأوقات البغدادية»، ثم على طلب الخاتون استشرت في هذه التسمية محمود شكري الألوسي فاقترح أن تدعى «العرب» فاستحسن السر برسي كوكس الحاكم العام هذه التسمية فكانت جريدة «العرب».
كانت رغبتها في أن تعطى هذه الجريدة صبغة محلية أكثر باستخدامها مراسلين لها في الأقاليم، ومحررًا يكتب الأخبار المحلية، وشعرت بحق أن الجمهور الذي أصدرت له الصحيفة، وبإثارة اهتمامه فقط تستطيع الجريدة أن تؤدي خدمة مفيدة، هذا الجمهور يحس بأن الحرب في أوروبا تبعد عنه كثيرًا كبعد القمر، وأن فهمه لهذه الحرب صعب كصعوبة فهم القمر، وأن هؤلاء الناس يهمهم أن يسمعوا أن فلانًا ابن فلان قد وقع في قبضة العدالة، وأنه غرم لتجوله بعد أن أسدل الظلام ستوره من غير أن يحمل مصباحًا، يهمهم هذا أكثر من سماعهم أن قرية في الفلاندر قصفت من الجو؛ لهذا ارتأت الخاتون أن الأخبار المحلية مهما ضَؤُلَ شأنها فمن الضروري أن يتعود العرب منها على قراءة الجريدة؛ ليتسنى إعداد الأهلين لقراءة الجرائد عندما يحين لصحافتهم الوقت في أن تعالج البحوث الحيوية المختصة بمستقبل بلادهم.
ويظهر أن الخاتون تولت إدارة سياسة الجريدة بعد أن تركها فيلبي؛ إذ وجدتها تكاتب أباها في هذا وتصف له كثرة المهام الملقاة على عاتقها وكيف يحمل إليها الأب أنستاس مسودات مقالات «العرب» الرئيسية، فتقضي بعض الوقت في مناقشته في موضوعاتها إلى غيرها من الشئون الصحفية.
برز العدد الأول من «العرب» في ٤ تموز (يوليو) سنة ١٩١٧ بصفحتين بادئ ذي بدء تنشران بين يوم ويوم، وبعد شهر أصبحت يومية وفي العام الجديد غدت بأربع صفحات يوميًّا. وقد كُتب على صدرها أنها «جريدة سياسة إخبارية تاريخية أدبية عمرانية عربية المبدأ والغرض، ينشئها في بغداد عرب للعرب.» وهذه النزعة تنسجم تمامًا مع السياسة البريطانية في خلال تلك الحرب، حيث تهدف إلى التقرب إلى العرب وتنفيرهم من الترك، بل إثارتهم عليهم.
إنها ستكون وسيلة لنشر آراء العرب وتعميم علومهم وآدابهم وترقية شئونهم وعمرانهم.
والمعالم البارزة لهذه الجريدة الرسمية لحكومة الاحتلال، غير أخبار الحرب الدائرة والدعوة لقضية الحلفاء وخدمة السياسة البريطانية، أنها أول جريدة حكومية صدرت في بغداد باللغة العربية الصِّرف، لغتها سليمة فصيحة ونزعتها عربية وصارت تُبشر بالفكرة العربية وتُذيع في العراقيين فضل البيت الهاشمي رائد النهضة القومية، وقامت بدعاية نشيطة للثورة العربية بزعامة ملك العرب جلالة الحسين بن علي، شريف مكة المكرمة، ولم تكن تغفل النواحي الاجتماعية والتاريخية والأدبية مع نشرها أخبار الحرب ومنها حرب العراق، فضلًا عن بلاغات القيادة العامة لجيش الاحتلال الذي يواصل الزحف في الأراضي العراقية، وبيانات الحكومة المحتلة وإعلاناتها للشعب. وقد أخذت في سنتها الثانية تزين صفحتها الأخيرة بصور حربية، إلا أن النقص في الزنكغراف والفن الطباعي كان بادي الأثر في هذه الصور؛ لهذا عنيت فترة من الزمن بنشر ملحق مصور مستقل عنها يطبع على ورق صقيل وبصور واضحة، وكله دعاية حربية وتصوير لمشاهد محلية وأشخاص عراقيين.
وقع على الصلح اليوم في الساعة الرابعة زوالية بعد الظهر.
واستمرت جريدة المحتلين العربية تصدر أربع سنوات إلى أن أعلنت يوم ٣١ أيار (مايو) سنة ١٩٢٠ أنها ستحتجب. وقد ودعت قراءها وشكرتهم على إقبالهم على قراءتها ومؤازرتهم إياها منذ إنشائها إلى ذلك الوقت.
أما محررو هذه الجريدة وكُتابها؛ فقد كانوا نخبة رجال العلم والأدب في بلاد الرافدَين، ألفت قلوبهم سلطة الاحتلال وأغرتهم بأنها جريدتهم لبث الفكرة العربية وخدمة اللغة وتثقيف الشعب، وأجزلت لهم أجور الكتابة ولعلها المرة الأولى في عراقنا تناول الأدباء والكتَّاب أجورًا محترمة على نتاج أقلامهم، فحرر فيها شكري الفضيلي وكاظم الدجيلي وعبد الحسين الأزري ومحمد مهدي البصير وعطا أمين، والظاهرة التي تلفت النظر أن الصحيفة كانت تعمل في خواتيم مقالاتها تواقيع مستعارة عديدة لصنوف كتابها، بينها «ابن العراق» و«ابن الفُراتين» و«ابن ماء السماء» و«ابن جلا» و«ابن ذي الكُنيتين» و«ابن بابل» و«مطالع».
ولا تسألوا عن الداعي إلى هذا التنكر والتستر، فأنتم مدركوه بداهة، والظرف ظرف حرب والمهيمنون على الجريدة والمنفقون عليها الإنكليز المحتلون، ولكن ما أعلنت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها حتى انكشفت الأقنعة فأخذنا نقرأ اسم الكاتب في ذيل مقالته، وكان جميل الزهاوي يطرف قراء العرب بنفحات أدبه ويمتعهم بمختارات من «عيون الشعر» العربي في عصوره الخالية، كما كان شكري الفضلي يكتب أغلب افتتاحياتها وهو من أدباء العراق وكتابه السياسيين.
والطريف أنه كان بين هؤلاء المحررين كاتب عُرف في المجتمع باسم «نجيب السوري»، وهو الدكتور نجيب الأرمنازي وزير سورية المفوض في مصر اليوم، وجد في بغداد ضابطًا في الجيش التركي فترك الجيش واتصلت مودته الأدبية بالأب أنستاس الكرملي فحسن له هذا الاشتغال بالأدب والكتابة، وترجم باقتراحه كتابًا عن اللغة التركية لأبي حكمت سليمان السياسي العراقي في تاريخ العراق في العصور الأخيرة، وكتب في صحيفة «العرب».
ولم تكتفِ حكومة الاحتلال بالجريدة اليومية، بل أنشأت مجلة نصف شهرية للعلم والأدب دعتها «دار السلام»، سنتحدث عنها عند بحث الصحافة الأدبية والمجلات المختصة بالعلوم والفنون في محاضرة آتية.
جريدة الوقائع العراقية
وبقي العراق عامين خلوًّا من جريدة رسمية بعد غياب «العرب»، فلما وضعت قواعد المملكة العراقية بدت الحاجة إلى صحيفة رسمية لنشر القوانين والأنظمة وشئون الدولة بما يقتضيه نظام الحكم في التشريع، فأنشأت أول الأمر وزارة العدلية مجلة دعتها «مجلة العدلية»؛ لنشر بيانات الحكومة وقرارات المحاكم وبعض الإعلانات ونحوها، وكان يحررها كاظم الدجيلي، ثم رُئِيَ إيقافها والاستعاضة عنها بجريدة رسمية أنشأتها الحكومة باسم «الوقائع العراقية».
وقد احتفظت حكومتنا بتعبير «الوقائع» في الشرق لجريدتي السلطان محمود العثماني ومحمد علي باشا خديوي مصر، برز العدد الأول من «الوقائع العراقية» في كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٩٢٣، على أن تظهر ثلاث مرات في الأسبوع لنشر القوانين والأنظمة والتعليمات والمراسيم والإرادات الملكية والبيانات الوزارية وإعلانات الحكومة، وتدون ذيلًا لها محاضر مجلس النواب والأعيان المؤلف منهما البرلمان العراقي، وخطر لمؤسسيها من كبار موظفي وزارة الداخلية أن يجعلوها لأول وهلة جامعة لمباحث في السياسة والعلم والأدب والأخبار الخارجية إلى جانب الشئون الرسمية، كما كان شأن الوقائع المصرية في بدء حياتها؛ لذلك جعلوها بشكل مجلة في أعدادها الأولى، وفاوضوا أحد محرري الصحف — رفائيل بطي — لتولي تحريرها، بل صدر أمر وزارة الداخلية بتعيينه لهذه المهمة، فاعتذر فأوكل تحريرها إلى كاظم الدجيلي، واقتصر بعد تجربة قصيرة فاشلة على إلباسها الثوب الرسمي فحسب. وهكذا كان ولا تزال تنشر إلى اليوم.
جريدة الموصل
رأينا كيف أنشأ الإنكليز المحتلون جريدة في البصرة وجريدة في بغداد، فلما أتيح لهم أن يبلغوا مدينة الموصل فاحتلوها في خريف سنة ١٩١٨، ودخل جيشهم المدينة فعلًا بعد إعلان الهدنة، مما كان له تاريخ وحديث بين الدول الكبرى، وفي مؤتمر الصلح بفرساي اهتموا فيما اهتموا به بجريدة «الموصل» الرسمية فاستأنفوا نشرها باللغة العربية وحدها ثلاث مرات في الأسبوع، ولم يكن من السهل إيجاد أديب قدير يجيد الكتابة العربية وهو مُلِمٌّ بالعمل الصحفي، فاستعانوا باثنين من أساتذة التعليم هما سليم حسون والقس سليمان الصائغ، حتى تسنى لهم استقدام أديب صحافي لبناني هو «أنيس صيداوي» لهذا الغرض، وهو من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. وقد زاول الصحافة بعد حصوله على درجتها العلمية، فزامل جرجي عطية الأديب البيروتي في جريدته الأسبوعية «المراقب»، فأحست الحلقات الصحفية والأدبية بأثر هذا الكاتب في تحسين مادة «المراقب» فلما قضت محنة الحرب على الجريدة طوحت بالصيداوي إلى الترجمة ونحوها في الجيش البريطاني، فخلع هذا الأديب على جريدة «الموصل» ثوبًا بهيًّا من الفكر المثقف ثقافة حديثة، والأسلوب العربي المبين مع احتفاظها بالزي الرسمي، ويلقى فيها متصفحها الآن مقالات وشذرات فذة في الحياة الصحفية العراقية في ذلك الطور، كما أن أنيسًا هذا عوض عن قيود الجريدة الحكومية الرسمية في الموضوعات السياسية بإفساح المجال للأدب والاجتماع فيها، فصور الحياة الأدبية في مدينة أبي تمام تصويرًا باسمًا في فجر السلام بعد فواجع الحرب المدلهمة التي كابد في خلالها بلدي الويلات، ومن بعضها القحط حيث مات كثيرون جوعًا وأكل البعض لحوم البشر. وقد رأيت بأم رأسي جماعة من المهاجرين الذين رحلوا إلى الموصل من بعض المدن التركية يتكالبون على تقطيع أشلاء بغل نافق جروه من الشارع إلى أكواخهم.
وبدأت جريدة الموصل تشيد بالأدباء الموصليين وتبرز آثارهم، وفيهم من لم يعرفهم عالم الطبع والنشر قبل ذلك نظير أحمد الفخري الشاعر، ومع أن «الموصل» لم تحتفظ بهذا الرونق الأدبي، بعد أن تركها محررها عائدًا إلى بلده بيروت محتفظًا بذكريات طيبة واطلاع على أحوال العراق، نثره في مقالات مفيدة في «الهلال» ومجلة الكلية البيروتية وغيرهما؛ فقد عاشت حتى إذا أُنشئت جرائد أهلية في تلك الحاضرة، ووجدت جريدة الدولة الرسمية «الوقائع العراقية» التي تكفلت سهولة المواصلات الحديثة بتوزيعها في أنحاء القطر في وقت قصير، لم تجد الحكومة مبررًا لبقاء جريدة رسمية خاصة في الموصل فأوقفتها سنة ١٩٣٤.
في حلكة الحكم العسكري لقوات الاحتلال خنقت الحرية الفكرية، وحالت دون صدور أية جريدة سياسية غير الجرائد الرسمية، ويُعتبر محمد مهدي البصير في كتابه «تاريخ القضية العراقية» هذه الظاهرة من أخطاء حكومة الاحتلال. وقد حلل هذا الخطر «بأن مصادرة حرية الصحافة في العراق وجَّه رغبة العراقيين إلى قراءة الصحف السورية والمصرية الحرة، وكانت حافلة يومئذٍ بالحملات على سياسة أوروبا، مفعمة بأنباء التطورات السياسية في مصر والشام فعادت هذه السياسة على حكومة الاحتلال بالخسران، بينما أرادت بعملها الكسب السياسي.»
ثم هبت على الشعب العراقي نشوة انتعاش وتطلع بعد أن انفض مؤتمر الصلح في باريس عن «معاهدة فرساي». وقد حركت أفكارهم وعود الحلفاء وعهودهم وخطب رجالاتهم ومناشيرهم، وفي مقدمتها منشور الجنرال مود على أهل بغداد عند فتحها بجنوده الملونين، وينص فيه على أنهم جاءوا محررين لا فاتحين، ودعوة الرئيس ولسن الأمريكي التحريرية ومواده الأربع عشر المزعوم أنها وُضعت لتخليص الإنسانية من الاستعباد، كما طفق الضباط العراقيون يعودون إلى مواطنهم وبينهم من اشترك في الثورة العربية، وكانت تلهب الأذهان على شُطْآن دجلة والفرات الصحف العربية التي تحملها برد الجيش البريطاني نفسه وتوزعها هنا وهناك في بغداد والحواضر، بينها جريدة «القِبلة» لسان الملك المنقذ في الحجاز المتدفق بالحماسة للثورة، و«المقطم» و«الكوكب»، وكان «المكتب العربي» الذي أنشأه الإنكليز في القاهرة يغذيهما بالمقالات الرنانة في تحبيذ ثورة الحجاز، ووصف مظالم العثمانيين والإشادة بيقظة العرب وحقوقهم في الحرية والاستقلال، دعاية صاخبة منظمة حشدت لها الرءوس المفكرة في سبيلها، وأنفقت الأموال الضخمة.
يضاف إلى هذه البواعث قيام الحكومة العربية في الشام بعد أن احتلها جيش الخلاص بقيادة الأمير فيصل بن الحسين. وقد تولى الكثيرون من الضباط والمثقفين العراقيين مناصب خطيرة في حكومة الشام الجديدة، فلما كان يفد العشرات من هؤلاء الضباط والمدنيين على مسقط رءوسهم في أحياء بغداد ومرابع الموصل، كانت حقائبهم حافلة بصحف دمشق وهي تلتهب بوهج البعث القومي، في هذا الغليان السياسي أرادت حكمة إنكلترة أن تطوي صفحة الحكم العسكري الاحتلالي بحكم مدني بريطاني أيضًا، ولكنها تلكأت في منح «حرية الصحافة» لأبناء الرافدَين، فعند توقف جريدة «العرب» صدرت جريدة باسم «العراق»، ومنحت الحكومة الاحتلالية امتيازَيْنِ آخرين لجريدتَيْن؛ الأولى بعنوان «الاستقلال» والثانية باسم «الشرق». أما وجريدة الاستقلال من ألسنة الثورة التي سنتحدث عنها في المحاضرة الخاصة بصحافة «الثورة العراقية» فلأنجز بحث الصحافة في العهد الاحتلالي بعرض حياة الصحيفتين الأخيرتين، وهما جريدتان أهليتان مستقلتان.
جريدة العراق
يصدر غدًا العدد الأول من جريدة «العراق» وهي جريدة يومية تبحث في السياسة والأدب والاقتصاد، لصاحبها الوحيد رزوق داود غنَّام، وهذا العدد من جريدة العرب هو العدد الأخير …
وحيث لم يكن ميسورًا الحصول فورًا على مطبعة جديدة عهدئذٍ فقد ساعدت الحكومة هذا الصحافي مؤقتًا بالمطبعة التي كانت تطبع لها «العرب»، وهي في أصلها مطبعة جريدة «الزهور» التي صادرها الجيش المحتل، ولا سيما أن مؤسس العراق كان يشتغل في قسمي الإدارة والتحرير في جريدة «العرب»، وهو ممن اعتنقوا الفكرة القومية في العهد العثماني وعملوا في «النادي العلمي الوطني» في بغداد، فتعرض لغضب العثمانيين فنفي في خلال الحرب كما ذكرت.
برزت «العراق» في ١ حزيران (يونيو) سنة ١٩٢٠ تعالج السياسة والاقتصاد والأدب بلسان عربي فصيح، وأخذت في خدمة الصحافة بالتحسين الذي تؤاتيه الظروف، ومع أنها كانت تؤيد السياسة البريطانية بوجه عام فلم تكن تهمل واجبها كجريدة تشعر بالضمير الصحافي، وتعزز النزعة الوطنية بطريقة إيجابية معتدلة مما أكسبها رضا كثير من السياسيين، بحيث صاح محمد مهدي البصير «لِتَحْيَ جريدةُ العراق»، بينما كان يخطب في أحد المهرجانات الثورية في جامع الحيدرخانة في ليلة من ليالي بغداد البيض، تحت سماء الكفاح النبيل، وفاضت أنهر العراق من بدايتها ببحث الشئون العربية لجميع أقطارها وأيدت دعوة الملك حسين وأنجاله، وشادت بزعامة البيت الهاشمي بلهجة حارة واهتمت بالأمور الاقتصادية، ومهدت في مقالاتها وتنوع أبوابها لأنْ تقوم المملكة على كيان مكين في مفهوم الدول العصرية.
ومع أنها تُنشر بأربع صفحات؛ فقد عُنيت بالنواحي الثقافية والاجتماعية إلى حد كبير، وصدرت أعداد سنوية ممتازة في مطلع حياتها، فجاء علمها في ذلك الحين نواة النهضة الأدبية التي انعقدت براعيها في الحقل العراقي بعد الحرب. وقد كتب فيها غير محررها رفائيل بطي وشكري الفضلي وحسن غصيبة وعطا أمين وسلمان الشيخ داود ومحمد عبد الحسين وعطا عوم وغيرهم، وحاولتْ مرة في عهدها الأخير أن تجعل صفحة باللغة الإنكليزية فيها فلم تنجح فكرتها فأقلعتْ عنها، وبقيت تصدر إلى أن أوقفها صاحبها باختياره قبل ما يزيد على عشر سنوات.
جريدة الشرق
أما الجريدة الثانية «الشرق» فنهض لنشرها رجلٌ فلسطيني ممن تزودوا ثقافتهم من الجامعة الأمريكية في بيروت، وأتم دراسته العالية في جامعة كمبردج مختصًّا بالاقتصاد السياسي، وهو «حسين أفنان».
وكان في زمن الحرب معاون آمر المعتقل للأسرى الضباط العراقيين والعرب في سمربور، ثم أسند إليه منصب كبير في ديوان الحاكم البريطاني العام في بغداد بعد الهدنة.
نرى أمامنا بلادًا عم فيها الاضطراب وكثر الويل. وقد أخذنا في هذا البحران على عاتقنا مسئولية إنشاء جريدة يومية سياسية عالمة بهول الموقف ومصير الأمور.
فالشرق جريدة حرة معتدلة مبدؤها خدمة البلاد، وغرضها نشر الأفكار الحرة والمبادئ القومية وبث روح السياسة المسالمة ونشر الحقائق الناصعة، ولا ندعي بأن الحق في جانبنا فيما نقوله في جميع الأحيان، غير أننا سنتحراه بلا تردد ولا تأخذنا فيه لومة لائم.
لم تكن الشرق في حجمها وتبويبها وتحريرها تلفت النظر. وقد كتب فيها شكري الفضلي ونشر على صفحاتها بعض الأدباء الناشئين مقالات ونتفًا، منهم الكاتب القصصي محمود أحمد المدرس وأذاع فيها الزهاوي بعض رباعياته.
وهي في مشربها تدعم السياسة الإنكليزية بقوة، وأحسبها الجريدة الوحيدة في قطرنا التي جرأت فكتبت مقالات تحسن مذهب «الانتداب» في سياسة الشعوب، ونشرت مضابط في تأييد الوصاية البريطانية أو الانتداب البريطاني على العراق من بعض شيوخ العشائر في لواء ديالي، حتى إذا ما بدا موضوع تأسيس دولة العراق الجديدة قامت «الشرق» بدعاية وزعامة طالب باشا النقيب وترشيحه لعرش العراق، وأضفت عليه الأماديح نظمًا ونثرًا، بينما زميلتها «العراق» دعت بحرارة لآل البيت الهاشمي وللأمير فيصل بوجه خاص.
ثم كتبت صحيفة «الشرق» في عددها اﻟ ٢٥ مقالًا بعنوان: «شكل الحكومات اليوم»، تطرقت فيه إلى الموضوع الدائر في الإذاعات الرسمية الإنكليزية عن مستقبل العراق بين إنشاء إمارة أو إقامة وصاية أو انتداب، وختمت مقالتها: إن الأجدى بالحكومة العراقية أن تكتفي بالتأسيسات الحكومية وتكون لا ملوكية ولا إمارة ولا جمهورية …
وبعد شهرين من حياة الجريدة أبطلها صاحبها في ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ٢٠ عندما وظِّف سكرتيرًا لمجلس الوزراء العراقي.