صحافة الأحزاب في العراق
نحن الآن قد وصلنا إلى النقطة الحيوية المتعلقة بحياة البلاد أو مماتها، شقاؤها أو سعادتها، فليس أعظم من هذا الموقف فيما مضى على البلاد العراقية من قبل الحرب الكبرى إلى يومنا هذا، جهادنا العظيم، وفي مطالبتنا بحقوقنا المشروعة التي أيدتها الأمم كافة.
الشعب الذي هو المرجع الوحيد للبت فيها، ونحن مضطرون إلى العمل برأي الشعب.
المعارضة والصحافة
في هذا الموقف قامت في البلد حركة سياسية في الحملة على المعاهدة وطلب تعديلها، أو رفضها، وصارت الصحف تصور وجهات نظرها في هذه القضية الحيوية، فأخذت جريدة «العراق» تؤيد المعاهدة وتدعو المجلس لإبرامها، وممن كتب في هذا الموضوع غير مقالات الجريدة التحريرية، سلمان الشيخ داود، بينما وقفت جريدة «الاستقلال» من المعاهدة موقف المنتقد؛ فكتب محررها قاسم العلوي كثيرًا في هذا الباب، ونشرت الصحيفة مقالات لكتَّاب آخرين من معارضي المعاهدة بينهم علي محمود الشيخ علي.
جريدة العالم العربي
ظهرت صحيفة «العالم العربي» ظهور البشير بالتوفيق، وها هي ذي نازلة على هدى الله مع المجاهدين في سبيل المصلحة العامة، قاطعة للأمة عهود الإخلاص والأمانة ومؤملة منها الثقة والمناصرة. وقد اعتمدت على اتباع خطة الصراحة فيها، وإن تهالكت على تقوية «قلب الشعب» وإراحة أفكاره، فلا ترضى أن يلتهي بالآمال ويبقى نائمًا «نوم الأطفال الأبرار» باسمًا للأحلام الذهبية وراكنًا إلى عناية المرضع ورحمتها، أو يؤمن إيمان الساذج بكل ما يسمع فتفوته الحقائق الراهنة والفرص الثمينة … ولما كانت جريدة «العالم العربي» من الشعب وللشعب فقد تعهدت بإفادته بكل ما يهم حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، وتحريضه على إبراز «شخصيته» في كل موقف، وأخذ ما يحق «لذاتيته» من الاحترام، ولكلمته من النفوذ، ولحالته من الإصلاح والتجدد والرقي.
ثم ذكرت: «وقد توفرت عليها وسائل الطبع والنشر في مطبعتها المعروفة «بدار الطباعة الحديثة» المجهزة بأكمل وأحدث الآلات واللوازم الطباعية والليتوغرافية، وإنَّا ساعون إلى توسيع نطاق الجريدة ومؤملون أن نلحق بها في القريب العاجل أعدادًا أسبوعية ممتازة مصورة بالألوان على الطراز العصري.» وإن لم تستطع أن تحقق برنامجها الصحافي هذا.
وهنا نعود إلى رأينا طالبين من الحكومة والمجلس أن يبرزا في هذا الموقف الفريد كل ما عندهما من المقدرة والشخصية والخبرة السياسية، ويتفقان والحليفة على شروط أنسب للمصلحة الوطنية ولإراحة قلوب الشعب العراقي المحبوب.
عاشت «العالم العربي» سنين وتجلى فيها نشاط صحفي، وعرفت مقالات «ريبورتاج» لمحررها كتبت بتفنن ولباقة، فإذا ما أرادت أن تنتقد أفرغت انتقادها في قالب غير مثير لشواعر الحاكمين، كما عُنيت بترجمة ونقل معظم ما نُشر عن العراق في الصحافة الأجنبية، وفي المؤسسات الدولية، وظلت تتمتع بهذه الميزات حتى برزت صحف أخرى حوت ألوانًا من التجديد الفني.
ومما يُسجل لهذه الجريدة دفاعها عن حق العرب في فلسطين ومكافحتها للصهيونية بلهجة لا هوادة فيها تكبدت في سبيلها تضحيات مادية.
•••
ومن الجرائد التي أيدت المعاهدة وطالبت بإبرامها صحيفة «المفيد» التي ذكرتها في محاضرة سابقة. وقد تطرف صاحبها في اندفاعه في تأييد المعاهدة إلى درجة أنه علق يومًا على خطاب الدكتور داود الجلبي عضو المجلس التأسيسي في معارضة المعاهدة، علَّق مذكرًا الناس بحوادث الشام المؤلمة التي كان العناد والاندفاع الوطني من عوامل وقوع تلك المأساة وضياع العرش العربي على ضفاف بردي.
ولا بدَّ من القول أن هذا الصحافي «إبراهيم حلمي العمر» لم يكن ممن بكوا العرش المحطم في حينه.
جريدة الشعب
إن معارضة الصحف للمعاهدة إلى جانب خطب بعض النواب في المجلس خلق جوًّا من الصخب في المجتمع على المعاهدة، فهاجت بغداد وماجت، ونزل إلى الميدان الصحفي محمد عبد الحسين أحمد صحافي «الثورة العراقية سنة ١٩٢٠» كما مر بنا، فأصدر في ١٠ نيسان (أبريل) سنة ١٩٢٤ جريدة باسم «الشعب» أوقفها على مناقشة المعاهدة والدفاع عن وجهة نظر المعارضين لها، وكانت شديدة الوطأة في مقالاتها وبحوثها السياسية.
وتفاقمت حركة المعارضة واشتد التوتر السياسي. وقد أراد المعارضون الضغط على «المجلس التأسيسي» ليرفض المعاهدة، وتوالى عقد الاجتماعات العامة التي تُلقى فيها الخطب الحماسية ويثار الشعور الوطني حتى أفضى الأمر إلى أن تصدى شخص متطرف لإطلاق النار على شيخين من شيوخ القبائل وعضوي المجلس التأسيسي هما عداي الجربان وسلمان البراك. وقد ظهر منهما تأييد قوي للمعاهدة، فكان للحادث دويه، فهبت الحكومة لقمع الحركة، فاعتقلت بعض المحامين الذين عقدوا اجتماعًا سياسيًّا عامًّا للحملة على المعاهدة، وعطلت جريدتي «الشعب» و«الاستقلال» للهجتهما الصارخة في نقد المعاهدة واعتقلت صاحبيهما.
كلام «بغداد تايمس»
كاد أن ينقضي شهران على المجلس التأسيسي وهو ينظر في المعاهدة العراقية-البريطانية، ونسمع الآن بإعداد تقارير ضافية الذيول وبمناقشات طويلة عريضة في أمر رفض المعاهدة أو تعديلها أو قبولها بشروط ترمي إلى تعديلها في المستقبل.
ولكن ما فائدة هذا الكلام كله؛ فقد وضح لأقل الناس إدراكًا وضوح الشمس في رائعة النهار أن البلاد لا تريد المعاهدة على ما تفسرها ذيولها، وعليه فليقدم أعضاء المجلس التأسيسي على إبداء آرائهم ويرفضوا المعاهدة ويقضوا عليها القضاء المبرم، وليعلموا أن البريطانيين أنفسهم لا يريدون المعاهدة، فلو أُتيح لهم المكث في البلاد وهم مشمولون بالصداقة والمحبة بغية معاونتها في السير في سبيل النجاح لرضوا بالبقاء عن طيبة خاطر، ولكن ذلك لحلم قد انقضى؛ فقد حلَّ الشك محل الصداقة، فلماذا إذن يبقى البريطانيون في هذه البلاد؟ فإن الأوفق لسياسة بريطانيا في تركية وفارس والهند أن يخرج البريطانيون من العراق من غير قيل وقال، وبذلك يزيلون عنهم بالكلية ظنون المطامع الإمبراطورية، والذي نتساءل عنه الآن هل يخرج البريطانيون من العراق إذا ما قلب لهم أهلوه ظَهْرَ المِجَنِّ كما يبدو على موقفهم الحالي؟ إن التجارة في العراق لا يُعبأ بها، وقمح العراق وجلده وصوفه أردأ قمح وجلد وصوف في الدنيا، والشركات البريطانية في العراق لا تربح شيئًا، ويحتمل أن يزرع القطن هنا في المستقبل، ولكنَّه دون القطن الذي يزرع في السودان والمستعمرات الأفريقية، ويحتمل كذلك أن تعثر الشركات على النفط، ولكننا نستطيع الحصول عليه في بلدان أخرى من غير أن نخاطر برءوس أموالنا، فلا فائدة لإمبراطوريتنا من البقاء في العراق.
مقال «التيمس» اللندنية
- أولًا: أن تساعد بريطانيا العراق مساعدة عسكرية وسياسية ومالية في السنين الأربع أو الست المقبلة، بينما تسعى هذه الدولة في تثبيت كيانها.
- ثانيًا: أن تصرح بريطانيا تصريحًا جليًّا بأنها لا تنوي بسط سيطرتها على العراق مدة ٤٠ سنة أو ١٠ سنوات كما فعلت في مصر.
وليعلم الناس في إنكلترة أن جانبًا من التحريض على رفض المعاهدة ناشئ عن تضارب المرامي في السياسة المحلية؛ ففي كل مجلس نيابي نرى مطامع الأشخاص غير المتقلدين زمام الأمر تسوقهم إلى السير على منهج لا ينطوي على الحكمة والعقل على ما يظهر، وهنالك فريق كبير يرى أن إثارة الرأي العام قد تحمل الحكومة البريطانية على الموافقة على تعديل بعض شروط المعاهدة، ويعتقد هؤلاء أن رفض المعاهدة رفضًا مؤقتًا قد يحمل بريطانيا على التساهل في شروطها كما فعلت في أيرلندا ومصر.
فعلى الحكومة البريطانية أن لا تتوقع أن العراق قد بلغ شأنًا بعيدًا في الرأي، فإن الحكم الديمقراطي الذي أُنشئ في العراق جاء سابقًا لأوانه بالنظر إلى الأحوال المحلية، وعلى المرء أن لا يتوقع العظائم من أناس صغار ينوبون عن مناطق يغلب فيها الجهل، ولا يسعنا إلا الاعتراف بأن الموقف يوجب الحيرة حتى البريطانيين، وأصعب من ذلك العراقيين الذين نظامهم في الحياة مبني على الإيثار — الغيرة — وهو رائدهم في السياسة، فلماذا تظل إنكلترا في العراق وتنفق كل سنة ملايين الليرات على تلك البلاد، فالعراق لا ينوي أن يمنح طلاب الامتيازات الاقتصادية من البريطانيين شروطًا أسهل من الشروط التي يعطيها لغيرهم من الأجانب، والمسائل السياسية الأسيوية أبعد من إدراكه؛ لأنه ما من عراقي يعتقد بأن بريطانيا تنوي الخروج من العراق، وكل ما قيل في هذا الشأن يحسبه محض إيهام لحمل المجلس التأسيسي والشعب على قبول المعاهدة. وقد أدى هذا الاعتقاد إلى إثارة الخواطر بقصد تعديل المعاهدة، حتى إن في بغداد بعض التجار يعضدون فكرة رفض المعاهدة؛ لأنهم يعتقدون أن البريطانيين يظلون في العراق على صورة دائمة إذا رفضت المعاهدة.
فلإزالة الشكوك يستحسن نشر بلاغ يبسط فيه ما تناله بريطانيا العظمى من بقائها في العراق، وما تنوي الحكومة البريطانية عمله إذا لم يبرم المجلس التأسيسي المعاهدة. أما العراقيون فإنهم يتصورون في الوقت الحاضر أن باستطاعتهم تهييج الخواطر على ما يشاءون، وليس حجة من الحجج التي يدلي بها أصدقاؤهم البريطانيون تقنعهم بأن ما يعتقدونه أضغاث أحلام، فليت شعري ماذا يتمكن خصوم المعاهدة من تقديمه بدلًا منها وقد وقف للعراق بالمرصاد على حدوده ابن السعود والفُرس ومصطفى كمال وفرنسة في سوريا وشرق الأردن، فإذا جلت بريطانيا العظمى عن العراق تسابق هؤلاء الجيران المكتشفون بالعراق والفوضى الداخلية لافتراس الفريسة، فتذهب أتعاب العشر سنوات ومشقاتها أدراج الرياح.
وقد انبرت جريدة «العالم العربي» للرد على «بغداد تيمس» بمقالات دافعت فيها عن الرأي العام العراقي وحقوق الشعب، حتى جريدة «العراق» التي كانت تؤيد المعاهدة وتدعو لإبرامها استنكرت موقف «بغداد تيمس» فيما كتبته ونقلته عن «لندن».
ثم أبرم المجلس التأسيسي هذه المعاهدة في إحدى الليالي بعد تأزم سياسي في البلد ومظاهرات وهزات الجماهير يقابلها عنفٌ في إجراءات الحكومة، وطفق المجلس ينظر في مشروع الدستور العراقي، وعندما أنجزه أبرم بعده مشروع قانون الانتخاب لمجلس النواب.
ويلاحظ متتبع الحال في الصحافة العراقية أنها لم تُبْدِ اهتمامًا يُذكر بمناقشة الدستور الذي شرعه المجلس التأسيسي شأنها في اهتمامها بالمعاهدة، ومرجع ذلك إلى أن الثقافة القانونية الدستورية كانت ضعيفة في العراق في ذلك الوقت، وليست الحال على هذا المنوال لما وُضع «الدستور المصري»؛ فقد قابلته الصحافة المصرية بسيل من المقالات والدراسات؛ لأن الفقه الدستوري والثقافة القانونية راسخان في وادي النيل من عهد بعيد، كما أننا اعتدنا أن نشغل أنفسنا بالحس السياسي وتحريك العواطف الوطنية. أما الأسس والتعمق إلى الأغوار في أحوالنا وسياستنا، فنهملهما غالبًا إبَّان اشتداد الحركة.
بعد انفضاض «المجلس التأسيسي» وقد أنجز المهام المودعة إليه، أخذت الدولة في السير لاستكمال وسائل الحُكم والتشريع، فقامت وزارة قوية برئاسة عميد المعارضة في المجلس ياسين باشا الهاشمي، فاختار أعضاءها من شخصيات لها منزلتها وكفايتها، وصارت الوزارة تنجز الأعمال بسرعة، فنُشر الدستور وقانون انتخاب النواب ووضعا موضع التنفيذ، ونشر قانون الجنسية العراقية وبدئ العمل بانتخاب المجلس النيابي الأول.
جريدة حزب الاستقلال في الموصل
في هذه المرحلة الخطيرة من حياة البلاد، وصلت إلى العراق «اللجنة الأممية» التي قررت «عصبة الأمم» إيفادها لتدقيق «قضية الموصل» والفصل في أي المطالبين أحق بأن تبقى له العراق أم تركية؟ فكانت أول بادرة للنشاط السياسي قيام جماعة من المشتغلين بالسياسة والمعنيين بالمصلحة الوطنية بتكوين حزب سياسي في الموصل دعوه «حزب الاستقلال». وقد نصَّ منهج هذا الحزب في مواده الأولية على الاستقلال التام للقطر العراقي بحدوده الطبيعية، وتنشيط حركة الوحدة العربية في الخارج …
ولهذا الحزب يد تُذكر في الدفاع عن قضية الموصل عندما زارت اللجنة الأممية يرأسها المسيو دوفرسن الأسوجي تلك الأصقاع، ومما استعان به الحزب على النجاح في أعماله إصداره جريدة باسم «العهد»، وهو الاسم التاريخ المحبب عند العاملين في الكفاح الاستقلالي — جريدة يومية عربية — ظهرت في الموصل في ٢٠ كانون (يناير) سنة ١٩٢٥ على أن تنشر ثلاث مرات في الأسبوع مؤقتًا. وقد حررها كاتب سوري من أحرار العرب «عثمان قاسم»، وكان طريد الحكم الفرنسي في الشام، وتوفر لفيف من الأدباء الموصليين، وبخاصة أعضاء الحزب على تغذية الجريدة بالأفكار والكتابات، بحيث تخرج على الجمهور قطعة متوهجة من إيمان وطني وعواطف صادقة وروح حي، ولم تسلم «العهد» من غضب الحكومة، فعطلتها، فأصدر الحزب بدلها جريدة «فتى العراق» حصل على امتيازها أولًا متى سرسم، ثم انتقلت إلى عهدة المحامي سعد الدين زيادة ومنه إلى غيره.
جريدة حزب الشعب
وبعد أن افتتح المجلس النيابي الأول يوم ١٦ تموز (يوليو) سنة ١٩٢٥ وجد في داخل المجلس حزبان: حزب مؤيد للحكومة القائمة أطلق عليه «حزب التقدم» يرأسه عبد المحسن السعدون، وحزب معارض دُعي «حزب الشعب» يتزعمه ياسين الهاشمي، وتأهب حزب الشعب لنشر جريدة يومية بأربع صفحات. وقد حاولت أن تصدر بست صفحات، فلم يمكنها إعوازها إلى مطبعة خاصة من الاستمرار في ذلك، فعادت إلى الصفحات الأربع بعد بضعة أيام.
ها قد مسَّت الحاجة إلى إصدار هذه الجريدة، وتقديمها إلى الشعب العراقي الكريم لتكون ناطقة بالخطة التي وطَّن «حزب الشعب» نفسه على القيام بها والسير عليها؛ لإيصال البلاد بالطرق المشروعة والوسائل الشريفة إلى ما تصبو إليه وتتوق من حرية كاملة واستقلال تام لا شائبة فيه ولا مغمز.
إن منهاج الحزب لا يحتوي على كثير من الكلمات، لا سيما وقد وطَّد الحزب العزم على العمل أكثر من القول …
وستتحاشى هذه الجريدة كل ما يتعلق بالأمور الشخصية بقدر المستطاع.
أما تحريرها فقد أناطوه بإبراهيم حلمي العمر — وكانت جريدته معطلة — إلا أن رئيس الحزب والأعضاء خفوا للكتابة فيها، ومن بينهم نصرت الفارسي ورضا الشبيبي وإبراهيم كمال ومحمود رامز وعبد اللطيف الفلاحي، وكان الرئيس ياسين الهاشمي إما يكتب المقالة الأولى بتمامها من غير توقيع صريح أو يهيئ «رءوس أقلام» للمقال الافتتاحي يدفعه لمحررها.
والذي عليه الإجماع أن جريدة حزب الشعب ظهرت بنضج في التفكير السياسي كما هي مثال للأدب والابتعاد عن المهاترات الشخصية، مع أنها في القراع الحزبي قوية جهيرة الصوت، بل عُرفت فاتكة في حملاتها.
ولهذه الصحيفة مواقفها في القضايا المهمة، من ذلك مناقشة المعاهدة الجديدة بين العراق وبريطانيا التي مددت أجل المعاهدة الأولى إلى خمس وعشرين سنة. وقد غادر أعضاء «حزب الشعب» قاعة المجلس لما لم يستجب طلبهم بالتريث في إبرام هذه المعاهدة في جلسة واحدة، كما اقترحت الحكومة.
واستنفدت هذه الجريدة جهدها كله في السياسة، فتفرغت لمعالجة أمورها وقليلًا ما كانت تُعالج شئون الاقتصاد أو الاجتماع. أما الأدب فلم تُعنَ به اللهم إلا بعض قصائد نشرتها لجميل الزهاوي لرابطة الود التي جمعت بين رئيس الحزب والشاعر.
ولما اشترك «حزب الشعب» في الحكم في وزارة جعفر العسكري المؤتلفة في ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٢٦ أصبحت جريدته حكومية تحبذ أعمال الوزارة القائمة، إلا أن صوتها في التأييد يُناقض لهجتها في المعارضة؛ إذ هنا خفت نبراتها، كما تصدَّع «حزب الشعب» نفسه لاشتراكه في الوزارة، فقل الإقبال على الجريدة وتفرق أكثر المشتغلين بتحريرها وإدارتها من الموظفين فيها، فعُيِّنَ محررها كاتبًا في مجلس الوزراء، ولفظت أنفاسها في ٦ تموز (يوليو) سنة ١٩٢٧، وإن استخدم امتيازها للصدور بمكان جريدة «البلاد» المعطلة فترة من الوقت بعد ذلك.
جريدة حزب التقدم
هذا ما كان من أمر «حزب الشعب» المعارض وجريدته. أما «حزب التقدم» فقد ألفته وزارة عبد المحسن السعدون فور توليها مقاليد الحكم، وبقي مقتصرًا على العمل في داخل البرلمان ورئيسه هو عبد المحسن السعدون نفسه، وعجز غيره عن أن يحل محله في زعامة الحزب.
ومن أعضائه البارزين ناجي السويدي وصبيح نشأت وحكمت سلمان ومحمد أمين زكي ونوري السعيد، وفي منهج الحزب ما يشير إلى إنفاذ المعاهدة العراقية الإنكليزية، والسعي لإجراء التعديل الذي نوَّه به المجلس التأسيسي، وإدخال العراق عصبة الأمم والاحتفاظ بالوحدة العراقية بحدودها الطبيعية، والحصول على الاستقلال التام وتأييد روابط المودة مع الحليفة بريطانية، وإيجاد صلات ودية مع الدول كافة، هذا عدا عن الخطط المرسومة في المنهاج للسياسة الداخلية، وكلها ترمي إلى رفع مستوى الشعب وتقدمه أدبيًّا وماديًّا.
وإذا رجعنا إلى «حزب التقدم» وصحافته طالعتنا رحابة صدر تحلَّت بها الوزارات التي كان يرأسها عبد المحسن السعدون مهما بلغت لهجة الصحف المعارضة من القسوة أحيانًا، مثاله ما ورد في مقال لكاتب في جريدة «الاستقلال» يعرض بالمسئولين في مناقشة سياسية: «لهم وجوه القردة وجلود الخنازير.»
ولم يكن حزب التقدم في أول أمره يحسُّ بالحاجة إلى جريدة خاصة تشد أزره؛ إذ كانت أكثر الصحف المنشورة عهدئذٍ تواليه وتؤيده في معظم المواقف بينها «العراق» و«العالم العربي»، ولكنَّه رأى بعد ثلاث سنوات من حياته أن تكون له جريدة خاصة أسوة ببعض الأحزاب الأخرى، فأنشأ أولًا جريدة باسم «اللواء» تُنشر ثلاث مرات في الأسبوع يُديرها ويُحررها محمد سعيد العزاوي، ظهرت في ٢٠ آيار (مايو) سنة ١٩٢٨، ولم تُكتب لها الحياة أكثر من أيام معدودة.
نريد بكلمتنا أن نبسط منهاجنا وخطتنا بصراحة ووضوح، غير ملتجئين إلى الأساليب الغامضة والجمل الفارغة بغية الإغواء والتلاعب بالعواطف، ذلك منهج ينهجه من يروم الاصطياد في الماء العكر، ومَن يتخذ قلمه وصحيفته واسطة من وسائط الاتِّجار — وليلاحظ السامع أن في هذه الفقرات من جريدة التقدم تعريض صريح بالصحف المعارضة والحزبية.
إن جريدتنا حزبية قبل كل شيء آخر، فهي لسان حزب التقدم، حزب الأكثرية في البرلمان، فمبدؤها مُستقى من مبادئ الحزب، وغايتها بث الدعاية لمبادئ الحزب، تلك المبادئ الواضحة التي ترمي إلى إعلاء شأن هذه البلاد ورفع مكانتها؛ فلذا ليست هذه الجريدة بجريدة شخص تستغويه العواطف الجياشة وتستهويه الظواهر الكاذبة، إنما هي جريدة حزب له خطته الرضية ومنهاجه الصريح، حزب يضم بين مجموعه خِيرة رجال هذا القطر من حيث الإخلاص والعلم والثقافة … ومبادئ الحزب هي المبادئ القويمة التي ترفع مكانة هذه البلاد وتوصلها إلى ضالتها ومبتغاها واستقلال ناجز تام وحرية مطلقة وكيان محترم ورخاء فياض بالسعادة والهناء، وقد رأى الحزب أن الوقت قد حان ليوسع نطاق أعماله ويوطد أركانه ويذيع مبادئه، فكانت هذه الجريدة الخطوة الأولى فيما عزم على القيام به من الأعمال المفيدة لهذا الوطن.
ثم بسطت جريدة التقدم خطتها من أنها ستعالج السياسة الخارجية والداخلية بصراحة ووضوح لا تشوبهما شائبة التمويه، وتترفع عن الشخصيات وتحترم الخصوم السياسيين وآراءهم، ودحض ما يجب دحضه بالأدب والحِكمة والحجة الناصعة والسعي لطرق الموضوعات الاجتماعية والدعاية للتجديد واقتباس أنوار التمدن الحديث، ونشر ثقافة اليوم وحث الحكومة على مساعدة الفلاح والعناية بالزراعة، وأنها ترحب بالانتقاد النزيه وشعارها «التقدم إلى الأمام»، وغايتها السعي إلى استقلال البلاد استقلالًا ناجزًا بالطرق والأساليب الحكيمة التي لجأت إليها الأمم الرشيدة في كفاحها وجهادها القومي.
كانت «التقدم» حزبية بكل ما في هذه الكلمة من معنًى، تُحسن في مقالاتها وكتاباتها أعمال الحكومة وتدعو لسياستها. وقد اشتبكت في هذا السبيل في جدال ومناوشات مع الصحف الأخرى، فناقشت جريدة «الاستقلال» وهاجمت جريدة «النهضة»، وقست في الحملة على جريدة «العراق» التي وقفت في الظرف الذي نحن بصدده ضد الحكومة وحزبها في بعض القضايا، فكانت التقدم تشنع في وصف جريدة «العراق» وتنبزها بالتعابير الغليظة، ويمكن أن نحسب نعتها لها «بالصحيفة الاستعمارية» أخف نعت وجهته إليها، مع أن الجريدة ذكرت وهي تعرض خطتها أنها ستترفع عن الأمور الشخصية.
وإذا نظرنا إلى جريدة «التقدم» من النواحي الصحفية رأيناها راقية في مقالاتها الافتتاحية وبعض بحوثها وفصولها، إلا أنها لم تكن على شيء من التفنن الصحفي والأسلوب الجذاب في العرض والتبويب والتنسيق. وقد انصرفت عنايتها إلى السياسة والاقتصاد، أما الأدب والفن فلم تحفل بهما.
إن المسألة سياسة مبادئ لا سياسة أشخاص، وإنه سيبقى ذائدًا عن حزب التقدم ولن يتخلى عن جريدة «التقدم».
ولكن يظهر أنه أراد شيئًا وأرادت الأقدار شيئًا آخر؛ فقد توقفت الجريدة عن الصدور بعد ٥ أيار (مايو) سنة ١٩٢٩؛ أي بعد أربعة أيام فقط من اليوم الذي عاهد المحرر الناس على مواصلة العمل. وهكذا عاشت الجريدة أقل من سنة ولم تَقُمْ لها قائمة بعدُ، ولا سيما أن الحزب نفسه ذهبت ريحه بعد انتحار رئيسه في خريف سنة ١٩٢٩. وقد استعانت جريدة «البلاد» بامتياز جريدة «التقدم» في بعض عهود المحن والتعطيل الذي أصيبت به، فأصدرتها سنة ١٩٣٠، ثم بدلت اسمها بعد عددين من «التقدم» إلى «الجهاد»، وأصابها التعطيل بعد زمن قصير
جريدة حزب النهضة
ومن الصحف الحزبية ذات الأثر جريدة «النهضة العراقية» لحزب النهضة، وهو حزب تألف في ١٩ آب (أغسطس) سنة ١٩٢٢، ومن أركانه أمين الجرجفجي وأحمد الظاهر وآصف وفائي ومهدي البير ومحمد حسن كبه.
ومع أن الحزب أثبت في نظامه الأساسي أنه سيصدر صحيفة سياسية ومجلة علمية تخدمان مبدأه، فلم يقم بذلك إلا بعد أربع سنوات من نزوله إلى ميدان الخدمة العامة، فنشر في ١٠ آب (أغسطس) سنة ١٩٢٧ جريدة «النهضة العراقية». وقد رسم صدرها بأنها «لسان حال حزب النهضة العراقية»، وكانت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، ثم جُعلت يومية، ويجب أن نذكر أن عميد الحزب أمين الجرجفجي أنفق على الحزب والجريدة من ماله الخاص شيئًا كثيرًا.
يستقبل العراق اليوم عهدًا جديدًا نأمل أن يكون ميمونًا، ويجتاز ظروفًا صعبة نرجو أن تكون مباركة، ويعبر في طريقه أحداثًا خطيرة الشأن، فواجب الأمة وواجب أحزابها وجماعاتها وصحافتها أن توحد صفوفها، وتقف قوية حيال مشاكلها الكثيرة، وتكون رشيدة إزاء مواقفها الدقيقة، لذلك بعث «حزب النهضة» نفسه وهبَّ للجهاد، ولذلك نهض معلنًا خطته في معالجة قضايانا السياسية وحل ما يمكن حله منها، وقد وضع نصب عينيه المسائل التالية: …
وصارت جريدة حزب النهضة تذكر القضايا الراهنة، قضية قضية، مبتدئة بالمفاوضات الدائرة بين ممثلي الحكومتين العراقية والبريطانية في لندن، فانتقدت «النهضة» كتمان هذه المفاوضات وإخفاء الوزارة العراقية أسس تعديل المعاهدة التي يتفاوض بشأنها، وأسمت كل ذلك تَخَرُّصات، وقالت: إن سياسة الحزب تجاهها الصمت والحذر والانتباه، وزعمت أن الوزارة القائمة واهنة وتحتاج إلى الثقة، فكيف تقوم بالمفاوضة وقد ألحفت مطالبة الحكومة بنشر بيان يعرب عن الأسس التي تدور حولها المفاوضة ليطمئن الشعب.
أما قضية الجيش والتجنيد الإجباري فقد صرحت برأي حزبها فقالت: «إن مبدأ الحزب أن الاستقلال الموفور الكرامة إنما يحميه جيش لجب يحمل شرف الدفاع، ولكن الوضع السياسي الحاضر جعل مقدرات جيشنا كسائر مقدرات البلاد بين يدي ظروف قاسية، وهذا الوضع الاستثنائي وهذه الأحوال الشاذة هي التي صيرتنا نشك كثيرًا ونرتاب كثيرًا في النتائج التي يلتمسها الشعب من جيشه، فما دامت المؤثرات الخارجية هي الحاكمة المهيمنة، وما دامت الأهواء والأغراض تلعب في المصالح العامة، فلا يمكن تطبيق «الجندية الإجبارية».»
ومما يلاحظ أن جريدة «حزب النهضة» ثابرت على معالجة موضوع «التجنيد الإجباري» بهذه النزعة، مما سلم لخصوم تكوين الجيش الوطني سلاحًا يشهرونه في وجه طالبي التجنيد الإجباري.
وكان سير الجريدة ينمُّ عن اعتناق مبادئ تتصل بحرية الفكر والمطالب الاستقلالية؛ لأننا وجدناها تحمل على الحكومة حملة شعواء لتعطيلها جريدة إبراهيم صالح شكري المسماة «الزمان»، مع أن «الزمان» وقفت من «النهضة» موقف المخاصم؛ لما تكتبه عن المفاوضات الدائرة حول المعاهدة في لندن. وقد وصفت الجريدة «الزمان»، وهي خصيمتها بأنها «شيخة الصحف الوطنية» في عاصمة الرشيد ولسان الأحرار الناطق في الرافدَين.
… جاز عندهم الكذب فكذبوا على الله وكذبوا على الحقيقة والتاريخ.
… تاهوا فلم يحسبوا للمستقبل حسابه، ولم يلتفتوا لما أضمرته الأيام للمارق الخئون، وما حملته بين طياتها من النقمة والعذاب، وخالوا أن ساعة الحساب بعيدة، وأن روح التساهل الذي تلبَّس به الشعب وخلوده إلى السكينة كفيلان باجتياز هذه السبل بسلام وطمأنينة. وقد جهلوا نفسية الأقوام وروحية الشعوب إذا تمخض فيها الغضب، وإذا تصاعد من قرارها حب الانتقام والتشفِّي من الظالمين القساة.
وقد تعرضت صحيفة «حزب النهضة» لنقمة الحكومة في قيامها بواجبها الحزبي والصحافي، وبسبب جرأتها وصراحتها، فسيقت إلى المحاكم مرات وحُكم على مديرها المسئول ومحررها بالغرامات، فلم تنثنِ عن المُضيِّ في سبيلها عالية الصوت.
ومن مأثور مواقفها الحملات العنيفة على الوهابيين في حوادث فيصل الدويش، وتمزيقها تهاويل المستر فلبي في جريدة «الديلي نيوز»، ومهاجمتها الحركة الانفصالية التي أثارها بعض المسيرين من الأجنبي في البصرة، ناعتة فعلتهم «بالخيانة العظمى»، وقاومت «امتياز اللطيفة» الزراعي لمَّا عُرض على مجلس الأمة.
وآزرت الهيئة الوطنية في مصر سنة ١٩٢٨ في ضجة الشعب المصري لوأد الدستور، كما تفوقت في الدفاع عن عروبة فلسطين.
ودافعت عن عرب خوزستان في مقالات أحدثت صدًى في الأوساط العراقية والإيرانية والأجنبية.
ولما عطلت الحكومة «النهضة العراقية» في مطلع أيلول (سبتمبر) ١٩٢٩ لحملتها على الإنكليز في الشرق عامة وفي العراق خاصة، أصدر الحزب مكانها «صوت العراق» لصاحب امتيازها مزاحم الأمين الباجه جي — ولمَّا تكنْ قد نُشرت بعد — التي أُصيبت هي الأخرى بنكبة التعطيل الإداري من الحكومة.
جريدة الحزب الوطني
و«الحزب الوطني» المؤسس في ٢ آب (أغسطس) سنة ١٩٢٢ عُرف بأنه من أصلب الأحزاب الوطنية عودًا وأشدها مراسًا في الكفاح السياسي، ولا سيما في معارضة سياسة الانتداب، ومن رجاله غير رئيسه جعفر أبو التمن، بهجة زينل، ومحمد مهدي البصير، وحمدي الباجه جي، ونوري فتاح باشا، وعلي محمود الشيخ علي.
دَوَّن الحزب في المادة ٣ من منهجه أن «غاية السياسة هي المحافظة على استقلال العراق التام بحدوده الطبيعية ومؤازرة حكومته الملوكية الدستورية النيابية، والذبَّ عن كيان الأمة العراقية، والنهوض بها إلى مصاف الأمم الراقية ماديًّا وأدبيًّا، وتحسين الصلات بين العراق والأمم الراقية؛ للسعي وراء المشاريع المفيدة، وتنشيط الفكرة الوطنية للوحدة العراقية، واتخاذ الوسائل المشروعة لردع من يتصدى لنشر وإذاعة ما يُوقع الشقاق والتفريق بدعاية الدين والجنس بين العراقيين.»
ولم يُعْنَ الحزب في السنوات الثماني الأولى من حياته بإصدار جريدة خاصة به، ولعله اكتفى بجريدة أحد أعضائه عبد الغفور البدري «الاستقلال»، وكان هذا الصحافي جريئًا يواجه النكبات الصحفية بصدر رحب، فتتعرض جريدته للتعطيل المتواصل، فينشر بمكانها جرائد أخرى، ولكن الحزب اعتزم إصدار جريدة تكون لسانه، فظهرت جريدة «صدى الاستقلال» يومية، أثبت في رأسها أنها «لسان حال الحزب الوطني العراقي»، وتولى سياستها علي محمود الشيخ علي الذي طالما حملت صحيفة «الاستقلال» أو الصحف التي نشرتها إدارتها مكانها مقالاته الضافية في القضايا الراهنة. وقد اتسمت هذه المقالات بطول النَّفَس وصرامة التعبير.
برزت الجريدة للوجود يوم ١٥ أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٣٠، ونشأت تخدم أغراض الحزب الوطني، فلم تتحمل الحكومة لاذع انتقادها فعطلتها ولمَّا يمضِ على نشرها شهر واحد، فاستعاض الحزب عنها بجريدة أخذ أحد أعضاء الحزب «محمود رامز» على عاتقه مسئوليتها. «صدى الوطن» ظهرت في ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٣٠، فكان نصيب جريدة الحزب الوطني الجديدة نصيب أخواتها، فعُطلت بعد شهر ونصف من عمرها، فلم يهرب أعضاء الحزب من ميدان المعارضة من منبر الصحافة، بل صعدوا للقراع فحصل «محمود رامز» على امتياز جريدة جديدة باسم «الثبات» بدأت خدمتها في ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٩٣١، فعطلتها الحكومة في ٧ شباط (فبراير) سنة ١٩٣٢.
أصدرت قبل عامين جريدة «الوطن»، فقامت بما حتمه عليها الواجب وقضت به المبادئ والكرامة، فذهبت شهيدة فيهما ضحية لهما بالتعطيل مرتين ثم الاختفاء الأخير، وعز علينا أن نستسلم للأمرين خائفين لا نبدي حراكًا ولا نأتي عملًا، فيبقى الحزب الوطني من غير صحيفة تعمل بمبادئه، وإن قامت بعض الصحف بتمثيل رأي الحزب حينًا من الأحايين، فكلَّف الحزب أحد أعضائه وهو مدير هذه الجريدة باستحصال إذن بإصدار «الثبات»، فصدرت وظلَّت تناضل عامًا كاملًا حتى قُضي عليها بالتعطيل مرتين، وها هي اليوم تعود إلى الميدان حاملة لأمتها علم الإخلاص في الكفاح، قوية في إيمانها، ماضية في خطتها، مبشرة بمبادئها، مستمدة قواها وروحها من روح هذه الأمة، ملهمة في الدفاع عنها من الله وإرادة الأمة، أجل وها هي اليوم تعود إلى ميدان الجهاد والتضحية في سبيل هذا الوطن المنكود الذي تفاقمت عليه الأرزاء والمحن من كل جانب، وتضافرت عليه الأطماع والأهواء وشتى أسباب التنكيل به، إن هذه الصحيفة تريد أن تعمل في توحيد الصفوف وجمع الكلمة والتقريب بين المخلصين، وخلق وحدة قوية منهم؛ ليتم العمل المشترك في إنهاض هذه البلاد وإنماء روح الشعور القومي، وتقضي على كل فرد مشعوذ يريد القضاء على هذه الوحدة المقدسة …
غير أنها لم يظهر منها أكثر من ١٣ عددًا؛ إذ قرر الحزب إيقاف أعماله وأذاع قراره في الناس في نصف عدد من جريدته «الثبات» — أي بورقة واحدة — يوم ٢٠ نيسان (أبريل) ١٩٣٤، تحمل قرار الحزب بغلق أبوابه وتعطيل جريدته.
أرادت الوزارة التي ألفها نوري السعيد سنة ١٩٣٠ أن يكون لها حزب في مجلس النواب يعضدها ويبرم لها بأكثرية المشروعات التي تريد أن تمضي فيها، وفي مقدمتها المعاهدة العراقية البريطانية الجديدة.
جريدة حزب العهد
ولما كان نوري قد اختار معظم زملائه في المسئولية ممن يرتبط بهم بتاريخ ماضٍ في عهد الدراسة في إستانبول وفي ميدان الثورة العربية، فإنه أوعز إلى جماعة من السياسيين الشباب ممن يرتبطون معه بصلة تفاهم، بينهم المحامون والأطباء، فكونوا حزبًا، واختار السعيد له اسمًا براقًا في ذاكرة القوميين فدعاه «حزب العهد»، وإن كان مؤسسه يعلم قبل غيره أن الكراسي النيابية هي الرابطة الوثقى بين أعضاء هذا الحزب، فإذا حلَّت وزارة أخرى هذا المجلس انفرط عقد الحزب حالًا، ويمكننا أن نذكر من الأشخاص الذين قام الحزب على عواتقهم الدكتور فائق شاكر، وثابت عبد النور، وإبراهيم الواعظ، وأغلب الأشخاص الذين انضموا إلى الحزب الحكومي الجديد بعد أن أصبحوا نوَّابًا ممن سبق لهم أن كانوا أعضاء مؤمنين في «حزب التقدم» الحكومي.
أذنت وزارة الداخلية بتأسيس «حزب العهد» يوم ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٩٣٠، ونصَّت مادة منهاجه (الثانية) «على أن غاية الحزب تحقيق استقلال العراق التام وإسعاده بإنماء القوى الوطنية وتنظيم أمور الإدارة والاقتصاد والمعارف والصحة والزراعة والجيش، وبث روح التجدد وإصلاح الأنظمة والقوانين بروح الثقافة العصرية.»
اشتدت المعارضة «للوزارة العهدية» ونشطت الحركة الوطنية، فهبَّ «الحزب الوطني» للعمل الجاد وتأسس «حزب الإخاء الوطني»، وتآخى الحزبان على وثيقة سياسية للعمل المشترك، وقوي التطاحن بين حزب الحكومة وأحزاب المعارضة.
ولقد رافق حزب العهد كثيرًا من الضغط والتشديد، واتخذت الحكومة تدابير قاسية ضد معارضيها، ووقع اضطهاد مرير على الأحرار، وعانت الصحافة الوطنية الأمرَّيْنِ في هذا الطور، وتعددت محاكمة الصحافيين والكتَّاب، وعمرت بهم السجون والمنافي، ويقتضي الإنصاف أن نذكر أن هذه المشادة بين الحكومة والمعارضة لم تحرم البلد من صحافة جريئة صريحة، فقد كانت الحكومة تعطل الجريدة ثم لا تلبث أن تمنح امتيازًا جديدًا بجريدة تحل محل الجريدة المعطلة بتأثير قوة الأحزاب ورعاية البلاط الملكي؛ لممارسة الشعب حقوقه الدستورية.
ولم يكتفِ «حزب العهد» النيابي بصحيفة أحد أعضائه «العراق»، بل أنشأ جريدة خاصة به هي «صدى العهد» يومية ظهرت في ٧ آب (أغسطس) سنة ١٩٣٠. وقد منح امتيازها لعبد الرزاق الحصان من الباحثين في التاريخ القومي.
تيمنًا باسم النبي الكريم، واتباعًا لخطته القويمة أصدرنا جريدتنا في يوم الولادة الجليل.
وحفلت أعداد الجريدة الأولى بالمقالات في الشئون القومية يكتبها رئيس تحريرها، وبدأت تروج للمعاهدة العراقية البريطانية الجديدة من مبدأ حياتها.
وكثر الأخذ والرد بينها وبين الصحف المعارضة؛ فحدثت مناوشات حادَّة بين «صدى العهد» وبين جريدة «البلاد» وجريدة «صدى الاستقلال».
استقبل بعض المغرضين حزب العهد العراقي بشيء كثير من التهجم والدناءة، ونشروا شيئًا من سخائم نفوسهم حول هذا الحزب، وهم أفراد يعدون على الأصابع، ولو تأملت قليلًا في ماضيهم وحاضرهم وما انطوت عليه نفوسهم من الخبث واللؤم والشهوات والأغراض، لتجلى لك خطر هؤلاء المهازيل على الوطن وآماله وأمانيه.
هذا نموذج من تعابيرها ولم تتورع في هذا المقال من أن تنعت خصومها «بالزعانف» و«العلوج».
وقد تكون «صدى العهد» أول جريدة عراقية طالبت بتضييق الخناق على الصحافة وطعنت في «قانون المطبوعات» النافذ وحسنت تعديله؛ لأنه يمنح حرية واسعة للصحف!
والمتصفح لجريدة «صدى العهد» في أشهرها الأولى يجدها تحبذ بحماسة الهتلرية، وتتمدح الروح الجرماني، وتدعو إلى إرسال البعثات العلمية إلى ألمانيا، وتطنب في الثناء على موسوليني وتكبر الفاشستية.
كما أن صحيفة «حزب العهد» خدمت الفكرة القومية، وقامت بنشر تعاليم النهضة العربية بزعامة البيت الهاشمي، وكان لها في تأييد «مشروع توحيد العرشين» بين العراق وسوريا كتابات كثيرة.
وقد ترك عبد الرزاق الحصان الجريدة بعد ١٩ كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٩٣٠، فانتقل امتيازها إلى عبد الهادي الجلبي واشتغل في التحرير فيها توفيق السمعاني، واهتم الحزب بتأسيس مطبعة خاصة لجريدته.
وشغلت «صدى العهد» نفسها بالحملات العنيفة على الحزبين «الحزب الوطني» و«حزب الإخاء الوطني» تعاونها جريدة «العراق» في هذا المجال، واستمرت الجريدة على الصدور حتى بعد سقوط الوزارة السعيدية وتأليف ناجي شوكة وزارة جديدة يوم ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٣٢ وقيام هذه الوزارة بحل المجلس النيابي وتكوين مجلس جديد، إلا أنها في خلال عملية الانتخابات النيابية لم تتعرض للحكومة بسوء، إنما واصلت تهجمها على «حزب الإخاء الوطني»، ولكنها بعد أن أسفرت نتيجة الانتخابات عمدت «جريدة حزب العهد» إلى معارضة الوزارة الشوكتية فعطلتها الحكومة.
فلما ذهبت الوزارة الشوكتية وتسلمت الوزارة الجديدة مقاليد الحكم برئاسة رشيد عالي الكيلاني في ٢٠ آذار (مارس) سنة ١٩٣٣ اندفعت «جريدة حزب العهد» في معارضة الوزارة الكيلانية، مع أن رئيس الحزب «نوري السعيد» وبعض أقطابه أعضاء في هذه الوزارة المؤلفة.
والحق أن جريدة حزب العهد — «الطريق» — تذبذبت بعد ذلك، فصارت تؤيد الوزارة التي ألفها جميل المدفعي التي خلفت الوزارة الكيلانية، ووقفت موقفًا فاترًا من غير لون في عهد الوزارة التي ألفها علي جودة الأيوبي، فلما اضطلع ياسين الهاشمي بتأليف وزارته القومية الكبرى سنة ١٩٣٥ أيدت صحيفة «الطريق» الوزارة ورئيس حزب العهد مساهم في مسئوليتها.
وعند حدوث الانقلاب العسكري الأول الذي أنجزه الفريق بكر صدقي العسكري، ونصب الانقلاب وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، أظهرت جريدة «الطريق» تحزبها لنوري السعيد، ونشرت ما أغاظت به الوزارة القائمة فعطلتها في ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٣٦، فصفى الباقون من فلول الحزب «المطبعة» وانتهت حياة جريدتهم.
جريدة حزب الإخاء الوطني
بعد أن تضامنت المعارضة وأملت الظروف على المتفاهمين في سياستهم وجوب التساند انعقدت الخناصر على تأليف حزب سياسي كبير، فأعلن للملأ تأسيس «حزب الإخاء الوطني»، أجازته وزارة الداخلية يوم ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٣٠. وقد اجتمع فيه من الشخصيات السياسية ياسين الهاشمي، وناجي السويدي، ورشيد عالي الكيلاني، وعلي جودة الأيوبي، وحكمة سليماني، ومحمد زكي، ويوسف غنيمة، ورضا الشبيبي، والسيد عبد المهدي، وغيرهم …
- (١)
بذل الجهود لتنبيه الشعب العراقي إلى الأخطار المحدقة به من الوجهات السياسية والإدارية والاقتصادية، ومقاومة التصرفات الشخصية التي لا تأتلف والمصلحة العامة.
- (٢)
العمل على تأليف رأي عراقي عام لمكافحة كل ما من شأنه أن يشوب استقلال البلاد بأية شائبة، أو يخل بالوحدة العراقية أو ينافي أحكام القوانين.
- (٣)
العمل على صيانة حقوق العراق في مرافقه الاقتصادية وحماية وترويج منتجات البلاد واستثمار مواردها لخير أبنائها.
وتآخى «حزب الإخاء الوطني» مع «الحزب الوطني» فور تأليف الأول، واتخذا موضوع الساعة المعاهدة العراقية-البريطانية الجديدة هدفًا لكفاحهم السياسي ومقاومة الوزارة السعيدية التي عقدتها، فأذاعوا في الصحف آراءهم في تسفيه المعاهدة مبينين أنها تخل بالاستقلال التام، وتثلم سيادة الشعب، فكان لهذه الدعاية تأثيرها العميق في الرأي العام، فنجح الحزبان في تأليب الجماهير على الوزارة واستنكار مشروعاتها.
وهذه أسماء الصحف التي أصدرتها جريدة «البلاد» بمكانها في خلال فترات تعطيلها المتعددة: «صوت العراق»، «الجهاد»، «الشعب»، «الزمان»، «نداء الشعب».
… مرت بخاطري مناظر الانتخابات ومهازل الاستفتاء التي أنستنا حينًا من الزمن الدستور والقانون، وألهتنا عن خدمة الأمة والوطن في ساعات المحنة، فصرنا نهدد هذا ونغمط حق ذاك، ونكره القريب، ونغري البعيد باسم الدستور، وتحت ستار الخدمة للوطن والأمة، والناس عنَّا لاهون.
إذا كانت القلوب لا تخفق بحب هذا الوطن الصريع، والسواعد لا تدافع عن حياض الدستور المنيع؛ فلا يمين تنفع ولا قانون يردع، فبئس العقبى وبئس المصير.
فهل من البرِّ باليمين أن نمنع الاجتماعات ونسد الصحف ونكمَّ الأفواه، وحرية إبداء الرأي مكفولة بالدستور …
فطريق الخدمة يا قوم ليست التي نمشي عليها، وما كانت الجهود التي بذلناها والضحايا التي قدمناها لأجل أن نزج بالوطن في هذا السجن الرهيب.
فلما عطلت «نداء الشعب» أصدرت البلاد «السياسة» عوضًا عنها.
واشتهرت الصحف التي أصدرتها «جريدة البلاد» في خلال غيابها بتعطيل الحكومة لها، وفي ظل «حزب الإخاء الوطني» باللهجة الشديدة والتفكير السديد وقوة الحجة، كما كان لانتشار هذه الجرائد المريع في أنحاء القُطر كافة وصوتها الداوي صداها في المجتمع العراقي، بحيث تجسمت قوة الصحافة كأداة حزبية في نشر الدعوة وتلقين الشعب وهزِّ عواطف الجماهير، وأهم القضايا التي عالجتها صحافة الحزب في هذه الفترة، مقاومة معاهدة التحالف بين العراق وبريطانيا سنة ١٩٣٠ و«اتفاقية النفط» الجديدة.
وتضافر فريق من كبار الساسة والكتَّاب في معالجة هذه القضايا الحيوية والكتابة فيها مع هيئة تحرير جريدة «البلاد»، وبخاصة فهمي المدرس، وباقر الشيبي، مقالات صادعة تثير طبقات الشعب وتحرك مشاعر الناس، فتعمد الحكومة إلى تعطيل الجريدة تخلصًا من تأثيرها، وتُمعِن أحيانًا في إرهابها فتسوق الكاتب والمدير المسئول إلى القضاء أو تنفيهما إلى مكان بعيد.
هذه أهم الصحف الحزبية التي وُجدت في الفترة التي نتحدث عنها من تاريخ الصحافة، ويمكننا أن نضيف إليها جريدة «الأهالي» والصحف التي صدرت في محلها خلال تعطيلها، وهي تمثل رأي فريق من الشباب معتنقي الأفكار اليسارية تكتلوا فيما بينهم أول الأمر في حلقات من الأندية الأدبية والاجتماعية نظير «نادي بغداد» وأرادوا أن يظهروا في جماعة رسمية مستفيدين من عضوية بعضهم في الوزارة في عهد الانقلاب العسكري الأول سنة ١٩٣٦، وأعلنوا أنهم سيؤلفون «جمعية الإصلاح الشعبي»، إلا أن بطل الانقلاب الفريق بكر صدقي العسكري لم يساندهم؛ فعجزوا عن أن يُكَوِّنوا لهم حزبًا سياسيًّا، أو أن يبرزوا أية قوة في ذلك العهد.
ويضيق وقت المحاضرة من التبسط أكثر في العوامل التي كونت هذا التكتل في داخل المجالس النيابية وخارجها، والنتائج التي توصلت إليها وانعكاسها في الرأي العام مما يتطلب تفصيلًا لا يتسع له مجال هذه المحاضرات.