صحافة الهزل والنقد
إن حظ صحافة العراق من الهزل والكاريكاتور ضئيل، ولذلك عوامل؛ أولها: أن العراقي جاد بعيد عن روح الفكاهة والهزل في هذا الزمان، بخلاف المصري مثلًا، الذي تخالج فكرته النكتة، ويفعم قلبه مرحًا على الدوام.
كما أن الكتابة الفنية الهزلية والكاريكاتورية بمعناها العصري في الصحف شيء جديد في بلاد الرافدَين، وإذا رجعنا إلى الصحافة العراقية في العهد العثماني رأينا ما كان يُسمى هزلًا قِطعًا وشذرات تافهة، أو تعريضًا سمجًا يتناول الأعراض والشتيمة والسباب بوجه عام، وليس هناك الكتَّاب المتفننون الذين يُبدعون في وصف بعض الحالات أو الشخصيات بأسلوب هازل.
وقد أراد بعض أرباب الصحف القليلة في ذلك العهد تقليد صحافة إستانبول في هذا فأخفقوا؛ لأن فن الكاريكاتور كان قد تقدم في تركية تقدمًا لا بأس به بعد أن طعم بثقافة أدبية وفنية أوروبية، وليست الحال على هذا المنوال في العراق، فالأكثرية ممن عالج الصحافة قبل الحرب العالمية الأولى ثقافته عربية بحتة، وندر فيهم من يجيد لغة أوروبية، وكان أغلب أصحاب الصحف عندنا إذا ما أرادوا إيراد فكاهات أو نحوها اقتبسوها من الصحف العربية للبلاد الأخرى، أو ترجموها عن التركية.
كنَّاس الشوارع
وأول كاتب هزلي لفت نظر القراء بعد الحرب العالمية الأولى عُرف باسم «كناس الشوارع»، وهو شاب تخرَّج من مدرسة الآباء الكرمليين ببغداد، وفيه نزعة مرح وخفة روح مع ثقل جسم، وهما صفتان متلازمتان غالبًا.
سألته يومًا لماذا اخترت «كنَّاس الشوارع» اسمًا قلميًّا لك؟ فأجابني: أردت أن أختار شخصية آدمية كثيرة التجوال في شرايين المدينة وقلبها دوارة تقترب من الأبواب، وتدخل البيوت، بيوت الفقراء وقصور الأغنياء، فلم أجد خيرًا من «كناس الشوارع»، ثم وددت وإني أعتزم الانتقاد والحملة على العادات والنواقص في الناس والمجتمع أن أختار اسمًا يُوافقه حمل سلاح للتهويش والضرب، ولِسَمِيِّي مكنسة مشهرة دائمًا، يحملها على كتفه ويكنس بها وينظف. وقد يستخدمها للضرب والدفاع عن النفس عند الحاجة.
هكذا طلع على الناس «ميخائيل تيسي» في جريدة «الرافدان» أولًا وفي «دجلة» بعدها، يتستر وراء توقيع «كناس الشوارع» في مقالات قصيرة يتحدث فيها في الشئون اليومية بلهجة بسيطة يتخللها الكثير من الألفاظ والتعابير العامية، ينقد بعض العادات والأخلاق والأوضاع الاجتماعية غير السياسية، فصادفت هوًى من نفوس القراء أكثر مما كان ينتظره الكاتب نفسه.
والحق يقال: إن «كناس الشوارع» أجاد في بعض نقداته؛ لأنه قد انتقد بعض الشئون التي أوجبت تأخرنا الاجتماعي، بتصوير حسن وأسلوب جيد، فاستحسن الجمهور تلك الملاحظات وأُعجب بها.
وتدور أكثر ملاحظاته حول النظافة ووجوبها، والتشنيع بحركات الآخرين وأصواتهم المزعجة، وفضح حيل الباعة والدوارين، ثم تنبيه بعض الدوائر الحكومة، ولا سيما البلديات إلى ما هو من واجباتها من تنظيف وإنارة الطرق وتجفيف البِرك في الشوارع.
ويعمد «كناس الشوارع» أحيانًا إلى النقد الأخلاقي أو الاجتماعي فيعرض بالعادات السيئة والطبع اللئيم، ويصف أمراض الحياة والبيئة ومساخرها وحيل النسوان وبلادة الرجال — وبتعبير محكم — الأزواج.
وكتابات هذا الكاتب الهزلي طراز لتفكير طبقة كبيرة ممن أصابوا حظًّا من التعليم، ومع أنه يجيد الفرنسية ويُحسن الإنكليزية فلم يُعْنَ بأن يسلك طريقة أحد الكتاب الفرنسيين أو الإنكليز الهزالين، بل اهتم بأن يفكر ويستوحي من الجو المحلي، وهذا سر إقبال الجمهور على قراءته، بل إن الجريدة السياسية اليومية التي كان يكتب فيها هذه النقدات راجت بسببها بعد خمول، وصار القارئون يتطلبونها لقراءة «نقدات الكناس».
خطتي معلومة واضحة كالشمس في خامسة الليل، أحمل مكنستي وآخذ أتجول في الطرق والأزقة، فحيثما رأيت أحدًا يأتي أمرًا مخالفًا للذوق والشم والنظام والقانون والكمنجة ضربته بمكنسة كافرة على رأسه، فإن انكسرت المكنسة راحت من كيسي، وإن انكسر رأسه راح من كيسه.
هذا؛ وقد بلغني بأن هناك بعض الناس لا يعرفون قدر أنفسهم ويتطاولون إلى ما ليس من شأنهم، ويمدون أرجلهم إلى ما وراء بساطهم؛ وعليه فليكن مجهولًا لدى العموم بأني قد بثثت العيون والحواجب في كل محل من المحلات، وأطلقت رجال الخفية والظاهرية في كل مكان، فالويل لمن تأتي على يده الشكوك، خير لذلك الإنسان لو لم يُولد، فجميع مكانس العراق أكسرها بالمفردات وبالجملة على رأسه ولا أبالي، أنا رجل عصبي كسكين ودموي شاور، فإذا غضبت فإن جميع كازوزخانات العراق ومعامل الثلج لا تبرد غضبي.
فليحذر الحاذرون وليتأهب المتأهبون، فإنهم سوف لا يعلمون حتى ومن أية جهة سيكنسون.
وقد ملأ الصحفي الهازل صحيفته دعابة وتفكهة، لا تجد فيها مقالة واحدة جدية، حتى الأخبار المحلية يكتبها في قالب المزح. وقد راجت رواجًا كبيرًا.
ومن أساليبه في التفنن في التهكم أن كان زار العراق أمين الريحاني فيلسوف الفريكة اللبنانية، وألقى في بعض أندية بغداد الأدبية قصائد من «شعره المنثور»، فسرعان ما نسج «كناس الشوارع» على منواله «قصيدة» على طريقة الشعر المنثور، وناعتًا إياه «بالشعر المنتوف» واصفًا بغداد المدينة منتقدًا حالتها الصحية والعمرانية، منها هذه المقطوعة:
اللازمة
•••
وقد عَرَّضَ في إحدى هذه المقطوعات بالانتخابات النيابية والمرشح الذي سخر منه بقوله:
إن مبدئي ومشربي مثلًا يختلفان في كثير من الأمور عن مبدأ الرحال بك ومشربه، ومع ذلك فقد اتفقنا على إصدار سينما الحياة بلا تردد، ماذا يهمني إذا كان الرحال يُخالفني رأيًا ومبدأ، وماذا يهم الرحال إذا كنت أُخالفه كذلك، فله حقله ولي حقلي، له إمضاؤه ولي إمضائي، فما صدر بتوقيعه فهو له، وما صدر بتوقيعي فهو لي.
ومن مفارقات جريدة «سينما الحياة» أن شريك «الكناس» الرحال كان يكتب ويترجم فيها بجانب كناساته مقالات جدية وعويصة عن «التطور الاقتصادي» و«ذهنية الماضي»، وكله من مراجع تقدمية في الكتب والمجلات.
ولم تعمر «سينما الحياة» طويلًا؛ إذ أوعزت الدائرة الرسمية التي يشتغل فيها صاحباها بأن يكفا عن نشرها.
حاول الكاتب بعد سنين مزاولة الصحافة الأسبوعية، فنشر جريدة جديدة باسم «الناقد» برزت للقراء يوم ٦ أيار «مايو» سنة ١٩٣٦، ولكنه في هذه المرة مال إلى الجد بجانب فصول الهزل، واحتوت جريدته مقالات ترمي إلى الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، وعُني بأبواب فيها للمسرح والسينما ونقدهما، ثم سئم الصحافي هذه الحياة وفضل عليها التوظف في الحكومة، فتوقفت جريدته في ٢٦ شباط (فبراير) سنة ١٩٣٩.
حبزبوز
وقد نبغ في العراق في الفترة بين الحربين العالميتين كاتب فَكِه منتقد نادر المثال عُرف بتوقيع «حبزبوز»، وهي محرفة عن «أ. حبزبز» أي أحمد حبزبز «أحد المتبطلين المشهورين في الجيل الماضي»، وأستميحكم عذرًا إذا ذكرت أنني اكتشفت مواهب هذا الكاتب؛ فقد كان «نوري ثابت» من رجال التعليم جمعتني به مجالس الأصدقاء مرات عديدة، فوجدته خفيف الروح مليح النكتة، ثم قرأت في جريدة «الكرخ» لصاحبها الشاعر العامي «عبود الكرخي» وصفًا رائعًا لمجالس نساء بغداد من الطبقة الشعبية ذوات العقلية المحافظة والطابع العامي، فسألت صاحب الجريدة عن الكاتب المتستر وراء توقيع «خجه خان»، فعلمت منه أنه صاحبنا «ثابت»، ولم يكن يحوم حول السياسة، إنما هو قاصرٌ همه على النقد الاجتماعي بأسلوبه الخاص، فلما أنشأت جريدتي «البلاد» سنة ١٩٢٩ دعوته لكتابة باب «الهزل والتفكهة» في الجريدة، وأطلقت لقلمه الحرية الكاملة وبمسئوليتي طبعًا، وأغريته بثمن حسن لمقالاته في سوق الصحافة في العراق، فاستعظم أول وهلة أن يكتب يوميًّا مقالًا هزليًّا في جريدة سياسية، كما لم يتوسم بعض أصدقائه وإخوانه له نجاحًا في هذه المهمة، ولكنني أصررت على رأيي فاندفع يكتب من العدد الأول من جريدة «البلاد» وصدر الصحيفة رحب في تقبل ما يريد أن يكتب مع اقتراح الموضوع عليه أحيانًا، فلم ينقضِ عليه في هذه الكتابة شهر واحد حتى شغل القراء وحظي باستحسان واشتهر في المحافل، بحيث قال فيه الزعيم السياسي ياسين الهاشمي: «إنه خير من يصف أخلاق المجتمع وأهله وصفًا فيه الإجادة كلها والعبرة البالغة.»
وما مرت أسابيع إلا وعدت وظيفته على حرية فكره وصراحته في النقد، فأنذرته دائرته الرسمية، فانقطع عن الكتابة بضعة أيام ثم عاودها باسم قلمي «أ. حبزبوز»، وبهذا عُرف ونبه ذكره في بلده.
وحبزبوز كاتب خفيف الظل، أسلوبه محبب إلى النفوس، تمازجه تعابير دارجة عند الدهماء، مطعمة بالأمثال السائرة على ألسنة الناس على اختلاف طبقاتهم، وتحليها حكايات ونوادر مما يتناقله الجمهور من «عهد العثمانيين»، ويختزن الكاتب في ذاكرته منها محصولًا وافرًا.
وعندما عزل من وظيفته في الحكومة لأسباب ليست كلها صحفية اعتمد على سمعته الكتابية، فأسس جريدة أسبوعية باسم «حبزبوز»، لكن التجربة أثبتت أن أحسن كتاباته وأشدها جرأة تلك التي كتبها في جريدة «البلاد» لذيوع الجريدة ومركزها الممتاز من ناحية، وللجو الطليق الذي خلقته له آخذة على نفسها ما يكتب من ناحية ثانية، فلم يكن يهمه أن يُرضي فلان أو يُغضب عِلَّان، ولا أن يكسب مشتركًا في جريدته، أو تُحرم الجريدة من إعلان كما صار شأنه بعد أن أصبح صحفيًّا.
باسمك اللهم
من «أ. حبزبوز» إلى الشعب العراقي الكريم
خطتي:
إن هذه الصحيفة فكاهية أدبية فنية بحتة — على طول! — لا علاقة لها — توبة أستغفر الله العظيم! — بالسياسة والأحزاب مطلقًا.
تختلف الظنون على مبدئِي وتحوم الشكوك حول نزعتي! لذا وددت أن أزيح الستار وأقدم نفسي — بريزنته — إلى القراء.
إذن لم يبقَ إلا شيء واحد وهو أنني لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ أي بلا حزب يعني «حزب سز»، وهنا أقسم لكم — وهو القسم الأخير بحياة الشيخ — على أنني لست كذلك.
إذن مَن أنا وما هي نزعتي؟
أنا حبزبوز، وحبزبوز فقط، خادم الجميع وساعٍ وراء تحسين صحيفتي التي ستكون فكاهية فنية فقط؛ لعلي أصل بها إلى حد الصحف المصرية والسورية مثل «الفكاهة» و«الكشكول» و«الدبور» و«المضحك المبكي» … إلخ.
وعلى الله وحده اتكالي وهو خير معين ونصير.
حاول «حبزبوز» أن يستخدم الكاريكاتور في كل عدد فلم يفلح في ابتكار كاريكاتورات متقنة.
نالت هذه الجريدة الفكاهية رواجًا في البلد، وكان لها تأثيرها في الأوساط المسرحية والملاهي والفنادق.
وهي الجريدة العراقية الوحيدة التي أصدرت عددًا خاصًّا عن «مصايف لبنان»، وبوفاة الكاتب سنة ١٩٣٨ غابت جريدته إلى الأبد.
كُتَّاب هزلون آخرون
وقد عالج الكتابة الهزلية كُتَّاب آخرون بينهم من كان يتحلى بثقافة وأدب نظير «خلف شوقي الداوودي» صاحب مجلة «شط العرب» في البصرة، واسمه المستعار «ملا ناصر الدين»، ولكنهم لم يبلغوا مكانة «حبزبوز» ومنهم «عبد القادر المميز» الذي كان يوقع «أبو حمد»، وتسنى له أن يصدر جريدة بهذا الاسم فترة من الوقت.
ووجد شاعر عامي ذو شخصية في أزجاله يصف مجتمعه وجيله بما لم يبلغه الشعراء الفصحاء في عهده، بلهجة عامية وبتعابير وأمثال عامية أيضًا، هو «المنلا عبود الكرخي».
ولما رأى أن لشعره العامي تأثيره في طبقات الشعب احترف الصحافة وأصدر جريدة باسم «الكرخ» في ١٠ كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٢٧، أفضل ما كان فيها قصائده، وأسَّس مطبعة خاصة لجريدته، مما عجز عنه بعض الكتَّاب والصحفيين الجديين، ولكنَّه لم يُحسن إدارة المطبعة، ولا استطاع أن يثبت في عالم الصحافة مع أن جريدته كانت تصور الطبقة العامة أدق تصوير، سواء بما ينشره فيها من قصائده بالمناسبات أو بمقالات اجتماعية ووصفية أخرى بلهجة عامية.
إبراهيم صالح شكر
وهناك كاتب فذ في لهجته وأسلوبه أشغل حيِّزًا بارزًا في عالم الصحافة أو الكتابة الصحفية في العراق، وإن لم تكن له جريدة يومية كبرى، هو إبراهيم صالح شكر، لم يكن هزلًا في مقالاته، بل ساخرًا ومتهكمًا، ثم منتقدًا لاذعًا ومصورًا بارعًا، خُلق موهوبًا في فنه الكتابي، تتلمذ في أول نشأته على قراءاته لبعض بلغاء الكتَّاب والناقدين المصريين أمثال أحمد فؤاد «صاحب الصاعقة» وفهيم قنديل «صاحب عكاظ»، ومال إلى دراسة روائع الأدب العربي القديم، وأولع بالأسلوب الرصين والألفاظ المجلجلة، واقتبس فصحاء المنشئين القدماء والمحدثين، فأصبح كاتبًا بليغًا ومنشئًا مبدعًا.
تمرَّس أول ما شدا في جريدة «بين النهرين» و«النوادر» و«النور» كما قربنا، واستقل بجريدة أسماها «شمس المعارف»، وقال: إنها تختلف عن صحف العراق بما فيها من ذوق أدبي وفوائد، إلا أنها لم تَعِشْ غير بضعة أعداد فقط.
وشارك إبراهيم صالح شكر الشاعر إبراهيم منيب الباجه جي، فأصدرا معًا في بغداد مجلة «الرياحين» شهرية نورت براعمها في ٢٧ آذار (مارس) سنة ١٩١٤، وما عتمت سموم الحرب الكبرى أن صوحتها.
وما انجابت ظلمات تلك الحرب حتى حنَّ إبراهيم إلى الصحافة فنشر مجلة شهرية «الناشئة»، حفلت على صغر حجمها بالأدب والنقد الاجتماعي، وعاشت أشهرًا بين عامي ١٩٢١ و١٩٢٢.
واستأنف الأديب العمل الصحفي بجريدة «أسبوعية» دعاها «الناشئة الجديدة» في ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٩٢٢، فكانت حدثًا في صحافتنا الأسبوعية، تفنن صاحبها في أبوابها ومقالاتها وشذراتها، يُعاونه بعض الكتَّاب من الشباب الطالع.
فإذا صوب الداخل نظره إلى صدر البهو رأى شيخًا في الثمانين من عمره جالسًا على سرير فاخر، تنبعث منه كهرباء المهابة والجلال، وتلوح على محياه أمارات العظمة والإمارة.
فإذا جلس رأى من حسن الاستقبال وجمال الحديث ما يمثل أمام عينيه أدب النفس وحسن البيان.
فإن ولج معه باب السياسة، خيل إليه أنه يحدث أكبر الرجال عقلًا وأعظم الوزراء رأيًا ومعرفة بحوادث الغير، ووقائع العبر.
وإذا عطف ذمام الحديث إلى المحاضرة حسب نفسه بحضرة الصاحب بن عباد أو السيد الشريف الرضي، حيث يسمع من الأدب الرائع والبيان ما يُعبر عنه بالسحر والحلال.
وإذا دخل معه باب البحث في الفلسفة وما تحويه مجالس العلماء ونوادي الأمراء جرى على لسانه:
ثم يرى أثناء ذلك ضيوف الزائرين على اختلاف الطبقات من شاعر أديب وعالم فاضل ووجيه كبير وأمير جليل.
وبعد أن كانت تغلب على الجريدة صبغة الأدب والاجتماعيات تحوَّلت إلى السياسة واندفعت تُكافح في ميدانها الوعر المسالك، وصار رجال السياسة الأذكياء يعزون الصحفي الكاتب ويوجهونه وفق ما يشتهون، ومع أنه لم تثبت لجريدة «الناشئة الجديدة» شخصية سياسية معينة، ولكن القلوب تعلقت بصحيفة الكاتب المجيد، فزاده الإقبال والتقدير مضاء في براعته الكتابية على حد القول المأثور: «اللهم تفتح اللَّهاة»، فأوجد في صحافة العراق الصور القلمية لرجال السياسة والمجتمع في إطار أنيق من الوصف المحكم والتعبير الجميل واللفظ الأرن، مما لم يكن لهذه الصحافة به عهد قبله وأغرم القراء، ولا سيما الشبان بهذه الصحيفة الفذة وتهافتوا على قراءتها.
ومع أن الامتياز بأن تكون جريدة «الزمان» يومية، فلم يَقْوَ على نشرها إلا مرتين في الأسبوع، وتلقف الجمهور الصحيفة بلهفة، وعظم شأنها في الأوساط السياسية والأدبية، ولكن الجرأة النادرة التي تحلى بها صاحبها اصطدمت بأهواء السياسة، فصرعت الصحيفة وعطلت مرات، مما اضطر الكاتب الحساس إلى ترك ميدان الصحافة والانزواء في حجرة ضيقة من دواوين الحكومة، تاركًا السواد يلهجون ببراعته الكتابية، وتحرر جريدته ودوي صوتها في الدفاع عن حقوق الوطن في مواقف معروفة.
ولا يزال الفتيان والكهول يترنمون بمقالات «إبراهيم صالح شكر» التي عنوانها «قلم وزير»؛ إذ كتبها «بقلم مداد» أهداه إليه الوزير «علي جودة الأيوبي»، وعالج فيها صفحات من تاريخ القضية العربية في عهد الثورة الكبرى بأسلوب يحلل الحوادث ويلقي ضوءًا على بعض الشخصيات العربية … وتنطوي على تفسيرات للأحداث وأوصاف للأشخاص غير ما عرف بين الناس عنها وعنهم.
إيضاح
إن الوقت المخصص لموضوعنا لا يمكن أن يتسع مع الأسف لتصوير صورة كاملة لحالة الصحافة العراقية في الفترة التي نتحدث عنها، ولا سيما أن هناك ألوانًا من الصحف والمجلات الأدبية والاختصاصية ونواحي من الحياة الصحافية بصفة كونها صناعة أو فنًّا لم ينفسح المجال لبحثها؛ إذ أراني مضطرًّا بهذه المحاضرة السابعة إلى أن أقف عند هذا الحد، بعد أن خصصنا المحاضرة الثامنة «لحرية الصحافة».