اختراع التقبيل١
يا رعى الله من اخترع التقبيل، فإنه قصيدةٌ من قصائد النسيب، وآلة من آلاته، ونغمةٌ من نغماته. حدثني فيلسوف قال: إن «آدم» هو أول من اخترع التقبيل. قال: زعموا أن آدم وحواء ذهبا إلى شجرة من شجر توت الجنة، وجعلا يأكلان من ثمرها، حتى سال رضابهما، وامتزج بماء الثمر الذي أكلاه، فأعطاه ماء الثمر من حلاوته، فبينما يأكلان لمست شفة «آدم» شفة «حواء» عن غير قصد، فراقتهما تلك اللمسة المعسولة بعصير الثمر، فكانا كلما أرادا أن يراجعا لذتها ذهبا إلى شجرة التوت — يا ليتهما لم يذهبا بعد ذلك إلى الشجرة المحرمة — وبَلَّلا شفتيهما بعصير ثمرها، ثم حك أحدهما بشفة الآخر.
وجاءت «حواء» إلى «آدم» يومًا، وقالت له: يا «آدم» إنك قد اخترعت نوعًا آخر من أنواعه، قال «آدم»: وما هو؟ قالت: هو التقبيل بإطباق الشفاه. قال «آدم» أجدت يا «حواء»، ولكن لا غرو، فأنت أم النساء. وزعموا أن الحلاوة التي نذوقها إذا قبَّل أحدنا عشيقته هي بقيةٌ جاءتْنا من سبيل الوراثة، من حلاوة ثمر توت الجنة الذي بَلَّلَ «آدم» و«حواء» شفتيهما بعصيره.
والقبل غذاء العاشق والشاعر. فهو إذا قبل حبيبته كانت روحه فوق شفته وطي أنفاسه، فإذا تصافحت الشفاه تصافحت الأنفس. إنك لتَشْرَئِبُّ بعنقك عند التقبيل، فتشرئب نفسك حتى تطل على حبيبك من عينك وفمك، فإن العين والفم بابان تطل منهما النفس على مرأى صالح، ومعتنق طيب.
أيام الشباب وأيام التصابي من لي بتلك القبل البطيئة التي تضرم النفس، وتشعل العين، وتوقد الخيال. أيام الشباب وأيام التصابي لكانت تلك القُبَلُ عِقْدًا في جِيدِكِ، ورونقًا غضَّا في رَيْعَان الحياة. أيام الشباب أنت فجر الحياة، فيك تُغَنِّي القُبَلُ بصوتها الغريد، كما تغني الأطيار في فجر النهار، وفيك تينع القبل في روض الشفاه، كما تينع الأثمار والأزهار في الروض. أيام الشباب أنت عنوان الحياة، فيك يقرأ القارئ آية الحب، وآية العمر.
إن في القبل من بيان المنطق وفصاحة القول ما يُعجز «برك» و«ششرو». ومن بلاغة التعبير وشرف الخيال ما يزري بشكسبير و«ابن الرومي» و«المتنبي». والقبل شتى المعاني، فإن للحب قبلة، وللشهوة وللحسد والحقد قبلة، وللإشفاق والرحمة قبلة، وللحزن قبلة، وللذل قبلة، وللجُبْنِ قُبْلَة، فغلام يقبل أمه، وعاشق يقبل عشيقته، وماجن يقبل هَلُوكًا، وامرأة تقبل شريكتها في بعلها، وأخت تقبل أختًا لها قد أضر بها الحب، وزوج يقبل قبر زوجته، وذليلٌ يقبل يد السلطان أو قدمه أو التراب الذي تحتها، وعابد من العامة يقبل أرضَ ضريحِ ولي من الأولياء.
إذا رأيت امرأة تقبل امرأة أخرى، فاعلم أنها تحبها حبًّا صادقًا، أو أنها تكرهها كرهًا شديدًا، ولكن من النساء من تقبل صاحباتها إذا علمت أنهن يعرفن سرًّا من أسرارها. والتقبيل هو لغة النساء، فكأنها تقول لهن في تلك القبل يا صاحباتي لقد علمتن أني أحب فلانًا. والقبل إشارة لا يعرف سرها مثل النساء، كما لا يعرف سر إشارة الماسونية مثل الماسونيين.
حدثني «إبليس» قال: أتريد أن أقص عليك كيف استكشفت القبل؟ قلت: افعل، قال: إني لما أغريت «حواء» بأن تأكل ثمر الشجرة المحرمة، جاءت بآدم، وجعلت تغريه بأن يأكل من ثمرها وهو يتمنع، فاقتربت منه وهي تكلمه، فلمست شفتها شفة «آدم» عن غير قصد، فوجد «آدم» في شفة «حواء» حلاوة، فقال لها: ما هذه الحلاوة؟ قالت: إنها حلاوة ثمر الشجرة المحرمة، فضم «آدم» «حواء» إليه، ووضع فمه على فمها، ثم قال: ما ألذ هذه الحلاوة المحرمة؟ هكذا اخْتُرِعَ التقبيل. فلما الْتَذَّ آدم حلاوة الثمر المحرم ذهب إلى الشجرة المحرمة، وجعل يأكل منها، فكان ذلك التقبيل سبب سقوطه وعصيانه الله، وخروجه من الجنة، وشقائكم بخروج جدكم منها.
فالقبل هي عقاربي. وكلما التقى عند التقبيل فمٌ بفم، حدثت شرارة هي من شرار جهنم، وإن ذلك النور الذي تشعله القبل في عيون العاشقين ليس من نور الجنة، ولكنه من نور الجحيم. والناس تقول: إن اللِّحَاظ من أعمالها تغليب الإرادة على الإرادة، ولكن عمل القبل أشد، وهي خير سلاح تحارب به عدوك الجميل، وماذا على الأمم لو جعلت القبل سلاحها في حروبها، بدل المدفع والديناميت، فيأتي الملكان المتغاضبان، ثم يقبل الواحد منها الآخر حتى ينهزم أحدهما.