أيام الهدنة
توجد أيام يسميها الشياطين أيام الهدنة؛ لأنهم يتهادنون، فليس بينهم وبين الناس عداء، يجتمعون فيها، ويشرب أحدهم في صحة أخيه من الجعة، فهم يفضلون الجعة على غيرها من المشروب. ولا غرابة في تفضيلهم الجعة؛ لأنهم يبتردون بها من حر الجحيم. فمن أجل ذلك لا يريدون أن يجمعوا على أنفسهم حرارة الجحيم، وحرارة «الوسكي أو الكنياك».
فضحك «إبليس» وقال: إذا شاء تصدقت عليه ببضع ريشات من جناحي، فطلبت أنا من إبليس أن يُعطيني ريشةً من جناحه أدخرها وأذكره بها، فأعطاني ريشة من جناحه، وهي محفوظة عندي. ومن شاء من القراء أن يرى كيف يكون ريش إبليس، فليُخابرْني وهي التي أكتب بها هذا الحديث.
قال إبليس: إني لَأذكر أن الكواكب كانت تسمع غناء الملائكة فيطربها، ويعينها على الدوران، كما أن النياق تسمع حداء الحادي فيطربها، ويعينها على الأسفار، فهي في سيرها تُنْصِتُ إلى الغزل الرقيق الذي تحدوها به الملائكة مثل غَزَلِ «العباس بن الأحنف»، أو «قيس بن الْمُلَوِّح» أو «برنز»، أو «شلي»، ولكنها تأنف من سماع الشعر البارد الثقيل، فقد غناها أحد الملائكة مرة بقطعة من الشعر المرذول، فضجت الكواكب، ووضعت أصابعها في آذانها، وجعلت تستغيث وتقول: إن عدتم إلى مثل هذا الشعر اختل نظام الكون.
وبعد أن شربنا من الجعة ما فيه الكفاية، وتركنا حانة إخوان الصفاء، وجعلنا نمشي في الأزقة. وبينا نمشي إذ زلقت قدم أحد المارة فسقط، فقال وهو لا يعرف أن «إبليس» من المارين: اخسأْ اخسأْ فهذه من فعلاتك يا «إبليس»، فالتفت إليَّ «إبليس»، ثم قال: إنه لا يغيظني من المرء شيء مثل غروره وبلادته، فإذا زلقت قدم أحدكم، حسب أن ذلك من فِعْلَاتي، وإذا عطس حسب أني سددت منخره، وإذا تثاءب حسب أني دخلت فمه، كأني ليس لي عمل في هذا الوجود الضخم سوى أن أسد مناخر الناس القذرة، أو أن أدخل إلى أفواههم النجسة، أو أن أتشبث بأقدامهم. ولو علم هذا الثقيل أني أمد يدي إلى السماء فأغمرها في الأثير الأعلى، وأمد رجلي في باطن الأرض فأدفئها بالنار المشبوبة عند مركز الكرة الأرضية، لما نسب إليَّ أفعال الصبيان.
ولقد جعلت أنا وشيطانٌ آخرُ نلجُ بيوتَ الصالحين المُتَّقين من الناس، فدخلْنا منزل الشيخ فلان، وهو رجلٌ من أهل التقوى والصلاح، فوجدناهُ يتغذى مع امرأته وهي تقول له: يا حسرة وألف حسرة ماذا أجداك ورعك وزهدك وقيامك الليل، ولو بذلت من جهدك في تكميل حياتك بلذاتها بعض ما تبذله في الصلاة والأوراد، لكنت أحب إلى الله وأقرب إليه، فقال: اسكتي يا فلانة، هل حياة خير من حياة تخدمنا فيها الملائكة؟ أما والله إن تحت هذا الخوان لملائكة على رءُوسهم، فقلت: والله لا نكذب العبد الصالح، ثم قبعنا وجَعَلْنَا نمشي مثل القطط، حتى صرنا تحت الخوان، وحملناه على رأسينا حتى دَمِيَا، ثم كشف عن رأسه، فرأيت فيه دملًا في حجم البعرة، فقال: هذا من آثار خوان العبد الصالح. قص «إبليس» هذه القصة، ثم ضحك حتى استلقى على قفاه من شدة الضحك.