مؤتمر الحيوانات
حدثني «إبليس» قال: أَبَتْ ضمائرُ الحيوانات ما بينها من التنافر، فاجتمع نُوَّابُها لتوحيد حضارة الحيوانات، فأرسلت الحمير حمارًا مفكرًا ينوبُ عنها، وأرسلت القِرَدَةُ قردًا لبيبًا. وكان في هذا المجمع نواب عن جميع أصناف الحيوانات حتى الإنسان، فلما حضر النواب قام القرد اللبيب، وقال: يا معشر الحيوانات إننا اجتمعنا اليوم على فرض مقدس، وهو النظر في أُمور معاشنا، فإننا كما يشهد أخونا الإنسان الجالس على يميني، كلنا حيوانات (تصفيق)، فينبغي أن لا يكون بيننا ذلك التقاطع والتجافي، والاختلاف في منازع الحضارة التي هي أسمى ما يَنْشُدُه الحيوان في حياته.
وائتلاف نوابنا في هذا المجمع دليل على أننا خليقون بأن نفخر على تلك النباتات الخرساء التي ليست لها حياة، (تصفيق شديد وتحبيذ) ولكني أحذر إخواني الأفاضل أن يفخر أحدهم على أخيه، فلا يليق بي أن أفخر على أخي الإنسان، كما لا يليق بالإنسان أن يفخر على أخيه الحمار. (تصفيق شديد، وعند ذلك هز الحمار رأسه إعجابًا بالخطيب) ولكي لا يظن بنا أخونا الإنسان الحقد عليه لكبره وادعائه، أرى أن ننتخبه رئيسًا لهذا المجلس.
فقام الثعلب وقال: الله يعلم أني أبغض العداء والاعتداء، ولكن أنظمة المعيشة فاسدة، ولا مناص من السطو ما بقيت هكذا. فإنَّ تَمَلُّكَ المرء للشيء من الأشياء يحدث حاجة وعَوَزًا كما قال حيوان جليل من البشر، أعني «البحتري»:
فالتملُّكُ سرقة شريفة مشروعة. ومن أجل هذا التملك كان الحيوان في حاجة إلى التحيل للكسب، والرزق، واستخدام الدهاء، وشحذ الحيلة له. ولولا الدهاء والحيلة ما استقامت الحياة. والدهاء أَجَلُّ مظاهر العقل؛ لأنه أكبرها نفعًا، ولكن الحاجة تدعو إلى السطو واللؤم والشر والإسفاف. ومن أجل ذلك أرى أن نحرم التملك، وأن يكون كل شيء ملكًا مشاعًا بين الناس.
ثم التفت إلى الديك وقال: لا تُرَعْ يا خليلي من عداوة الأقوياء؛ فإني حاميك وناصرك، وقد هديتني ببلاغتك، وصياحك إلى الحق، وَبَغَّضْتَ إليَّ الباطل، وندمت على ما أتيت من الشر، ولن ترى مني إلا ما يسرك — إن شاء الله تعالى.
ثم قام القط، وقال: لقد صدق الثعلب؛ فإنه لا يأكل لحوم الدجاج؛ لأنه يبغض الدجاج فهو يحب الدجاج حبًّا جمًّا، ويحب — من أَجْلِ الدجاج — الدالَ والجيمَ، وأنا لا آكل لحومَ الجرذان من عداوة، ولا يلتهم الأسد فريستَه غلظة وقسوة، وإنما هي الحاجة والحياة (تثاءب الأسد تثاؤبًا طويلًا).
ثم قام الأرنب وقال: لقد أثبتت الأَطِبَّةُ أن أكل اللحوم رأسُ كل شر، وأن الحيوان إذا أبطل أكل اللحوم كانت حياته خيرًا كلها، فإن الهضم يُحوِّل اللحم إلى دوافع الشر كما ورد في كتب الطب الحديث، فإن أكل اللحوم يبث في الإنسان خصال الشر من قسوة، وغلظة، وَشَرَهٍ، ودناءة، وشهوة خسيسة، فخليق بنا أن نحرم أكل اللحوم، وأن نقنع بالحشائش (وعند ذلك بدأ الأسد يُزَمْجِرُ، وينظر إلى الأرنب نظرة القاتل).
ثم قام الحمار وقال: قد نسي أعضاءُ المجلس النظر في أمر ذي بال، وأعني: العمل والأجر؛ فإن بعضنا على عِظَمِ نفعه يبيت في إسطبل كأنه — من أقذاره — معبد إله القذارة في خرافات الوثنيين، ثم لا ينال من البرسيم ما يسد سغبه، فيمشي في الأسواق ينظر إلى أفواه غيره من الحيوانات التي مَنَّ الله عليها بما لا حاجة لها به، من البرسيم أو الشعير مثل نظرة فلانة التي يقول فيها الحيوان الجليل «النابغة»:
أما والله لولا الصبر والحياء والحلم واللطف والرقة والأدب والظرف؛ لَطغت الحمير، وأبت إلا أن تنال نصيبها من السعادة، فقام الأسد وزمجر قليلًا، ثم قال: لا مراء في أن فلسفة الحيوان وآراءه تختلف مناحيها باختلاف جهازه العصبي، فإن جهاز الأرنب جعله يرغب في تحريم اللحوم، كما أن جهاز الحمار الحليم الظريف جعله يطلب الإنصاف في الأجر والعمل، وجهاز الديك فَغَرَ فَاهُ بالصياح، وطلب الإخاء والمساواة وتحريم السطو والحرب. وكل واحد منهم مظهر خاص من مظاهر المادة، ولا ريب أن جهازي العصبي هو الذي يغريني باتخاذ اللحوم عقيدة، فأرى في أكل اللحوم صلاح الدنيا، وعمرانها، وَرُقِيَّهَا.
فانظر كم نوعًا من أنواع الحيوان قد فني؟ هل كان يرى فناءه عدلًا؟ وهل ترى في حياة الناس والحيوانات والطيور والأسماك والحشرات والنباتات والجماد شيئًا يستقيم بغير السطو والاعتداء؟ فأين الحقيقة؟ وأين المصيب؟ هذا الإنسان ينكر على أخيه الحمار حقه ومطلبه، وهذا الحمار ينكر على الإنسان اعتداءه وتسخيره إياه، وهذه الظباء تنكر على آكل لحومها، وهذه الأسماك يأكل بعضها بعضًا فأين الحقيقة؟ وأي المذاهب الفلسفية مصيب؟ إنما الفلسفة حاجة من حاجات المزاج، وكلما كان المزاج أبعد عن المألوف المعتاد كان أحوج إلى الفلسفةِ. والحياةُ الصحيحة لا يحتاج المرء في أن يعيشها إلى فلسفة، أو شك، أو يقين، أو إنكار.
وحقيقة الحقائق هي حقيقة المعدة الصحيحة، والجسم الصحيح، وما عدا ذلك مظهر من مظاهر الاضمحلال والانحطاط. فالشك والتساؤل من مظاهر الانحطاط، وكذلك الإنكار الذي يكاد يغري المرء بإنكار نفسه، وحياته، وإنكار كل شيء. وكذلك الإحساس الشديد والاعتقاد بما وراء الطبيعة من الأسرار التي يتوهمها، والخروج عن المألوف من العادات والآراء، والسعي في إصلاح الوجود، وكثرة القول في ذلك، وإعداد الأنظمة التي تهيئ هذا الإصلاح، والإكثار من استخدام الرموز، وتقديس حياة الفرد، والرغبة في أن تنشد النفس غايتها، والرغبة في حمل متاعب الفقراء، والتألُّم لهم، ومذاهب الاشتراكية التي تخفض الناس إلى مستوًى واحد، والإفراط في حب الجمال، والسعي وراء الأحلام والخيالات، من أمثال الخيال الكاذب الذي يدعي المثل الأعظم، والتغلغل في كشف حجب الحياة عن أدناسها وأمها وجرائمها ومقابحها، وحب الشهرة، ورغبة المرء في أن يشرك الناس في عواطفه والتعلق بتقريظهم، فقد لاحظ الأطبة أن هذه الصفات تكثر في المرضى والبُله والمجانين، وعدد أفاضلهم ما لاحظُوهُ من أمثال ذلك، راجع «موريل»، و«فير»، و«لجرين»، و«منيان»، و«لمبروزو»، و«برجر»، و«ماكس نوردو»، وغيرهم.
فقام الإنسان وقال: إن كل ما قلته لا يخفض من قيمة المذاهب الفلسفية ومناحي التفكير، فليست قيمتُها قيمةً ذاتيةً، بل قيمتُها قيمةٌ تصحيحية، فليست الحقيقة في مذهب منها، بل كل منها به شيء من الحقيقة. قال الأسد: هذه مغالطةٌ غير وجيهة؛ فإن الحق كالجوهر كلما قسمته قلَّتْ قيمتُه. قال الإنسان: بل كالشجرة تأخذ من غصونها، وتغرس ما أخذته فتخرج من الشجرة بستانًا. وكما أن للأشجار تلقيحًا، كذلك للآراء والمذاهب تلقيح، وكما تخرج نوعًا جديدًا من الثمار من أنواعها القديمة، كذلك تلقيح المذاهب يخرج مذاهبَ جديدةً من المذاهب القديمة، قال الأسد: هذا عمل البُله والمجانين الذين اختل عقلهم، حتى لم يعد لهم شغل في الحياة سوى التفكير. ولَمَّا انتهى الأسد من قوله، أَحَسَّ جوعًا شديدًا فأعمل أنيابه في حيوان من النواب المحترمين، ففر النواب، وانْفَضَّ المجلس على غير اتفاق.