آية المسخ
حدثني «إبليس» قال: غضب الله على الناس يومًا، فرأى أن يمسخهم، فقال: أيها الناس إذا ألحت لكم بالخير وأغريتكم به، وأودعته فيكم صنعتم الشر تتقربون به إليَّ فتعذبون من تظنون فيه الشر، وتقسون على كل من تحسبونه غير راغب فيما ظننتموه خيرًا. وإذا ألحت لكم بالشر كي تتجنبوه، وغرسته فيكم كي تعرفوه، وتذوقوه، وتكرهوه، مِلْتُم إلى الشر، ثم تكفرون، وتلومون، وتعتذرون لأنفسكم، وتقولون: إني أودعت فيكم الشر، وخلقت في نفوسكم كل ضعف وفساد. وإذا جعلت الخير والشر في نفوسكم مُتَكَافِئَيْنِ ظللتم ضعفاء الرأي والهمة والعزم، كاللعبة التي يتنازعها طفلان، كلٌّ يجذبها إلى ناحيته حتى تتمزق. وأنتم لا تصنعون الخير حتى تُقَادُوا إليه من آذانكم الطويلة. أنتم تتشدقون بالمثل الأعظم، والعقائد والوحي والفضيلة، ولكن أعمالكم أعمال الشياطين.
ثم أخذ شيئًا من رماد الجحيم، وذرَّه في وجوههم فمسخهم قرودًا، فلما رأى القرود شكلهم أنكروهم، وذهبوا إلى فيلسوفٍ منهم، وسألوه عن أمرهم، فقال: هذا من مظاهر سنة النشوء والرقي في البشر، فإن نوع القرود ونوع الإنسان من أصل واحد، ولكنهما فرعان مختلفان. ولا ريب أن من ترونهم كان أصلهم من البشر، فعلَّمهم الدهر فيما علمهم اتخاذهم الشَّعر لباسًا بعد أن كانوا ينتفون شعرهم، وعلمهم السير على أربع بعد أن كانوا لا يقوون على ذلك لنقص في خلقتهم.
فذهبت القردة وقالت لكاهنهم ما قاله فيلسوفهم، فغضب الكاهن وقال: كفر — والله — فيلسوفكم. وصار خليقًا بالعذاب الأليم. أيجعل القرود الذين أتم الله نعمته لهم، وجعلهم خير عنصر أُخرج في العالم، وعلمهم اعتلاءَ نواصي الأشجار وأغصانها، مثل هؤلاء الناس الذين لا يُحسنون المحاكاة والتقليد، ولا يجيدون تسلُّق الأشجار، فذهبت القردة ونتفتْ لحية الفيلسوف، وأرادت أن تمثل به، ولكنه اعتذر، وقال: حاشا لمثلي أن يخفض من منزلة القرود بِعَزْوِ هؤلاء الناس إليهم، ولم أقل إنهم بلغوا حد الكمال من المرتبة القردية، ولن يبلغوا تلك المنزلة، فهم لا يصلحون لها، وقد قدر بقاء الصالح للحياة وفناء غير الصالح لها، ونحن الصالحون.
أما هؤلاء الذين يحاولون بلوغ المنزلة القِرَدِيَّة فقد كُتب عليهم الفناء في مُعْتَرَكِ الحياة. قال الكاهن: ينبغي أن تنتهي عن سنة النشوء الكاذبة التي تحاول أن تفسر بها كل شيء، فليس الرأي كما ترى، وإنما هؤلاء قومٌ أحسنوا عملًا، فرفعهم الله من حضيض عالمهم إلى سماء عالمنا، فأنكر بعض القرود أن يكون الأمر كما قال الكاهن. وزعموا أن قرود الناس يعجزون عن أن يحسنوا عملًا، وإنما قرود القرود هم الذين يحسنون عملًا.
فقال كاهن آخر: الحق ما أقوله لكم، إن هؤلاء قومٌ ليسوا من القرود، والدليلُ على ذلك أني كلما جذبت ذَنَبَ أحدهم انفصل في يدي، وبقي من غير ذنب، وإنما هم قوم أرسلهم الله إلينا كي نسخرهم في الأعمال الوضيعة النافعة، مثل بناء البيوت وفرشها. أما اعتلاء الأشجار وغيرها من الأعمال الجميلة الفنية فقد خُصَّتْ بها القرود.
أما قرود البشر، فإنهم بقوا على فسادهم، وسَفَالَة نفوسهم، حتى ضَجَّ منهم قرود القرود، فأراد الله أن يعاقبهم فمسخهم مرة أخرى، بأن أَرْجَعَهم من المنزلة القردية إلى المرتبة البشرية.
ثم التفت إليَّ إبليس وقال: فأنتم قد كنتم أُناسًا، ثم صرتم قرودًا، ثم رجعتم إلى حالتكم الأولى، وأنتم لا تشعرون. وما يدريك لعل الواحد منكم يُمْسَخُ في اليوم الواحد ألف مرة، فيعيش ألف حياة، ويعالج كل مظهر من مظاهر الحياة وأنواعها، ثم يرجع إلى حالته الأولى فيتنبه إلى ما كان يزاوله من أمر المعيشة البشرية من غير أن يحس ما عالجه من المعايش الأخرى.