نصيحة إبليس١
قال إبليس: إني مؤْتيك نُصْحِي، فإن اتبعته سعدت، وإن نبذته شقيت، فاعلم أن الشر والخير لا يفترقان، فلولا الشر ما وُجد الخير، إذ إن الخير في مقاومة الشر، فإذا زال الشر زال الخير أيضًا، وإذا عَمَّ الخير ومُحِيَ الشر لم يكن الخير فضيلة. ونَشْرُ الخير وإزالة الشر حُلْمٌ كاذبٌ، ولكن لو فرضنا أنه يجوز تحقيقُه لَما كان ذلك نافعًا؛ لأن الخير إذا عم بَطَلَتْ مَزِيَّتُه، وانتفت فضيلته، فلا يَهُولَنَّك الشر الذي تراه، ولا تَفْزَعْ من مظاهره، فإن الحياة تُخْرِجُ من الشر خيرًا، كما تخرج من الخير شرًّا.
وإياك والرحمة فإنها جُبْنٌ صريح، وَوَطِّنْ نفسك على أن الشقاء من لوازم الحياة، فانقل شقاءك إلى كتف غيرك، ولا تحمل شقاء أحد، ولا ترع لشقاء الفقراء والبائسين، فلولا شقاوتهم ما وُجِدَتْ سعادة السعداء. فإن لوازم الحياة أساسها الاستعباد، وهؤلاء الأشقياء هم عبيد الحياة، ولا تطيب حياة السعيد إلا بهم، فبهم تُنَاطُ الأعمال الوضيعة، ولهم المكاسب الضئيلة الحقيرة، وما دامت سُنَّةُ الرقي التنافس، فلا مَنَاصَ من الشقاء.
وإياك والتفكير في متاعب الحياة وشرورها؛ فإنه غير نافع، بل هو مرضٌ من الأمراض، ولا تجتهد من غرورك أن تُرشد الناس إلى الحق، فإن مطلب الحقِّ شقاءٌ لا يُجْدِي نفعًا، وإنما تُراد الحياة للذة، والسعادة، واللهو … فاطلب منفعتك، وقَاتِلْ من أجلها بيدك، ورجلك، وأظفارك، وأنيابك. واحذر أن تشعر بالآم الناس وشقائهم، يكفيك أنك تشعر بآلام نفسك.
ويخيل لي أن لك من ذكائك رَادِعًا عن أن تُحرق قلبك بمطلب الحق، إنما تدفي قلبك بنار خامدة من نيرانه. واعلم أن الذكاء والكِيَاسَةَ من آلات النصب والاحتيال الشريف، ومطلب الحق أُحْبُولَةُ صيد. فاذكر أنك تريد أن تكون ذا جاه ومنزلة، وهذا يحتاج فيه إلى الإيهام والغش أكثر من صدق السريرة.
واعلم أن مطلب الحق غرور من الإنسان، فإن الحق شقاء، وطالب الحق الباحث عنه مثل ذُبَالَةٍ تضيء للناس وهي تحترق، وأنت أعقل من أن تحسد الذُّبَالة المحترقة؛ لأنها تضيء للناس، ومن هم الناس؟ أليسوا كلهم حيوانات، سواء الصديق والعدو؟ عش لنفسك لا للناس، ولا يغرنك الحق فإنه عذاب لقائله، وهو لَهْوُ ساعة لسامعه، فإذا أردت أن تقول الصدق فاستخدم الغش فيه، كما هي عادة الناس، وادَّعِ صدقَ السريرة، ولكن إياك أن تحسها، وإياك أن تكون ذلك المسكين الذي يحس كل عاطفة من عواطف الحب والرحمة والحنان، فاحذر كل عاطفة من عواطف الضعف من أمثال هذه الصفات التي غُرِيَ الشعراءُ بوصفها وتزيينها؛ فإن هذه عواطف الضعف التي تؤدي إلى الفشل في مُعْتَرَكِ الحياة، وإذا رزقت ولدًا فعلِّمْه فلسفة حب الذات.
وكُلْ وتثاءبْ طول يومك، وإياك أن تقيس طول أذنيك في المرآة؛ فإن ذلك يؤدي إلى الجنون، واجعل مثال الكمال عندك في الحياة حياة الأَنَانِيِّ الذي يعيش لنفسه، وعوِّدْ نفسك أن تُخرج همومك من قلبك في تثاؤب طويلٍ تفزع الهموم منه.
وادَّعِ أنك صادق العواطف كي تَغُرَّ الناس، ولكن اضحك في قفاهم، وأَخْرِجْ لسانك سخرًا بهم إذا أدار أحدهم لك قفاه؛ كما أنهم يخرجون ألسنتهم سخرًا بك إذا أدرت لهم قفاك. واحتفظْ بالسليقة؛ فإنها أسمى ما وهبك الله، وإن بي لدافعًا جهنميًّا يُغريني بحثك على مطلب الحق، والبحث في الحياة كي أشقيك معي، فيخفف شقاؤك بعضَ شقائي، ولكني أنصحك وأنا مخلص لك، فاجتهد أن تكون مثل تماثيل الآلهة التي لا ترحم عابدها، واجعل نفسك تمثالًا ذا حياة يسعى ويعيش، واجعل حياتك مثالًا يعبر عن هذه المبادئ الصحيحة التي أودعتها نصيحتي.
واضحك الضحكَ الذي يدل على خُلُوِّ الفكر، وفراغ الذهن كفراغ العقل، ولكن إياك والضحك الكثير، فإن كثير الضحك كثيرُ البكاء، والحيوانات المطمئنة لا تعرف الضحك. نعم إنها لا تعرف ضحك الجَذَلِ والسرور، ولكنها أيضًا لا تعرف الضحك المر الأليم، فهي أسعد حالًا من الإنسان. وهذا يدل على أن السعادة ليست أَجَلَّ ما وُهِبَ الإنسان، ولكن ذلك لا يُقلل من قيمتها، بل هو مَغْبُونٌ فيها.
فلما انتهى إبليس من مقاله قلت: هيهات، فإننا لعبةٌ في يد الطبائع، بعضها يشقِي وبعضُها يسعد، وهي منا كالحبل في العُنُقِ إما يقودنا، وإما يشنقنا.
تنبيه «إبليس»: إذا علم أحدُ القراء أن بين أصحابه من يَدين بنصيحة «إبليس»، فليرسلْ إلينا اسمه؛ لأننا نريد أن نحصي عدد من يدين بها من البشر، وكأني بكل قارئ قد أرسل إليَّ يبرئ نفسه، ويتهم صحبه. أليست تبرئة النفس واتهام الصحب من تعاليم الأستاذ «إبليس»؟