فلسفة للبيع
حدثني «إبليس» قال: لقد عانقت يومًا ربة الحكمة التي تسمعون عنها في قصص الإغريق، فشممت منها نسيم الحكمة الصادقة، ففطنت إلى أن معنى الحياة الذي يبحث الباحثون عنه؛ مَاسَة تحت أنقاض هُرَاءِ الفلاسفة، ولكنها ماسة لم تَزَلْ بَعْدُ فحمة لم تصقلها نار الحق والكمال، فإن معنى الحياة بسيط جد البساطة، حتى إنه من بساطته يكاد لا يكون للحياة معنًى. فلأي أمر تَنْصَبُ في طلب ما تجمله في نفسك، وتتقاتلون في الألفاظ والمذاهب الفلسفية؟
وإن من درس الفلسفة ورأى تناقض «أفلاطون»، و«أرسططاليس»، و«تلستوي»، و«نيتشه»، و«ماكس نوردو»، و«هيز»، و«كانت»، و«هجل»؛ يحتقر العقل البشري، ويرى كأن هؤلاء الفلاسفة أطفال يَترامَون بالوحل، وإني لَأتساءل أحيانًا عن مصير أَرْطَال الفلسفة التي يخرجها كل جيل من الأجيال. ومن العجيب أن ارتفاع الأمم وانخفاضها، والحروب والتقلُّبات الكبيرة مظاهرُ تجتلي في كل منها فكرة فلسفية تنبسط، ثم تنطوي، كأنها أحلامٌ يحلم بها الزمن في نومته الأبدية التي تشبه نومة مُعَاقِرِ الأفيون.
وأكبر ظني أن الفلسفة هي الشجرة المحرمة التي أكل منها آدم وحواء فعصيا الله، فَخَيْرٌ لكم أن تجمعوا ما عندكم من ثمار هذه الشجرة، وأن تقذفوه بالعراء، ولكن كيف تستطيعون ذلك إذا كانت حياتكم فُكَاهَةً فلسفية، ومُغَالَطَةً منطقية، وإن أَغَثَّ الفكاهة ما صدر من الفلاسفة.
على أني لا أُنكر أن عندك من الفلسفة ما لو بِعْتَه كفاك ثمنه مئونة التماس الرزق، ولكن من الغريب أنكم كلما قل مالُكُم قلَّت فلسفتكم، وكان ينبغي أن تزيد كي تعينكم على فقدان المال، وتكون لكم عِوضًا صالحًا منه، وقد صنف لكم العلماء الكتب العديدة، شارحين الفلسفة التي تستعينون بها على مصائب الحياة، ولكنهم لم يشرحوا لكم الفلسفة التي تستعينون بها على تلك الفلسفة.
فها أنا أشرحها لك، وأوضح لك ما استخلصته منها من الأدوية، ولا مِرَاءَ أن القراء عندهم من الفلسفة قَدْرَ ما عند محدثي، ولكن كما أن السلع تقلد صناعتها، كذلك الفلسفة فلا بد أن ترى العلامة التي سجلها بها العقل في الوجود.
ثم جعل «إبليس» يشرح أنواع الفلسفة، وما استخرجه منها من الأدوية، فقال: عندي فلسفة لتسكين آلام الضمير وتوبيخه، وفلسفة لتسكين آلام الحب وآلام الضرس، وفلسفة فيها بُرْءٌ من الجوع والظمأ … إلخ. وهي أدوية خالية من السم قليلة الثمن، ولا أريد أن أَغُشَّ القارئ وأُوهمه أني قد استعملتها، وأني وجدت لها فائدة. مَعَاذَ الله، ولكني وجدتُ الفلاسفة قد أجمعوا على أن نفعها عميم.
فإنهم قد استخلصوا مثلًا للغضب دواء من الفلسفة، وهو أن لا يتكلم الغضبان عند الغضب، وبهذه الوسيلة يذهبُ غضبه، كأنه لم يكن. انظر إلى ذكاء هذا الفيلسوف، ولا يخدعنك هراء بعض الناقدين، فإن بعض الجهلاء يقول: إنك إذا اشتريت دواء الغضب، أي: السكوت، ووضعته في وِعَاء لوقت الحاجة، وأردت أن تستعمله عند الغضب لم تجدْه. وهذا نقد فاسد غيرُ رجيح؛ لأسباب بديهية لا لزوم لذكرها.
أما دواء الحب، فهو أن تتوهم أن حبيبك قبيحُ الوجه، وأنك لا تحبه، فإن هذا التَّوَهُّمَ فعله عجيب. يا رعى الله من اخترع دواء التوهم، فإن فيه بُرْءًا من الآلام والأمراض. ألا تذكر أيها القارئ يوم آلمك ضرسك، ولجأت إلى الطبيب فعالجك، وكلما عالجك زادت ضرسك إيلامًا. فلم تجد بدًّا من الفلسفة فتوهمت أن ضرسك لا يؤلمك، فوجدت أن هذا التوهم فيه الشفاء.
على أنه قد لا يفيد من كان ضرسه عنيدًا، ولكن جزاء صاحب الضرس العنيد أن لا يفيده التوهم. ويقال: إن أحسن دواء للشقاء أن يرى الإنسان آثار الشقاء في غيره، فإنه إذا رأى حمارًا في بعض أسواق المدينة قد لحقه الهزال، ونال منه الشقاء، وبدت عليه آثار الخصاصة والحاجة؛ رَفَّهَ منظر هذا الحمار التعس عن نفسه؛ لأنه يجد منه شريكًا له في النَّحْسِ والتعاسة، فيقول لنفسه: أيتها النفس تَأْسَاءً وتَعْزِيَةً، ألست ترين هذا الحمار التعس شريكك في الحياة والجد والسعي والعمل، شريكك أيضًا في الشقاء؟
وفي حياة الضمير موت الجد والسعي، والنشاط والهمة. والسعيد من جعل ضميره آلة من آلات النصب. فالمرء في الحياة مُضْطَرٌّ رغم أنفه إلى كثيرٍ من الشر، فكيف تستقيم له السعادة إذا لم يكن ضميره من الضمائر الخرس؟ ولما انتهى إبليس من سخره ضَحِكَ ضِحْكَ زُنُوجٍ نيام من اللذة التي يجدونها في لحوم البشر.