رقص الضمائر
جعلتُ أُماشي «إبليس» يومًا في أسواق القاهرة، فرأينا حمارًا عليه حِمْل من البرسيم، قد عالج الهزال حتى كأنه خيال يسعى، وهو يحاول أن يأكل من البرسيم الذي يحمله، ولكن لا يستطيع ذلك، فنظر إلينا نظرة الذل والمسكنة، وكأنه يقول في نظرته: أليس من الشقاء أني أكاد أَنُوءُ بِحِمْلٍ من البرسيم، ثم أحاول أن أعالج سغبي بشيء منه فلا أستطيع، وقد مرت عليَّ ثلاثة أيام لم أذق فيها حلاوة الطعام، وبي من الجوع والهزال ما يبدو لعينيكما؟ فمال إليَّ «إبليس» وقال ساخرًا: إن هذا الحمار يشبه الإنسان، وحِمْلُ البرسيم الذي على ظهره مثل الفلسفة التي تُثْقِلُ ذهن المرء، ثم يريد أن ينتفع بها فلا يستطيع. كما أن الحمار يريد أن يأكل من البرسيم، فلا يجد إلى الأكل منه سبيلًا.
وبعد ذلك جعلنا نمشي حتى وصلنا إلى أرض خلاء، فرأينا بها رقصًا، قال «إبليس»: ذاك رقصُ الضمائر، كلُّ ضمير من ضمائر الناس يرقص على النغمة التي تشابه طبعه، ورأينا الضمائر آتية زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانًا، ثم بدأت الأركستر تعزف والضمائر ترقص، فوالله ما رأيت رقصًا أغرب من ذلك الرقص.
ومن العجيب أني التفت إلى جانبي فلم أر «إبليس»، ثم نظرت إلى مكان الأركستر، فإذا هو دليل العازفين، ورئيسهم، وقائدهم. وقد أخبرني بعد ذلك أنه هو الذي وضع النغمات التي ترقص على أوزانها الضمائر. وكانت الرقصة الأولى رقصة الكِبْرِ والتيه، ولكن الضمائر كانت تسميها رقصة عزة النفس والإِبَاء، ثم بعد ذلك كانت رقصة الجبن والذل التي كانت تسميها الضمائر رقصة الحزم والتُّؤَدَة والصبر، ثم بعد ذلك كانت رقصة النفاق التي تسميها الضمائر رقصة الكياسة والذكاء، ثم رقصة الظلم والاستبداد التي كانت تسميها الضمائر رقصة العدل والحرية … إلى آخر ما رأيت وسمعت من الرقص والأنغام، فعلمت أن ضمائر الناس تدين لإبليس، وتشرب من كأسه، وتسكر من خمره، وترقص على نغمه، وتحسب الكبر إباء، والتيه عزة، والجبن حزمًا، والذل صبرًا، والنفاق كياسة وذكاء … والظلم عدلًا.
ورأيت ضمائر من كنت أظن فيهم الخُلق الحميد، فإذا هي سوداءُ قبيحةٌ مثل أوجُه القرود، ورأيت بينها ضميري، فوالله ما عرفته حتى ناداني وعرَّفني نفسه، وأنا أنكره وهو يتشبث بي، ويقول: أنا صاحبك فلا تخجل مني، فأقول له: اذهب عني فإنك لست ضميري. إن ضميري نقيٌّ طاهر، وأنت قذر، فيضحك الملعون ضَحِكَ الساخر. فمن لم يرضنا من أصحابنا وصفنا له ضميره، وبينَّا مواضع قبحه، فقد رأيناها موضعًا موضعًا.
وبعد ذلك مررنا بفتيان سكارى، كلٌّ ينظر إلى وجه أخيه، ثم يضحك من غير سبب. فسألت «إبليس» عن الضحك وأصله، وكيف كان اختراعه؟ قال «إبليس»: إن الرجال الوَحْشِيِّينَ الذين لا يعرفون الحضارة والمدنية مثل رجال نيام نيام الذين يستطيبون لحم الإنسان ويأكلونه، لا يضحكون، بل عليهم من وحشيتهم وقار كثيف، حتى إذا سكروا استفزهم السكر، فيضحكون من غير ما سبب. وكذلك أجدادهم الوحشيون في أول الخليقة الذين كانوا يستطيبون أيضًا لحم الإنسان ويأكلوه، فإنهم كانوا لا يضحكون، ولا يمرحون حتى عرفوا كيف يصنعون الخمر، فعلمهم شربها الضحك.
وأما أنتم فإن ضحككم عادةٌ ورثتموها عن أجدادكم، فهو بقيةٌ من بقايا تأثير الخمر فيهم، قلت: ولكنا نجد الفرد منا يُجيد الضحك وهو لا يشرب الخمر؟ قال «إبليس»: إنما سبب ذلك أن أجداده الأولين كانوا يدمنون شرب الخمر، ولولا إدمان أجدادكم مُعَاقَرَةَ الكأس لَما استطعتم أن تضحكوا. ثم جعل «إبليس» يضحك، فقلت: أما والله إنك لساخر فظيع، وهذا صوت ضحكك مثل صوت تصادم الأفلاك، فأي شيء كان يستفز أجدادك إلى الضحك، أعني: إذا كان لك أجداد؟ ولكني أعرف أنك لست عريقًا في النسب.