الإنسان والبهائم
حدثني «إبليس» قال: إني أرى في الحيوانات العُجْمِ خصالًا هي في الإنسان ضئيلة خافية. فللكلب من الوفاء والأمانة ما ليس للإنسان، وللخيل من الوُدِّ والولاء ما لا يبلغ بعضه الإنسان، وللبغال والحمير من الصبر والحزم ما ليس له، وللقرود من الذكاء والفطنة، وحب التقليد ما ليس له، ولو فطنتم يا بني آدم لرأيتم أن تزوجوا بناتكم من ذكور البغال والحمير والكلاب والقرود؛ لكي يكتسب بالوراثة نسلهن من حميد صفات هذه الحيوانات — انظر أيها القارئ إلى سخر اللعين «إبليس»، واحذر أن تصدق قوله، فإنه كاذب لئيم.
قال «إبليس»: ولا مِرَاءَ أن هذا يرفع من شأن الإنسان، ولا تحسب أن النساء ينزعجن من هذا الزواج، فإنهن قد أُلْهِمْنَ فضائلَ الحيوانات، وهذا تفسير ميلهن إلى صغار الكلاب والقرود، ولقد بلغني أنكم فَطِنْتُم إلى ما يعود عليكم من الفوائد فتزوجتم من إناث الحيوانات العُجْم، وزوجتم نساءكم من ذكورها. فإنك إذا مشيت في الأسواق، ورأيت أحد الناس حكمت عليه أنه من نسل القرود، لما يبدو لك من ذكائه وفطنته وحبه التقليد. وإذا رأيت رجلًا آخر حكمت عليه أنه من نسل الكلاب لما يبدو لك من أمانته ووفائه، ولقد قيل إنكم عُرفتم بالذكاء والفطنة، فما سبب هذا الذكاء، وأين مصدره؟ إلا أن تكونوا من نسل القرود فاكتسبتم هذا الذكاء من أجدادكم القرود.
تمر بكم الحوادث الناطقة وتعظكم، وأنتم لا تفهمون قولها؛ لأنكم جثثٌ محنطةٌ تدور الأفلاك دورتها، وتمر بكم الساعات والأيام والسنون، وأنتم في سكون أهل الكهف لا توقظُكم دقات الساعات، ولا أجراسُ الأيام، ولا طبول السنين، حتى صِرْتُم إذا هز أحدكم كتفه أو نفض ثيابه نزل عنها غبار القرون الذي تراكَم عليكم، والعنكبوت التي بَنَتْ عشها في أجسامكم، وإنه ليصدق فيكم قول «أبي العلاء المعري» في الإنسان:
وعلى ذكر غبار القرون أقول: إنهم اختلفوا فيه، فبعضهم قال: إنه مثل دقيق الحنطة، وبعضهم قال: إنه أَسْوَدُ مثل الكُحْلِ، ولكن هؤلاء مخطئون؛ فإن الذي جعل غُبَار القرون أسود قذارةُ نفوسِ مَنْ يتراكم عليهم من الناس، وهذا الغبار تزعمون أن له فعلًا عجيبًا، يحسب أحدكم أنه إذا أخذ قليلًا منه، وصَرَّهُ في خِرْقَة وعَلَّقَه على جسمه كالتميمة صار في مأمن من الحوادث وعدواتها؛ لأن فيه سرًّا من أسرار الحياة.
وإني أخشى لِطول ما عَبَدَ القدماءُ الحيواناتِ — من عجول وكلاب — أن يكون قد صار في نسلهم شيء من صفات هذه الحيوانات. وإني أرى كثيرًا من الناس فأحسب أنهم لو عاشوا في زمن القدماء لعبدهم القدماء؛ لأنهم يُشابهون معبوداتهم.
فلما وصل «إبليس» في سخره إلى هذا، قلت: لو كان في السخر من دواعي الحياة ما يستفز النفوس الغافلة لاتخذت منه بوقًا أَسْتَفِزُّ به نفوسنا التي لا يكاد يوقظُها من نومتها نفخُ إسرافيل في الصور، ومن أجل ذلك أرى أننا سنُبعث يوم القيامة بعد بَعْثِ الناس كلهم؛ لأن موتنا أعمق من موتهم، ونومة القبر عندنا أعمق من نومة القبر عندهم، وليس من العجب أن نقوم يوم القيامة نَحُكُّ أعينَنا وأنوفنا بأيدينا، ونحن متخلفون متأخرون، فنجد أن الحساب يوم الحساب قد انتهى، وذهب أهل الجنة، وذهب أهل النار إلى النار، وبقينا ليس لنا مأوًى.
ولكن السخر لا يستفز النفوس الراكدة إلا كما يستفز الميتَ تقطيعُ جثته، ولقد جاء في قصص اليونان أن هناك طائرًا يدعى الفينيق إذا كبر وشاخ وحرق خرج من رماده طائرٌ جديد. ويا ليت أن نفوسنا من صنف ذلك الطائر، فنُشعل تحتها من السخر نارًا تحترق فيها، ثم تُخْرج من رماد تلك الأنفس نفوسًا جديدة، ولكن النفوس التي ملؤها البلادة والغباء لا يحرقها ولا يصقلها السخر، حتى ولو أَشعلت تحتها القناطير منه، واستأجرت كل ما في الجحيم من الزبانية والأبالسة، وجعلتهم يسخرون دفعة واحدة، واشتريت كل ما في جهنم من الفحم، وأشعلته تحت هذه النفوس البليدة، فإنك لن تشعل فيها نار الذكاء.
ولقد سألت «إبليس» مرة أن يصف لي صوت الجحيم، فقال: إن أصوات الجحيم مثل صراخ إلهٍ مجنون جريح من أمثال آلهة القدماء، وسألته: ما مقدار الفحم الذي يكفي لحرق الفرد من أفراد المجرمين؟ فقال: إن المرأة الحسناء البادنة يطفئ شحمها النار. ومن أجل ذلك نشعل تحتها من الفحم أكثر مما نشعله تحت غيرها. وقد جعلنا مرة نشعل القناطير من الفحم تحت امرأة بادنة حتى نفد ما في الجحيم من الفحم، ولم ينفد شحمها. فأرسلت أحد الزبانية كي يستعير مقدارًا من أخشاب أشجار الجنة وَحَطَبِهَا. وأحسبك لا تعلم أن الزبانية يَسْلَخُون الحِسَانَ من الفتيات والغلمان المجرمين، ويصنعون من جلودهم لباس اليد، ثم يبيعونه لأهل الترف، ويصنعون من شعر حسان المجرمين ضفائر يبيعونها لمن أصابهم القَرَعُ من المقربين إليَّ.
أيتها الإنسانية ما أحلاك في عيني. أنت كالعاهرة وفضائلك مثل تلك الصبغة الحمراء التي تصبغ بها العاهرة خديها وشفتيها، ورذائلك مثل ذلك الكحل الأسود الذي تزين به العاهرة عينيها، وصوت ضميرك مثل صوت خلخال العاهرة الذي يطرب الفاسق ساعة الفسق، فأنت أيتها الإنسانية تزينك رذائلك كما تزينك فضائلك، وتشينك فضائلك كما تشينك رذائلك.
أيتها الإنسانية أنت كالحية الرقشاء، وفضائلك مثل جلدها الناعم المرقش، ورذائلك مثل أنيابها اللامعة. أيتها الإنسانية أنت كالجثة العفنة، وفضائلك مثل ذلك الذباب الكثير الألوان الذي يتهافت عليها، ورذائلك مثل ذلك اللحم الذي تنزعه الذئاب عن العظام، فتتغذى به كما يتغذى الناس برذائلك. فأنت أيتها الإنسانية تزينك رذائلك كما تزينك فضائلك، وتشينك فضائلك كما تشينك رذائلك.
اللهم يا خالق الأنغام والموسيقى أعطني آلة من آلات أنغامك قد رَوَّضَتْها يدك القادرة على النغم، وأَعِرْنِي قطعة من صوتك، ونغمة من أنغامك كي أوقظ بها هذه النفوس، وأسمعها لحنًا من ألحان القوة والحياة يعيننا على استئناف الحياة، والتماس القوة.