الفلسفة والبطن
وضعت مرة أمامي الكرة الأرضية التي ندرس عليها دروس تقويم البلدان، ثم جعلت أتأملها، ووكلت بها النظر كله فصرت لا أرى غيرها، وجعلت أرى فيها سرًّا غريبًا أرجو حله بالنظر إليها كأن في باطن تلك الكرة سِرَّ الوجود. أليست رمزًا للأرض التي نسكنها؟ وعقل الإنسان يحسب دائمًا أنه يجد في الرمز من المعنى ما يجده في المرموز إليه.
ثم خيل لي أن هذه الكرة التي رسمت عليها القارات والبحار، ليست في الحقيقة كرة من الجَصِّ، بل كرة عن الديناميت وضعها «إبليس» أمامي مازحًا، ثم خيل لي أن يديه مُدَّتْ في الفضاء، فأخذت كرة من الديناميت، ورمت بها وجه الأرض، فتهدَّمت الأرض، ولم يبق منها باقية. وعند ذلك أَفَقْتُ من حُلْمِ اليقظة، وقلت: ما يمنع أن تكون الأرض كرة كبيرة من الديناميت.
أليس شر الناس ورذائلهم ونقائصهم من عنصر ذلك الديناميت، فالإنسان إذا شئت ديناميت الشر.
حدثني «إبليس» قال: بِوُدِّي لو مات عالم الإنسان كله، ولبث ميتًا مدة أشهر ثم يحيا، فإنه يجد بعد عودته إلى الحياة أن الأفلاك لا تزال تضيء، وأن البحر لا يزال زاخرًا، والرياح لا تزال عاصفة، والليل والنهار يَعْتَوِرَان الأرض. وأكبر ظني أنه يزعم من غروره أن هذه الأشياء قد هلكت حين هلك، وأنها بُعثت حين بعث.
وحدثني «إبليس» قال: ولماذا صار الإنسان — وهو حيوان — يحدث في هذا الوجود ضجة أعظم من ضجة غيره من الحيوانات، فيقرع الطبول ويدق الأجراس، ويُطلق المدافع ترحيبًا أو قتالًا، محبة أو عداءً؟ ألم يقل العلماء: إن الحيوان إذا لَطُفَتْ أعصابُه ورَقَّت كَرِهَ الأصوات الضخمة؟ إذًا الإنسان أغلظ أعصابًا وشعورًا من البغال والحمير، أم تراه يحب تلك الأصوات الضخمة من أجل جلالها؟ أم من أجل أنها تُثير فيه ذكرى الوحشية والزمن القديم، حين كان يهز ذنبه في سيره اختيالًا، كما يهز الآن عصاهُ ويلويه تيهًا ودلالًا، كما يلوي سلسلة الساعة؟
ألم يَجُلْ بخاطرك أن الإنسان حيوانٌ مفترسٌ، عليه من الحضارة والنفاق ثوبٌ رقيقٌ يلبسه كي يخفي ملمسه الخشن، وأنيابه البارزة، وأظفاره الطويلة؟
وبعد، فبأي شيء يفخر الإنسان؟ أبعواطفه وأفكاره وآرائه وعلومه وهو يكتسبها من بطنه؟ لأن الطعام الذي تحويه معدته تستخرج منه تلك الدوافع التي يسميها عواطف، وتلك الآراء والأفكار التي يسميها حقائق. والدليل على ذلك أن الإنسان تختلف أطواره، وميوله، وأحواله حسب اختلاف أنواع الطعام الذي يأكله، وما يتبع ذلك من سهولة الهضم أو صعوبته، وقد بلغني أن بعض الأطعمة تكسب المرء بشاشة ورقة أكثر مما يكسبه غيرها.
ألم تتذكر أيها القارئ حين رقص الحب في عروقك، وغَمَزَ مفاصلك فحسبته وحيًا من الطبيعة، وسرًّا من أسرارها، وروحًا من أرواحها، وضوءًا من أضوائها؟ ولو بحثت عن سبب ذلك الحب لَعلمت أنه خصِيصَةٌ في بعض الأطعمة والأشربة، وهناك أطعمة أخرى تُغْرِي المرء بالرحمة والكرم، ومن أمثال تلك الأطعمة البالوظة أو المهلبية، فإنها تجعل القلب ناعمًا لينًا مثلها، فيلين لدواعي الرحمة، وإني لَأتذكر أني أكلتها مرة، ثم خرجت إلى الأسواق، فلم أر فقيرًا إلا أعطيتُه من دراهمي، فلما نفذت تصدقت بثيابي. كل هذا الكرم من فعل البالوظة، قاتلها الله. أما الْمُخَلَّلُ فإنه يُعلِّم المرءَ الشَّرَاسَةَ، وقلة الأدب، وقد يفرق بينه وبين زوجته؛ لأنه يُغْرِيه بالغضب والسُّبَاب، ولو شئت ذكرت لك أصناف الأطعمة، وأظهرت لك كيف أن جميع أخلاق الناس وآرائهم مكتسبة منها.
وقد بلغني أن بعض الشعراء لا ينظم الشعر إلا إذا كان به مغصٌ أو عسر هضم، فلا يغريه بنظم الشعر غير المغص أو عسر الهضم، قلت: هذا — والله — لا شك فيه، فإن قراءة شعر بعض الشعراء تُورث المرء إما مغصًا، وإما عسر هضم. وقد زعم بعضُ الفلاسفة الماديِّين أن المادة تُفْرِز التفكير، كما يفرز الجسم الأدناس. فليس من العجيب أن نسمع بعد ذلك أن المادة نفسها من أدناس الزمن.