مناظر الشقاء
قال «إبليس»: «إذا شئت أن تعرف معنى الحياة، فاسْرِ معي. فسَرَيْتُ في ليل غارت كواكبه وقامت نَوَادِبُه، فجَعَلْتُ أشق جيب الظلماء كالسابح في الماء، وأتعرف مَظَانَّ العِبْرَةِ لأُرِيقَ العَبْرَةَ، فدفعت إلى بيت خرج من إهابه، ونم عن أصحابه وجهه شاحب، ولونُهُ غائبٌ، قائم في الظلام كالأحلام، أو كأنه شيخ نَاهَضَهُ الزمان، وقارعه الحدثان. إذا رميته بنظر صادق ولحظ وامق، لمحت فيه بقيةً من النعيم المسلوب، كأنها الذكرى الخلوب في الخاطر الحرب، والشمس في ضحى شحب، والزهرة فوق الرَّمْسِ، ويوم صار أمس فولجت بابه، وقطعت رحابه، حتى دفعت إلى مكان يلوح منه نورٌ ضئيلٌ كما يلوح اليقين في ظلمة الجحود.
فنظرت — وما أروع ما نظرت — امرأة عجفاء بين الصغيرة والكبيرة ذات وجه مهزول، وشَعْر مَهْدُول، ولباس كأنه قُدَّ من الظلام وخاطتْه الأيام، وحسن زائل، ولون حائل، وقدم براها الحفا وجلالٌ كأنْ لم يكن، ووقار كأن لم يَزُلْ، ونظرت في الغرفة فرأيت أرضها مثل سمائها خاليةً إلا من البرد اللاذع، غير سرير من الخشب ليس عليه من الفراش ما يدفع سطوات القَرِّ، وجَعَلَت المرأة تحنو على السرير فوق غلام في السابعة، تَمَلَّكَهُ الداء وعَزَّ الدواء، يتلوى على سريره، ويسأل عن نصيره، وإنما نصيره الموت.
ثم يقول: يا أُمَّاه قد أخذ مني الجوع مأخذه، ولو كان ما بي من الداء لصبرت، ولكن الداء والجوع والقر يا أماه آلام تغالبني، وأنا الضعيف، أتطلبني بوتر ولم أَرِدْ من الحياة موارد الآثام؟ أماه أين ما ورثته من العيش الفَيْنَان والنعيم الوَثِير؟ … لقد أودى به أبي … أماه لشدة ما عانيت من ذلك الرجل الغليظ الكبد، أَنَسِيتِ إذ أتى البارحة مع الفجر، يتمايل من خماره؟ فجعل يضربني وبي من الداء ما بي، ثم أخذني بيده فرمى بي ناحية من الغرفة، أنسيت إذ عاتَبْتِهِ فقام إليك، وجعل يضرب بك الحائط؟
ثم سكت الغلام قليلًا، ثم صرخ قائلًا: أَمَا إِنَّ ألم الجوع لَشديدٌ أهاه أطعميني … أو … أو … اقتليني. وجعلت المنكودة تذرف الدمع، وتقول: ليس عندي يا بني ما أقريك غير العبرات، وكأنما أجهد الكلامُ الغلام، ورثى له الموت فمد إليه يده.
يا أملٌ خبا، ورجاءٌ أَفَلَ، ونعمى مسلوبة، وعبرة تأسر العبرة، وفرصة قد سَرَّحَهَا الحادث الجلل، وآية أودى بها الموت قبل أن تنصر اليقين. أي أخي قد جرى بك القدر في مزلقه، والقدر مطية شَمُوسٌ إذا أسلسلت أسعدت، وإذا جمحت أهلكت، يا زهرة علها ماء الشباب. أية ريح غدرت بك، ويا قادمة النسر أي عائق عاقك عن بلوغ شأوك إلا بعد ومرماك النائي.
حدث كل هذا والمرأة مطلقة عبراتها، ولا ملجأ للمحزون خير من البكاء، ولولا أن الشقاء كان عقيدها من ليلة زفافها، لفعلت ما لم تفعل، ولأثارت الأصداء من مكامنها، ولطمت ذلك الوجه الواهن الحر، ولكن الحزن يدفع الحزن، كما أن الخط في القرطاس يعفي على الخط … فُتِحَ البَابُ فُجَاءَةً، ودخل منه رجلٌ بادنٌ أحمرُ العين، غائر الخد، يتصبب العرق من وجهه وثيابه، يتمايل تمايل الغصن اللدِن، تهزه الريح الهوجاء.
فلما رأتْه المرأة أبلدها الخوف قليلًا، ثم ارتعشت وكأنما دار بخُلدها ما كان يحاوله ذلك الفاقد العقل، فوقفت أمام سرير ابنها، فتقدم نحوها زوجها، وقال: قولي للغلام أَخْلِي الفراش. قالت: إنه لا يسمع ما أقول. قال: أنا أسمعه ولو كان ميتًا. قالت: إنه لكذلك، قال: فإني أحييه، فأخلي لي السبيل إليه. قالت: كلا، لا أتنحى ما دام فيَّ رَمَقٌ، فوثب عليها زوجُها، ولكنها تماسكتْ، ودفعته عنها دفعة ألقته على الأرض، فقام مغضبًا، ووضع يده في ثيابه، فأخرج منها خنجرًا، ثم وثب ثانية عليها، وطعنها في صدرها طعنة دانت بينها وبين الأرض، ثم بادر نحو الفراش، فأخذ الغلام بين يديه، وقذف به ناحية من المكان، ثم ارتمى على السرير.
أيها الموت ما أروع طلعتك، وأندى كفك، وأجزل نعمتك، إنك لتَسُلُّ الضِّغْن من الضلوع، فإذا بطشت بالرجل بطشت بشماتته بالناس، وشماتة الناس به، وبحسده للناس، وحَسَدِ الناس له.
أيها الموت كم وَامِقٍ لك تُبَاعِدُه، وكَارِه تدانيه، يا أخا الفقر والجهل والظلام بك تم أمر هذه الثلاثة، وازْدَانَتْ دولتها. أنت مرآة حياة الناس، فيها كالنفس الرقيق، يفزع الناس منك فزع الطفل من وجه الظلام. يسعى الإنسان وأنت تسخر بسعيه وغروره، فلو كنت لا تنزل إلا بمن كرثه الشقاء لَتَمَّتْ فيك رحمةُ الله.
ولَمَّا رأى «إبليس» مني الحزن، قال: هذا معنى الحياة، تجني الأقدار على المجرم، فيجني المجرم على البريء. فقلت: لا تغرر بي فإنك تحاول أن تخدعنا بالشقاء كما تخدعنا بالنعيم، والعاقل من لا يزدهيه تغرير الحوادث.»