طرق الانتحار١

وبينما نحن نمشي في أسواق المدينة، رأينا الناس مزدحمين، فجعلنا نُزاحمهم حتى وصلنا إلى وسط الحلقة، فرأينا غلامًا مُلْقًى على قضبان الترام، قد مَرَّ الترام على ساقه فهشمها، ولكنه لم يزل به رَمَقٌ من الحياة، فرأينا الناس يرفعون أيديهم إلى رءوسهم، كما ترفع الكلاب أو القردة أذنابَها، فسألنا عن الغلام، فقيل لنا: تلميذ سقط في الامتحان، فحاول الانتحار، فصاح «إبليس» في الناس قائلًا: يا أبناء الطين والوحل، تتركون الغلام يموت من النزيف، وترفعون أيديكم إلى رءوسكم كأن ذلك دواءٌ للنزيف، وكان خليقًا بكم أن تسرعوا إلى طبيب فتأتون به إلى الغلام قبل أن تَفِيضَ روحه، فلما سمع الناس ذلك تَعَوَّذُوا بالله، وانصرفوا وجاء رجالُ الإسعاف، فحملوا الغلام إلى المستشفى.

وبعد ذلك ركبنا الترام إلى الجزيرة، وجعلنا نمشي على ضفة النيل، ونظرت في الماء فرأيت صورتي فيه، ولكنها صارت كلما نظرت إليها تسخر وتضحك مني. فقلت لإبليس: إني لَأنظر إلى صورتي في الماء كأني أنظر إلى مخلوقٍ غيري، بيني وبينه نافذةٌ تطل على دنيا جديدة غير دنيانا هذه، وكأن تلك الصورة في الماء تدعوني إليها، فقال «إبليس»: وما يمنعك من الذهاب إليها؟ هل هناك ميتة خير من ميتة في هذا النيل السعيد الذي يأتي إليكم بالخيرات والأمراض؟ هل هناك ميتة خير من ميتة في هذا النهر المبارك الذي تستمدون منه حياتكم فهو أبوكم وإلهكم؟ هل هناك مِيتَةٌ تطهر بها نفسك في هذا النهر من أَدْرَان الحياة وأقذارها، من لُؤْمٍ وخِسَّة، ودناءة وقسوة؟

ثم ضحك «إبليس» قليلًا وقال: على أني لا أرضى لك تلك الميتة؛ لأن النهر يقذف بجثتك على جانبه فيتصيدها الناس من جوانبه كما يتصيدون الميت من الأسماك، ثم يعرضونها على الطبيب وهم يسدون مناخرهم من عفونتها، فيُقطِّعها الطبيب وهو يغازل إحدى ممرضات المستشفى، ثم يرمي بقطعة منها إلى كلبه وهو يمازحه، فَيَأْنَفُ الكلب أن يأكل منها، ما أقبح تلك الميتة. وسكت قليلًا، ثم قال: ما تقول في الانتحار بالكهرباء؟ إنه أحدث طريقة جَمَعَت كل أسباب الراحة، هذا إذا كان التيار عظيم القوة، وهي طريقة حسنةٌ إلا إذا كنت تأنف أن تموت ميتة المجرمين من الأمريكان. وسكت قليلًا، ثم قال: وماذا تقول في الانتحار بحمض الفنيك؟ كلا، إن الانتحار بالسم ميتة مثل ميتة الكلب الكلب، ثم إنَّ فِعْلَ السم يشوه وجه الحسان المعشقين، ويفسد جمال من تعيدهم الأعين والقلوب.

وسكت قليلًا، ثم قال: إلا أن أمثل طريقة من طرق الانتحار هي أن تقتصد بضع جنيهات إذا كنت مِمَّنْ يرزقهم الله بها، وأن تركب السفينة الذاهبة إلى الشام أو إلى أوروبا، حتى إذا كانت السفينة في عَرْضِ البحر العظيم العميق اصعدْ إلى ظهرها في ليلةٍ الظلام والقمر فيها باعثان من بواعث الجلال، ثم انتظر حتى ينام السامرون، وارم بنفسك في أحضان اليم العظيم، فإنك تأمن بذلك أن يعبث الناس بجثتك بعد موتك، وماذا عليك لو أكلتك الأسماك؟ أليست الأسماك أشرف من الدود؟ ولئن تأكلك الأسماك خير من أن تأكلك الديدان.

ثم إن في هذه الميتة فضيلةٌ أخرى، وهي أنك إذا كان لك في الأرض قبر لم تسلم من الناس، ولا من وطء أقدامهم النجسة، ولا من لؤمهم. أما في هذه الميتة فأنت بعيد عن الناس، وقسوتهم، وخستهم، وأقدامهم، وأصواتهم. فقلت لإبليس: حسبك حسبك، فقد — والله — حَبَّبْت إليَّ هذه الميتة، ولو لم يكن فيها من الفضيلة إلا البعد عن الناس لكفاها ذلك فضلًا. وليس الذي يؤلمني من الموت وَقْعُهُ، ولا ما يخشى المرء أن يُلاقيه بعده، وإنما يؤلمني أن يصير المرء جثة تُقلِّبُها الأكفُّ، ويغسلونها بالماء كي يطهروها من الأدناس. وهم لو غسلوها بالمحيطات الخمسة لَما طهروها من دنسها، وكيف يكون الميت طاهرًا أو الموت مصدر الدنس؟

فيا ليت أن المرء إذا مات رُفع إلى السماء أو اختفى جسمه، وصار لا يُرى إلا كما نرى الهواء، كي تصان جثته عن الغسل، والتكفين، والنُّوَاح، والْحَمْل على الأعناق، ولو لم يكن في الموت غير ذلك لَكان الموت قبيحًا، أو ليت أن المرء يموت بضع أيام كي يجرب الموت، ويعلم ما بعده، ثم يرجع إلى الحياة.

وفي أثناء هذا الحديث كانت الشمس توجه أشعتها إلينا فتنفذ حرارتها إلى مجرى الدم في العروق، فالتَفَتُّ إلى «إبليس» وقلت: انظر إلى البَوْن العظيم الذي بين أن تسطع الشمس على الحياة والأحياء، وأن تسطع على الموت والأموات. فهي إذا سطعت على الأحياء من الناس بعثتْ فيهم حرارتُها من العواطف ما تتحمل به الحياة، وإذا سطعت على الزَّهْر بعثت فيه من بواعث الحياة ما تبعثه في صدر الإنسان.

فضحك «إبليس» ساخرًا، وقال: ويحك ألست ترى سطوع الشمس على الأحياء مثل سطوعها على الأموات؟ أليست حرارة الشمس تولد الشهوات وغيرها من عوامل الشر في صدور الأحياء، كما أنها تولد الديدان في جثث الأموات، والديدان في جثث الأموات مثل الشهوات في قلوب الأحياء؟

ثم رأيت طفلًا على وجهه نقاب من القذارة تَوَسَّدَ الأرض، وصار يضرب بعصاه على قطعة من الخشب، فقلت: انقر على دفِّك فإن في عمرك فُسْحَةً لمعاناة آلام الحياة، والموت، والتفكير فيهما، فضحك «إبليس» وقال: أنا الكفيل له بذلك.

١  الجريدة: ٤ من يوليو ١٩١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤