الجحيم

زرت «إبليس» مرة في الجحيم، وطلبتُ منه أن يريني بعض أنواع العذاب في جحيمه، فبرقت عيناه بريق القسوة، وأخذ بيدي وقال: تعالَ انظر إلى بني جلدتك يعذَّبون، ولكنك ربما خشيت على جلدتك ما تراهم فيه من العذاب. فقلت له: هَوِّنْ عليك، فإني أعتقد أنك أنت وزبانيتك وجحيمك الذي أراه حلم فظيع، وسأفيق منه يومًا، ثم أهزأ به. فقَهْقَهَ.

ثم سرنا حتى وصلنا إلى ضِرَامٍ عظيم عليه قدورٌ كبيرةٌ، وفي كل قِدْرٍ امرأةٌ أو رجلٌ يُعذَّب، وقد سلخ الماء جلده، وهرى لحمه، حتى سال دمه وشحمه، وبدت عظامه، وكانت صرخاته ينفطر لِهَوْلِهَا القلبُ، وعلى كل قِدْرٍ عِفْريتٌ، فأتم يقلب الرجل بسيخ في يده، كلما نضج جانب من جوانبه أدار جانبه الآخر. فقلت لإبليس: متى ينتهي عذاب هؤلاء؟ قال: لا ينتهي أبدًا، وكلما نضجت جلودهم ولحومهم أُعيدت لهم جلود ولحوم.

ثم سرنا حتى رأينا رجالًا مصلوبين على قوائم من الحديد الملتهب، وحول كل رجل عدد من الزبانية في يد كل عفريت منهم قضيب من الحديد الملتهب، وهم يضربون الرجال حتى تتهرى لحومهم، فتعاد لهم لحوم. ثم سرنا حتى وصلنا إلى بِرْكَة فيها النار السائلة، وفيها النساء والرجال يعومون، حتى إذا وصلوا إلى حافة البركة. ثم سرنا حتى وصلنا إلى تماثيل من النار، فيها يُعذَّب المعذبون. ثم سرنا حتى بلغنا ساحة فيها كثير من المعذبين يقطع الزبانية من لحومهم، ويطعمونهم ما يقطعون، ويجمعون دموعهم في أوعية، ويسقونهم منها، ممزوجة بماء النار.

وفي مكان آخر وجدنا أناسًا في أقفاص ضيقة من الحديد، والزبانية يتفكهون بتعذيبهم، فيطعنونهم بسيوف من نار، ويصبون عليهم ماء النار. ثم سرنا حتى وصلنا ساحة واسعة في وسطها أناس يسقط عليهم من السماء ذر كثير ناري يغطيهم جميعًا، فيحترقون، ثم تُعَادُ لحومهم، ويفعل بهم كذلك إلى الأبد.

ثم تحولنا إلى ناحية من نواحي الجحيم، حيث يعذب الْمُعَذَّبُون بالأمراض، يسلط الله عليهم السُّلَّ والوباء والزُهْرِي واليَرَقَان والسوداء والبَرَص والحمى وغيرها من الأمراض، تجتمع على كل منهم حتى يتهرى لحمه. وقد رأينا هؤلاء المعذبين مطروحين في أماكنهم، كأنهم جثث عفنة تتصاعد منهم رائحة كريهة، فسَدَدْتُ أنفي كي لا أقيء من خُبْثِ تلك الرائحة. ثم سرنا إلى مكان يعذب فيه المعذبون بالحشرات، وهو مكان كالْجُبِّ المنخفض، وفيه العقارب والثعابين أشكالًا وأنواعًا، وفيه البَقُّ والدود والبراغيث والقمل والصراصير والخنافس والفيران، وفيه كثير من الحشرات التي لم نسمع عنها في الدنيا، تأكل أجسام المعذبين أكلًا. وقد اختلطت هذه الحشرات بلحومهم حتى تكاد لا تميز بين المعذبين وبين الحشرات التي يعذبون بها.

ثم سرنا إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالخوازيق، فيأتي الزبانية بالتَّعِسِ المجرم، ويُجْلِسُونَه على خازوق حاد رفيع فينفذ منه، ويخرج من رأسه، ثم تعاد له الحياة والصحة، ويفعلون به ذلك إلى الأبد. ثم رأينا جماعة من الناس يعذبون بآلة يوضعون فيها، وتربط بها أيديهم وأرجلهم، ثم يدير الزبانية تلك الآلة فتتفكك أعضاؤهم، وهم يصرخون صراخ المجانين من شدة الألم.

ثم سرنا بعد ذلك إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالسم فيُسْقَونَ سمًّا ملتهبًا يقطع أحشاءهم، ويفتك بقلوبهم وأمعائهم ورئاتهم، فيتصبب العرق من أبدانهم، وهم يَتَلَوَّوْنَ من الألم كما تتلوى الديدان. ثم تركناهم وسرنا إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالجنون، فيعطى الواحد منهم شربة يشربها فيُجن، ثم يؤتى إليه بولده المعذب مثله، فيخنقه الأب المجنون ويأكل منه، ثم تعطى له شربة أخرى فيفيق من جنونه، ويرى ما فعل بابنه فيصيح كالمجنون، ويضرب رأسه بحيطان الجحيم، وينتف شعره، ويعض نفسه حتى يتهرى لحمه من العض، ودموعه تسيل على جسمه، ثم تعاد الحياة لابنه، ويسقى الابن شربة الجنون، فيفعل بأبيه ما فعل أبوه به.

فلما رأيت هذا العذاب اشتد بي الألم والوجل، وسقم قلبي منه، وكانت الزبانية كالوحوش المفترسة، يقطعون أجسام المعذبين، ويأكلون منها، ثم يقرضون أسنانهم، ويلحسون الدماء التي لوثت شفاههم، ثم يضحكون ضحكة الظفر والجذل، وكأن هذا الجحيم أربعة أشياء جمعت في مكان واحد، مَارِسْتَان كبير، وميدان حرب، وحريق هائل، وحمام ساخن.

وكان في الجحيم أنواعٌ كثيرة من العذاب غير ما ذكرت. منها العذاب بالصواعق الدائمة، والعذاب بالزلازل والبراكين؛ إذ يرمى بالمعذبين في جوف البركان. ومنها العذاب بالحيوانات المفترسة مثل الأُسود وغيرها، إذ يُجعل المعذبون فريسة لها. ومنها العذاب بالثلج والبرد الشديد. ومنها العذاب بالجوع والظمأ. ومنها تعذيب المعذب بأن يُدفن حيًّا. ومنها التعذيب بالسهام المسمومة.

ولَمَّا أظهرت لإبليس اشمئزازي، وشدة امتعاضي من تفننه في أنواع العذاب، قال: أما علمت أن الجحيم مطهًى يُطبخ فيه طعام الأبالسة؟ فأنكرت على إبليس أن يكون ذلك صحيحًا، فسار بي إلى تنور عظيم، ورأيت الزبانية يجيئون بفَتَيات وفِتْيان من المعذبين عراة، وهم أنعم الناس جلدًا، وأرقهم لحمًا، وأجملهم جسمًا. فقلت: ماذا تصنعون بهؤلاء؟ قال: إننا نصنع غذاء. ثم نادى «إبليس» أحد الزبانية، وقال لي: هذا هو الطاهي، ثم سأله أي أجزاء هؤلاء الحسان نستلذ أكله؟ قال: الصدر لنعومته ولينه، ونحن نصنع منه أصنافًا كثيرة. وهو غذاء المقربين من أهل النار، أما الرأس والأكارع فإنها غذاء الأصاغر.

فلما رأى إبليسُ تعجُّبي وإنكاري، قال: لِمَ تتعجب؟ ألست ترى السواد الأعظم من الناس يعيشون في الدنيا تُعَسَاء، يعملون ويشقون نهارهم وليلهم، ثم يكاد أحدهم لا يصيب الكفاف، وإنما هم يُسَخَّرُون كالحيوانات العُجْمِ، كي تسعد الأغنياء بثمار عملهم، فكما أن الأغنياء في الدنيا يأكلون لحوم الفقراء، ويشربون دماءهم، كذلك في الآخرة تنضج لحوم السواد الأعظم من الناس في الجحيم، كي يستلذ المقربون أكلها.

وأنت ماذا يروعك من أنواع العذاب التي رأيتها في الجحيم؟ إنها كلها مأخوذةٌ من دنياكم، وكل فرد منكم معرضٌ لأنْ يعذب في الدنيا بشيءٍ منها. ألستم تُعذبون بالسم والجنون والتقطيع والتمثيل وبالخوازيق وبالحيوانات المفترسة وبالزلازل والبراكين وبالنار والجليد وبالسهام والسيوف وبالقنابل وبالأمراض والحشرات وبالجوع والظمأ وغيرها من أنواع العذاب؟

وليست دنياكم إلا جحيمًا كبيرًا، فلا يعيش في الدنيا إلا من أجرم وأفسد في حياة قبل الحياة الدنيا، وإنما عيشتُه في الدنيا تكفيرٌ عن سيئاته التي أتاها في حياته الأُولى. أما من أحسن عملًا في تلك الحياة الأولى، فإنه يعيش في عالم آخرَ غير عالمكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤