سرقة الرجل المهم
بينما كانت يد الظلام تدقُّ نوافذ وأبواب مدينة دمشق، العريقة، كانت «ريما» قد انتهت من تزييف جميع الوثائق، وقد استعانت بأرشيف الشياطين للحصول على معلومات تبدو قيِّمة جدًّا، ولكن لا فائدة منها … ثم كتبتها بشفرةٍ سهلة الحل نسبيًّا، ووضعت مجموعة من الأختام المزيفة لأجهزة المخابرات، واختارت ورقًا ناعمًا خفيفًا وملأته من جوانبه بأرقام شفريةٍ لا معنى لها، ثم أنهت الوثائق بجملة: وعلى سبيل الاحتياط، ستبدو هذه المعلومات ناقصة … وفي الطريق مجموعة أخرى من الوثائق التي تكمل هذه المجموعة لتنقلها كلها على الجهة التي حددت لك …
ثم زيَّفت إمضاءً غامضًا … وفي الساعة السادسة تمامًا كانت تخرج من غرفة المعمل وتسلِّم الأوراق إلى «أحمد» الذي أمسك بها، وأخذ يفحصها جيدًا، ثم قرأ ما جاء فيها ورفع عينيه إلى «ريما» وفيها نظرةُ إعجاب قوية وقال: لولا أنني الذي طلبت منك هذه الوثائق، ولولا أنني متأكدٌ من إخلاصك، لظننت أن هذه أهم معلومات يحصل عليها العدو منَّا.
ثم سلَّم الأوراق إلى «عثمان» و«فهد»، فاطَّلعا عليها وصاحا في نفس واحد: عمل دقيق ورائع يستحقُّ التقديرَ والتهنئة!
أحمد: والآن، سننزل فورًا، وسنذهب إلى «رشيد» لتسليمه الأوراق … إني متأكدٌ من أنهم سيحاولون الليلة سرقتها.
عثمان: هل نقوم بخطة تمويه؟
أحمد: طبعًا، سأذهب أنا في المقدمة، ومعي الأوراق … ستقوم أنت بمراقبتي وتغطيتي ومعرفة من سيراقبني … ثم خلفك «فهد» يقوم بتغطيتك.
وانطلق الثلاثة، وركبوا ثلاث سيارات مختلفة، انطلقت بهم من حول مقر الشياطين في جنوب دمشق، إلى وسط المدينة، وعندما أصبحوا على بُعد شارعين من الفندق الذي ينزل به «رشيد» نزلوا جميعًا، ثم قاموا بتنفيذ خطة التحرك والتغطية.
وصل «أحمد» إلى الفندق الكبير، كان ينظر حوله دون أن يُدير رأسه، وهذا جزءٌ من تمارين المراقبة التي تلقَّوْها في المقر السري، ولم تُخطئ عينه رجلًا يجلس في صالة الفندق … متظاهرًا بأنه يقرأ جريدة، ولكن «أحمد» عرفه على الفور. إنه أحد الرجلين اللذين رآهما في الصور التي التقطتها «ريما» …
وبالطبع تجاهله «أحمد» … ثم ركِبَ المصعد إلى الدور العاشر حيث يُقيم «رشيد» … دقَّ الباب ثلاثَ دقات، ثم دقَّه، ثم ثلاث دقات … وفتح «رشيد» الباب.
لم يعرفه «أحمد» لأول وهلةٍ، كان تنكُّره مُتقَنًا … رجل في نحو الثلاثين، جاد الملامح عسكريُّ الهيئة، ذو شاربٍ رفيع وشعر مقصوص، ولكن ابتسامة «رشيد» وهو يصافح «أحمد» أكدت أنه الشيطان رقم «١٣» في مجموعة الشياطين!
قال «أحمد»: هل من أخبار؟
رشيد: إنهم يراقبونني طول النهار … وقد خرجت مرتين، وعرفت أنهم يتبعون خُطُواتي حيثما أذهب!
أحمد: عظيم … هذا ما نريده بالضبط. والآن إليك هذه الوثائق … إنها وثائقُ مزيفة، ونحن نعتقد أنهم سيحاولون الحصول عليها الليلة، ونحن نريدهم بالطبع أن يحصلوا عليها.
رشيد: هل تظن أنهم سيحاولون دخول غرفتي الليلة؟
أحمد: إني متأكد!
رشيد: هل أقاومهم؟
أحمد: لا … ولكن إذا اضطُررتَ إلى ذلك، فدعهم يتغلبون عليك سريعًا حتى لا يُضطرون إلى إيذائك، وإن كنت أظن أنهم لن يَلجئوا إلى العنف، فهم بالطبع يريدون عدم كشف شخصياتهم، وفي نفس الوقت يتحاشَوْن تدخُّلَ جهات الأمن السورية …
رشيد: عظيم!
أحمد: ضع الوثائقَ في المظروف الذي تسلَّمتَه من «فهد» وضع المظروف في جيب الجاكتة، وضع الجاكتة على كرسي أي ببساطةٍ سهِّل عليهم المهمة!
رشيد: وماذا بعد ذلك؟
أحمد: لا تتحرك من مكانك، ولا تتصل تليفونيًّا. وفي الصباح سيحضر إليك أحدنا متنكرًا لتُحيطه علمًا بما حدث … ونحن في انتظار معلومات وتعليمات من رقم «صفر»، وسوف نُبلغك بها عندما تصل …
وصافح «أحمد» «رشيد» وعاد يُكرر: لا تعرِّض نفسَك للعنف … إنهم بالتأكيد لن يترددوا في قتلك إذا قاومت بشدة، وهذه صُورهم لتعرفها …
نظر «رشيد» إلى الصور ثم قال: إنهم موجودون في الفندق، أقصد أن اثنين منهم يحومان حولي …
أحمد: لقد رأيت أحدهم في صالة الفندق.
رشيد: وكيف حصلتم على الصور؟
أحمد: قصة طويلة … ولكن أثناء مقابلتك أمام المسجد الأموي مع «فهد»، قامت «ريما» بتصوير الرجلين.
رشيد: عملٌ جيد!
أحمد: فعلًا!
جلس «رشيد» بعد رحيل «أحمد» على طرَف فِراشه يفكر في الساعات القادمة، ثم نظر إلى ساعته … كان موعد العشاء قد حان، فقام إلى المرآة، وتأكَّد من تنكره. وانتظر نصف ساعة أخرى، ثم نزل إلى صالة العشاء …
لم يكن رشيد في حاجةٍ إلى الاستنتاج أو المراقبة هذه المرة، فقد كان الرجلان موجودين؛ أحدهما يتظاهر بقراءة جريدة كما رآه «أحمد»، والثاني يقف عند منصة الاستقبال.
مشى «رشيد» بهدوء الرجل الواثق من نفسه حتى دخل قاعة الطعام، واختار كرسيًّا منفردًا بجوار النافذة وجلس … ثم تظاهر بأنه ينظر حوله في توجُّس حتى أتى الجرسون وطلب العشاء.
تناول عشاءه في صمتٍ، وهو ينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى … وعندما انتهى من طعامه، قام بهدوءٍ، وخرج من صالة الطعام، ولاحظ أن أحد الرجلين يتبعه، فتوقف «رشيد» قليلًا عند موظف الاستقبال وتحدث معه سائلًا عن خطابات، ثم عاد إلى غرفته.
غيَّر «رشيد» ثيابه، وأخرج مسدسه فوضعه تحت المخدة، ثم علَّق الجاكيت حسب اتفاقه مع «أحمد» على الكرسي، وتمدَّد في فراشه، ونظر في ساعته … كانت قد أشرفت على العاشرة. لم يكن لديه أيُّ رغبةٍ في النوم. وفي نفس الوقت لم يكن يتوقع أن يتمَّ الهجوم قبل الساعة الواحدة أو الثانية صباحًا، وهو الوقت المناسب بعد أن تهدأ الحياة في الفندق الكبير.
كان الكتاب الذي يحمله «رشيد» عن قصة حياة الشاعر العربي الكبير «أبو الطيب المُتنبِّي» فقد كان «رشيد» رغم أنه مغامرٌ من أعتى المغامرين وأقواهم، له قلبٌ رقيق يُحبُّ الشعر ويَطْرَب له … ورغم أنه كان بحكم عمره يحبُّ الشعر الحديث، فإن الشاعر العربي الذي مات منذ أكثر من ألف عام هو شاعره المفضل، وكان الكتاب قد صدر بمناسبة الاحتفال بإقامة تمثال للشاعر في مدينة الكوفة.
استغرق «رشيد» في القراءة فترةً من الوقت. ثم عاود النظر إلى ساعته … كانت الحاديةَ عشرةَ وخمس دقائق وقرَّر أن يقرأ بضع صفحات أخرى تم ينام.
وفي الحاديةَ عشرةَ والنصف، أغلق الكتاب، وأطفا النور، وتمدَّد في فِراشه وشدَّ الأغطية عليه.
ورغم أن الموقف بالنسبة لأي شخصٍ عاديٍّ لا يحتمل النوم، فهو مهددٌ بالموت، إلا أن التدريبات التي تلقَّاها كانت تقضي بأن يتمكَّن من النوم في أي وقت. وهكذا استسلم لغزو النوم ونام …
لا يدري «رشيد» كم من الوقت مضى عليه، وهو نائمٌ ولكنه استيقظ على صوت يَصدُر من ناحية الباب. فتح عينيه ونظر. وشاهد الباب ينفتح تدريجيًّا، وأدرك أن الهجوم قد بدأ.
عاود «رشيد» إغماض عينيه لحظات ثم من خلال أجفانه نصف المُطبَقة شاهد رجلين يدخلان، أحدهما يمسك ببطاريةٍ صغيرةٍ أطلق منها شعاعًا من الضوء ناحيته فأغلق عينيه تمامًا … كان الرجل يريد أن يتأكد من أنه نائمٌ … أما الآخر فكان يمسك بيده مسدَّسًا سريع الطلقات …
وبدأ الرجلان البحث … والشيء المدهش أنهما لم يفتِّشا الجاكيت حيث كان يضع المظروف لتسهيل متهمتهما … لقد بدآ البحث في الدولاب الذي لم يكن مغلقًا. كانا يفتِّشان بأصابعَ سريعةٍ مدرَّبة. وبين لحظة وأخرى كان الرجل الذي يحمل المسدس ينظر إليه؛ ليتأكد أنه ما زال نائمًا …
انتابت «رشيد» رغبةٌ قويةٌ في أن يسخر من الرجلين، فتقلَّب من فراشه وأطلق بعض الكلمات … وسرعان ما كفَّ الرجلان عن التفتيش وصوَّب الرجل ذو المسدس مسدَّسَه الضخم إلى رأس «رشيد» … كان المسدس مُزوَّدًا بكاتم للصوت، وكان يكفي أن يضغط على الزناد لتخرق الرصاصة رأس «رشيد»، في أقل من ثانية … ولكنه أعاد لهما الاطمئنان عندما همد مسمعه مرة أخرى. وعاد تنفسه ينتظم فعاودا البحث … وكاد «رشيد» يبتسم وهو يسمع أحد الرجلين يقول للآخر: أين ذهب هذا المظروف اللعين؟
ردَّ الآخر هامسًا: قد يكون في هذه الحقيبة!
وأخرجا حقيبة رشيد، وفتَّشاها، ولكن بالطبع لم يعثرا على شيءٍ … فقال أحدهما: أخشى أنه يضع هذا المظروف تحت مخدته.
الآخر: في هذه الحالة لا بد من إيقاظه وقد يؤدِّي هذا إلى مضاعفات نحن في غِنًى عنها.
الأول: لا مضاعفات ولا غيره، سأطلق عليه رصاصة وينتهي الأمر …
الثاني: التعليمات التي عندنا تقضي بألَّا نقتله إلا إذا تعرضنا للخطر. فنحن قد بذلنا المستحيل حتى نعثر على أحد عملائهم … وعن طريقه سنعرف بقية أسرار هذه المنظمة التي لم يقف أحدٌ في طريقها حتى الآن!
ودار شعاع الضوء الرفيع … وفجأة قال أحدهما: الجاكيت … إن أحد جيوبها منتفخٌ.
وارتكز أحدهما على ركبته، ومدَّ يده وأخرج المظروف وقال هامسًا بابتهاج: إنه نفس المظروف الذي تسلَّمه أمام المسجد الأموي!
وسمع «رشيد» وشوشة الأوراق وهي تخرج وقال أحدهما: ضع الوثائق حسب الترتيب على المائدة، وسأصورها … إننا إذا أخذناها عرفوا الحقيقة وتوقفوا عن التعامل معه.
ورمَقَ «رشيد» الرجلين وهما منحنيان على المائدة التي في طرَف الغرفة، وسمِع آلة التصوير وهي تزنُّ وتُصور المستندات السرية جدًّا «المزيفة» واحدةً إثرَ الأخرى …
ومرةً ثانية تقلَّب «رشيد» في فراشه … لقد أصبح واثقًا أنهما لن يقتلاه إلا إذا هاجمهما، فأراد أن يُضيف إلى الموقف لمسةً درامية … وسرعان ما التفت حامل المسدس إليه … ولكن «رشيد» واصل نومه بسرعة، وعاد الرجلان يكملان مهمتهما …
مضت خمسُ دقائقَ والرجل يُصوِّر المستندات … ثم سمع «رشيد» الأوراق تُعاد إلى المظروف. واقترب الرجلان على أطراف أصابعهما. وأعاد أحدهما المظروف إلى جيب الجاكيت وهمس للآخر بابتهاج: لقد كانت مهمةً سهلة!
ابتسم «رشيد» تحت الأغطية، وعندما سمعهما يتَّجهان إلى الباب رفع رأسه قليلًا وشاهدهما يخرجان بهدوءٍ ويغلقان الباب مُحْدِثًا صوتًا ضعيفًا لا يكاد يُسمع … وجلس «رشيد» في فراشه وتنفَّس الصُّعَداء.