السعلوكي والصعلوكي
في البداية … وأنا راكب في الطيارة الروسي الضخمة كما عمارة روزاليوسف، تعبُر بالعبد لله بحرَ الرمال الواسع الشاسع الذي ليس له بُرُور، قاطعةً قارة الثروات والثورات؛ أفريقيا، أمُّنا وحبُّنا، في هذه اللحظة بالذات وأنا أُلقي نظرةً خائفة من ارتفاع عشرة كيلومترات على الصحراء الأفريقية الكبرى، وأبخِرةٌ تتصاعد وتندفع مع الريح على وجه الرمال المُحرِقة، والشمس فوق في العلالي، كما فُرْن بلدِي مُولَّع منذ عديدٍ من الأزمنة.
والجوُّ في الطيارة حر يَشوي الوجوه والجلود رغم الضغط وتكييف الهواء … في هذه اللحظة بالذات قررْت تغيير اسم السلسلة التي أنوي كتابتها من الصعلوكي في بلاد الأفريكي … إلى السعلوكي في بلاد الأفريكي … ذلك لأن هناك فارقًا عميقًا بين المعنيَين! … فالصعلوك كلمةٌ عربيةٌ فخيمةٌ لها رنين … كان العربي يتصعلك عندما تزجُره القبيلة التي ينتمي إليها … تطرده من ديارها وتُطارده كما الكلب الجربان وتهدر دمَه، فيصبح كما وحشٍ في الصحراء مَن يَلقاه يقتله وله الأجر والثواب عند الله! وكان الصعلوك من دُول إذا قرَّر أن يتصعلك سحَب هراديبه ودواوينه معًا … فقد كان أغلبهم شعراء … وسار متخفِّيًا في الليل … يَضرِب وحيدًا في الصحراء حتى يلقى صعاليك أمثالَه فيصبح واحدًا منهم، يشتمون الناس ويسبُّون الأقربين والأبعدين … يَسْطون على القوافل، ليس من باب السرقة ولكن من باب الشقاوَة والمزاج … وهكذا أصبح الصعاليك وصفَ تحقيرٍ للمتمردين من أبناء القبائل. فالشخص يتصعلك أي: يتمرَّد … أي: يثور … فهم ثُوَّار ولكن بلا ثورة، وقُوَّاد بلا جيوش، وأصحاب نظرةٍ اجتماعية من غير مجتمع. واشتُهر من بينهم كثيرون، ربما لو تأخر بهم الزمان إلى زمنٍ آخَر قريبٍ لصار لبعضهم شأن في الفن، ولَصار لبعضهم شأن في الخطف … فلقد كان من بينهم فنانون مثل عروة وتأبط شرًّا. وكان من بينهم حرامية وَلَا المَرحُوم الخُط، من بينهم دبيب … لأنه كان إذا سار على الرمال دَبَّ كأنه بقرةٌ سمينة تستحق الحلْب!
الصعلوكي إذن لا تنطبق على العبد لله … ها أنا ذا راكب في طيارة وَلَا عمارة روزاليوسف، أنيقة كما المَركَب إيزيس، مريحة كما سيارة رولز رويس، أمان ولا بيت على الأرض! صحيح ليس فيها ليمونادة، وليس فيها شيكولاتة … والأكل فيها بعيد عن السامعين، ولكن فيها الشيء المهم والأهم، هو أنك تركب فيها وأنت واثِق ابْن واثِق أنك نازِل منها بإذن الله على وشِّ الأرض … وأنك لو قُدِّر لك الموت فيها فستموت بالسكتة أو بالجلطة أو بالجوع!
أنا إذن راكب مجْعُوص على كرسي جلْد منفوخ محشُو بريش النعام، أو لعلَّه ريش الطاووس، وتكييف الهوا شغَّال، وفي يدي جريدة، وبين أصابعي سيجارة، وفي جيب بنطلوني ولَّاعة رونسون آخر طراز، لهفها مني واحد صَدِيق الله يسامحه ويرحم والديه … وفي جيب جاكتتي عُملة صعبة، جنيه إسترليني على دولار أمريكي على فرنك سويسري، وحالتي بُمب والأشيا عال، وكل شيء على ما يُرام … ومع ذلك فأنا خائف كحرامي، مُرتعد ككلب مبلول، مذعور كفأر مسلوخ عكمته قطة بَرَاها الجوع! أنظُر بحسد إلى الصحراء الكبيرة تحت مني، أتمنى لو كنت واحدًا من رجال الطوارق، سارِح بجملي في النهار أقطَع بحر الرمال الشاسع الواسع على مهلي، أفكِّر أحيانًا، وأشعُر أحيانًا، وأسرَح أحيانًا … ولكن قلبي مطمئن أنه مهما طال الزمن فأنا حتمًا واصل بإذن ربي! لماذا العجَلة التي هي من الشيطان؟ حِكمة أجدادي الأزلية والأبدية … كأنهم كانوا يقرءون الغيب، كأنهم كانوا — عندما نطقوها — يفتحون المندل، العجلة من الشيطان، أيُّ عجَلة … عجلة بسكليت، عجلة موتوسيكل، عجلة لوري، عجلة ترماي، عجلة طيارة، المهم لا تركب عجلة واركب الصعب؛ فالعجلة ما أخطرها! لأنه ما أغدرها! ليس أعظم من القدَم مركوبًا مأمونًا بإذن ربي، واركب قدمًا فأنت واصل في أمان الله، قدَم حمار حصاوي، قدَم جمل هجين، قدَم حصان سيسي، المهم قدَم والسلام. وقد يقول قائل: ما قولك — دام فضلك — تركب قدمك فيلهفك ترام، أو يدوس عليك ترولي باس، أو يمسح بك الشارع أوتوبيس؟ وجوابي على هذا السائل الفاضل أن الذي قتلك ليس قدمك ولكنها العجلة. والعجلة من الشيطان، وويلٌ لك إذا ركبتَ العجلة وويلٌ لك إذا ركبَت العجلةُ عليك! أنا خائف إذن، فأنا لسْت صعلوكًا؛ لأن الصعلوك متمرِّد والمتمرِّد لا يخاف. أنا لسْت صعلوكًا، إذن من أكون؟ ليس في اللغة العربية كلمة تنطبق على حالي، ولكن السِّت والدتنا نحتَت كلمةً في العربية تستحق أن تدخُل في القاموس … ولو ذاعَت وشاعَت لاستحقَّت أمي عنها حقَّ أداءٍ علني كما الشاعر الغنائي مأمون الشناوي، كانت أمي تُطلِق على الصايع المشاغِب كلمة شضلي … وعلى الصايع المسالِم كلمة سعلوك … ليس أفضل من سعلوك تُطلَق على العبد لله في مثل هذا الموقف … وهي كلمةٌ ذكية لم تُكلِّف أمي إلا تغيير حرفٍ واحد فقلبَت المعنى رأسًا على عقِب. السعلوك إذن هو صعلوك، ولكن بالمقلوب، السعلوك هو صعلوك مقلوب زرع بصل، والسعلوك صعلوك ولكن غلبان، صعلوك ولكن مسالِم، صعلوك ولكن في طيارة روسي جبارة تعبُر بحر الرمال الواسع الشاسع إلى قلب أفريكيا، السعلوك صعلوك ولكن اسمه محمود السعدني.
أنا صعلوك إذن، ولكنني سعلوك وخائف جدًّا … درجة خوفي وأنا في الطيارة تجعلني أبحث عن وصفٍ آخر غير السعلوك، ولكن في ساعة الخوف لا يُحسن الإنسان التفكير الحسَن! … إذن يكفي جدًّا إضافة حرف الياء على السعلوك لأُصبِح: سعلوكي، وهي كلمة تؤدي المعنى تمامًا، فأنا سعلوك، أي أنا سعلوك خائف خوفَ الإبل، ولو كان زكريا الحجاوي معي في الطائرة أو الخميسي أو محمد علوان لأضفْت على الكلمة واوًا ونونًا فتصبح: سعلوكون؛ لأن كلًّا منهم جمْع سعلوك! ولو كان معي واحد منهم في الطائرة لمات فيها قبل أن نعبُر الصحراء الواسعة من شدَّة الرعب الأزلي!
ما علينا … فقد انتهت الفذلكة التاريخية حول صعلوكي وسعلوكي، وأنا الآن في طريقي إلى أفريكيا، أنا السعلوكي كما اتفقْنا، ومعي كتابٌ عن أفريكيا، وفي رأسي أوهامٌ عنها … وفي جيبي شهادات تطعيم تكفي قبيلةً لأتجنَّب شُرور وحرور أفريكيا؛ شهادة تطعيم ضد الحمَّى الصفراء، وشهادة ضد الجدري، وشهادة ضد الزهري، وشهادة ضد أمراض أخرى كثيرة لم أسمع بها ولم أسمع عنها من قبل! وأنا — والحق أقول — أعبُر بحر المانش ولا تنغرز في بدني إبرة، أنا أخاف الحُقَن كما يخاف الطفل من أبو رجْل مسْلوخة! ولذلك فكرْت أن أتمرَّد، هممْت أن أصبح صعلوكًا فلا أتناول حقنةً ولا شهادةً وأركب الطائرة وأتوكَّل على الله!
هذا التخويف الشديد جعلني أرتاب في الأمر، هل أفريقيا ثورة أمراضٍ فتَّاكة، وميكروباتٍ عضَّاضة، والداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود بإذن الله!
هل صحيح أن فيها بعوضة تلبد في الجسم الواحد لا تتركه إلا إذا مصَّت دمه؟ وذبابةٌ إذا لطشَت النفَر منَّا نام … وارتمى بين الظلام على رأي كامل الشناوي؟ هل فيها سحلية إذا عكشَت في ساق راجِل لا تتركه إلا في قرافة الإمام؟ … وهل فيها عقارب صفراء إذا هرشَت سخص من السخوصة أمثالي فيا رحمة ربي عليه؟!
طيب، لو كانت أحراش أفريقيا كلها عقارب وأنهارها كلها تماسيح، وأعشابها تحت منها سحالي، وجوُّها كله بعُوض وذبابٌ قاتل … إذن كيف ذهب الأخ ستانلي والأخ ليفنجستون؟ … وكيف سافَر إليها أول رجل أبيض في الزمن الغابر البعيد؛ ينهَبُ منها ذهبًا أصفر وعاجًا أبيض ويخطف منها رجالًا كالورد، ويبيع للآخرين خرزًا ملوَّنًا وصفيحًا يشخلل وأشياء بلا قيمةٍ ومن سقط المتاع!
هل حصل ستانلي على شهادة تطعيم ضد الجدري؟ هل تناول حقنةً ضد الحُمَّى الصفراء؟ إذن كيف ذهب وعاش هناك وتزوَّج ونسل وفتح بوابة أفريقيا لكل أفَّاق، ولكل خَطَّاف، ولكل عابر سبيل أبيض، نهبوها أولاد الهرمة، وخطفوا كنوزها، وسفُّوا خيراتها، وأغلقوها في وجوهنا، وخوفونا ولا أطفال نخشى البعبع … وقالوا حذارِ أن تذهبوا إلى أفريكيا، ففيها بعابع تأكل الناس همهم! فيها عفاريت زُرق تشفط الدم من الأبدان … يا ماما! … وفيها أمراض تفتك بالناس ولا فتْك القنابل الذرية!
وصدَّقنا الحكاية وانبسطْنا وقعدْنا في حدودنا، نذهب إلى أوروبا ولا نذهب إلى أفريكيا … ونتصرمح في لندرة، واللندناوي يشتغل في أكرا … ونسهر في باريس، والباريسي أبو مونبارناس يسهر الليل في كونكري، وهم يشفطون فلوس أفريكيا في السر وعلى المهل، ونحن نذهب إليهم نُفرغ جيوبنا عندهم ونعود! حكمة الله أنني فيلسوف، ولكن حكمة الله أيضًا أنني خوَّاف، وعقلي يرفض حكاية البعوض والذباب والسحالي، وقلبي يتنطط كفرخة في يد جزارٍ مدرَّب، ولكن لأنني سعلوكي أصيل امتثلْت للخوف، مددْت ذراعي لتندبَّ فيه أكثرُ من إبرة، وفتحْت فمي لأبتلع أكثر من حباية وأكثر من سفَّة، وملأت شنطتي بحبوب للملاريا وحبوب للكوليرا وقطرة للعين، وباستيليا للزور، ودهان لجلد الإنسان، وبودرة للرش بعد الحموم … وتوكلْت على الله وارتديْت سروال منوفي طويل لسببين؛ السبب الأول: جغرافي، فساحل أفريقيا الغربي يعيش الآن في الشتاء، وما دام هناك شتاء فلا بد أن هناك بردًا، وما دام هناك برد فما أحلى السروال الطويل في ليالي الشتاء!
والسبب الثاني: حداقة وتفتيح عين من العبد لله! … فهذا السروال الطويل سيحميني من البرد، وسيحميني أكثر من لَسع البعوض … أي بعوضة ولو كانت أفريكية صحيحة لا يستطيع خرطومها اخترام هذا القماش المحلَّاوي المتين، وأي عقربة ولو كان زبانها في حدَّة لسان العبد لله فلن تستطيع لَكشي ولا هَرشي … سيقف زبانها عند السروال، وكان الله يحب المحسنين!
وارتديْت فانلةً بكُم طويل كريشة، اشتريْت منها دستةً من سمعان برخص التراب … وأخذْت معي بطاريةً أكشف بها طريقي وسط الدروب الضيقة في الغابة الكثيفة، وأسترشد بها وسط الأحراش التي تُخفي الثعابين في كل خطوة، وأستضيء بها وأنا أتمدد على السرير، لعلَّ ثعبانًا ثقيل الدم يحاول الهزار السخيف معي وأنا نائم متمدد … وسحبْت على رأسي برنيطة معدن … فضة، لامعة ولا سرير السلطانة الوالدة، كان قد أوصاني بها صديقي عبد الحميد حمدي مدير مطافي شركة شل، قال: إنها تعكس أشعة الشمس الحارقة وتردُّها إلى الفضا البعيد. وأنها البرنيطة الوحيدة والأكيدة لتعُود لنا سالمًا غانمًا من رحلتك إلى أفريكيا، وصديقي عبد الحميد هاوي حريقة؛ حتى إنه بالنسبة للحريقة كما قَيس للستِّ ليلى، وحتى أصبح من شدَّة حُبه وغرامه للنار أن الناس في السويس شطبوا اسمه وأطلقوا عليه اسم: عبد الحميد حريقة، وليس أسعد منه في الدنيا بهذا الاسم الرومانسي الحالم اللذيذ!
المهم … إنني دخلْت الطيارة كفارسٍ من فرسان العصر الوسيط في طريقي إلى غزوة في سبيل الإمبراطور شاهبور! لم يكن ينقصني إلا كمامة لأصبح مستوظفًا في مصلحة الوقاية المدنية من أخطار الغارات والغازات والموت السريع! لم أنسَ أيضًا أن أحصل سرًّا على مطوة مسنونة؛ لاستخدامها إذا حدثَت غارة على العبد لله وأنا في البراري البعيدة. شيء واحد نسيتُه؛ هو القردة شيتا لأصبح مثل الأخ العزيز طرزان. ليس السبب هو عدم وجود قرود في القاهرة، ولكن لسببٍ آخر هو السخص الذي هو أنا، فسأصبح مسخةً ومَضحَكةً إذا خلعْت هدومي وسط البراري والأحراش. فالأخ طرزان له بزاز ولا بزاز عمِّنا تايسون. وله شَعر مسبسب ولا شعر المطربة لطيفة. وله جعورة ولا كبير مشجعي النادي الأهلي. وأنا لو خلعْت هدومي وبانت عظامي وضلوعي وجلدي وشغتي فستطمَع في العبد لله ليس الوحوش الكاسرة، ولكن الوحوش الضعيفة. ستهاجمني السحالي والضفادع، وقد تهاجمني الفئران أيضًا؛ فأنا بالنسبة لهؤلاء جميعًا فرصة العمر ليحرزوا نصرًا على ضعف البني آدم يتغنَّى به شعراء السحالي والضفادع، من هنا وإلى يوم أن تقوم القيامة! أنا داخل تُروسي ودُروعي أصبح بقيمتي، وقد ينطلي الزور على الحيوان البريء فيظنني واحدًا من فصيلة طرزان ولكن على سبيل العيِّنة! وأنا، وكل الناس الطيبين من أبناء جيلي، لا أظن أنهم تلقوا معلوماتهم عن أفريقيا إلا بين جدران سينما مترو، عمك ظرزان ممشوق القَوام كنخلة، بارز العضلات كخوابير مَصلحة المجاري، وشَعر صدره يصلح باروكةً لمذيعة في التلفزيون العربي. وعيناه تضربان شَرارًا، وقبضَته تقتل أسدًا، وشيتا وراءه خدَّامة مطيعة! والأفريكي طويل وهايف، عريان كما ولدَته أمه، غبي كحمار الوحش، جبان كما سعلوكي، وتعابين جبارة تسرح في الليل البهيم، ولكن مطوة طرزان لها بالمرصاد، وفهودٌ غدارة تشمشم حول الخيمة، ولكن قبضة طرزان تطرحها أرضًا، وجحافل من بشر أفريكيا تهجم عليه، ولكنه بصرخةٍ واحدة يبدد الجحافل والقوافل، ويقفز من شجرة إلى شجرة، ويغطس في البحيرة ليظهر فوق قمة جبلٍ مهجور.
هذه أفريكيا سينما مترو، وأنا طرزانها، ومن باب التواضع … ترزانها، ينقصني الآن مُخرج وكاميرا لنكسب ملايين الجنيهات، وأصبح نجمةً ولا إستر وليامز!
ورغم أني طفْت بعددٍ كبير من بلاد أفريكيا من قبل، إلا أن محاضرات سينما مترو لم تخرج من دماغي، أنا مثلًا مسحْت الشاطئ الشمالي الأفريكي كله، أخذْتها بسلام الله من طنجة، إلى مليلة، إلى تلمسان، إلى الجزائر، إلى تونس، إلى طرابلس، إلى الإسكندرية، وتوغلْت داخل أفريكيا إلى الخرطوم. ولكن خبراء أفريكيا الكبار أكَّدوا لي جميعًا أن أفريكيا العربية غير أفريكيا السوداء، وأن علماء الأفريكولوجيا يقسمون أفريكيا إلى قسمين، أفريكيا الشاطئ الشمالي وأفريكيا ما وراء الصحراء. وأن السينما الأمريكية لم تُسجِّل إلا نقطةً في بحر، ولم تُظهر إلا قليلًا من كثير. وقالوا: اذهب إلى هناك وسترى العجب العجاب، سترى مناظر لا يمكن تسجيلها بالكاميرا، ورجالًا كالمَرَدة لا تستطيع أن تُفرِّق بين الواحد منهم والشيطان، وسترى الطفل الرضيع يلعب وسط الغابة ليس بدمية ولكن بأسد، وإذا قُدِّر لك أن تنجو من أحراش وغابات أفريكيا فعليك واجبٌ ثقيل، هو أن تروي للأجيال القادمة القصة الحقيقية للقارة التي عاشَت أغلب الزمان في ظلام.
هذه أيها الناس هي المصادر الحقيقية والمنابع الأصلية التي نهلْت عنها كل معرفتي بأفريكيا، بالإضافة إلى تجربةٍ شخصية حدثَت لي أيام الحرب، وكان في مصر عساكر من كل المِلل، وجنودٌ من جميع الأجناس. ولكن الجنس الغالب كان جنس الأفريكان. وأشهد أنهم كانوا أشدَّ الجنود شراسةً وأشدهم ضراوةً، وأكثرهم استعدادًا للعراك والخناق، وكانوا يسرحون في حواري الجيزة في مجموعاتٍ كأنها القبائل مفلسين ليس معهم شيء، سكارى من السبرتو، يغنون غناءً كأنه البكاء، يبيعون للناس أي شيء وكل شيء مقابل زجاجة طافيا، وحتى الطافيا لم يكونوا يحصلون عليها، فقد كان الناس يغشون الطافيا، فيضعون فيها مية طرشي وأشياء أخرى لا داعي لذكرها حتى لا يتقيأ الأفريكي الذي شربها وهو الآن على بعد مئات من الأميال!
ولقد صادقْت منهم عساكر، وصاحبْت منهم أومباشية، ورأيْت عددًا منهم في رُتَب الشاويشية … ولكن الشيء الذي لفَت نظري حقًّا هو أنه لم يكن من بين الأفريكان ضباط.
ومن زجاج الطائرة المُعلَّقة في العلالي، كما سفينة جاجارين تذكَّرْت أسماء كل العساكر الأفريكان أصحابي، الذين عرفْتهم خلال الحرب وأكلْت معهم عيش وملح، وتصافحْنا أحيانًا بالأيدي وأحيانًا بالمطاوي، وهبرْت من بعضهم نقودًا، وخطفْت من بعضهم برانيط وسجاير … ماير، وكاتاكش، ووليم، وأدونجي، وكولوجي وساكي، وعشرات غيرهم كثيرون! وكان بحر الرمال الواسع الشاسع لا يزال يترامى تحت جناح طائرة بلا بُرُور … لا شيء في الأفق إلا شمس الشموسة، وصهد يكتم الأنفاس، وحرٌّ قاتل يشوي الناس كما تشوي النار كيزان الذرة الخضراء على شارع الكورنيش! ولمحْت وسط الصحراء نقطةً خضراء على بعدٍ سحيق كأنها في قارة أخرى جديدة. وانطلَق صوتٌ ناعم في الطائرة يعلن وصولنا إلى باماكو عاصمة مالي … البلد الذي شهد أغرب وأعجب تجارة في التاريخ … تجارة الرقيق! اسم البلد نفسه كان ساحل العبيد، كان في البلد يومًا ما سوقٌ دائم ليس للطماطم والكوسة والبطيخ، ولكن للبني آدم، يجرُّونه في الحبال ويسوقونه بالكرباج ويعرضونه للبيع في المزاد! حكاياتٌ كثيرة سيأتي ذكرُها في قادم الكلام! … المهم أننا الآن في باماكو، نحن الآن في أفريكيا السوداء، أفريكيا طرزان والقردة شيتا، أفريكيا ما وراء الصحراء.
انفتَح باب الطائرة الروسي الضخمة على أرض مطار باماكو، وكأنما انفتحَت بوابة جهنم … أعوذ بالله من هذا الشرد اللعين الذي يقصف الأعمار قبل أوانها، ويسوِّي الطفل كهلًا كما تسوي النار المشتعلة قِطع اللحم وتدهنها بلون الفحم! الحر هنا في باماكو حرٌّ له وزن وله كثافة … حر محترم احترامَ كابتن كورة أحرز هدفًا في البرازيل، حر له حيثية وله كيان وله وضع اجتماعي ممتاز.
حر — أعوذ بالله — تستطيع لو أردتَ أن تقبض عليه بيدك، وأن تربي منه مجموعة في عشة فوق السطوح … ولو أنا في بلد مثل باماكو لشيدْت مصنعًا عظيمًا لتعبئة الحر في أزايز وبيعها لناس لندن وباريس؛ فهذا الحر الذي هنا حر من لون جديد، وأنا على طول ما لفِّيت وعلى طول ما نطِّيت لم أشهد حرًّا كهذا، لا حر أسوان ولا حر الحديدة ولا حر الخرطوم ولا حر قِنا التي قال فيها حفني ناصف: وقنا عذاب النار! لو أن حفني ناصف ذهب إلى باماكو لاعتذر لقِنا، ولَعاش في قنا باعتبارها قطعةً من بلاد برَّة! هذه باماكو إذن، حاضرة عربية قديمة عظيمة، وصل إليها، والتاريخ لا يزال طفلًا يرضع، أولادُ محمد رسول الله فأقاموا فيها إمارةً ونشروا فيها حضارة، وكان ملِكها العظيم منسَى موسى ملك مالي هو الذي هرش مخَّ أوروبا ولوى عنقها نحو أفريكيا، وجعل الدول الكبرى كلها تتلمظ على الضحية التي لا يسيل من عروقها دم، ولكن ذهب وتوابل ومعادن على قفا من يشيل … فلقد كان الأوروبي وهو في قمة مجده، أيام عصر النهضة، عبيطًا بريالة، جاهلًا كغفير نقطة جنزور، أُميًّا لا يعرف الفرق بين أفريكيا وأمريكيا … وكانوا يعتقدون أن الفلفل الأسود والفلفل الأحمر والمستكة والحبهان تأتي من الجنة، وكان نهر النيل اسمه نهر الجنة، وكانوا يظنون أن التوابل تتساقط من شجر طويل ينمو على حرف النهر ويحملها التيار معه إلى القاهرة حيث يصطادها الناس المتسكِّعون على شاطئ الجيزة بالسنارة وبالشبكة … ولم يكن مماليك مصر في ثراء «مماليك» أوروبا … ولكنهم كانوا أحذق من نشَّالٍ وأنصح من العفاريت الزُّرق، وهم الذين بدعوا هذه الروايات وروَّجوها على بتوع أوروبا أولاد الهبلة لكي يضربوا نطاقًا من الغموض حول القارة والتجارة، حتى لا يأخذ الأوروبيون عساكرهم ومدافعهم ويقتحموا أفريكيا فيلهفوا خيراتها وينهبوا كنوزها، وتخرج مصر من المولد بلا حمص، وكانت وقتئذٍ تعيش على ما تحصله مصلحة الجمارك من أموال. المهم، كان ياما كان ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام، إن هذا الملك الكبير الكريم مَنسَى موسى جاء إلى القاهرة في طريقه إلى الحج، ومعه حاشية، ومعه قافلة، ومعه ذهب أصفر رنَّان، ومعه فلفل أسود يكفي لعمل حلَّة سلطة يوميًّا لمدة عشرة أجيال … وخطَف بريق الذهب أبصار بعض التجار الأجانب … لعلهم كانوا بقَّالين من اليونان، فعندما ذهبوا إلى الشاطئ الأوروبي فبْركوا القصة فإذا بها: ملِك أسود يرتدي زيًّا فضفاضًا، أصفر في أصفر، عليه تاج من الذهب، وفي قدميه حذاء من الذهب، وحول وسطه حزام من الذهب، وفي يده سيف من الذهب، يشرب في كأس من الذهب، ويأكل في سلطانية من الذهب، فإذا تكلم أو تنفس لا يخرج من صدره هواء وإنما عروق من الذهب الخالص! تلك كانت البداية، ويا داهية دُقِّي على الذي حصل للقارة الغلبانة أفريكيا بعد سنوات من ذُيوع هذه الرواية … هجمَت السفُن الأوربَّاوي كالكلاب المسعورة على الشاطئ الأفريكي تهبر توابل ومعادن، ثم لم تلبث أن تركَت هذه الأشياء جانبًا وراحَت تهبر رجالًا يبيعونهم في السوق كما تُباع الكوسة والباميا الخضرا في سوق العتبة! وبلغ ما خطفوه مائة مليون رجل أفريكي لو ظلوا في أماكنهم لصَنعوا من أفريكيا جنة الله في أرضه … ولكن حكاية الرقيق وتجارة الرقيق لم يحِن وقتُها بعدُ، وسيأتي الكلام عنها بالتفصيل في قادم الفصول.
المهم أنني نزلْت باماكو والدنيا أشد حرارةً من نار جهنم، والهواء مات منذ عشرة قرون … والشمس ليسَت في السماء، ولكن السماء كلها شمس وكلها محرقة … لا طير يرف في الفضاء؛ لأن أي طير يقل عقله ويطير ولو على ارتفاع قدم لهوى على الأرض مشويًّا بإذن الله … ولو ولَد مصري حدق مفتوح العين كبابجي من محلات الشيمي يسافر إلى هناك ويفتح محل كباب وطيور مشوية لأصبح بنكيرًا في خلال عام، فلن يحتاج إلى فحم ولا فرن ولا مروحة يهوِّي بها على النار … يكفيه إذا طلب الزبونُ حمامًا أن يطلق الحمام في الجو … وسيسقط الحمام بعد لحظة مشويًّا في طبق من الفخَّار، ها هي معلومات سينما مترو تحقق في باماكو، الناس هنا طوالٌ كنخل الحوامدية، أرشق من خشب الزان، أسود من منجم فحم، ولكن الملامح حلوة، العيون مشروطة، الأنف مدببة كسنِّ القلم الرصاص … الشفايف مبطرخة، والسِّت هنا تكشف عن رأسها، والرجل يُخفي وجهه بلثام! هؤلاء هم أبناء الطوارق … عرب صحراء أفريكيا الكبرى، أشجَع وأجدَع رجال على ظهر الأرض. الذين حاربوا استعمار أوروبا ببسالة وبهبالة … ودخلوا على المَدافع بمطاوي واقتحموا الحصون بسكاكين وأدوات مطبخ إيديال!
واللثام ضروري وواجب في الصحراء؛ لأن الصحراء غدارة، وفيها تلال تتحرك كالثعابين السامة، ورياح تردم الناس أحياء، وأعادي ما أكثرهم في الفلاة! والمدينة نظيفة وجميلة، ولكنها ليسَت تمامًا أفريكية، أعظم وصفٍ لها أنها مدينة صحراوية، ولكن على بعدٍ بعيد منها تمبكتو، أجمل وأكمل بلدٍ في الصحراء الأفريكية، حلم السادة تجار أوروبا في العصر القديم، ولكنهم أبدًا لم يستطيعوا دخولها، وحلم السادة مخرجي هوليوود في العصر الحديث، وأفلامًا عنها أنتجوا، ورواياتٍ حولها نسجوا، وخرافاتٍ من جوِّها صنعوا، وكسبَت هوليوود ملايين الدولارات من تمبكتو ولم يستطع تُجار أوروبا الأقدمون أن يكسبوا منها فلسًا، الاستعمار الجديد هزم الاستعمار القديم وبالكاميرات دخلوا تمبكتو، وبالمدافع لم يستطيعوا دخولها! باماكو الجبارة وتمبكتو العزيزة ومالي وأفريكيا وكلمات عربية يهمس بها رجل في أذني … وكان أول لقاء بيننا ولكنه سيمتد، وسيكون الرجل إياه رفيق رحلتي إلى داخل أفريكيا … رجل يرتدي جلبابًا وعقالًا ومعه مَسبحة من حبَّات الزيتون، رجل عربي يقول الشِّعر … وهو من بلادٍ الرجُل دايمًا فيها ثري، ودايمًا أمثل، ودايمًا له زبيبة، ودايمًا يرتدي الحرير الهندي، ودايمًا معه سيارة كاديلاك، ودايمًا معه فلوس في البنك … ولكن لأن الطيور على أشكالها تقع، فقد كان العربي الوحيد الذي وقع في قُرعتي مجاهدًا يحلم بالاشتراكية … مكافحٌ هربان من بلاده في طريقه إلى مؤتمر آسيا وأفريكيا، غلبان أغلب من عبدٍ حبشي، مفلس ولا مسجون خارج من تأبيدة، مُصلح اجتماعي ولا أبو ذر الغفاري، ثائر تكاد أعماقه تحترق ولا الحريقة المشعللة في جو باماكو! والعربية هنا مفهومة ومستعمَلة، وواحد من أبناء محمد يركع ويسجد في الطريق ووجهه نحو القبلة، ولكن الرجل العربي خلع ملابسه وارتدى الملابس الأوروبية منعًا للإحراج، وطول الليل والرجل العربي يثرثر على ودنه، ومع أننا في الليل وفي الهواء الطلق إلا أننا كنا وكأننا لم نكن في الخلاء فلم يكن ثمة هواء على الإطلاق! وعسكري أسود كأنه قطعة من الليل يتمشَّى افرنجي على بعد خطوات منا! والأوتوبيسات تجري على الطريق أمامنا كما أوتوبيسات الخرطوم … أوتوبيسات من باب الدلع … عربيات كانت صناديق شاي في الماضي البعيد، ثم ظهر لها موتور كما تظهر الدمامل في جسم الإنسان … والعربية من دول تقوم من محطة القيام وبعد كيلومتر واحد تشحط وتنقطع أنفاسها وتموت ويتولى الركاب زقَّها حتى محطة الوصول … وهي وسائل المواصلات باعتبار أن الإنسان هو الذي يقوم بتوصيلها حتى لا تتوه في الطريق … كارثة كبرى أنه بعد عشرات ومئات السنين من الاستعمار لا يجد الأفريكي الطيِّب شيئًا يركبه … والمدينة كلها نائمة وميتة بعد التاسعة، ولأن الدنيا حر فقد كان السيد الخواجا يجد حياته في منزله في حدائق كما حدائق الجنة، وتكييف هواء وحمامات سباحة، ولأن الاختلاط بالأفريكان عيب، فقد كان الأوروبي يغلق بابه ويبتعد! وكان على الأفريكي أن يجد حياته في المدينة تحت أي ظروف، وكانت ظروف معيشته دائمًا منحطَّة، ولكنها عال ما دامَت تحفظ عليه حياته ليعاود العمل في مزارع ومناجم السادة البيض! وفي الفجر انتهى الحر في أمان الله … وحمدْت خفيَّ الألطاف الذي نجَّانا مما نخاف … غير أنني اكتشفْت بعد فترة أن الذي أخاف كان لا يزال موجودًا بخير … الحر لم ينته، ولكن أنا الذي انتهيْت … ساح عقلي فأصبح كالشيكولاتة … ووقعْت ليس في غيبوبة، ولكن في ديخوخة … من الدوخة والعياذ بالله! وقمْت أتوكأ على أحمد صديقي الذي كان يظن أنه هو الذي يتوكأ عليَّ! وعلى طول الطريق من المدينة إلى المطار يلوِّح لنا ناس باماكو في ودٍّ بالغ … ولاح شبح ابتسامة على شفتي … تذكرْت الموري أبدو عسكري مالي الطيب الذي صاحبْناه وأحببْناه ذات يوم من أيام الحرب الثانية … ورغم مرور أكثر من عشرين عامًا على صداقتنا بالموري أبدو … إلا أن وجهه الطيب السمح لم أنسَه … ولقد صادقَنا نحن شلة الجيزة لأنه كان يشكو الوحدة، وصادقْناه لأننا كنا نشكو الإفلاس … وبعد ستة أيام من الصداقة المتينة والكلام في مستقبل أفريكيا قررْنا أن نهبره. وذات مساءٍ طلَب منا خمرًا فطلب زعيم الشلة منه خمسين قرشًا … وكان في نيتنا والله أعلم أن نشتري له زجاجة خمر مغشوشة بعشرة قروش ونلهف أربعين قرشًا … ولكن الرجل الطيب ابن الناس الموري أبدو عسكري مالي الطيب توقَّف في ميدان الجيزة فجأةً، وقال: اذهبوا أنتم بسلام، اشتروا الخمر المعتَّقة وسأنتظر أنا هنا … وكانت مفاجأة غريبة لم نتعود مثلها في صفقاتنا الماضية … كان العسكري الأفريكي يعكم الواحد منا في قفاه فلا يتركه حتى يقبض على زجاجة الخمرة المغشوشة … ولقد حدث مرةً أن عسكري أفريكي من دار السلام عكم العبد لله من قفاه حتى بعد أن استلم الخمرة … وأصر على ألا يتركنا إلا بعد أن يأخذ نقوده، المهم أننا تركْنا الموري أبدو واقفًا في ميدان الجيزة وانصرفْنا … وبالطبع لسْت في حاجة إلى أن أقول لكم إن أحدًا منا لم يعُد! ولم يكن هذا هو الغريب في قصَّتنا مع عسكري مالي الطيب الموري أبدو، ولكن الذي سأحكيه الآن هو الشيء الغريب! بعد أيامٍ التقى الموري أبدو بواحدٍ من الشلة يتمشى افرنجي على شارع الترماي … ووقع قلبُ أخينا في بطنه ونشف دمه وطقطق شَعر رأسه من شِدة الخوف، ولكن الموري أبدو سأله في ودٍّ شديد عن الأصدقاء، ولماذا لم يعودوا تلك الليلة! واخترع صاحبنا قصة تُرشِّحه للتأليف في مسرح ساعة لقلبك، قال: إن أولياء أمورنا قبضوا علينا في نفس اللحظة التي كنا نشتري فيها الخمرة، وأنهم ساقونا أمامهم إلى البيوت مصفَّدين في الأغلال ولا رقيق اشتراهم خواجا من ساحل أفريكيا … قصة مضحكة حقًّا ولكن الموري أبدو استمع إليها ولم يضحك … ولو أنني قصصْت ذات القصة على حفيدي محمود الآن فلربما هزر معي هزارًا شديد البواخة عديم الاحترام! ولكن الموري أبدو أبدى شديد أسفه لما حدث لنا بسبب أنه أراد أن يشرب كأسًا في ليلة شتاء! وتأسَّف صديقنا أيضًا لأننا لم نرُدَّ له الخمسين قرشًا في حينه وسحَبه من إيده إلى قهوةٍ كُنَّا نجلس عليها ولها أكثر من باب. ولعل هذه الميزة — أكثر من باب — هي التي رشَّحَتها لنا دون قهاوي الناس للجلوس … فلقد كنا نعيش في ذعرٍ دائم من عساكر الأفريكان … وكأننا أرانب صحراوية عليها أن تجد بابًا للفرار إذا حانَت ساعة العراك والخناق! ووقف العسكري الموري أبدو على الرصيف، ودخل صاحبنا إلينا، فلما أبصرْنا الموري أبدو واقفًا يتطلع إلينا تجمَّد الدم في عروقنا، فقط خطر لنا أنه جاء للانتقام! ولكن عندما حكى لنا الصديق القصة خطرَت لنا فكرة أخرى نهبر بها مبلغًا يكفينا شر التهويب ليلَتنا على كامب الأفريكان! وبعد لحظةٍ ذهب الصديق إلى الموري أبدو وطلب منه خمسين قرشًا أخرى لأننا لا نملك إلا جنيهًا صحيحًا ولا توجَد فكة في أي مكان، وهكذا أخرج الموري أبدو الخمسين قرشًا ببساطة، وهكذا أيضًا لهفها صديقنا ببساطة ودخل القهوة، وهكذا أيضًا خرجنا جميعًا من الباب الخلفي ببساطة، وتركْنا الموري أبدو واقفًا مكانه على الرصيف ينتظر … ولعلَّه لا يزال واقفًا مكانه حتى الآن!
نسِيت أن أقول لكم أن الموري أبدو معناها المريد عبده! حكايةٌ قديمة تذكرتُها وأنا في طريقي من باماكو المدينة إلى باماكو المطار … والناس الطيبون يلوحون لنا بأيديهم لا لشيء إلا لأننا غرباء ومن بلدٍ بعيد! زيارةٌ خاطفة لمالي ولكن عميقة! والرجل الذي لا أنساه شيخ في السبعين شديد البأس ولا سيد نصير، نظرُه على قده ولا الحكَم صبحي نصير، نحيف كما عامود النور، سريع الخطوة ولا إكسبريس الصعيد، كان قادمًا إلى باماكو من رحلةٍ طويلة في الصحراء ومهنته دليل قوافل، يتنقل بين ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا، وإذا كان هو عنتر فالصحراء عبلته، وهو أحيانًا يقضي سنوات طويلة لا تقع عيناه إلا على اللون الأصفر … والرمل وسادَتُه والزلط … نهر المياه الذي يصب منه في أيام القيظ الأغبر! عاصَر الصحراء في فترة غليان … وشاهَد فلول جيش الأمير عبد الكريم الخطَّابي وهي تهيم على وجهها في الصحراء، وعساكر إسبانيا الذين طاردوهم مطروحين على الرمال الساخنة كالفسيخ البوري! وهو دائمًا أثناء غزواته السلمية يرى في الصحراء رحلات مريبة، ست خوجاية حلوة ورجالة بيض، بيض كالثلج الذي ينبتُ على قمم جبل أشانتي يضربون في الصحراء الوسيعة … وهو أحيانًا يرى بعضهم في رحلة العودة، وإن شئتَ الدقَّة يرى آثار بعضهم مجرَّد عظامٍ نخِرة وحولها زجاجات بيرة فارغة وعلب طعامٍ محفوظة وشنط فيها ملابس قذرة!
وسيدة أخرى من مالي كانت تعيش منذ عشرة أعوام في النيجر … التقَت على الحدود هناك بمكافحٍ جزائري في جيش الثورة، جريح كان يعاني من رصاصة اخترقَت كتفه. وهي تتكلم فرنساوي والولد أيضًا لبلب! وتفاهما وتحابَّا وطارا معًا إلى تطوان في المغرب وعقدا قرانهما في قصرٍ فخيمٍ عظيم على تلال تطوان الحلوة. وكان القصر يملكه رجل جزائري ثري يعيش حياةً مرفهة وله سمعة كالطبل في كل المغرب!
ولكنها اكتشفَت بعد يوم واحد أن القَصر وصاحبَه خدْعة، وأنه مَخبأ ومستشفى لجيش الثورة، وبعد شهر ودَّعَت الزوج على حدود وجدة. وذهب إلى جبال تلمسان ولكنه لم يعد أبدًا.
وحتى بعد الاستقلال دخلَت الجزائر وبحثَت كالمجنونة في كل شبر ولكنها لم تجد شيئًا. فعادَت إلى بلادها ومعها صورة للشهيد الذي مات في معركة بزوغ أفريكيا. البنت أشهد أنها في لون الشاي المغلي، طعمه كما قطعة الخروب الهندي، ملامحها أوروبية وعيناها في خضار برسيم بلدنا.
سألتْنا في صوتٍ ولا صوت الكمنجة: من مصر؟
– نعم.
– زرتُها مائة مرة.
– أعجبتْكِ؟
– لم أرها ولا مرة.
قطعة الخروب الهندي … ناوسا واسمها بالعربي ناعسة، تعمل مضيفةً في شركة طيران أفريكية … وهي زارَت مطار مصر مائة مرة، ولكنها لم ترَ مصر ولا مرة، رأتْها من الجوِّ بيوت كعلب الكبريت!
وشوارع كإبر الخياطة، وحقول كالسجاجيد العجمي!
الجو هو الآخر صحراء ليس فيه معالم وليس فيه مناظر، وأي صلة وثيقة بدليل القوافل ومضيفة الطيران؟
والطيارة الروسي الضخمة لا تزال رابضة على أرض مطار باماكو في انتظارنا، كأنها قدرنا يتبعنا. وكيف نهرب من أقدارنا وهي حكَم علينا؟
والطيارة الروسي تنطلق بنا في الجو كوحشٍ مجنون هارب من قفصه. وأنا نائم ألتهم أرزًا مع الملائكة، فقد أصبحْت قريبًا منهم. المسافة بين الطائرة وبين السماء فركة كعب، وفي الحالتين معًا سواء، حلَّقَت في العلالي أم هَوَت بنا على جدور أعناقنا! والصديق العربي مصرٌّ إصرارًا عنيدًا على أن يُسمعني شِعرًا في الثورة! وإلى غانا … إلى قلب أفريكيا حيث نقضي شهرًا طويلًا جميلًا! ولسوف نحكي قصصًا وحواديت وأساطير وتواريخ ما أجملها.