يا حضرات الكويرة … ويلٌ لكم من أفريقيا
بعد العلوم والفنون والسياسة والكواسة والحواسة أكتب لكم من جديد عن فرع جديد في أفريكيا. ولكن قبل أن أبدأ لا بد من شرح الكلمات الجديدة التي أرجوكم رجاء واحد شحط عاوز يتعين تمورجي في القصر العيني، أرجوكم أن تحفظوها وتتذكروها وتتعلموها، وللعبد لله الأجر والثواب عند الله.
أول هذه الكلمات هي الكواسة، والكواسة من كويس، ويُقال: فلان رجل كويس … أي: رجل طيب، أو رجل عبيط. ويُقال: هذا الشيء كويس كتير، هذا إذا كان المتكلم خواجا مضروب في دماغه نازل من مركب يتفرج على بور سعيد!
الكلمة الأخرى هي الحواسة من التحويس، والتحويس بمعنى اللف والدوران، ويُقال: فلان حوَّاس … بمعنى: فلان لفَّاف أو دوَّار، ولكن هذا لا ينطبق على حوَّاس بتاع الفن الشعبي، والحواسة أيضًا في بعض القواميس من الحواسة، ويُقال: يا حوستي ياني، هذا إذا كان المتكلم سيدة من المدبَح مات سبعها في معركة بالسكاكين. ويُقال: يا حوستي يا خواتي، هذا إذا كان المتكلم أُم مات ابنها غرقًا في بحر شبين.
بعد هذه الديباجة يا سادة يا كرام أعود بكم إلى الحديث عن أفريكيا، وفي فرعٍ أعتقد أنه يهم الكثيرين والكثيرات، وهم حضرات الستات وحضرات البنات، والتاء هنا هي تاء النسوة!
حديث اليوم يا سادة عن الرياضة في أفريكيا. ولن أخدعكم ولن أضحك عليكم، سأقول الحقيقة كاملة، وأرجو أن يستفيد منها حضرات المشرفين على الرياضة في بلادنا؛ لأن أفريقيا منا وعلينا، ويومًا ما سنلاعبها وتلاعبنا، ويا ويلنا إذا لم نأخذ حذرنا وإذا لم نستعد لها من الآن! أول شيء أفريكيا في السباحة برة، ومع إن أفريقيا قارة الأنهار والبحيرات، إلا أنها أنهار وبحيرات قاتلة … السابح فيها مفقود، والواقف على شاطئها مفقود برضه! التماسيح هناك تتلعبط في الماء كما السمك البلطي أو السمك الشبار — بلُغة أهل بورسعيد — عندما يتلعبط في ترعة بلدنا! وسيد قشطة نائم على وش المية كما قنطرة ترعة سبك كفر القرنين منوفية! وفي السودان مثلًا سمكة غلبانة ومسالمة اسمها العجلة، وزنها مثل وزن الفيل، ولو طبقت في واحد سباح مثل أبو هيف ﻓ … يعوض الله! وفي أنهار الكونغو أحناش، يعني: ثعابين سامة، وقرصتها وقرافة البساتين! لذلك لا يسبح الناس هناك، حتى الناس الذين على شواطئ المحيط لا يسبحون؛ لأن المحيط غدار، تنزل فيه فتغطس ولكن لا تقب ولا تظهر لك جثة! السباحة في أفريكيا إيدك منها والأرض. وسنظل نحن الأبطال في العالم وأبطال كل العالمين، حتى لو اكتشف العلماء سباحين في كوكب الزهرة! وفي الملاكمة كفانا الله شرها مستوانا كهواة مش أبطال، ولكن كمحترفين يختلف الوضع! في نيجيريا ولد ملاكم محترف اسمه تيجر، وتيجر يعني النمر، وهو نمر فعلًا ومفترس صحيح! قتل حتى الآن أكثر من خمسة ملاكمين لهم عضلات ولهم قبضات كالحديد! وفي جامبيا أيضًا ملاكم محترف اسمه دوجو، لو لكَش واحد مثل حضرتنا فأنتم مدعوون جميعًا لتشييع جنازتي اليوم التالي بإذن الله! ولو لكَش واحد ملاكم فهو واقع على أرض الحلقة بلا كلام! وليس اعتباطًا أن كل أبطال الملاكمة في العالم من الزنوج. بُنيان الزنجي كبناء الهرم الأكبر. حاجة تسرُّ العين والفؤاد وتشرح الصدر الحزين! عضلات ولا الكورة الأنبوبية، لو رآها ولَد كوِّير مثل رضا لشاط فيها على الزاوية الشمال على طول! هذا إذا كان الزنجي رجل غلبان وفي حاله مثل حضرتنا، فما بالك بالرجل الملاكم الذي يأكل عيشه بعرق العضلات وقبضات اليدين! وفي الجرْي حدِّث ولا حرج. في أفريكيا ناس ناشفين مسلوعين، رجلهم ولا عيدان الملوخية، ولكن صلبة ولا حديد المسلح، والواحد منهم يجري ولا الغزال. واكيبا بتاع الحبشة بهر العالم كله برجليه، وميدالية ذهبية مضمونة لسيادته في أي دورة وفي أي مهرجان. وفي تونس أيضًا عداءون الله عليهم، الواحد فيهم يجري مشوار من هنا لِبَنها. وفي الكاميرون عدَّاءٌ مشهور اسمه أوجا … ومعناها النار، وهو يجري الميل الواحد في سرعة النفاثة الجديدة … وفي كرة السلة العيال طوال أطول من نخلة، ولكن بلا فنٍّ على الإطلاق، ولو اكتسبوا الفن فيا ميت حلاوة عليهم، عندئذٍ سيكسبون حتى أمريكا، وحتى فرنسا! ولكن كرة القدم هي التي أريد أن أنذركم يا سادة يا كويرة وأن ألفت نظركم! في غانا ولد حارس مرمى لا تدخل مرماه ولا طلقة مدفع. كما الحيطة يسد الجون فلا تمر منه كورة ولا تشرد! ومع ذلك ضربناه في دورة طوكيو خمسة أهداف ولا أدري كيف حدث هذا! ولذلك ضرَب هو الآخر الشيخ طه ضربةً تكسَّح بسببها عامًا طويلًا، ولطم الأهلي على خدَّيه بسببه! الولد الغاني غلبان وكفران وحاله عدم، ويحرس مرمى فريق الريبابليكا في أكرا، تفرجْت عليه مرتين، مرة هزَم فريقه الفريق المنافس خمسة أهداف حتة واحدة، واتغاظ العيال بتوع الفريق المنافس ونزلوا ضرب في الحكم ثم في لعيبة الريبابليكا! فلما زاط الجمهور في المدرجات، انهال اللعيبة ضربًا على المتفرجين، وطار كل الناس، ومحسوبكم أمامهم، وعرفْت لحظتها أن طريقة لعبنا تختلف عن طريقة اللعب هناك. فهنا الجمهور هو الذي يضرب اللعيب. وهي طريقة حلوة ما دمت أنت من الجمهور. ولكن هناك اللعيبة هم الذين يضربون، ولذلك يذهب بعض المتفرجين خلال المباريات بزي الكورة؛ حتى إذا حصلت العركة ووقعت الواقعة انضموا للفريق الضارب وهات يا عزق في مخاليق الله. وشاهدْت مباراةً ثانية أشهد أنها حلوة وأنها طعمة، ومستوى اللعب كما ماتش حامي بين الزمالك والإسماعيلي، وفازت فرقة ريبابليكا بأربعة أهداف لمفيش، أحرزها كلها الواد الإنسيد الشمال، هو ولد عفريت أزرق الناب، عصير من رضا الإسماعيلي وجاكسا السوداني، ويستطيع أن يلعب في ريال مدريد ويكسب الشهرة والفلوس والذِّكر الحسَن. واستاد أكرا عظيم التنسيق عظيم الاتساع. وبه ساعة أوتوماتيكية، ولوحة بالكهرباء لتسجيل النتائج، وميكروفون للإرشاد والتنبيه. والأبواب محكَمة لا تسمح بالمكاسب والتهليب! تذاكر وأبواب دوَّارة كما أبواب جنينة الحيوانات. وعلى كل بابٍ عسكري واحد ليس على رأسه طاسة وليس في يده شومة. وفي الداخل لا يُوجَد عساكر على الإطلاق، ولا واحد شحط مشمرخ شايل قفة باستيليا لترويق الدماغ، ولا جرادل كوكاكولا، والتشجيع حامي ولكن في حدود المعقول. والدرجة الأولى بنص دستة شلنات، والمدرج خلْف المرمى بشلن واحد. والتحكيم على باب الله، شُفت واحد غلبان مهزوز ظَلَّ يتخبط في أحكامه، وفي النهاية ضربه العيال اللعيبة وضربه الرجال المتفرجين! وللصحافة مكان لا ينحشر فيه واحد صايع ولا واحد ضايع، والصحافة الرياضية قوية ومحترمة ومقروءة غاية الانقراء! ولكن اللعيبة يا حسرة غلابة ولا لعيبة بني سويف، فقراء ولا بتوع السواحل، آخر فلَس ولا لعيبة كفر الشيخ. الواد حارس المرمى العظيم يصلح لحراسة مرمى البرازيل، تكلمْت معه بعد المباراة وتكلم معي أيضًا، وصوَّرتُه وشكرني، وطلبت منه الحضور إلى فندق الأمباسادور لنتبحبح في الكلام ونتبغبغ، فطلب من العبد لله خمسة شلن ثمن التاكسي وعلبة سجاير عشرين إذا أردْت منه الحضور والكلام! وتصوَّر لو واحد صحفي أجنبي طلب من صالح سليم أو حمادة إمام أو شحتة الحضور إلى فندق سميراميس، فطلب واحد منهم ربع جنيه فكة ثمن علبة بلمونت وتاكسي من الدقي إلى ميدان التحرير؟ أنا لا أتصور أن واحد من الكباتن بتوعنا يجرؤ على أن يطلب مثل هذا الطلب الغريب! ولكن يبدو أن الواد حارس المرمى الغاني على الحديدة، رغم أنه موظف على الآلة الكاتبة في شركة وله مرتَّب ٢ جنيه كل أسبوع.
وفي غانا فرقتان قوميتان والباقي على باب الله، كوتوكو وريبابليكا، ومنهما يتكون الفريق الغاني، ومن ورائهما يسترزق الاتحاد الغاني وينفق على الجميع. ولكن لا رعاية ولا عناية باللاعبين. ولو عرف العيال بتوع مصر كم هم محظوظين وكم هم متدلعين وكم هم متبغددين لحمدوا الله وشكروا فضله وباسوا أيديهم بطنًا وظهرًا على النعمة والرزق الوفير! وأشهر لعيب مصري في غانا هو رأفت كابتن الزمالك، وولد تاني وصَفُوه ولكنهم لم يتذكروا اسمه، قالوا الولد القصير أبو رجلين مقوسة كما حديد النبلة! ربما هو محمود حسن لعيب الترسانة، الذي اختفى بدون سببٍ معلوم! ولقد سمعت عن رأفت من ناس أغنياء مبسوطين في فندق الأمباسادور، وسمعت عن رأفت من ناس مستوظفين في الحكومة والشركات، وسمعت عن رأفت من ناس ضباط في الجيش، وسمعت عن رأفت من ناس فقط في مقاهي وبارات أكرا، باختصارٍ سمعت عن رأفت من الجميع! ولكن غانا كمستوى لا تزيد عن مستوانا. هي في نفس الخط البياني معنا ومع المغرب وتونس والسودان. ساعات في السما وأيام في الحضيض. وهي تلعب بطريقتنا وبأسلوبنا، وشعارها هو الحكمة الأبدية أن الله تعالى خالق الكون ورافع السموات بغير عمد ترونها ومُدخل الكورة إلى الشبكة … وإذا أراد فلا رادَّ لإرادته، ولكن إذا كان الله لا يريد فلا شيء يشفع ولا شيء ينفع، ولا شحتة ولا الشاذلي ولا خنتو بتاع ريال مدريد! ولكن في أفريكيا ناس تلعب بالكورة كما يلعب راجل ذئب ببنت ساذجة، كما يلعب واحد مليونير بالفلوس! في توجو فرقة تأكل منتخب مصر وهي نايمة. وفي جامبيا فرقة تأكل فريق البرازيل. وفي مالي فرقة لو اشتركت في كأس العالم لأكلت كل الفرق … حتى فريق البرازيل. الولد دي ستيفانو العجيب أبو رجل بلاتين قال مرة عن عيال مالي: إنه إذا كان المستقبل في الكورة لأحد … فهم الزنوج. وأقوى أمل للزنوج هم عيال مالي! أنا نفسي تفرجت على فريق مالي واندهشت كيف يكون مثل هذا المستوى موجود ولم نسمع به ولم نتفرج عليه، ولماذا نستجدي فريق البرازيل وفريق لشبونة مع أن فريق مالي أعظم وأقوى، وعنده من فنون الكورة ما ليس موجودًا في أي فريق. الواد السنتر هاف بتاعهم ذكرني بالساحر بوشكاش أيام عزِّه! الواد يشوط الكورة نحو اليمين فتتجه نحو الشمال! وقد يقول قائل: وماله، إن عندنا من هذا الصنف كثير، هشام يَكَن يشوط في المرمى فيسدد في المتفرجين، وحسام حسن يشوط لزميله فتذهب الكورة للخصم، وأنا أقول: نعم هذا صحيح، عندنا الكورة كالبورصة، يوم في هبوط ويوم في صعود، وكما البورصة ترتفع الأسعار وتنخفض بدون سببٍ معلوم، كذلك في الكورة، يرتفع المستوى ويهبط دون سببٍ معلوم، ولكن الفرق بين حسام حسن مثلًا ولعيب مالي، أن حسام حسن عندما يسدد في الشبكة، فهو صادق النية والعزم في أن تذهب الكورة للمرمى، ولكن على رأي سامي البارودي: صحَّ مني العزم والسيف نبا! ولذلك تخيب الكرة وتتجه نحو المتفرجين. ولكن لعيب مالي يسدد نحو المدرجات فتذهب إلى المرمى. والكورة فنٌّ له أصحاب وناس تتفنن وناس تتحنجل … وحضرات اللعيبة بتوعنا من طبقة المتحنجلين! السبب يا حضرات الكويرة أن الجو الكروي في أفريكيا هو نفس الجو الكروي الذي كان موجودًا أيام حسين حجازي ومختار التتش. جو هواية ولا شيء سواها، واللعب هناك لوجه الرحمن الرحيم! النوادي هناك غلبانة وكفرانة ولا تستطيع أن تعطي اللعيب ثمن صندوق دخان ماتوسيان ودفتر بفرة! وعندما يفقد الإنسان كل شيء وتبقى الهواية فقط فإن المجال للاسترزاق أو للتشبيح في الكورة، مثل التي رقصت على السلم، مثل التي فقعت بالصوت في الغابة الاستوائية! نطلع مرة رابع دورة طوكيو، ونخرج من برة برة في دورة برازافيل، ونهزم النمسا مرة، وننهزم من هولندا بلد السمن واللبن والحليب! وهكذا أيضًا يكسب الزمالك الدوري العام ويخرج من الكأس في أول لقاء، والسويس الرياضي ينافس على الكأس ويهبط من الدوري الممتاز، وأنت لا تستطيع أن تحدد هل سيكسب فريق مصر أم سيخسر، وأنت لكي تحدد النتيجة فلا بد من الاستعانة بالجن والعفاريت الزُّرق! ولكنك في بلدٍ مثل مالي مثلًا، فأنت تستطيع أن تحدد بالضبط ماذا سوف يحدث له في أي مباراة! فإذا كانت المباراة مثلًا معَنا أو مع غانا أو مع السودان. فمالي هي الكسبانة بإذن الله. وإذا كانت المباراة مع إنجلترا مثلًا، فقد يتعادل الفريق وقد يفوز. وإذا كان اللعب مع البرازيل، فهنا لا تستطيع أن تتنبأ، فقد يتعادل وقد ينهزم وقد يفوز! ذلك أن فريق مالي له مستوى، وله مستوى لأن له خطة، ولكن يبدو أن مالي ليست هي البلد الوحيد الخطير في الكورة. أنا التقيت برجُل في لاجوس مندوب شركة تشتري جوز الهند من أفريكيا، مهنتُه تُحتِّم عليه المرور عبر أفريكيا، وهو نفسه زمان كان لعيب كورة في بلده. الرجل رغم سِنِّه تبدو عليه الصحة والقوة التمام! وهو كله في حجم الضظوي، وصوته يشبه تمامًا صوت أسد! وهو مغرَم صبابا بالكورة، وعاشق لها ولا عشق جميل للست بثينة! وهو من أجْل مباراة يترك صفقة ويهرب، ومن أجل الكورة يستقيل! الرجل الخبير اللعيب القديم قال لي: في أفريكيا فريق كورة أقوى ألف مرة من فريق مالي. فريق أنجولا مثلًا أقوى بكثير من فريق مالي، ولكن غير مسموح له بالخروج، وغير مسموح لفرق أفريكيا بالدخول هناك. وكباتن أنجولا يلعبون في نوادي لشبونة وبملاليم. أزيبيو ملِك اللعبة في البرتغال ليس أحسن لاعب في موزمبيق، ولكن هناك لعيبة أحسن منه ألف مرة، ولكن بعضهم هارب من وجه السلطة، والبعض يلعب تحت القهر والاضطهاد! وفي بلدٍ اسمها بلمفنتين في جنوب أفريكيا شاهَد الرجل الخبير مباراة ليس أحلى منها ولا أطعم. الكورة تتدحرج دائمًا على الأرض، والمباصات مرسومة، وهات وخذ بين الجميع، وكلهم وقت اللزوم أعظم دفاع، ووقت اللزوم أعظم هجوم! مباراة لو انتقلت للعالم لانبهر الناس وسجدوا لعيال بلمفنتين مفيش كلام! ولكن لأنهم سود يا عيني محظور عليهم الشهرة، وممنوع عليهم الفلوس. وللسود دوري خاص واتحاد خاص أيضًا. ولكن دوري البيض هو المشهور وهو الكسبان، واتحاد البيض هو الذي يسافر للخارج ويجلب ما يشاء من الفرق بالفلوس! حتى في الكورة فيه سود وبيض يا جدعان. ولد من دول أسود ولعيب، ويلعب في بلد الجواهر والعواهر جوهانز برج، ولد محاور كما بوشكاش، خطَّاف أهداف كما الضظوي، شويط كما الشاذلي، سريع كما أبو السريع، الولد إياه أصبح له شهرة في جنوب أفريكيا ولا شهرة غاندي في الهند، أصبحت صوره تتوزع على المتفرجين سرًّا كما قِطع الحشيش على أصحاب المزاج. وخافَت حكومة جنوب أفريكيا من الفتنة فاعتقلت الولد الساحر وقذفت به إلى الصحراء؛ لأنه ليس مسموحًا لأحد من السود أن يكون مشهورًا أو محبوبًا من الجميع. وفي الكونغو ليوبولدفيل فرقة كورة كان يمكن أن تكون أشهر فرقة في أفريكيا لو كُتِب للشهيد الحبيب لومومبا أن يعيش؛ لأن كل العيال العظام في الفرقة خطفتهم فرق بلجيكا، وعندما حصلت الكونغو على الاستقلال عاد العيال إلى بلادهم، فلما اغتيل لومومبا وتشقلبت الأحوال، عاد العيال من جديد إلى فرق البلجيك!
والكورة هي جنون الناس في أفريكيا، كما هي جنون الناس في كل مكان، ولكنها في أفريكيا لها دلالة ولها معنى آخر عظيم. الكورة في أفريكيا لم تكن لعبة فقط، ولكنها كانت لعبة وسياسة، وكانت جبهة من جبهات المقاومة، وكانت سلاحًا حادًّا أكيد المفعول ضد السادة البيض، كانت في البداية وقفًا على السادة البيض. وكان مسموحًا للعيال السود في أغلب بلاد أفريكيا باللعب في فرق البيض، ولكن كانت الحياة في الملعب تسير على نفس النظام الذي يجري في الحياة، الواد الأسود يلعب ويحاور ويسجل، والواد الأبيض يشتهر ويقبض. فإذا طالب الأسود بحقوقٍ ضربوه وكسروه وركنوه في الظلام! فلما اشتد الإرهاب في النوادي اشتدَّت الرغبة في تكوين نوادٍ مستقلة للناس السود. وأول نادي كورة قام في نياسالاند ودفع السود ثمنه عشرة آلاف من الأرواح، فعندما بدأ تكوين النادي رفضت السلطات إقامته، وفي الحال تكونَت لجنة للدعوة لإنشاء النادي، ولكن السلطة اعتقلت أعضاء اللجنة وزجَّت بهم في السجون، وفي اليوم التالي انفجرت المظاهرات في نياسالاند وتدخلت السلطة بالسلاح وسقط عشرة آلاف قتيل في يوم الأحد الحزين … وهو يومٌ مشهور وله تاريخ في نياسالاند! وعندما تكونت نوادي السود كان محظورًا على البيض دخولها. ولم يكن لدى البيض أدنى رغبة في الدخول، ولكنها حركة من جانب السود للرد على قرار منع السود من دخول نوادي البيض! وخلف جدران نوادي الكورة تمت أخطر الاجتماعات ونُظِّمَت أعنف المظاهرات، وفي بعض البلاد تكونت أول خلايا النضال المُسلَّح في ملاعب الكورة. كانت الخلايا تحضر المباريات مع الألوف الكثيرة، وأثناء الزيطة والزمبليطة تجتمع الخلايا وتتلقَّى التعليمات وتتسلم السلاح وتخرج من ملعب الكورة للعمل! ورغم أن السلطة البيضاء اكتشفت الأمر إلا أنها لم تستطع أن توقف مباريات الكورة، أو تمنع الناس من الدخول؛ لأن وقف المباريات أو منع الناس معناه ببساطة ثورة شاملة في أنحاء البلاد!
أغرب شيء أن جميع الكويرة في أنحاء العالم لهم نفس الملامح ولهم نفس التفكير. واحد كوير عظيم التقيت به في أكرا، لعيب كان وردة زمانه ومكانه، منذ عشرة أعوام لا تزيد. الواد اسمه الأسد، وقد كان أسدًا بالفعل في الملعب. رأسه كانت كالصخرة، وقدمه كانت قطعةً من الماس، ثم اعتزل الملعب فجأةً وراح يسرح طول الليل على شاطئ أكرا، يشرب الطافية ومية النار ويترنح ويتدخل في أي نقاش، ويقدم نفسه لكل مَن يلقاه، واصفًا نفسه بالأسد وبالكابتن وبطل الأبطال! مسكين الأسد الذي تحول إلى لبؤة، يريد أن يفرض اسمه على الناس بالعافية. والأسد معذور؛ لأن اسمه كان يصنع مانشتات الصحف، وصورته كانت تحتل أبرز مكان. وكانت له أحاديث في الإذاعة وكان له معجَبون بالألوف، وكانت سهراته مضمونة، ومشاريبه بالمجان، والكوير السابق حاقد وناقم على كل الناس، ليس في أفريكيا الآن كورة، الكورة كانت زمان، أنا كنت أخطف الكورة من بين أقدام أي دفاع، وأنحرف ناحية اليمين وناحية اليسار وأشوط في الزاوية فتسكن الكورة الشباك. أنا قتلت مرةً حارس مرمى أبيض كان أطرى من عود الخص الدبلان، سددْت قنبلة في بطنه فاخترقت أحشاءه ومات في الحال رحمه الله! أنا غربلت مرةً كل فريق الواندرز الإنجليزي وأحرزْت هدفًا ببطن قدمي، ثم لفيت الملعب كله أتلقَّى تهاني المعجبين والمعجبات! والكورة عند الأخ دينجاهي مركز الكون ومحور الحياة وهي البداية والنهاية … وأي لعيب في العالم الآن صفر على الشمال، ولا يساوي ثمرة جوز هندٍ فاسدة. ودستيفانو أنا اتفرجت عليه ولم أنبسط، وبوشكاش نُص لعيب؛ لأنه يجيد اللعب بقدم واحدة، وبيليه طري وخرافة، ولو جاء في عصري لمات جوعًا في الشوارع، وهذه الأنا هي التي تتحكم في سلوكه وتحكم تصرفاته حتى الآن.
واحد كوير تاني مشهور ومعجباني وضاربه السلك، آخر فلَس وآخر نفخة، ولا تركي عثماني معه رسالة من الباب العالي إلى الناس الواطيين في المستعمرات. الواد قاعد على الكرسي مفشوخ ولا تاجر قطن كسبان وقاعد مجعبز في كازينو صفية حلمي! الواد عقله منفس كوابور جاز بريموس خسران، ومخه كموتور عربية العبد لله، والولد أصله صايع خرج من المدرسة وعنده من السن أربعتاشر، ورمَح في حواري أكرا يلعب الكورة كما القشاط! وعندما اكتشفوه صعد نجمه بسرعة وأصبح له معجبون ومسلفون؛ نسبةً إلى السلف عقبال السامعين. وهو جالس على الكرسي ورجليه مبحطرة وكل رجل في ناحية، وعلى اليمين بنت أشهد أنها كالشيكولاتة نستلة، عيونها حلوين كما عيون سعاد حسني، شعرها أكرت ومبروم كما البلح الأمهات، وعضلاتها ناضجة وصاحية كما عضلات الأخت فايزة أحمد، وصوتها كما صوت كمنجة في يد عازف غشيم! وعلى الشمال سيدة محمل، دمها خفيف كسِتِّنا ماري منيب، شعرها مصبوغ بالحنة، وعشان لا يغضب بتوع النحوي أقول: مصبوغ بالحناء. فقدَ لوْنه القديم ولونه الجديد كما لون شعر الست إلهام شاهين، وراح الولد يشرب كما عطشان يا صبايا ودلُّوه على السبيل! معه فلوس وعليه صحة ومشهور أشهر من مدينة أكرا، وجاهل أزلي، يستطيع بعد الاعتزال أن يصبح متعهِّد جهْل، ويستطيع توريده في سيارات لوري لمن يريد! سألتُه عن اللاعب الغلبان دينجا ففشخ بُقه بابتسامة رثاء … وقال: لاعب فاشل، لو لعب معي لاعتزل من أول يوم! أنا أقول الحق، رأيت في الولد الجديد دينجا آخر … ويومٌ قادم قريب سيعتزل هو الآخر، وسيفر مِن حوله المعجبون. وسيحكي عندئذٍ حكايات هايفة وتافهة ولن يجد من يسمعها، بعكس الرجل الغلبان دينجا؛ لأنه يتمتع رغم كل شيء بدم خفيف!
المهم هنا اللياقة والصحة والتفكير السليم … ونحن نتناقل هنا الكورة بالساعة؛ لأن الكورة هنا كيف، والكيف مناقلة، واللعب حظوظ ومزاجات، ولعبة حلوة من رضا أبرك من عشرة أهداف، وتطويحة حلوة من حمادة إمام ونخسر المباراة، ولعبة ع الطاير من بتوع العجوز ولو دخلت حتى الكورة في مرماه، حلنجية العيال بتوعنا وحُواة وشاطرين وعيونهم مفتوحة وأولاد بلد بصحيح، ولكنهم لا يصلحون للكورة ولا تصلح الكورة لهم … وأنا أتمنى على الله ولا يكتر على الله أن تُقام دورة أفريكيا مرة في بلدنا لنتفرج على الكرة الحلوة ونتعلم منها، أو نتفرج ونتحسر إذا كان التعليم قد أصبح بالنسبة لكباتن مصر العظام من باب المستحيل! وستُدركون عندئذٍ أننا أسرفْنا في خلع الألقاب على السادة اللعيبة، وأن المايسترو مثلًا لا يصلح إلا مايسترو لفرقة حسب الله، وأن النفَّاثة ليست إلا قطار دلتا قديم، وأن الثعلب ليس إلا بطة بلدي مريضة بالهرش، وأن الأهلي الذي هو مدرسة الكورة بالنسبة لأفريكيا ليس إلا مدرسةً لروضة الأطفال والعيال الصغيرين … ولكن أشهَد أن التحكيم عندنا رغم سوءاته وعوراته أفضل بكثير وأعظم بكثير من التحكيم في أفريكيا … ومهما قلت ومهما عدت فلن نجد أعظم من علي قنديل ومحمد حسام، ولن نجد في أفريكيا واحدًا في مستوى صبحي نصير، حكم المحلة الشهير!
ويا حضرة الكويرة، وقعة حضراتكم سودة أسود من قِدرة الفول المدمس، ويوم أزرق من فانلة الترسانة، يوم يلتقي الجمعان؛ جمعنا وجمع أفريكيا، يوم لا تشفع فيه فتاكة ولا حركات، ويكون الفوز يومئذٍ للعيال التي تلعب الكورة بالطول وعلى طول، وليس من أجل إضحاك … وإدهاش الجماهير.
ويا حضرات القُراء الله يعطيكم العمر الطويل حتى تشاهدوا الكورة في أفريكيا، والله يمد في أعماركم وأعمارنا.