وداعًا بهجتي … عمتي … أفريقيا
ها أنا ذا خارج من أفريكيا وقلبي ينز ويفز من هَول الفراق. وحكاية ينز ويفز هذه جاء ذكرها في ملحمة أدهم الشرقاوي، وأول رصاصة جت في بزه الشمال قال يا بز لا تنز من ضربة الأندال.
وتاني رصاصة جت في بزه اليمين قال يا بز لا تبز من ضربة الخاينين!
ها هي أفريكيا العظيمة أُفارقها ولكن إلى حين … أعدُكم يا حضرات القراء ويا حضرات القُراءات أنني سأعود إلى أفريكيا يومًا … سأعود لأتسلطح على ظهري بجواري خزان جبل الأولياء، وأتمرغ في تراب جوبا، وأشم رائحة الغابة في مدينة واو، وأشم رائحة البارود في ستانلي فيل، وألقي بنفسي في النهر مع التماسيح على شاطئ الكونغو برازفيل … وأتمشى افرنجي في دار السلام، وأتسنكح كما غراب نوحي في مزارع الموز في الكاميرون … وأنا قبل رحلتي الأخيرة إلى الشاطئ الغربي لأفريكيا قُدِّر لي أن أتسنكح في ربوع أفريكيا أكثر من مرة … وقضيْت عشرة أيام في طنجة عندما كانت دولية، عساكرها إنجليز وإسبان وطليان وفرنسيون وبرتغاليون وحاكمها خواجا وشعبها عرب شجعان جدعان أبناء طارق بن زياد الله يرحم شبابه!
ودخلت حواري القصبة الملتوية، وتفسحْت على شاطئ المضيق مع هندي غلبان مثل حالي، نرمش بعيوننا نحو الشاطئ الإسباني، وقمةُ جبل طارق ترنو إلينا!
وفي طنجة الدولية زمان كان كل شيء جائزًا وكل شيء ممكنًا وكل شيء مقبولًا، ولد جريجي صايع اعترض طريقنا ورطَن معنا بالهندي … وبالهندي رُحنا نحن أيضًا نرطن معاه، وسحبنا إلى حي القصبة وانسحبنا نحن وراءه، كأننا جاموس في طريقه إلى المدبح، كأننا خرفان والولد الجريجي معه علو برسيم أخضر مرعرع!
ودخلنا بيت … الله على جماله، نقوش ولا النقوش الموجودة في قصر النيل، وبلاط موزايكو لم تره عيني إلا في سراية عابدين، ورخام مرمر ولا لحم ست بيضة من بقايا الأُسَر التركية المجنونة أفندم طمام!
وداخل القصر باحة ولا جنة رضوان، فسقية وفي الوسط نافورة، ومع النافورة ورد بلدي مفتح ع الغصون يا لاللي! وجماعة أمريكان عواجيز مهابيل مساطيل آخر انسجام، وامرأة تعبانة آخر تعب، وحمار حصاوي مدرب، وفرجة وفضيحة وهتيكة … والأجر دولار!
هكذا كانت طنجة وهي دولية، حشيش تلاقي، أفيون عيدان تلاقي، سلاح تلاقي … تهريب ممكن، تعمل عصابة كما عصابة توميكس الجبار ممكن، تفتح بنك وهمي يجوز … تدخل تخرج لا أحد يسألك ولا أحد يسأل فيك! ولكن طنجة الدولية كانت لها سوءة وكان لها ميزات.
أنت في طنجة تحس أنك في عالم بأسره، أنت في طنجة تحس أنك في مدينة مستقلة لها قوانين ولها دستور خاص، إذا كان الإنسان في مجتمع سليم يشعر أنه مربوط بدوبارة مع الآخرين ومع الأشياء ومع القوانين فأنت في طنجة تحس أنك مفكوك الدوبارة وأنه لا شيء معك ولا شيء أنت معه!
إذا صادفك رجل فأنت تستطيع أن تمر به وتستطيع أن تمر عليه! وأنت تقف لإشارة المرور أو تقف ضدها، وأنت مع القانون أو أنت عليه، كل رجل حر وكل حر مسئول عن حريته، ولكن حرية الآخرين في طنجة لا تقف عند حدود حريتي، ولكنها تمتد وتقضي على حريتي!
كل راجل في طنجة كان حرًّا يقتلني ويتركني أو يقتلني ويشرب من دمي! ولقد رأيت في أفريكيا غابات كثيرة ولكن أغرب وأعجب غابة كانت غابة طنجة الدولية! ورغم أن طنجة كانت خالية من الأشجار ومن الوحوش … إلا أن الناس فيها كانوا أخطر وأكسر من الكاسرة! وفي تلك الأيام الخالية كانت طنجة تنقسم إلى ٣٠٠ ألف طنجاوي! كل طنجاوي منهم كان مدينة مستقلة لها علَم ترفعه ونشيدٌ تعزفه!
ولقد التقيت في فندق المنزه بطنجة على شاطئ المضيق بشاب طلياني في الأربعين من عمره كان جنديًّا في جيش موسوليني الذي لا يُهزم ولا يستسلم ولا يتقهقر، والذي يجب وينبغي أن ينتصر! ولكن في أول لقاء للجيش الطلياني مع دولة نص نص هي اليونان تراجع الجيش الطلياني إلى الخلف … وهو لم يتراجع طِبقًا لخطة موضوعة، ولكنه تراجع والسلام، وتحول الجيش الطلياني الذي لا يتقهقر إلى ٢٥٠ ألف جندي متقهقر، كلٌّ منهم يود من أعماق أعماقه أن يعقد مع جيش اليونان صلحًا منفردًا!
وقضى الولد أمبرتو بقية أيامه في معسكر للأسرى في التل الكبير، وتعلم العربية وأتقنها وقبل نهاية الحرب نجح في الهرب … وبعد الحرب لم يعُد لإيطاليا ولم يستقر في مصر … رحل إلى ليبيا وعاش في طرابلس، واشتغل في شركة طليانية تصطاد سمك التونا من البحر وتبيعه لشعب ليبيا بالعملة الصعبة، وبعد سنوات طويلة لم ترق له حياة البحر فهجره إلى الشاطئ، ثم ما لبث أن مل حياة الشاطئ أيضًا فهجره إلى الجزائر يجرب حظه هناك.
وفي الجزائر العاصمة استطاع أن يفتح مكتبًا للتأمين وينصب على عدد من الناس … وبدَّد الولد أمبرتو كل الأموال التي استطاع أن يهبرها من مخاليق الله، واحتار دليله فوقف عاجزًا لا يستطيع أن يتصرف! وذات مساءٍ جاءه الفرج من حيث لا يحسب ولا يحتسب! طرَق عليه الباب واحد خواجا كما جذع شجرة جميز في الصالحية!
وقدم الرجل الخواجا نفسه، مندوب جمعية الوجود الفرنسي، وفي أشد الحاجة إلى خواجا يجيد العربية ويجيد إطلاق الرصاص … وسيسافر في مهمة عاجلة إلى طنجة، وتناول الولد أمبرتو مسدس ومحفظة عامرة بالأموال وطار إلى طنجة، الولد أمبرتو الغلبان كان معه أوامر بإطلاق النار على فلان وفلان وفلان! … ولكن أمبرتو الذي له مظهر قاتل ونفسية فنان، والذي كان يومًا ما جنديًّا في جيش موسوليني الذي لا يتقهقر، وعاش حياته في طنجة ومعه فلوس، نام في ملهى الدونا على شاطئ المضيق يشرب ويحب وينفق عن سعة من محفظة الوجود الفرنسي التي كانت تراقبه.
فلما بدَّد كل أموالها طالبَته بالتنفيذ فرفض … فراحت تتبعه، ويومًا بعد يوم أصبح أمبرتو أسيرًا مرة أخرى ولكن في ملهى الدونا! لم يعد يغادر الملهى خوفًا من أن تنطلق في ظهره رصاصة فتقضي عليه في ظلام طنجة الحالك! فلما يئست جمعية الوجود الفرنسي من خروجه من الملهى سعت إليه!
أرسلوا له ذات يوم طردًا جذابًا وأنيقًا وفتحَته البنت روزانا، وهي بنت إسبانية ككوز الذرة المشوي، لذيذة وسخنة ولها رائحة جميلة كانت لحَظِّها المهبب تحب أمبرتو الطلياني وتموت في دباديبه، وعلى روزانا الجميلة أنفق الواد أمبرتو كل نقوده ونقود الوجود الفرنسي … فلما تأزمَت به الأحوال وحاصرته الجمعية لجأ إلى روزانا، وكانت شهمةً وبنت ناس طيبين فآوته وأكرمته وأنفقت عليه من حر مالها وحر مال المغفلين ورواد ملهى الدونا!
فلما وصل الطرد إلى الملهى فتحَته روزانا فانفجر فيها وقضى عليها، وأصبح أمبرتو وحيدًا ومفلسًا ومحطمًا كبقايا مركب صيد انكسرت وسط المحيط وحمل التيار ما بقي منها وراحت الأمواج العاتية تقذف بها على الساحل … عندما التقينا كانت ليلة صيف حلوة، والقمر ملعلع في العلالي، والشجر سكران يهتز، والموج نائم يتبلطح، وأمبرتو شارب لكيعانه، ليس معه فلوس، ولكن معه مسدس، ومسدس عمران وجاهز، وهو قد مل الانتظار، ويريد أن تأتي إليه جمعية الوجود الفرنسي، فتَقضي عليه أو يقضي عليها … المهم عنده أن يحدث أي شيء، هذا خيرٌ من الانتظار القاتل!
أمبرتو المسكين أنا لا أعرف أين هو الآن، كان آخر لقاء بيننا ذات أمسيةٍ حارة في صيف ١٩٥٦م، لعله لا يزال في طنجة العربية الآن … لعله عاد إلى الجزائر، لعله أبحر بعيدًا إلى شيلي أو البرازيل، قد كان حلم حياته أن يعبر المحيط إلى أمريكا الجنوبية؛ ليعيش بعيدًا عن الناس في هدوء!
ولكن تطوان الجميلة هي التي دخلت قلبي … وفي العالم أماكن كثيرة يراها الإنسان فيشهق من شدة اللذة، ويتمنى على الله أن يعيش فيها … ولكن إحساسي مع تطوان كان يختلف، عندما رأيتُها أول مرة شهقْت من شدة الانبساط وتمنيْت على الله أن أموت فيها … بلد ولا الأحلام، والناس عصير طيِّب من العرب والإسبان، وتلال تطوان العشرة تُطلُّ عليك في النهار خضراء كما فرع لبلاب مرعرع، وتُطبق عليك في الليل … أنوارها تتلألأ كما شياطين حمر في ليلة صيف، والشوارع تحتية كما الأنفاق ومرتفعة كما الكوبري!
ومروج تطوان زاهرة وعامرة … أشجار الليمون تعبق في الفضاء الواسع وحقول العنب والدلاع تترامى إلى الأفق البعيد … والبحر الأبيض المتوسط يلطم شاطئ تطوان في حنان ولا حنان العاشق المسكين! نظيفة تطوان أنظف من جيب المفلس، رشيقة ولا فرع شجرة توت. دسمة ولا فطيرة من فطير المنوفية المشلتت! وتركْت تطوان وتركت فيها قلبي، مع بنت إسبانية من الخثيرث وهو النطق الإسباني للجزيرة، والخثيرث أو الجزيرة بلد على الشاطئ الأوروبي المواجه لطنجة … عبرَتها جيوش طارق بن زياد، أول فارس عربي جدع عبر البحر إلى أوروبا، وعبرَتها أيضًا جيوش آخر ملوك قشتالة العربية، مهزومين موكوسين يبكون كما النساء على مُلك لم يستطيعوا أن يحافظوا عليه كما الرجال … والبنت ميراندا عصير هؤلاء الرجال جميعًا.
عربية المزاج والشكل أيضًا، إسبانية الكلام والإشارة! حلوة كما البسكويت، ناعمة كما كعك العيد، وتلاغيْنا وتصاحبْنا وعزمتني وأكلت معها البصيطلة وشربت معها الشاي! وقضيت معها أسبوعًا على شاطئ كأنني ممثل في رواية من إنتاج هوليوود، ثم طِرْت فجأةً من تطوان إلى بلدٍ آخر.
تسألني لماذا انقطع حبل الود بينك وبين ميراندا، فرغم بعد المسافة فما أسهل الخطابات … ورغم بعد الشقة فقد سافرْت أنا بعد ذلك أكثر من مرة إلى المغرب وإلى تطوان نفسها بالذات!
أقول ذلك بصدق وبدون خداع أنا لم أكتب إليها ولم أذهب لها؛ لأنني كذاب، زعمت لها في أول لقاء أنني تاجر وأنني سأقيم زمنًا طويلًا في تطوان، لماذا كذبْت على ميراندا الحلوة لست أدري، المهم أنني كذبت عليها والسلام!
وإذا كان الإنسان حيوانًا ناطقًا في الكتب … فعند العبد لله الإنسان حيوان كاذب! فليس في الحيوان أسد يكذب على غزالة … وليس في الغابة فيل يكذب على جاموسة … الكذاب هو الإنسان، أحيانًا لسبب وأحيانًا بدون سبب! وأنا كذبت على البنت ميراندا بدون سبب، والله يمسيها بالخير إذا كانت حية تسعى، والله يرحم شبابها إذا كانت ترقد الآن في قبر على قمة تل من تلال تطوان!
والجزائر ما أحلاها وما أغناها، الشوارع بعضها فوق بعض كأنها طوابق، والمدينة كلها واقفة مرتفعة شامخة كأنها عمارة ضخمة لسكنى الناس والمحلات والعربيات والترمايات! ولكن أجمل ما في الجزائر ميدان الشهداء، وهو يشبه تمامًا ميدان العتبة نصف قرن، وحي القصبة العربي يختلف عن بقية الجزائر؛ لأنه شوارع بعضها تحت بعض … القصبة الجميلة تُثبت أن العربي له مزاج واحد ونفسية واحدة … وأن الفوارق والحدود حدثت بفعل فاعلٍ أثيم!
نفس الشكل ستجده في تونس وفي دمشق وفي القدس وفي اليمن وفي بيروت، والناس في القصبة كأنهم في عيدٍ دائم، الملابس نظيفة والهيئة مظبوطة وكل شيء عال وتمام وآخر مزاج، والشيشة بين الأصابع، والشاي على الموائد والستات تخطر في الجلابية كما الغزال.
وفي تونس أنا لفيت ومريت من صفاقس حتى الكاف، ومن بنزرت حتى القيروان … أشجار النخيل كما الرفييرا، وجداول المياه كما أنهار الجنة، طبيعية متجبرة ومعبرة، وهي التي أنضجَت شاعرًا عظيمًا اسمه أبو القاسم الشابي … مات يا حول الله في ربيع العمر؛ لأن الجنة كانت للفرنسيين والنار كانت لأهل تونس، وفي القيروان مطرب مصري عجوز اسمه الشيخ أمين، العواجيز قوي لا بد سيتذكروه.
كان هنا أيام سيد درويش وداود حسني ونجيب الريحاني، وكان صاحب صوت ولا صوت الشيخ مصطفى إسماعيل … وكانت عليه ليالي ولا ليالي طلب، وكان في حنجرته بحة ولا بحة محمد طه!
وسهرت مع الشيخ أمين في القيروان يسألني عن الحلوجي بتاع الطعمية والكاشف بتاع لحمة الراس، والحاج صبحي الحلواني الذي كان في شارع عبد العزيز … مسكين، كل الذين كان يعرفهم ماتوا إلى رحمة العزيز الحكيم، ولا يذكر اسمًا إلا ومعه عبارةٌ كأنها أكلشيه «الله يرحمه»! ونجيب الريحاني الله يرحمه … وسيد درويش الله يرحمه … وبيرم التونسي الله يرحمه … وعلي الكسار الله يرحمه … وفوزي منيب الله يرحمه … وحسين حجازي الله يرحمه … وعبد الفتاح القصري الله يرحمه … وشرفنطح الله يرحمه … وحسن كامل الله يرحمه. الخلاصة … الله يرحم الجميع.
آسف وزعلان الشيخ أمين؛ لأن جميع المعارف والأصدقاء يرحمهم الله، غلطان عمنا الشيخ أمين لأنه أسعد حالًا من كثيرين … هو فقَد الأصدقاء بالموت، وغيره يفقدون الأصدقاء وهم على قيد الحياة … وهذا ألعن! معه من أيام الذكريات جنيه ذهب مجيدي عليه صورة السلطان عبد المجيد، وعلبة نشوق ذهب من القائد الألماني روميل!
ولقد تركْت تونس والشيخ أمين ومررْت مرور الكرام على ليبيا، خطْف لهْف في طرابلس … وخطف لهف أيضًا في بني غازي، لا أذكر في طرابلس شيئًا الآن إلا فندق المهيري على شاطئ البحر، والقاعدة الأمريكية الضخمة، ورءوس الصواريخ الموجَّهة تُطلُّ على الناس كما غربان البين!
ولكن البلد الذي لا زلْت أحن إليه هو الخرطوم، ولقعدة البلدي في أم درمان على رصيف قبة ضريح الخليفة، والصحاب والأصدقاء عبد الحميد عبد الرحمن وأحمد عبد الرحمن وعلى كابو وسبت دودو حارس مرمى السودان العظيم، وتلك الليلة التي نسيت فيها نفسي، ونسيت أيضًا أنني في السودان، والتي قمت في نهايتها منزعجًا أجري كالمجنون لألحق الأتوبيس إلى الجيزة لأنني تأخرت على العيال … إحساس غريب لم يخالجني قطُّ في أي مكانٍ آخر … ظننت أنني في مصر، وعلى رصيف قهوة الأزاز في السيدة زينب، فقمت أجري لأركب الأتوبيس إلى الجيزة!
وشلة شرفة الجرائد أوتيل على النيل الأزرق الغاضب الثائر الجارف كأنه سيل انطلق فجأةً وسيجتاح كل شيء! علي إبراهيم المحامي ومحجوب رئيس الوزراء وعفيفي الصحفي وشلة شباب من الجيل الثائر العظيم، والمجرن وقهوة محمد حسن الذي كان يحكم مصر ذات يوم قريب، وحديقة الحيوانات التي ليس فيها من الحيوانات إلا النادر القليل، وأم درمان الحية المشعللة الساهرة دومًا إلى الفجر … وما أحلى وأندى الفجر في الخرطوم!
أنا ذات يوم لا بد أن أعود إلى السودان لأتمرغ في ترابها وأتنفس هواءها وأعيش مع الناس في أفراحها، وأهيم معهم على شاطئ النيل الأبيض أصطاد العجلة، وعلى شاطئ النيل الأزرق عند الكدرو أصطاد التمساح اللئيم!
ولكن الصورة التي لا تبارح خيالي صورة فرحٍ في أم درمان، ورقصة الرقبة تؤديها العروسة وهي محملة بطن كامل من الذهب والمصاغ … والبنت العروسة رشيقة كما غزال، وعفيَّة كما محمد علي كلاي، وراقصة ولا نجوى فؤاد، وهي لا ترقص ولكن رقبتها فقط هي التي تتلوى كما تعبان طريشة في رمل الواحات!
والعريس يدور حولها معجب ومبسوط وفرحان وآخر انشكاع! وفجأةً تسقط العروسة على الأرض ويصفق الناس … قد انتصرت البنت الشقية على العريس، وفي السودان جَمال ولا جمال أوروبا، تقاطيع عربية وسمار كما الخروب، وقوام ولا المنيكان، وأدب ولا أدب اللوردات! والحب في السودان هامس ليس له صوت ولكن له حفيف، والناس جميعًا آخر ود وآخر محبة، ولذلك تمنيت على الله ألا يحرمني لذة اللقاء بالشعب الشقيق.
أنا باختصارٍ يا سادة يا كرام أحس حنينًا عظيمًا نحو أفريكيا، عربية وزنجية، كلنا أفريكان، وكلنا أبناء قارة لها قضية … وأتمنى على الله أن تتحقق أحلام الفتى الغاني المتحمس، فيقوم قطارٌ سريع من القاهرة إلى رأس الرجاء الصالح، ويصبح لأفريكيا عملة واحدة، وعلَم واحد، ونشيد يتغنى به جميع الأفريكان، وعندئذٍ سأركب القطار من محطة مصر وأدلدل رجلي وأكعب سيجارة بلمونت حلوة وأخطف ليلة في الخرطوم وليلة في أديس أبابا وليلة في دار السلام، وليلة في برازافيل، حتى أصل إلى رأس الرجاء الصالح … ثم أعود على نفس الخط من جديد.