المندكورو في الخرطوم
وأصل المندكورو ماتوا سمبلة … أخ سوري أكواني. والمندكورو — ولا مؤاخذة — هم أهل الشمال. أهل الخرطوم وسواكن وعطبرة وكل مكان وأي مكان ليس في الجنوب. وهذه العبارة نفسها قرأتها أنا في قصة قصيرة وفي مجموعةٍ سودانية منذ أعوام، بقلم صلاح أحمد وزميله علي الملك.
وأعجبتني العبارة جدًّا، وأخذْت أرددها كالذي عنده طوفة بعيد عنكم، ولم أفهم معناها بالضبط إلا عندما طرْت إلى السودان وجلسْت مع المؤلف في شرفة الجراند أوتيل، وهي لوكاندة — بلا قافية — الخالق الناطق لوكاندة شبرد القديمة، وأنا رأيت لوكاندة شبرد القديمة وجلست هناك متلفتًا كنشَّالٍ مذعور من عسكري دريسة، وكانت المناسبة أن واحد بيه من بتوع الصعيد، وهو بيه رسمي وأخوه باشا رسمي وأخته هانم رسمي، وكان — يا ولداه — يملك من الفدادين ألفين، ومن النسوان أربع، ومن الشهادات اثنتين. شهادة الميلاد وشهادة لا إله إلا الله، وكانت مواهبه عديدة، أهمها ساعة جيب ذهب بسلسلة من البلاتين، وجزمة برقبة أجلسيه آخر طراوة وآخر انبهار.
ويبدو أنه كان قد زهق من الويسكي والقعدات الطرية والنسوان المستوية، فقرر أن يصنع شيئًا جديدًا، أصدر مجلةً أسبوعية اجتماعية سياسية مهلبية يا!
المهم أخونا إياه وقع على حفنة صحفيين من قهوة الصحفيين العاطلين، واقترح اسم المجلة «الحق» كأنه كان سيقول الحق فعلًا، وكلفنا بعمل الماكيت والرسوم والكلام، واشتغلْنا نحن فعلًا، وسهرْنا الليالي طلبًا للمعالي … ويا ميت ندامة يا جدعان على اللي حب ولا طالشي، على رأي الفيلسوف والعالم والمفكِّر سيد مخلوف شفاه الله!
وذهبْنا جميعًا بربطة المعلم إلى شبرد، فقد كان البيه صاحب مجلة «الحق» يحب الحق ويحب الويسكي في شُرفة شبرد.
ودخلنا كما متهمين من شلشلمون داخلين دوَّار حضرة العمدة، وكان البيه ما أحلاه يجلس وسط شلة، ومع الشلة ستات حلوات مقلوظات ضاحكات … يبدو أن مجلة «الحق» كانت تصدر من أجل الدفاع عن هذه القضية، ما هي القضية؟ لا أعرف.
•••
ولكن لماذا كل هذه الأردغانة؟ وما هي المناسبة؟ آه، فندق شبرد وفندق الجراند أوتيل في الخرطوم، وكان الخالق الناطق شبهه، ولعلني تذكرْت القصة وأنا جالس مع المؤلف يشرح لي عبارة والمندكورو ماتوا سمبلة … والمندكورو هم أهل الشمال، وماتوا، ماتوا طبعًا إلى رحمة الله، وسمبلة يعني ماتوا بكش، ماتوا أونطة، ولكن رغم ذلك لم يهتف أحد هاتوا فلوسنا!
وآخ، يعني أخ يانا، أو آخ يا عيني … أو آخ يا مصاريني، وهي من باب التوجع والتفجع والصوات على الشيء الذي تبكي عليه … وسوري بمعنى آسف، أو يا أسفى، وهي كلمة إنجليزية محط، ومحط هذه كلمة جديدة أهديها إلى المجمع اللغوي، وحقوق الاختراع محفوظة للعبد لله!
وأكواني يعني إخواني، واللغة على بعضها هي لغة أهل الجنوب في السودان، وأعجبتني جدًّا كلمة مندكورو، وبما أن معناها أهل الشمال، فأنا في الخرطوم إذن مندكورو؛ لأنني من الجيزة والجيزة شمال الخرطوم، وأنا جالس في الجراند أوتيل على شاطئ النيل الأزرق، ولابس الجلباب تمام، والمركوب تمام، وها أنا ذا في الخرطوم، ويا ميت حلاوة على دي بلد.
والجو في أغسطس بارد وممطر هسة … وهسة كلمة سودانية عربية، بمعنى هذه الساعة، ولكن اختصارًا للوقت واقتصادًا للنفقات … اختزلها أهل الخرطوم فأصبحت هسة … ويا هسة جانا الحبايب واحنا لم هسة، وهسة الأخيرة كلمة بلدي بمعنى حسه، يعني لم نشعر، لم نحس! وهو مَطلع أغنية جاري تأليفها الآن للمطرب شفيق جلال.
وها هو الجراند أوتيل هنا وكل السودان هنا أيضًا، حلاوة السودان أن في الجراند أوتيل تجد رئيس الوزراء وتجد الصايع والضايع مثلي ولا مؤاخذة. محجوب مع شلة في الركن، وأحمد زين وزير العدل مع شلة في الركن الآخر. وشلة عرب في الوسط، في الشلة أحمد الخواجا من مصر، وشفيق أرشيدات من الأردن، والوقواق من الجزائر، والشيخ مهدي الفنان ابن الضايعة، الذي تجري في عروقه دماء حجاوية، نسبة إلى زكريا الحجاوي … والذي يحب الليل والناس والرصيف … ولكن يا حسرة قلبي ليس في الخرطوم رصيف واحد يصلح لجلوس الفنانين والمتشردين إلا رصيف الجراند أوتيل، وياما أنا جلست على هذا الرصيف ليالي طويلة مع يوسف عباس مدير الفندق، أنا أنظر للنيل وهو ينظر للفندق … وكأن الفندق عُهدة وهو مسئول عن كل طوبة فيه.
وعندما اشتقت جدًّا لأرصفة القاهرة سحبْت أحمد عبد الحليم من إيده وجلست على رصيف النيل الأزرق ندردش بالساعات والدنيا ليل، والنيل آخر فيضان والمية — وأهل الخرطوم ينطقونها الموية — آخر حَمار وآخر حلاوة ولا البطيخ الشيليان، والتماسيح في النيل الأزرق تتلعبط وهذا أوانها!
فعند الفيضان يسبح التمساح أو يُهان … وبما أن التمساح في الفيضان لا يستطيع أن يسبح، فهو حتمًا سيُهان! التيار يجرفه والأمواج تحدفه، وهو وحظه، يصعد على جزيرة توتي، أو يصعد في الكدرو، المهم هو منهان منهان؛ لأنه يظل على الشاطئ حتى ينتهي الفيضان، ونهار أبوه أزرق إذا وقع فيه صياد. وإذا شافه عسكري حكومة، إذا طال الفيضان ولم يجد شيئًا يأكله، فهو ميت من ظهر أموات.
ولكن لماذا شاطئ النهر صامت وحزين كما واحدة ست مات جوزها في مديرية أعالي النيل … لماذا الشاطئ لا شمعة والعة ولا كرسي محطوط ولا ترابيزة مرصوصة. مع أن الشاطئ في الخرطوم أجمل ألف مرة من شاطئ السين في باريس، وأجمل مليون مرة من شاطئ التايمز في لندن، لماذا والسودانيون أهل لطافة وأهل ذوق … لماذا لا يتقدم واحد ويرص كام كرسي ويشعل لمبة ويدعو أهل الليل إلى السهر والكلام، وأنا ضامن له المكسب والفلوس الكتير … لماذا ولا واحد بتاع ساندويتشات واقف على النيل يبيع للناس ساعة العصاري وفي المغربية؟ لماذا ولا واحد بتاع ترمس … ولا واحد بتاع أي حاجة واقف هناك؟
أنا كان نفسي أروح الخرطوم فأرى الشاطئ يشغي بالناس، أرى العيال فرحانة بالنيل تجري على الشاطئين، أرى البنات في السودان بالتوب السوداني يتمخطرن على الضفاف، إلى متى يظل الناس في بلادنا الفتيَّة تعبانة وغلبانة وكل خيرات الله وجنات الله وأنهار الله تجري تحت رجليهم؟! أنا شعرت بالجوع مرة في منتصف الليل، واشتقْت إلى التهام ساندويتش أو سانكويتش كما يقول العسكري الجارحي خفير مخبأ الجيزة الشهير! وركبْت مع الواد عبد الحميد عبد الرحمن سيارته وطُفنا الخرطوم كلها بحثًا عن محلٍّ واحدٍ فاتح فلم نجد أحدًا ولم نجد شيئًا، مع أن أهل الخرطوم ليس مثلهم يتذوق الليل ويتذوق النجوم السهرانة على كورنيش النيل!
وأنا والشيخ مهدي سهرنا مرةً وصهللنا … وقلت للشيخ مهدي نفسك في إيه؟ وقال الشيخ مهدي الخبير ابن الناصحة: قطعة كنافة أو حتة بسبوسة عشان خاطر النبي والصحابة والأولياء … ولكن حفيت أقدامنا ولم نعثر على شيء، مع أن في السودان أحسن كنافة وألذ بقلاوة وأجدع حلاوة … ولكن بالنهار! حكمة الله أن الناس في السودان أعظم الناس، والأخلاق أعظم الأخلاق، والشهامة أعظم الشهامة … والرجولة أعظم الرجولة، ولكن الجو العام ليس مثل الناس، الفرْق رهيب وغريب ولا بد له من علاج.
الحجاب مثلًا على الوجوه والحب ما أحلاه في السودان، وتسأل أي سوداني فيقول لك الحقيقة ثم يضرب كفًّا بكف ويقول سبحان الله!
مَن المسئول إذن، ما دامت الناس راضية، وما دام على رأس الحكومة محجوب الفنان، وما دام الجميع مُصرِّين ومتفقين على تقدُّم السودان؟ أنا سألت بنت سفروتة كالقشاط، مثقفة مثل لويس عوض، ناصحة مثل العبد لله، دمها خفيف مثل الولد المضروب صلاح، أخو حضرتنا، شقية مثل الولد أكرم ابن حضرتنا، باعتبار أنه واجب علينا ذِكر العائلة كلها في هذا الكتاب.
أنا سألت البنت الشقية السفروتة الناصحة، وعندها من السن عشرين، فقالت: بصراحة نعم أنا عندي تجارب كأي بنت في أي مكان.
ولكن …