والجدْعَنة انهزمَت يا ولداه
ها هي أفريكيا بعد طول انتظار، وها هو الشعب الأفريكي بعد غيبة أطول! ستجد هنا قشرةً على وجه الشعب تركها الاستعمار، ولكنها قشرةٌ رقيقة أرق من ورق السجاير، ولكن لا تُحاول أن تنزعها، الأفريكي نفسه سينزعها لك بعد قليل، وعندئذٍ ستعرف الأفريكي على حقيقته.
طيب أطيب من الطشطوشي، فنان ولا جمال كامل، شهم ولا ابن بلد مصري أصيل يرمي جتته في النار من أجلك، ويخدمك لا يرجو ثمنًا، ويبكي إذا شاهد ميتًا في الطريق ويرقص إذا ترامى إلى سمعه نغم يحمله الريح من بعيد.
وصحيح أنه يتكلم الإنكليزية ولكن بطريقته ويرتدي الملابس الإفرنجية ولكن على هواه … البنطلون شورت، والقميص مدلدل فوق البنطلون، وبرنيطة خوص آخر مزاج، وبايب يتدلى من الفم، ولكن هذا الزِّي فقط لشُغل المكاتب، وللمهابرة طول النهار، فإذا جاء الليل، ويا حلاوة الليل في أفريكيا، خلع الأفريكي زِيَّه المزيَّف وارتدى زِيَّه التمام، بنطلون شورت تمام، وصندل تمام، وحرام مزركش ثمين ولا حرام الشيخ مصطفى إسماعيل، حرام يخفي كتفًا واحدًا، والكتف الثاني مكشوفٌ يشبه تمام التمام زي المرحوم غاندي، مع فارق واحد ليس في الحرام ولكن في الجسم، جسم الأفريكي كما أسد مربرب في غابةٍ عامرة بالغزلان، كتف الواحد من دول ولا كتف تمساح النيل مرعي حماد، والراجل من دول — اللهم صلِّ ع النبي — طول النخلة، العرض عرضين كما قماش المحلَّة … العيون تضرب شرار وتضرب رصاص … الرقبة كما رقبة تمثال نهضة مصر … الأكفُّ غليظة وسميكة كما شاويش في سجن مصر! الرجل الأفريكي هو طرزان الحقيقي، ولكن على طيِّب، يبدو أن الأقوياء دائمًا طيبون، والأشرار فقط هم الضعفاء، ضعفاء الأجسام أو النفوس، والنتيجة دائمًا واحدة! الأفريكي هو طرزان الحقيقي وابن لندن الشامخة يبدو معه ليس شيتا، ولكنه نسناس، قلبوا الآية أولاد الهرمة، جعلوا طرزان هو الأبيض والأفريكي هو العدمان الصدمان صاحب المائة علة وعلة! كذابون وغشاشون أولاد الهرمة، أنا أتحدَّاهم جميعًا إذا لم يكن الواحد من الأفريكي يفصَّل من الأوروبَّاوي عشرة! كيف استطاع بتوع أوروبا الصُّفْر العدمانين الدبلانين أن يهزموا عمالقة أفريكيا؟ حكمة الله أن بتوع أوروبا عندما هزموا الأفريكان هَزموا الجدعنة في نفس اللحظة، قبل هذه العاركة المهببة كانت الجدعنة لها قواعد ولها أصول، الراجل يدخل للراجل بالباط، الساعد بالساعد، المشط بالمشط، المقلب بالمقلب، الرأس بالرأس، كان العراك والخناق بالمكشوف وعلى عينك يا تاجر، وكان الراجل الجدع دائمًا يغلب، ودائمًا ينتصر، ولكن العلم — الله يجازيه — قلَب الموازين وشقلب حال الدنيا! لم تعُد الغلبة للراجل الجدع ولكن للراجل المتعلم، وكان بتوع أفريكيا جدعان وبتوع أوروبا متعلمين، وعندما دارَت المعركة كان النصر للمتعلمين والهزيمة من نصيب الجدعان، وماذا يفعل راجل جدع طويل وعريض أمام راجل آخر مش جدع ولا مؤاخذة ومعه مسدس في حجم الكف ويقتل مية وألف، ولكن ستر الله أن الموازين لم تنقلب إلى النهاية؛ فالذي حدث بعد ذلك نستطيع أن نتصوره، فعندما انتقل المسدس من يد الراجل الأصفر الدَّبْلان العدمان المتعلم، إلى يد الراجل الأسمر المتعافي المليان المتعلم، دارَت الدوائر على الأصفر العدمان، فترك أفريكيا وهرب كما أرنب جربان مسلوخ لا يصلح حتى للدبح على ملوخية!
أنا رأيْت راجل أفريكي في قريةٍ على بُعد كام كيلو من أكرا، راجل تمام طوله مِتران، وعرض صَدره كعرض وسطك، وكتفه كرأس أبي الهول، ولابس حرام تمام، ومعاه فلوس تمام، وداخل حفلة فيها كام ولد عدمان هفتان أوروبَّاوي بيرقص! الأفريكي الهُمام الصنديد كما عنترة العبد جلس يتفرج، ويشرب تمام آخر تمام، لم يهتز ولم يتحرك، وولد هفتان أبيض من كام كأس ترنَّح وتدروخ، ونهض ثم جلس ثم نهض ثم جلس ثم نهض ثم طرش! مَنظر مش تمام، ثم تشاجَر ورفع كرسي خزران أمتن من كرسي الظَّايِط، والأوروبَّاوي الذي كان معه خاف فهرب، ولكن الولد الدايخ رفع الكرسي ولم يتحمله فسقط الكرسي وهو معه على رأس الأفريكي التمام … وهتفْت في أعماقي مسرورًا كنسناس على الشجرة، يا مساء الجمال، ستصهلل القعدة وتحلى، الراجل الأفريكي التمام سيرقع الواد الأوروبَّاوي علقةً ساخنةً وسنتفرج، وعلى الأفريكي التمام مهمة الانتقام من الأوروبَّاوي الأصفر العدمان لعشرة أجيال من العذاب! ولكن الأفريكي التمام ركَن الكرسي على جانب، وساعد الأوروبَّاوي على النهوض وابتسم للناس الجالسين كجنتلمان وشرب كأسًا من الويسكي وسكتَ في أمان الله! ولكن الولد الأوروبَّاوي العدمان الصدمان أخذَته الجلالة أكثر … نهض من جديد واتجه نحو الأفريكي التمام يضربه، حكمة الله أنه ساعة القضا يعمى البصر … لو أنا من الولد الأوروبَّاوي وهذا الرجل الأفريكي التمام عليه فلوس للعبد لله لصهينت، لو أنا ماشي في الطريق ولزقني هذا الأفريكي على قفاي لابتسمت، لو أنا صاحب الأفريكي التمام لعملْت له ألف حساب، الهزار معاه بحساب، والظُّرف بحساب؛ لأنه لو جاء يوم وتحاسبْت معاه بالتمام، لكان أهون منه يوم الحساب!
المهم، الولد الأوروبَّاوي اندفع يترنَّح نحو الأفريكي التمام، ورفع يده الممصوصة كفرع مكرونة اسباكيتي، وكانت رفعة مهببة، ضربه الراجل الأفريكي التمام بمشط رجله فطرحه خارج الحفلة، ما رأيك دام فضلك كل العيال الأوروبَّاويين نهضوا كخيل السباق وهات يا رمح في أنحاء المكان، أنا نفسي خفْت أن يظنني الأفريكي التمام أوروبَّاوي من إسبانيا أو بالميِّت خالص من جزيرة مالطة … تعرف عملت إيه؟ فشخت بُقِّي كأنني إسماعيل يس؛ لكي أبدو مبسوطًا ومسرورًا وآخر مزاج، ولكي يظنني الأفريكي التمام مولود على هذا الحبور والانبساط، ولكن أنا نفسي كنْت غلطان غاية الغلطان؛ لأن الرجل الأفريكي الطيب لم يكن يريد أي شر بأي أحد! نهض كما ملك في حفل تتويج ورقص، وحيا الجميع واعتذر للناس أجمعين، ولم يكن في حاجة إلى أن يعتذر!
من أين تأتي الصحة الحديد ولا سِباع الغاب للرجال الأفريكان؟ من أين؟ مع أن الإشاعات الهوليوودي تحلف وتُقسِم وتؤكِّد أن الأفريكي غلبان ولا بتاع يانصيب، فقير ولا هندي، مريض ولا نزيل في القصر العيني، أنا يا أيها الناس دخلْت قرية أفريكي وسط الأحراش مع راجل أفريكي طيب اسمه «أصاري» يعرف خمس كلمات عربي: إزيك، وبقشيش، ويا سلام، ومع السلامة، ومش ممكن! الراجل أصاري الطيب كان عسكري جيش في بلدنا أيام الحرب، لعله واحد من الذين لهفْت منهم برنيطة أو عجرتُه كام زلطة على أم رأسه تحت نفق الهرم … كان هو منذ خمسة وعشرين عامًا أفريكي صايع وكنت أنا أفريكي أصيع! وعندما نشبَت حرب هتلر وموسوليني كان الأخ أصاري في العشرين من عمره، جِتَّة ولا حنفي محمود بتاع كابري، قوي كضبعٍ شبعان في غابات موشي، ولم يكن له في الحرب — على رأي مُدرِّس العربي — جملٌ ولا ناقة … ولا حتى حمار! ومع ذلك عكمه الإنجليز مع عشرين ألف غاني شباب مثله وربطوهم في الحبال، وأخذوهم إلى الشاطئ، وفرزوهم وفنَّطوهم ولبسوهم عساكر وألحقوهم بجيش الحلفاء! تجارة الرقيق اشتغلتْ تاني على ودنه، ولكن على نمطٍ آخر! زمان كانوا يخطفون الأفريكان للشغل، وفي القرن العشرين خطفوهم للحرب. وزمان باعوهم للتجارة! وانخطف من أفريكيا زمن الحرب العالمية الثانية خمسة ملايين راجل، عاد منهم للوطن عدة آلاف لا تزيد عن مائة ألف … يمكن! والباقون ماتوا في الرمال وفي الأدغال، وأهلكهم البرد في أوروبا، وأكلتْهم السحالي في أحراش آسيا … ولا حمد ولا جميل ولا حول ولا قوة إلا بالله! الأخ العزيز أصاري كان شابًّا كالوردة عندما أقلعت به سفينة بضاعةٍ جربانة في أمسية صيف من ميناء أكرا إلى الشرق الأوسط، كانت معركة العلمين شغالة، والخواجات الإنجليز مات نصفهم من صهد الصحراء، ومات النصف الآخر من صهد الألمان! والعساكر الإنجليز مثل التين البرشومي خرعين وممهمطين، وكان لا بد من رجالة مثل أصاري ليصكُّوا الألمان صكًّا عنيفًا! ودخلَت الباخرة ذات مساءٍ ميناء الإسكندرية وعليها شحنة عساكر، وحلَّقَت فوقها طيارة آلي ألماني ناصحة هبدت المركب طوربيد ونسفتها وطيَّرت العساكر الأفريكي أشلاء، ولكن أصاري وعشرات آخرين استطاعوا الإفلات من جحيم الطوربيد وسبحوا حتى الشاطئ، وأقام أيامًا في مستشفى عسكري ثم سحبوه إلى كوم حمادة في البحيرة، وكان هناك كامب أفريكي للتدريب، وبعد أسابيع قليلة سحبوه من جديد إلى الصحراء، ومعركة العلمين كانت شغالة، عجنة سودة خرج منها أصاري حيًّا، وخرج فيها الألمان من العلمين، ولكن أصاري لم يتركهم، زحف خلفهم حتى تونس وعبر البحر إلى إيطاليا وقطع أوروبا كلها حتى دخل برلين! وعندما احتفلوا بالهدنة في برلين عزفوا أناشيد كل الدول المشتركة في النصر إلا نشيد أصاري، لم تكن غانا على الخريطة، ولم يكن أصاري إلا مجرد أفريكي زنجي، يخدم البيوت أو يخدم في الحرب ويأخذ في النهاية حسنةً ويتوكل على العزيز الجبار! وتوكَّل عمُّنا أصاري إلى مصر ثم نقلوه إلى كامب في الجيزة ليشم الهواء ويتمنجه! ولكن أصاري كان يحب كوم حمادة، تركها صحيح ولكنه ترك قلبه هناك، وهو مسلم من أشانتي وتزوج مسلمة من عرب البحيرة، وأنجب منها ولدًا، ولكنهم خطفوه مرةً أخرى ذات مساءٍ؛ ليشحنوه في مركب بضاعة ليعودوا به إلى أرض الوطن، وفكَّر أصاري عميقًا والمركب واقفة على رصيف إسكندرية، هل يترك الزوجة والطفل في كوم حمادة ويرحل إلى أكرا؟ أم يترك الأهل والخلَّان في أكرا ويبقى مع الزوجة والطفل في كوم حمادة؟ أصاري رغم التفكير العميق لم يستطع أن يحسم الأمر في النهاية، تحركَت المركب وغادرَت الرصيف والميناء وبحر الإسكندرية وهو لا يزال يفكر … وعندما وصَل إلى مضيق جبل طارق والمركب طالعة على المحيط الأطلنطي استقرَّ على رأي: لا مانع يرى الأهل والخلان في أكرا ثم سيعود ليعيش مع الزوجة والطفل في مصر! وعندما شاهد أصاري شاطئ غانا بعد طول غيابٍ بكى ولا معددة في ميتم، وأنا قتيل المحبة يا جدعان لكين الوطن غالي، لفيت ما خليت بلاد الناس لكين الوطن غالي، على رأي يوسف شتا مؤلف ومطرب شعبي! أصاري عاد إلى بلاده وكانت عودتُه أحسن، لو أن كل الأفريكان الذين خرجوا أيام الحرب استقروا في الخارج لاحتاجَت أفريكيا إلى حربٍ عالمية أخرى لكي تتحرر، هؤلاء العيال الشجعان، عساكر أفريكيا الذين انسلخوا في فرن الحرب، ستقوم على أكتافهم أعنف وأشرف حرب لتحرير القارة! الأفريكي الذي كان محبوسًا كالفأر في بلده لا يعرف أستراليا من إيطاليا، لف ودار وشاف بلاد الله وخلق الله وحارب وانتصر على رجل أوروبَّاوي آخر، أبيض وملظلظ، ألماني صحيح، ولكنه زي الإنجليزي والفرنساوي والبلجيكي وأحسن، على الأقل الألماني هزم الدول جميعًا والأفريكي هزمه … بين الحطام والأشلاء والجثث المتناثرة اكتشف الأفريكي الطيب نفسه، وها هم عدة ألوف من الرجال أبناء أفريكيا العظيمة عادوا إلى الوطن الأم مدرَّبِين مسلَّحين مقاتِلين شافوا الهول وخاضوا حرب الأدغال والصحراء والجبال وتعلموا الكفت نفسه، خبرة ما أروعها ستحتاجها أفريكيا في قادم الأيام لتتحرر، وهؤلاء الرجال البواسل سيكونون قادة جيوش نكروما، وأحمد سيكوتوري، ولومومبا، وكينياتا ودكتور باندا، ولكن هذا حديث آخر يحتاج إلى شرحٍ طويل، وستعلمون عندئذٍ كم كانت الحروب شرًّا وخيرًا، نقمةً ونعمةً، حركةً وبركةً! المهم الراجل أصاري عسكري الحرب السابق أخذني بالحضن فأنا من بلد الحبايب، وسحبني من إيدي وفرَّجني على غانا، من وينيبا على شاطئ البحر في الجنوب، إلى أكسومبو على شاطئ البحر في الشمال، ومن أكرا إلى خماسي في الداخل، حيث الأشانتي والكاكاو وغابات الوحوش الكواسر! وفي لفَّة من دول سحبني من إيدي على قرية أفريكي داخل غابة، وعندما وقع بصري على القرية كدْت أبكي، أنا طالب من الله ولا يكتر على الله أن تصبح القرية في بلدي مثل القرية الأفريكي … تذكرْت قريتنا قناطر القرنين منوفية، ومعدية جدي الشيخ معوض، وشجرة الجميز التي عند ستي عديلة، وبيت الراجل خميس المخوخ بتاع الترمس، ومكنة طحين سوارس أفندي، والبيوت من الطين مدهونة، ومن روث الجاموس مدهوكة، ورائحة تغم القلب وتسد النفس وقرف أزلي، وعيال مرضانين هزلانين قُرع أكثرهم عُمي، يتمنى الواحد منهم أن يهرب من القرية إلى مصر أم الدنيا؛ ليأكل عيش سخن وفول مدمس وطعمية، أحلام لا تتحقق للأكثرية العظمى منهم، فيبقى في القرية ملومًا محسورًا، وعندما يبلغ الأربعين يصبح هضيمًا عضيمًا يعني عضم! وتراه فتقول له: يا جدي، ويموت في الخامسة والأربعين، ويكذب عليك فيقول لك أنه رأى هوجة عرابي وموكب أفندينا إسماعيل والبنت السنيورة ملكة فرنسا!
القرية الأفريكي يا هوه وسط الأحراش في منطقة مفتوحة، البيوت أكواخ تصميم المهندس الأفريكي العبقري الذي تلقى العلم في أدغال أفريكيا، علمَته الطبيعة وألهمَته الحق فلم يشيد بيوتًا كعُلب السلمون، ولم يصنع قرية كمستشفى أم المصريين! البيوت على حسب الجو، والبناء ليس مجرد طوبة على طوبة، ولا مونة وزلط وأسمنت، ولكن البناء قطعة من النفس، إن فسدت القطعة فسد الأصل والبناء تاريخك وأصلك، وأنت تأخذ من المبنى وتعطيه، وكل بلد ولها سلو، كما تقول أمي، وسلو أفريكيا هو الأكواخ … ولكن المهندس الأوروبَّاوي يريد أن يخرب النفَس الأفريكي، في المدن أقام لهم مباني ولا هيلتون، أدوار بعضها فوق بعض كأنها سراير بحَّارة في مركب جاز! ولكن الأفريكي الأصيل في الغابة رفض أن يتأورب. الكوخ قطعة من الفن الرفيع، تدخله في عز الحر فتشعر أنك على ساحل الريفييرا، وتدخله في عز البرد فتشعر أنك في أفريكيا، وتدخله ساعة المطر فلا تسمع إلا عزف الماء على سقف الكوخ؛ لأن المهندس الأفريكي العبقري صمم الكوخ حسب الجو، جدران الكوخ من الليف، وعمدانه من شجر جوز الهند، وسقفه من الخزران البامبو، مقوس حتى ينزلق المطر عليه، والفرش من جِلد الحيوان، وفي أيام الصيف الحارة لا ينام الأفريكي فيه، يفرش جلد غزالٍ ناعم يجلب الطراوة اللازمة وينام في ساحة القرية، الكل ينام هناك، وفي ليالي الشتاء يفرش الأفريكي جلد فهد أو جلد نمر وينام داخل الكوخ ويتقلب! وبين الكوخ والكوخ عشرة أمتار، وهو معرَّض للشمس والهواء من كل جانب، والقرية كلها دائرية وحدائقية، يعني كلها حدائق. والعيال كما أولاد الدبة، عرايا كما ولدَتهم أمهاتهم، سِمان كما البط المزغَّط، لطاف كما النجوم الزاهرة! إذا جاعوا فالموز على قفا من يشيل، الموزة كما الفقوسة في بلدنا، والمانجة على الشجر حايرة تطلب الأكَّال! وجوز هند يأكل ويشرب ويحمد الباري المتعال، والعيل اللي في اللفة يستطيع أن يصطاد أرنب، والواد الصبي يصطاد غزالًا، والواد الفتى يصطاد جاموسة يذبحها ويسلخها ويأكل فيها كما أبونا الغول!
الصحة إذن عال وبمب والحمد لله، والطعام وفير وكثير وكله دسم وزفر على رأي ستي … والطبيعة مفتوحة، والوزة قبل الفرح مدبوحة، على رأي عمِّنا الكبير بيرم التونسي!
في هذه القرية أنا رأيت العجب، بنت بيضة كما الحليب، مخنصرة ولا السنيورة الحلوة، شعرها أصفر ولكن مجعَّد! شفايف سمينة وبضَّة، عيونها كما عيون الغزالة الحلوة! والبنت معها سيارة، ولها كوخ، وعندها ضيعة، ولكنها مع ذلك صايعة وضايعة، مزجورة مهجورة من الأفريكان، إنها بذرة فاسدة تركها راجل أوروبَّاوي تزوج من سيدةٍ أفريكية، تزوَّجها وماتَت ومات هو الآخر بعد الاستقلال، ولكن البنت البيضة فضَّلَت الحياة في القرية، معها ستها تمام كستِّنا الغولة، وهي وستها تعيش في كوخٍ واحد، البنت كانت في اسكتلندا مع ستها الأخرى، ستها الأخرى تعيش في جلاسجو، بيضة كما الشمع، مربربة كرغيف عيش قمح روسي، عيونها زرقاء كما المحيط، ولكن البنت الأفريكية حنَّت إلى الأرض التي قفزت من بطن أمها عليها، فعادَت إلى أفريكيا، عادَت لا هي أفريكية ولا هي اسكتلندية، ولكن بزرميط وخليط، وحاجة لا تسر إنجليزي عدو ولا أفريكي حبيب.
والبنت لها مشكلة، المرأة في أفريكيا محترَمة ومقدَّسة، هي أصل القبيلة وهي أصل الحياة، والواد يرِث خاله ولا يرِث أباه، والمرأة تخرج للعمل والرجل يجلس مجعبز في الغابة، وإذا كان الاقتصاد هو محرك التاريخ عند ماركس فالمرأة هي محركة التاريخ في بلاد الأفريكان!
المرأة هي الغاية، وهي النهاية، وهي البداية، وهي المصير! ولكن بنت أفريكيا الخليط محتقرَة ومهانة … إنها تشعر بأنها أقل من امرأة … بأنها رجل … وهي تريد أن تكون امرأة. العيال الأفريكان يشتهونها ولكن لا يتزوجونها، ولأنهم أخذوا منها موقف عدائي فقد أخذَت هي الأخرى نفْس الموقف. وما داموا يشتهونها فستمنع نفسها عليهم، ولكن — بنت المجنونة — ستمنح نفسها لكل الرجال الآخرين … وبشرط أن يكون رجلًا أبيض. وعندما هبطْت القرية ذات عصريةٍ طرية كانت البنت هناك تحت شجرة جوز هند تشرب بيرتها وأحزانها … وفي النسيم العليل بكت واشتكت وفضفضت بالكثير … أزاحت عن نفسها الأحزان وألقتها فوق رأسي، أنا الحزين ابن الحزينة أصبحْت مخزنًا للأحزان! بعد خمس سنوات من الوحدة أصبحَت (ميوريال) مومسًا، ولكن بالمزاج، وهي الآن تنتقل من كوخ رجلٍ أبيض إلى كوخ رجلٍ أبيض، في وضَح النهار. فإذا عز الرجل الأبيض، انتقلَت ميوريال من كوخ رجلٍ أسود إلى كوخ رجلٍ أسود ولكن في الظلام! عيشة مهببة ومغبرة، ولكن هكذا كُتِب على ميوريال أن تدفع الدين الذي لقيَته أفريكيا على يد أقارب نصفها الأبيض. وعندما حان وقت الرحيل من القرية الأفريكي الحلوة خرجَت ميوريال تودعنا مزهوَّةً؛ فنحن على أيةِ حالٍ بيضٌ وإن كنا في بياض عجين الردَّة! وعند باب القرية الأفريكي أمسكَت البنت بجلبابي السكروتة تكاد تمنعني من الخروج، البنت المسكينة تحلم كأنها ممثلة في فيلم من إنتاج هوليوود! وعندما سحبْت هراديبي منها ووليْت فرارًا من وجهها وقفَت على تلٍّ قريب تلوح لنا في جنونٍ كأنها بقايا مركب غرقانة في جزيرة ونحن مركب إنقاذٍ تمخر البحر من بعيد!
ميوريال المسكينة، يا بنت أوروبا القاتلة، ويا بنت أفريكيا الضحية، الله يتولانا جميعًا برحمته، والله معها ومعنا وإياكم.