الفنان والعبيط والشيخ علي في أفريكيا

سيكون كل شيء على ما يُرام بإذن الله، فنحن على شاطئ أفريكيا، والدار أمان، ونحن أفريكان على أية حال، أجدادنا كانوا هنا، وبعض الناس الذين سنلقاهم في الطريق، كانوا عندنا، العسكري الأفريكي أصاري، وسي محمد، ولا أعرف له اسمًا آخر، ولكنه أفريكي يعيش في شُبرا، وخرِّيج الكلية الحربية في مصر، ومتزوج مصرية تعيش معه على شاطئ وينيبا، وفي حديقة دارها الآن تجارب على زراعة الملوخية.

وفي بيت سي محمد تشرب شاي آخِر آلسطة وتأكل لمون مخلل بعصفر آخر مزاج، وعيش مشقق مفقع ملدن — بتشديد الدال — ويسألك سي محمد عن دوران شبرا وقهوة جنة شبرا ومخزن الترماي، والراجل بتاع لحمة الراس الذي في عابدين، ثم يطلب منك في النهاية سيجارة بلمونت بفلة. السيجارة البلمونت كأنها ماء النيل، من يشربها مرةً لا بد أن يطلبها مرة أخرى!

وسي محمد مصري المزاج والغرام والقعدة، ويا حلاوة على المصري النزيه، ليس له مثيل على ظهر الكرة الأرضية، والنزاهة في قاموس أولاد البلد لها معنًى آخر غير الذي في قاموس الفيروزبادي.

يقول أولاد البلد الطيبين الحدقين ألاجة: فلان نزيه في أكله … ونزيه في لبسه، ونزيه في عيشته، النزاهة هنا تعني مستوى. فإذا كنت حضرتك نزيه في أكلك فمعنى هذا أن مأكولك في الفراخ والحمام والطواجن على كل لون.

والمصري الأصيل إذا كان نزيهًا بهذا المعنى افترى.

المصري الأصيل بطبعه يحب الحياة، فإذا راقَت دماغه أصبحت الحياة لعبته.

أقسم لكم بديني إنني تعرفْت في أفريكيا على واحد اسمه الشيخ مهدي، الناس هناك يطلقون عليه الشيخ نمرة، وهو مثل سي محمد، واحد من هذا الصنف النزيه الذي حدثتُكم عليه. القميص الحرير يهفهف، والبنطلون صيفي ومظبوط فشر تفصيل إيطاليا، والراجل نفسُه سمين ومرتاح ولذائذي ودائمًا نائم على روحه. ولأنه لذائذي فهو ينام النهار بطوله ويسهر الليل كله، وهو مزاجاتلي له في كل مجالٍ باع. وهو في أي مجال وردة، وهو ممسوس لأنه عاش في مصر عشرين عامًا طويلة. عاشها في سيدي عبد الدايم في عابدين، وكان الشيخ علي محمود هو مثله الأعلى والأسمى، وعاش الشيخ مهدي حياته كلها يسرح خلف الشيخ علي ويسحبه آخر الليل إلى بيته. وفي البداية راح يُقلِّد طريقته في التلاوة وطريقته في الإنشاد، ثم راح يقلد حركاته وإشاراته، وحتى الكحَّة اللعينة التي كانت تلازمه في أخريات أيامه، أصابت عدواها عمَّنا الشيخ مهدي. السعال يخرج من صدر الشيخ مهدي بنفس الطريقة التي كان يخرج بها من صدر الشيخ علي محمود، رغم أن الشيخ علي محمود كان مريضًا وهو في السبعين … والشيخ مهدي لا يزال في الخمسين من عمره.

وعاش الشيخ مهدي في مصر يدخن … ويشرب زوتوس وله ألف صديق، وله في كل ليلة قعدة، وفي تلك القعدات كان الشيخ مهدي يُعيد ليالي الشيخ علي محمود إذا أغمضتَ عينيك وسمعتَه خُيِّل إليك أنك تسمع الشيخ علي الله يرحم أيامه.

والشيخ علي محمود لم يكن مقرئًا فقط، كان مقرئًا وفنانًا وموسيقيًّا، ومحمد عبد الوهاب تعلم الكثير من أسرار الصنعة على يديه، والشيخ زكريا أحمد كان واحدًا من بطانته، وعشرات من أهل الفن والمزيكة شربوا من نبع الشيخ علي، وارتووا من بحره.

ولكن الفنان الناصح ابن الناصحة هو الذي يتأثر بأستاذه بقدر، والفنان العبيط هو الذي يتأثر بأستاذه إلى درجة القتل، يظل متأثرًا بأستاذه حتى يموت. ويعيش حياته كلها في ظله، يتحرك في دائرته، ويتكلم بطريقته، ثم ينتهي آخر الأمر إلى مجرد شبح يتحرك خلف الأستاذ العظيم.

الشيخ مهدي فنان من النوع الأخير، فنان وعبيط، ذاب كله في الشيخ علي وضاع فيه، فلما مات الشيخ علي أصبح الشيخ مهدي مجرد بصمة لأستاذه، الحديث كله عن الشيخ على، والكلام كله حول الشيخ علي، والشيخ علي الميت يحكم الشيخ مهدي الحي ويُوجِّه خطواته، ويا ميت نجف على الليالي الحلوة التي سهرناها مع الشيخ مهدي على شاطئ النهر في أفريكيا نسمع تواشيح الشيخ علي، وتقاسيم الشيخ علي، ونوادر الشيخ علي. والنهر كله تماسيح تتلعبط، ووحوش تتلمظ، والشيخ مهدي غائب عن النهر وعن التماسيح وعن الوحوش وعن الوجود كله، سيرة الشيخ علي عنده ولا سيرة الحب عند سمِّيعة أم كلثوم!

أنا أحببْت الشيخ مهدي وعشقتُه، والرجل لا ينسى الشيخ علي؛ لأنه لا ينسى مصر، ويدفع نصف عمره ويعود شهرًا إلى مراتع الصِّبا في سيدي عبد الدايم، ومعروف، وشارع كلوت بك، وعشش الترجمان! وهو يكون أكثر الناس سعادة كلما وجد واحد مصري سمِّيع مثل حالي ونزل فيه كلام وغناء حتى يدركه الصباح. وهو إذا انسجم قوي، وانشكع قوي، يبكي كطفل. وأحيانًا من شدة اللذة يلطم على خدَّيه. وأحيانًا ينهض واقفًا فجأةً يصرخ كأنه ضبعٌ لئيم في الغابة. شعرت خلال الأيام التي قضيتُها معه أن الأرض ضاعت من تحت رجليه، وأنه هو نفسه ضايع يلف حول نفسه، حتى الهواء الذي يشمه غريب على رئتيه، فقد تعود أن يتنفس من تراب وغبار المقطم!

وبكيْت وأنا أودِّعه. الرجل الأفريكي الطيب عم مهدي الذي كل أصدقائه الآن عابرو سكة وأبناء سبيل، والذي ما تكاد علاقته تبدأ بهؤلاء الأصدقاء حتى تنتهي. والذي ما يكاد يهدأ نفسًا حتى يهب مذعورًا يبحث عن صديق أو على الأقل يبحث عن رجل يَقبَل أن يُعيره أُذُنًا!

وعن طريق الشيخ مهدي تعرفْت إلى رجلٍ خواجا غريب الشكل والمنظر. خواجا مقدد مكرمش كأنه سلحفة في حديقة الحيوان. سيقان تُطِلُّ من البنطلون الشورت كأنها أصابع رجُلٍ مريضٍ بسُلِّ العظام. مرهوق وأصفر رغم أنه من بلاد البيض الأمارة. محنيُّ الظهر كأنه يبحث عن شيءٍ فقدَه على أرض أفريكيا. سكران طول النهار يقربع في بيرة، وطول الليل غرقان لشوشته في الكونياك، لا يكاد يفيق لحظة. ربما لأنه يريد أن ينسى، فلقد كان الرجل سيِّدًا يومًا ما، وكان عظيمًا وكبيرًا وصاحب مال وإقطاعيًّا صاحب عزوة! وكانت له مواهب شتَّى، وكانت أبرز مواهبه أنه رجل أبيض.

وعندما عادت أفريكيا إلى أهلها وأصبحَت مصائرها في أيدي أبنائها، أصاب الذهول الرجل الأبيض المكرمش، وانقلبَت الست زوجته ميتةً من الخضة، وهاجرَت إحدى بناته مع رجلٍ أبيض ملظلظ إلى بلاد برة، وسرحت البنت التانية على روديسيا، وبقي الرجل الأبيض مكانه، يشرب لينسى، وهو ليس له أصدقاء، فكلهم ماتوا من زمان. صايع ليس له مهنة، ضايع ليس له سلطة، مجرد حطامٍ شهرته تدوي كالرعد ولكن في البارات والحانات والملاهي الليلية وعندما تغلق كل هذه الأماكن أبوابها تستطيع أن تلقاه على أي رصيف، فهو من جماعة المراصفة، أبناء الرصيف! وعلى أي رصيف يجلس الخواجا الغلبان حتى الصباح يعب من زجاجةٍ تحت رجليه ويغفو؛ فالحياة لم تعد تُطاق في أفريكيا لهذا الصنف من البيض. وهو لا يستطيع أن يُقاوِم ولا يجرؤ على الحركة، وكل ما يستطيعه هو أن يدمر نفسه، وأشهد أنه نجح في مهمته خير نجاح!

خواجا آخر تعرفْت عليه عن طريق الشيخ مهدي، خواجا ومعه بندقية، فهو صياد كان يأتي في الأيام الخوالي إلى أفريكيا في رحلة صيد، وكان يأتي لورد ابن لوردية، الدولارات معه بالكوم، والجنيهات الإسترليني معه بالويبة، والبنادق معه جاهزة، والأصدقاء على قفا من يشيل. وكان يستأجر بِغالًا ويستأجر رجالًا، ويدخل الغابة يصطاد. ويغيب داخل الغابة شهرًا وشهرين وثلاثة شهور، ويعود ومعه صيد يذهب به إلى بلاده يعلقه على جدران البيت، يتفرج عليه الضيوف، ويتفرج عليه العيال، ثم تمضي عدة سنوات قبل أن يأخذ عزاله ويأخذ فلوسه ويعود إلى أفريكيا. ولكن الحياة تدهورَت بالخواجا الصياد، وراح هو الآخر يتدحرج حتى وصل إلى الحديدة. لم يعد معه فلوس ولا شيكات سياحية. حتى البنادق باعها في السوق، ولكن الغابة كانت تملأ عليه خياله، والصيد يسري في دمه، وسرعان ما هجر أوروبا كلها وطار إلى أفريكيا يصطاد منها ويسترزق! وهو الآن دليلٌ محترِف، يذهب مع البِيض المتريشين داخل الغابة، يدلهم على الطريق، ويصطاد معهم، ويخرج من المولد بحسنة. وأحيانًا يفتحها الله عليه فيصطاد صيدًا سمينًا لحسابه. ويكون معه جماعة متريشين، فيهبر من الصيد ويهبر من الجماعة ويكرمه المولى الذي لا ينسى عبيده حتى ولو كانوا من البيض!

والصيد كما فهمْت من الخواجا، ليس بندقية وغابة وشوية وحوش وهات يا ضرب نار ع الفاضي وع المليان!

الصيد حياة وتجارة وتنظيم قبل كل شيء!

وأنت لكي تصطاد «فيل» مثلًا تحتاج إلى خمسين ألف جنيه. ستأخذ معك عشرة رجال أفريكان. ومئونةً تكفيهم، وستأخذ معك بنادق وذخيرة تكفي لشهر من الزمان. وستدخل الغابة وأنت وحظك؛ لأن الحيوان الذي اسمه الفيل، ليس كالسجاير التي اسمها الفيل؛ إذا طلبتها من عند الدخاخني ناولك العلبة على طول. أما الحيوان الفيل فيحتاج إلى صبر ولا صبر عمِّنا أيوب؛ لأن الحيوان الفيل ليس موجودًا على الدوام. قد تصادفه وقد لا تعثر عليه! وإذا عثرتَ عليه فلا بد من خطة لكي تحصره في مكان، بحيث تضمن حياتك إذا أطلقت عليه النار وخابت الطلقة؛ لأنه يا ويلك من الفيل إذا أطلقتَ عليه البارود ثم عاش. الغابة ستصبح سداح مداح تحت رجليه. وكل قدم وقدم ولا جذع شجرة جميز. وهو ملك الغابة بلا منازع. صحيح أن اللقب للأسد، ولكن مَن الذي خلعه عليه؟ ليست الحيوانات قطعًا هي التي فعلَت هذا، ولكنه البني آدم الذي يريد أن ينظِّم الكون كله على هواه. ويوزِّع المناصب والألقاب حتى في عالم الحيوان. ولكن أصغر ثعلب في الغابة لا يصدق هذا الافتراء الذي من صُنع البني آدم، فأي ثعلب في الغابة يعلم تمام العلم أن الفيل هو الملك المُهاب وليس الأسد الكسلان الجربان العواطلي الذي ينام طول الليل، ويتثاءب طول النهار! وزئير الأسد المرعب المخيف لا يخيف أحدًا إلا الإنسان، وهذا الزئير في حقيقته ليس إلا تثاؤب الأسد الوخمان. ولكن الفيل إذا اتغاظ فيا داهية دُقِّي على الصياد وعلى أي واحد معاه! والنشان لازم يكون مضبوط وخمسة وعشرين قيراطًا، والرصاصة في جلد الفيل لا تؤثِّر عليه، وربما ترتدُّ وتصيب الصياد، الضرب لا بد أن يكون في المليان. ومليان الفيل في الأذُن، وفي الفم المفتوح، وتحت الذيل، وفي العين، فإن خابت فأمك — ولا مؤخذة — داعية عليك.

الخواجا بتلر الصياد عندما دخل الغابة أول مرة كان شابًّا ومعجبانيًّا وقويًّا ومفتري آخر افترا وحاسس بنفْسه … ويا أرض ما عليكي إلا العبد لله!

وتصور الخواجا بتلر في الغابة وهو على هذا النحو من السذاجة والهيافة، وشاهَد فيلًا يرعى في أمان الله، وعمَّر البندقية ونشن واندبَّت الرصاصة في جلد الفيل. وهاج الفيل ورمح نحو الخواجا، واقتلع في طريقه كل الأشجار، ورمح كل الناس الأفريكان الذين كانوا مع الخواجا؛ لأنهم مدرَّبون يعلمون كيف يكون الحال إذا هاج عمنا الفيل. وهو نادرًا ما يهيج، ولكن آه من هوجة الطيب الصبور!

واحتاس أخونا بتلر ورمَح بأقصى سرعة، تاه في الغابة أيامًا حتى وجدوه مغمى عليه يكاد النمل أن يحمله إلى بيته! وتوبة من دي النوبة، ورأس أخونا بتلر وألف جزمة قديمة لا يهوب نحو الفيل حتى ولا في حديقة الحيوان! وعدت سنوات بعد ذلك وأخونا بتلر لا يصطاد إلا الحمام واليمام والغراب النوحي الوديع! ولكنه بعد ذلك تعلم وتدرب واستطاع في النهاية أن يصطاد الفيل. وباع عاج الفيل بالشيء الفلاني، وباع لحمه بألف أهيف. والناس في الغابة يأكلون لحم الفيل، والخواجا بتلر أكل منه هو الآخر، ويقسم بكل كتاب أن لحمه ألذ من لحم الثور! والأسد المرعب المخيف يلقاك في الغابة فيهز ذيله ويهز عنقفته ويجلس بالساعات أمامك لا يهش ولا ينش، مسكين عمنا الأسد نظره على قده، لولا العيب لسار في الغابة يتوكأ على عكاز. ولو حيوان حدق فتح محل نظارات طبية في الغابة لكان عمنا الأسد هو أحسن زبون لديه! والنمر لا يهاجم الإنسان إلا إذا فقد عقله. في عالم الحيوان أيضًا ناس عقلاء، والعقل زينة، وناس آخر جِنان!

والحيوان المجنون معذور، يأكل ولا يشعر بشبع، ويفتك بالإنسان لمجرد أنه شيء يتحرك. ويهاجم كل من يلقاه حتى الفيل! مع أنه لو كان يتمتع بعقله لأفسح الطريق للفيل وضرَب تعظيم سلام!

والحيوان المجنون ليس خطرًا على ابن آدم وحده، ولكنه خطر حتى على الحيوان. ولذلك تهبُّ كل الغابة ضده. وكل من يلقاه يهبشه ويلطشه حتى يجيب أجله!

وفيما عدا الحيوان المجنون أنت تستطيع أن تعيش في الغابة عدة أعوام بلا بندقية، نام وأنت مرتاح الضمير في الغابة، واحذر فقط الزواحف والضبع. الثعبان معذور؛ لأنه مذعور، كل حركاته وإشاراته تؤكد أنه خواف خوف الإبل، مذعور ذُعر أبو فصاد. وهو يتمشى افرنجي في الغابة يلدغ كل من يلقاه ويموت في النهاية بسبب ذعره. والضبع جبان وحقير ومن أصل واطي، وابن ناس غير طيبين وغير كويسين، وتربية جحور وسخة وغابات قرعة. ولذلك فهو لا يأكل إلا واحدًا نائمًا ومتسلطن، أو جيفة تركها على طريقٍ حيوانٌ غندور ابن ناس طيبين! بعد الضبع والثعبان، الغابة أمان مثل بيت حضرتكم. تستطيع أن تنام فيها وتتغندر، تستطيع أن تضرب فيها بلطة وأنت آخر رواقة وآخر مزاج.

والخواجا بتلر يعرف الغابة كما يعرف بيتهم، وعن أسرار الغابة يستطيع أن يؤلف عشرة كتب وعشرة أفلام! وهو من شدة هيامه وغرامه يعيش في الغابة ومتزوج منها. ست أفريكاني حلوة كما وحيد القرن، قوية وعنيفة وغبية أيضًا؛ لأنها تحب الراجل الخواجا وتسأل عليه كلما خرج للصيد في الغابة، تخشى عليه الفتنة من مرات الأسد وأنثى الغزال!

السيدة الأفريكية مرات الراجل الخواجا سيدةٌ من باب المجامَلة، وهي خير شاهد على نظرية التطور، كانت بني آدم في الماضي وأصبحَت حيوانًا، وستصبح شيئًا آخر إذا امتد بها العمر في قادم الأزمان!

والخواجا الصياد تزوجها بعد أن تدمرَت حياته وأفلسَت خزائنه وهربَت مراته مع خواجا آخر بنكير يقضي الليل على موائد القمار، ويقضي النهار في بارات لندن الأنيقة! تزوجها لأنه لم يكن أمامه سوى طريقتين إما أن ينتحر وإما أن يتزوج الست إياها. ولما كانت بلوته تقيلة، ومصيبته شديدة فقد آثر أن يتزوج الست إياها؛ لكي يتعذب ويتحرق على نار جهنم! ومع ذلك … ما أغرب الحياة. بعد شهورٍ تعوَّد الرجل الخواجا على المرأة الغلبانة وتبعها كأنه صياد وهي فريسة … أصبحَت المرأة إياها هي كل حياته وكل دنياه. صدِّقني أنا لم أكتشف نفسي، ولم أعرف نفسي إلا بعد أن ضمَّني معها كوخ واحد. نحن في الحياة لا نعرف ما هو الأحسن وما هو الأسوأ إلا بعد فوات الأوان، هكذا صاح الراجل الصياد الغلبان الذي آثر المبيت في الغابة فرارًا من مدينة لندن … لندن أكثر وحشةً من الغابة وأكثر وحشية … الناس هناك تأكل بعضها بدون مناسبة، والحيوانات هنا لا يأكل بعضها بعضًا إذا شبعَت! وأنت تستطيع أن تنام في الغابة آمنًا ومطمئنًّا إلا من الضبع والثعبان، والناس هناك كلهم ضباع وثعابين إذا أغمضتَ عينيك لحظةً أكلوك أكل عزيزٍ مُقتدِر … ويا قوة الله على الست مراته، لا تعي شيئًا ولا تدرك شيئًا، ومعها مقشة ليست للغابة ولكن للحيوان الغادر الكاسر الذي هو جوزها.

وعندما نادت عليه نهض يجري كأنه مسجونٌ لحظة التمام، والست إياها كأنها مأمور الليمان واقف على البعد يتفرج!

والله على الخواجا، عندما استدار نحو الغابة واختفى داخلها والست بالمقشة تتبعه كظلِّه، صعب عليَّ، ولكن صعبت عليَّ نفسي أكثر، فقد كان العبد لله في طريقه إلى الغابة الأكثر وحشة وأكثر وحشية … كنت في طريقي إلى أوروبا. ولكن قبل ذلك ما أحلى القعدات والسهرات التي شهدناها في أفريكيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤