يا جيش النمل … مليون سلامة
سنظل نتمشكح على شاطئ أفريكيا وبالشبشب زنوبة والجلباب، وقدَم في المية، وقدَم في الرمال، وعرقنا مرقنا، وأنظارنا على الأرض نتفرج على ألف صنف من الزواحف والحشرات، وفراشات في الجو ما أحلاها وما أغباها، أشكال على ألوان، أحمر وأصفر وأخضر وأبيض وأسود، فراشة حلوة ومثل كل حلوة غبية، في النار تلقَّح جتتها، في نسيج العنكبوت تعلك نفسها، في شباك الخنفسة تقع وقعة مهببة … وخنافس أفريكيا كخنافس لندن، خنافس قوية وعنيفة ومجعلصة! كل خنفسة وخنفس كالوطواط، بليدة لا تتحرك، ماكرة لا تتكلم، منبوذة تحفر لنفسها في الرمل، تتحفز وتتربص، لدعتها وقرافة الإمام الليثي، فإن كنت محظوظًا فقرافة البساتين! وسحالي مثل التماسيح لطيفة لا تعض ولا تلدع، غلبانة تلف طول النهار بحثًا عن لقمة وعن حتة سكر! جميلة تصلح للزينة وتصلح للعيال! ولكن هوليوود النصابة ربحَت على قفا السحلية عدة ملايين من الجنيهات؛ أنتجت فيلمًا اسمه ليل الإجوانا، والسحلية بالإنجليزي اسمها الإجوانا، وأنا أخشى الآن أن يعجب الاسم واحد من إياهم فيفتح محلًّا في شارع الهرم اسمه ملهى الإجوانا؛ لأن أسماء الأعاجم تخطف عقول الناس، وتخطف أبصارهم، حتى إن واحد أفندي منهم فتَح سينما وسمَّاها سينما الهمبرا، وهي كلمة عربية معناها الحمراء، ولكنها أعجبَت أخونا الأفندي فهبر الاسم الإسباني باعتباره أشيك وأحسن؛ لأنه من بلاد الخواجات. المهم أن هوليوود النصابة اخترعَت قصة السحلية، متوحشةً زعموا، وجبارةً افترضوا، ومفترسةً صوروا، وتهبر لحوم الناس سنيروا … يعني عملوا سيناريو! وفيلم كامل متكامل عن السحلية وليل السحلية، وكسبوا مكاسب ولا الرمالي بتاع العيش أيام الحرب العالمية!
ولكن أعجب شيء وأغرب شيء على شاطئ أفريكيا هو بيت النمل. كل بيت في حجم صخرة من صخور الهرم الأكبر، بيوتٌ شامخة وأنوفها عالية، عوالم ساحرة وسحرية، وكل ما فيها غامض وسري، حتى البناء نفسه سرٌّ لا يعرف سره إلا مهندس النملة! وأعاصير أفريكيا العاتية تقتلع الأشجار، تنفخ البيوت، إلا بيت النمل. وأمطار أفريكيا السيارة تعدم الشجر، تهدم القرى، إلا بيوت النمل! والبيوت من شوية رمل ومادة لزجة أمتن من الأسمنت وأصلب من الحجر الصوان. والنمل نفسه أبيض وطويل ورشيق ونشيط وشغال، وعلى ودنه! مجتمَع النمل في أرقى درجة من التنظيم والعدل. طوابير رايحة جاية، وفي خطوط مرسومة وكأنها أتوبيسات مؤسسة النقل، وكل نملة شايلة شيء، فرع شجرة، ضفدعة ميتة، حتة لحمة، حتة دبشة، ريشة عصفور، بذرة منجة، المهم لا يُوجَد عواطلي ولا واحد كسلان! الشغل على ودنه، والنشاط على ودنه، لا خناقة ولا حادثة، ولا واحد فاتح جعُّورته، ولا واحد ماسك شكوى وداير يلف على النمل الشغال. لا بد للنمل لغة وموسيقى وحياة داخل القلعة المنيعة! عمنا الإنسان المغرور ولا غرور أبو فصاد يخترع أدوات وآلات لاكتشاف القمر والمريخ، ولو أحسَن لاخترع آلات لاكتشاف النمل! وآه من النمل الشغال لو وقعْت في رجليه … باعتبار أن النمل ليس له أيدي ولن تقع إلا إذا وقعْت في حالة ضعف، عندئذٍ سيتولى النمل الإجهاز عليك … وأي حيوان في الغابة يسقط جريحًا يعاني سكرات الموت بعد معركة رهيبة، سيخرج له النمل ويشطب عليه. حتى الفيل العظيم سينتهي بعد ساعة زمان ولن يبقى منه إلا عظمه، والنمل فيما يبدو كان آدم بتاعه جزار … وله طريقته في التقطيع والتفصيص والسلخ فشر بشكار في المدبح! ولو كتفْت أسد هايج على شجرة وغرقْته عسل نحل لأكله النمل في ربع ساعة، العسل والأسد أيضًا … بطنها مفتوحة، وبقُّها مفتوح، وخشب تأكل … سكر تأكل … لحم تأكل … وأي شيء وكل شيء تأكل، فلا يمري عليها ولا يظهر! تتحول المأكولات إلى أعصاب وعضلات وفيتامينات؛ ولذلك فالنمل هو أكثر المأكولات في العالم فائدةً لمن يأكل! وبعض القبائل في أفريكيا تشوي النمل على النار، وتأكله بالهنا والشفا! والعيال تحشو به جيوبها وتقزقزه ساعة العصاري على ضفاف الأنهار!
وشاطئ أفريكيا كله مزدحم ببيوت النمل. بين كل بيت نمل وبيت نمل ستجد بيت نملٍ ثالث. وملايين تسكن البيت الواحد، ولولا حكمة الواحد القهار لسيطر النمل على العالم. وحكمة الواحد القهار أيضًا أن البني آدم يستفيد من النمل ويتعلم، القائد أفونتي راجل تمام، ومن قادة حرب التحرير في أفريكيا! كان عسكري جيش إنجليزي أيام الحرب … خطفوه من ساحل غانا ورحَّلوه إلى الشرق الأوسط، وتكررَت له نفْس القصة التي حدثَت مع كل العساكر الأفريكان … عبَر البحر إلى أوروبا، وخاض في الدم حتى اخترق أطلال برلين، وداس على حُطام دار المستشارية! ثم رحل إلى الشرق الأقصى ليحارب ضد اليابان، وتاه مرةً في أدغال بورما، وعاد إلى الحياة بمعجزة. اكتشف فجأةً أنه في مستنقعٍ يغوص فيه حتى المصارين، وبعد قتالٍ عنيف ضد الطبيعة استطاع أن يخرج من المستنقع الذي كان فيه! ولكن ليكتشف شيئًا آخر! إن الغلبان السيئ الحظ أفونتي في منطقة مستنقعاتٍ تمتد مائة ميل، وربما أكثر سجنٍ كبير قضبانه من الماء الآسن، وجُدرانه من الحشرات والتماسيح، ولو نجا أفونتي من الماء سيلهفه تمساح، ولو نجا من التماسيح ستلدغه عقربة، ولو نجا من العقربة ستهبره ناموسة في نافوخه وينتهي الأجل المحتوم، وآثر أفونتي العاقل أن يموت مكانه، وتجري جري الوحوش وغير عمرك ما تحوش، وأعمارنا بيد السماء يا نهر البنفسج، على رأي زكريا الحجاوي، أو يا مستنقعات البنفسج، لسان حال أفونتي الغلبان! وعشرة أيام وعمنا أفونتي وحده في بحر المستنقعات، رشاش يطقطق منه في الليل كام رصاصة لتفر التماسيح من حوله! ولكنه استيقظ ذات صباح ليجد أنه وارمٌ كالفقمة، وشه أزرق محبب كأنه باذنجان مخلل معصور عليه لمون! ورأسه توش كالباجور، وسخنة كالفرن، تستطيع أن تضع فوقها حلة وتطبخ عليها آخر طبيخ مسبك! وأدرك عمنا أفونتي أنه يموت، وأن تموت فقط فليس في الأمر شيء، ولكن أن تدرك أنك تموت فهنا المصيبة الكبرى! والإعدام صعب لهذا السبب؛ لأن المحكوم عليه يعلم قبل الموت بربع ساعة أنه سيموت. وعمنا أفونتي حالته أصعب؛ لأنه يعلم أنه سيموت، ولكن عذابه سيطول؛ لأن عمره قد يمتد أكثر من أسبوع! ونام عمنا أفونتي وتمدد، ومرة يستيقظ، ومرة يغفو، ودائمًا يخطرف ويخرف، وحالته أصبحت نيلة، ولو يقدر لشال مدفعه على كتفه وصرخ في الغابة، عَشا الغلابة عليكي يا مستنقعات، وحسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة يا تماسيح! ولكن الود لم يكن وده، والعين بصيرة والقوة قليلة، والموت بدأ يزحف ولكن ببطء. وعندما أبصر الضبع يحوم على البعد أدرك أن النهاية قربت؛ لأن الضبع الخسيس يشم رائحة الموت على بعد ألف ميل … وأغفى عمنا أفونتي ولكن ليستيقظ فجأةً على صوتٍ كالرعد، وظن أنه مات منذ ملايين السنين، وأن القيامة قامت، وأنه مدعو للمثول بين يدي الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ولكنه اكتشف بعد لحظات أن الصوت أحدثته طيارة هليكوبتر أمريكاني سقطَت من الجو على المستنقع، وأربعة ضباط سقطوا معها، التهمَت التماسيح واحدًا منهم والثلاثة الباقون زحفوا حتى أصبحوا بجوار أفونتي المريض. ولأن الطيار أمريكاني والضباط أمريكاني، ولأن يا بخت من كان النقيب خاله، فقد اهتمَّت القيادة بالأمر، سماء بورما الملبَّدة بالغيوم انتشرت فيها الطيارات كالنمل، وفي العصر اكتشفوا مكان الطيار وحطَّت طيارةٌ أخرى هليكوبتر سليمة وعال العال … وطارت ومعها الضباط الثلاثة والغلبان أفونتي. ومن بورما إلى بلاده. فقد انتهت اليابان وانتهت الحرب.
ها هو أفونتي السعيد الحظ يعود إلى بلاده بعد ست سنوات قضاها في البراري والصحاري والمدن المخرَّبة على ضفة المحيط، وهو قد رأى الموت أكثر من مرة حتى ألِفه، وعاشر عزرائيل حتى صادَقَه، ودخل مصيبة وخرج من مصيبة حتى لكأن المصائب تحولَت إلى معالم على الطريق.
وها هو أفونتي السعيد الحظ يعود إلى بلاده بعد ست سنوات وقد أصبحَت التجربة عنده والخبرة لديه، وبأكثر من لسان يرطن، وبأكثر من وسيلة يفكر، ولقد أجاد الحرب المنظَّمة في أوروبا، وأجاد حرب العصابات في آسيا، ورأى بأم عينه عساكر الإنجليز تفر كالغربان في الصحراء، وتستسلم كالأبقار في أوروبا. لماذا إذن العسكري الإنجليزي شامخ الأنف في أفريكيا؟ رافع رأسه على الأفريكان؟ يتكلم من طرطوفة لسانه مع الزنوج! لماذا يتصرف ويتحرك هنا كأنه رسول، كأنه إله!
ووصل أفونتي إلى جواب على السؤال، العسكري الإنجليزي مسلَّح والأفريكي أعزل، وإن وجد السلاح لا يستطيع استخدامه. ولكن ها هو الوقت قد حان للانتقام من سنوات الذل والقهر، وأفريكيا تطفح بالألوف من الذين كانوا عساكر في الحرب، وكلهم مدرَّبون، وكلهم خبراء، وكلهم اللهم صلِّ ع النبي على استعدادٍ للبذل والفداء، ومن عشرة رجالٍ قام تنظيم أفونتي العظيم، فصيلة النمل، وبعد شهور ستصبح الفصيلة فصائل، وستتحول الفصائل إلى جيش … وسيصبح الاسم المختار لجيش أفونتي … جيش النمل، ومن هنا لا نبدأ كما خالد محمد خالد، ولكن من هنا نعود إلى حكاية النمل، فعلى شاطئ أفريكيا، حيث عاش أفونتي صباه، كان يجلس بالساعات يراقب جيش النمل وهو يتحرك، جحافل تخرج وجحافل تعود، سرايا تتحرك، وسرايا تراقب، وسرايا تهاجم، وسرايا تحمل الغنائم والأسلاب! كلٌّ يتحرك بخطة، وكلٌّ يتحرك بميعاد، والقيادة واحدة، والآراء نهائية، والطاعة واجبة، والأرزاق للمجموع.
وهكذا بدأ جيش النمل البشري يتحرك ضد الاستعمار في أفريقيا، وعندما انطلقَت الرصاصات الأولى جرَّب الإنجليز أن يطفئوا النار المشتعلة، ولكنهم فشلوا! وعندئذٍ استعانوا بجيش نيجيريا المستعمرة وقتئذٍ؛ ليقتل الأفريكي أفريكيًّا مثله، وليطبقوا مبدأ الأمريكان في آسيا؛ آسيوي ضد آسيوي، ولكن الأفريكان أفسدوا اللعبة عليهم، وفي أول صدام انضم الأفريكي النيجيري إلى الأفريكي الغاني … وهات يا ضرب ويا عزق في الوحش الأبيض الذي يمص دم الفريقين، واحتاس الإنجليز حوسة حشَّاش وقع في كبسة، ولم تنته الحوسة إلا بالجلاء. وهكذا بدأ أفونتي العظيم ولم يكن الأخير، في كل بلد في أفريكيا ظهر أفونتي آخر، ومن جيش الرجال البواسل الذين ضربوا الألمان في العلمين، وضربوهم في روما، وضربوهم في باريس، وضربوهم في برلين، من هؤلاء الرجال قام جيش تحرير أفريكيا؛ ليضرب هؤلاء الذين ضربوا أفريكيا ضربة العمر، وكسروا عمودها الفقري، وكتموا على أنفاسها ألوف السنين! وأفونتي لا يزال حيًّا يُرزَق، شابًّا لا يزال قويًّا، سيظل وجهه مستديرًا، وكتفه عريضًا، ورقبته مثل رقبة خضر التوني بتاع الحديد. كان يتكلم ببراءة، ويتكلم ببساطة، ويحكي ذكريات الكفاح المرير، وكأنه يروي قصة فيلمٍ شاهده، ويضحك أفونتي عميقًا كلما تذكَّر حرب العشرة أعوام، فعندما بدأ الصدام بين العسكري الأفريكي والعسكري الإنجليزي كان منظَر الأخير مضحكًا شديد الإضحاك. العسكري الإنجليزي خرع ممهمط كالتين البرشومي، مرهوق كورق أشجار الموز. الفراشة تُخيفه، والسحلية تجعل قلبه يطب في رجليه، وطابور من النمل يجعله يصرخ في الغابة كما طفل أمه تخيفه بالبعبع المكار!
ذات مساءٍ حاصر جماعةٌ من جنود الجوريلَّا الإنجليز في الغابة، وعساكر الجوريلَّا معجبانية آخر طراز، على المعاصم أساور جلد، وعلى البرانيط فروع شجر، وحول الخصور سكاكين مسنونة ومطاوي حامية، والجزم حداوي وفيها مسامير وبزوز ولا فريق ريال مدريد. ومع كل واحد سلاح أبيض، وسلاح أسود، ونظارات معظمة، وجهاز لاسلكي مفتوح على القيادة باستمرار. والاسم نفسه حاجة تخيل، وحاجة تخبل … الجوريلَّا، ولا بد أن الجوريلَّا تقاتل بالأسنان والأظافر وبالأقدام وبالشناكل والمقصات! ولكن عمنا أفونتي كان يعلم أن الاسم لأمشير والفعل لطوبة، وكان يعلم أنهم لا جوريلَّا ولا أي حاجة، ولكنهم عساكر جرابوللي. وزحف عمنا أفونتي بعساكره في شكل حدوة حصان، ووقف طول الليل حول عساكر الجوريلَّا يصدر أصواتًا مُفزعة، مرةً كصوت الأسد، ومرةً كصوت الثعبان. ولكن عمنا أفونتي خابت آماله، فقد ظل عساكر الجوريلَّا في أماكنهم أكثر ثباتًا من الأول، فلا حركة ولا حتى همس. وعندما انبثق الصبح اكتشف عمنا أفونتي أن العساكر الجوريلَّا خلعوا خوذاتهم وملابسهم وأسلحتهم وعلقوها كما خيال المآتة وهربوا في الليل من شدة الخوف! وعلى بُعد ميلٍ واحد من هذا الديكور كله، كان خمسة عساكر إنجليز بالفانلة واللباس، مشتحين كالفسيخ، مشندلين كما السمك الميت، ولم يكن في جسم واحد منهم مطوة، ولم يتخدش واحد منهم بدبوس، ولم تخر من واحد منهم نقطة دم! ماتوا جميعًا بالسكتة اللهم احفظنا، مع أنهم جميعًا جوريلَّا، وجميعهم يا صلاة الزين شباب كالورد! تجربة أفريكيا أن العساكر الخواجات المحتلين لا يخرجون بالمفاوضة ولا يرحلون بالمذكرات. وبدلًا من تبادُل الوثائق لا بد من تبادُل الطلقات، وبدلًا من ضرْب تعظيم سلام لا بد من ضرب الرصاص، وبالرصاص دخل العساكر الخواجات أفريكيا، وبالرصاص رحلوا!
رجل واحد من كل الرجال الأفريكان أبناء الحرب العالمية يترحم عليه أفونتي، ويقرأ على روحه السلام. الرجل من جنوب أفريكيا واسمه فوندا، عسكري تمام وصل في الحرب إلى أعلى رتبة وصل إليها أفريكي أسود خلال الحرب … صاجن ميجور … وبالبلدي مساعد، وبلغة والدي حضرة الصول. ولأنه أفريكي أسود وصول فقد كان المرحوم فوندا يحكم أورطة أكلَتها الحرب، ومات أغلبهم في معارك أوروبا، وآخرهم سقط شهيدًا وقلْب برلين على مرمى مدفعه، وعاد عمنا فوندا الكبير إلى جوهانز برج، وفي جوهانز برج السود ينكشون في الصحاري بالأظافر وبالأسنان بحثًا عن الذهب الأصفر الرنَّان، وخواجا سمين كالثور يلهف هذا الأصفر ويبيعه لتجار الجواهر في لندن ونيويورك وباريس! والأسود يأخذ حسنة ويعيش في كهف، والأبيض الملظلظ له يخت عند الشاطئ وغرفة محجوزة في الريفييرا، وخزائن سرية في جنيف، وقصور في الكيبتاون، ورحمة ربنا واسعة على الأبيض الملظلظ، وأضيق من عين الصرصار على الأسود أبو جلد محروق. وكان الصول فوندا واحدًا من هؤلاء الرجال في منجم ذهبٍ في صحاري جوهانز برج. وذات يوم أخذ عمال المنجم وكأنهم كانوا عساكر في الحرب واختفى داخل الصحراء. وبدأَت أول معركة تحريرٍ بالسلاح في جنوب أفريكيا، ولكن الرجل الأبيض عالج الموضوع بدهاءٍ وبخِسَّة … أقام ستارًا من الكتمان حول فوندا ورجاله، لا خبر يُنشَر ولا بلاغ حكومة يُذاع. ولما كانت الشركة في حاجة إلى دعاية، وفوندا محتاج إلى أن يصل عبر البحار إلى العالم البراني، فقد لجأ إلى صحافة الغرب؛ لتوفد رسولًا يخترق الصحاري ليكتب قصة الرجال المائة والحرب التحريرية. وعلمَت حكومة الرجل الأبيض بالأمر. وذات صباحٍ وصلَت إلى مقرِّ قيادة فوندا في الصحراء بنتٌ متحمسةٌ متكلِّمة، ومعها كاميرا وآلات تسجيل وكافة شيء، وبعد شهرٍ طويل مع فوندا ورجاله عادَت إلى كيبتاون، إلى إدارة الأمن العام في حكومة الرجل الأبيض، البنت الشيطانة المتحركة لم تكن صحفيةً، ولكنها كانت مستوظفة في مكتب الأمن التابع للرجل الأبيض. وكان سهلًا بعد ذلك أن تُباد حركة فوندا. المواقع معروفة، ونوع السلاح معروف، وعدد الرجال معروف، وكل شيء، وأي شيء كان مكشوفًا، وعلى عينك يا مُخبر، وحلَّقَت الطائرات عشرات المرات على مواقع فوندا ومسحَتهم جميعًا. لو عاش فوندا فلربما تغيَّر مصير جنوب أفريكيا. أغرب شيء أن صحافة الغرب التزمَت الصمت فلم تنشر حرفًا واحدًا، لا عن حركة فوندا ولا عن مصيرها، والكتلة الثالثة لم تكن قد ظهرت، وحكومة العالم أغلبها وقتئذٍ طبيخ في طبيخ، وشيلني وأنا أشيلك، لم يظهر فوندا المسكين في الوقت المناسب، ولكنه جاء مُتقدِّمًا بعض الوقت، غير أن موته لم يكن عبثًا. فلم يلبث أن ظهر بعد فوندا عشرات ومئات وألوف وملايين كلهم فوندا … والله يرحم فوندا ويحسن إليه…