دخانيق … وسراديب … وبؤر
ستنفتح الآن أبواب الصياعة أمام العبد لله، وسندخل حواري كحواري سيدنا الحسين. مبلطة كضمير الخائن، ضيقة كعقل الأحمق، ساحرة كما الحواديت في ألف ليلة وليلة، وسنجلس مع الأفريكان على المصاطب، وسنشرب شايًا أفريكيًّا، وإن شئتَ الدقَّة سنلهط شايًا أفريكيًّا؛ لأن الأفريكان لا يحبون الشاي … ظاهرةٌ غريبة وذات دلالاتٍ عميقة، المستعمِر الأبيض كان يحب الشاي؛ ولذلك كرهه الأفريكان، والشاي الذي نشربه هنا لن تجده إلا في الفنادق الكبرى، أما شاي الأفريكان فشايٌ غريب، شاي في سلاطين، وكما البلوظة تخين، وكما اللبن الزبادي ممهمط، وكما شربة الزيت ماسخ ولعين، وسنأكل مع الأفريكان فول سوداني معمول بطريقة حلوة فشر الفول السوداني في بار جروبي، وسنلعب معهم سيجة، ولكن ليس على الأرض وبكلاب من الطوب كما هو الحال في بلدنا، ولكن على خشبة كخشبة الطاولة، وبكلاب من خشب الجوز، وسنقزقز معهم ذرة مسلوقة وموز مشوي، فإذا انجلَت القعدة وحليت سنشرب معهم كونياك فشر مية النار، وويسكي يكوي ويشمط ولا لهاليب جهنم، وسندخل بيوت الأفريكان الحلوة، وكل بيت مثل الربع، غرف على الصفين، وكل غرفة فيها ساكن، ولكن في الليل ينام الجميع في الحوش، البساط أحمدي، والنائم منه للسما، وسيأتي الفطور في الصباح، مربى جوز هند، وخرطة أناناس حلوة، وبيض مضروب في اللحمة، وقرع بالرز، وهو ليس مثل قرع بلدنا، ولكن القرع هناك كما البطيخة الصالحاوي الضخمة، وعيش كما البتاو المرحرح في المنيا، وسيغرفون لك صحن شطة على كل صحن طبيخ! ولو استطاع الأفريكي أن يخلط الشطة بالمربى، وأن يخلطها بالأناناس، وأن يخلطها بالمية، لفعل وهو مستريح المصارين! الأفريكي التمام يحب الشطة، والشطة أيضًا تحبه. ولذلك نال العبد لله احترام وحب الجميع لأني أعبد الشطة، والشطة مفيدة في أفريكيا؛ لأنها تلطف حرارة الجسم، ولولا الشطة لخنق الأفريكي نفسه من شدة الحر واستراح! وحبُّنا للطرشي البلدي، والفلفل المخلل، واللمون المعصفر، دليل أننا أفريكان وأننا من قِدرة واحدة! والأوروبي أحيانًا يتظرف، وأحيانًا يتبسط، وأحيانًا يخدع الأفريكي بأنه مثله، ولكن الشطة تكشفه أمام الأفريكان، وتعريه فيبدو على حقيقته! راجل أوروبي من بلاد الإنجليز، يعيش على شاطئ الفولتا، اختلط بالأفريكان واختلطوا به، عاش معهم وسهر على المصطبة بينهم، وتزوج واحدة من بناتهم، وارتدى زِيَّهم، ولوحَته الشمس فأصبح أوروبيًّا محمَّصًا! وتبسَّط الأوروبي أكثر فأكل مع الأفريكان، بالأصابع مثلهم، على الأرض مثلهم، ولكن الطعام كان فيه شطة فسقط الأوروبي دائخًا على الفور، وعلى المستشفى نقلوه، وخرطوم طويل في بطنه دلدلوه، وغسيل معدة وتحقيق طويل عملوه، ولم يتحمل الأوروبي الصدمة فمات في الصباح. قتلَته الشطة؛ لأنه لم يكن أفريكيًّا إلا من الخارج، أما المصارين فقد كانت — كالنية — من بلاد الإنجليز! افترى الراجل الخواجا على الله، ومن افترى على الله كذب، أنا نفسي ابن حواري الجيزة، ابن رصيف ميدان الساعة، الذي على حشيش حديقة الأورمان نمت، الذي على السلم الشمال تشعبطت، الذي سلطة قوطة لهفت، وسلطة طحينة لحست، وعيش وملح أكلت، وحمدت الله. العبد لله الذي هو أنا أكلت كل شيء وأي شيء مع الأفريكان، ولكني رفضْت أن أذوق لحم القرود، رفضت بإصرار وبعناد ورأسي وألف جزمة كاوتش لا أقرب لحم القرود ولا ألمسه! ويا لحم القرود بيني وبينك حد الله، لأسباب وجيهة وأخرى قبيحة، الأسباب الوجيهة: أن القرد حيوان دمه خفيف، تداعبه نعم، تلاعبه أي نعم، تناغشه ما فيش مانع، تعاكسه ما فيش بأس، ولكن تأكله … هذا على رأي مصطفى محمود هو المستحيل! والأسباب القبيحة أنني والقرود حسب رأي داروين أبناء عمومة، وحسب الشكل والهيئة أبناء أم واحدة وأب واحد، قرود أفريكيا الخالق الناطق العبد لله، قرود وجيهة لها شوارب دوجلاس وتسريحة شعرها خنافس، ذكية تكاد تتكلم، مثقفة تكاد ترطن باللسان! والقرد نفسه مُعلَّق عند الجزار متدلي من الخطاف كأنه متشعلق في فرع شجرة، معصعص كأنه أرنب، غالي الثمن كما خنزير، خبيث الريحة كما مجرور مفتوح على الآخر! ومع أن القرود سارحة في الغابة، وسارحة في الشارع، إلا أن النوع الذي عند الجزار تربية حظيرة، وصاحبها خواجا سقطت رأسه على قطعة أرض على ضفاف بحيرة جنيف!
الخواجا السويسري كان يحتكر تجارة القرود على الشاطئ الغربي لأفريكيا، كان عنده ألوف الصيادين، وكلهم أفريكان وسارحين في الغابة، ويدوخ دوخة الأرملة ويعود ومعه صيد وفير، ويدفع السويسري شلنات في الصيد ويخفيه في الحظيرة، وفي الحظيرة شفخانة، ودكاترة من بلاد برة، وعلف خصوصي لتسمين القرود، ومنطقة لعزل القرود المريضة، ثم كنسلتو في نهاية الأمر لتفنيط القرود وتصنيفها، وقرود تطلع على الجزار، وقرود تطلع على حدائق الحيوان، وقرود غلبانة وأمها داعية عليها، تطلع على الشارع، لكي تصنع عجين الفلاحة، وتضرب سلام لكل عابر سبيل!
الخواجا السويسري الناصح ابن الناصحة قبل أن تسطع شمس الحرية على أفريكيا نجح في تهريب نصف ثروته إلى الخارج، وعندما سطعَت شمس أفريكيا كانت فلوسه كلها قد عبرت البحر إلى بنوك برة. وعندما استقرت الأمور في أفريكيا وتأكد لديه أن كل شيء قد صار في يد الأفريكان، ترك العمل مع القرود واعتزل وباع الحظيرة والأقفاص والشفخانة والآلات بملاليم لواحد خواجا تاني … وهو الآن يسافر ويعود مرتين كل عام محاولًا في كل مرة تهريب مبلغ مما تبقى له في أفريكيا، وحكمة الله أن صِنف الخواجات هم أسرع الحيوانات إحساسًا بالخطر، ولكن حكمة الله أنهم فقدوا حاسة الشم هذه المرة، ربما كانوا جميعًا مصابين بالزكام والتهاب الجيوب الأنفية، ففي لحظة احتدام الصراع على أرض أفريكيا، والمعركة شغالة على ودنه بين الأفريكان والبيض البلجيك، والبيض الفرنساوي والبيض الإنجليز، كان جميع البيض يعلمون أن الريح مع الأفريكان وأن النصر النهائي لهم، ولكن خطأً بسيطًا في الحساب ارتكبه البيض، وكلفهم هذا الخطأ البسيط ثرواتهم الهائلة وأعمالهم الواسعة، كان الجميع يعتقدون أن الريح في نهاية المطاف ستكون لحساب رجلٍ أبيض آخر ليس من أوروبا ولكن من بلاد بعيدة، من أمريكا! وكان البيض يعتقدون أن الأمريكي سيكون للأوروبي كالبُنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، وما دام الأمريكي الأبيض سيكون عنده النفوذ والفلوس، فكل شيء سيكون على ما يُرام، وستصبح الحياة هنيةً ورضيةً كما كانت دائمًا وربما أحسن!
غير أن الأمور في أفريكيا كانت متشقلبة على نحوٍ لم يكن ينفع معها أي إصلاح، والأحوال كانت مهزوزة إلى درجةٍ لم يكن يصلح لها أي علاج، ولم يكن بدٌّ من الثورة. وبعد الثورة السياسية لا بد من ثورةٍ اجتماعية؛ لترتفع بالذين شاركوا القرود في الغابة، ولتهبط بالذين شاركوا الإله في السماء … ولم يكن أمام أفريكيا إلا طريق الاشتراكية! وكانت ضربة للخواجات طرحَتهم أرضًا كما انطرح المتختخ ليستون على أرض الحلقة! أنا شفت واحد منهم عجوز، أو موظف حكومة طردوه من زمان على المعاش، شعر صدره أبيض شايب، وشعر رأسه نافش ومائل للسواد، قفاه أعرض من وسطه، وفخذه ولا فخذ عجل لبَّاني عند الجزار، كل زِيه شورت وقميص مفتوح وصندل رخيص، وسلسلة ذهب تتدلَّى من عنقه، في نهايتها صورة حسناء وصليب! وجالس كما الإمبراطور في فندق الأمباسادور يشرب عصير الأناناس، ويرش كل ربع ساعة زجاجة كولونيا على أم رأسه! الخواجا هوفمان السويسراوي كان يترحم على أيام زمان في أفريكيا، وأفريكيا جنة، والجنة ليست في حاجة إلى ثورة، إنها فقط في حاجة إلى تنسيق، ولم تكن أفريكيا في حاجة إلى الاشتراكية؛ لأن المشكلة الاجتماعية لم تكن حادة … بل لم يكن ثمة مشاكل على الإطلاق! لا أزمة مساكن ولا أزمة توزيع ثروة، والأرض الصالحة للزراعة أكثر من الأرض المزروعة، والذي في الغابة يأكل كالذي في فندق الأمباسادور! منطق الخواجا هوفمان الكاذب الذي كان يملك أربعة ملايين جنيه وكل أهل أكرا يملكون الستر! والذي كان يتعالج في سويسرا من الإنفلونزا وتنقطع ساق الأفريكي بالمنشار، وتُقلى في الزيت إذا لدغه دبُّور زن على خراب عشه! وأفريكيا كانت جنةً فعلًا ولكن للخواجات، بيوت الخواجات مثل سراي عابدين، السلك الشائك حول الحديقة، والسلك الناعم حول النوافذ والأبواب! والمفروشات من باريس، والسيارات من ألمانيا، وأجهزة تكييف الهواء من إنجلترا، والملابس الداخلية من سويسرا، والخارجية من إيطاليا، والمشروبات من اسكتلندا، والطعام وارد خصوصي من مطعم مكسيم! وفي البيت ألف خدامٍ أفريكي وألف خفير، وحرس خصوصي بالسلاح، وعشر بنات أفريكان للأطفال! هذه الجنة لم تكن في حاجة إلى تغيير! لأن التغيير لم يكن في صالح الجنة!
خواجا آخر من دول عرفتُه في بارات وينيبا، الباقي له من أيام العز القديم قصرٌ مهجور لا يستخدم منه إلا حجرة وفراندة على المحيط! سكري يشرب أردأ أنواع الكونياك، ويلعب طول النهار بعصا البلياردو، مذهول لا يكاد يصدق أن الحياة انتهت على هذا النحو، مذعور يتصور أن السجن سيكون خاتمة حياته. الراجل الخواجا الهلكان الذي تصورته — لسذاجتي — محطَّم وصايع لم يكن حقيقةً كذلك، لم يزل كالكلب يلعب بذيله، عرض على العبد لله ذات مساءٍ خمسة جنيهات أفريكي مقابل كل جنيه إسترليني، ولما لم يكن معي جنيهات أفريكي ولا إسترليني فقد أبدى اعتذاره لهذا العرض، وادَّعى أنها لصديقٍ مسافر إلى الخارج للعلاج! وست خوجاية مكرمشة الرقبة منتوفة رموش العين، معصعصة الساقين تستطيع بقصبة ساقها أن تذبح فرخة، ست متهتكة ومتهالكة شرهة تريد أن تشرب من الحياة قبل أن تنتهي، وتمص رحيق الدنيا قبل أن تذهب! البعيد جوزها كان صاحب أكبر مصنع للسلاح في أفريكيا أيام الاستعمار! حِراب يصنع، سِهام يصنع! نِبال يصنع، سكاكين يصنع، خناجر يصنع، مطاوي يصنع، والأفريكان يشترون ويدفعون، والخواجا يكسب فلوس بالكيلة، وبالفلوس يؤسس شركات في بلاد برة، ويدخل شريك في بنك فيما وراء البحار! والخواجا جوزها رجل أعمال ومشغول طول النهار، والمكاسب تلبخ، ولا وقت عنده للحب، ولا وقت أيضًا للهزار، نهاره في مصنع السلاح، وليله على مائدة القمار، والست حَرمه سارحة تلطش في مخاليق الله، والعيال الأفريكان أشدَّاء كما الأسود، فحُول كما العجُول، متدفقين كما الأنهار، والست تشرب حتى ترتوي، وفي البداية كانت بشبابها تصطاد. وفي النهاية كانت فلوس جوزها الطعم الذي يجذب الضحية! فلما أفَلَت شمس الخواجات في أفريكيا، صفَّى الزوج الناصح أعماله واستعد للرحيل، ومجنونة بنت مجنونة الست حَرمه لو سافرتْ معه، من ذا الذي يستطيع أن يروي ظمأها في أوروبا الشاذة المتهالكة؟ شُبان أوروبا الناعمون لا يستطيعون إطفاء نارها المشتعلة، هذا إذا وجدَت من يقبل أن ينظر إليها بعين الرضا! أفريكيا هي البريمو، وأفريكيا وبس، مصنع الرجال التمام، ولا أحد يستطيع أن يسيطر على امرأة بيضة شرهة مثل أفريكي يعدل المزاج! وحزنت المرأة فلا تبرح أفريكيا ولا تسافر، وحزن زوجها أيضًا فأصر على الرحيل، وساومها فساومَته، ومنحَها الطلاق وعدَّة ألوفٍ من الجنيهات، وغادر أفريكيا إلى بلاده، وبقيَت على الشاطئ الغربي لأفريكيا تبحطر فلوسها تحت فخذَيها، وتدفع فلوسها للشديد القوي في ميدان الغرام! وكلما تقدَّم بها العمر ارتفع الثمن الذي تدفعه، وانخفض الرصيد الذي في البنك، وذات صباح استيقظَت على كارثة … الرصيد أصبح صفرًا، وهي نفسها أصبحَت في حالةٍ يُرثَى لها! ولكن أي شيء يَهون وأي شيء محتمَل ولا تغادر أفريكيا، وهي على أي وضعٍ تستطيع أن تعثر على صحبةٍ مقابل زجاجة كونياك أحمى من الزفت. يشربها حتى يفقد عقله، وفي الظلام يصبح كل شيء عند الراغب المحموم سواء، ويا ميت ندامة على المرأة المتهتكة المتهالكة المريضة بداء العُري، ملابسها تكشف أكثر مما تخفي، منظرها يسدُّ النفس ويغم الفؤاد، عروق ساقها كمواسير المجاري، زارقة ونافرة ومتشابكة كأسلاك الكهرباء، شعرها ناحل من الأمام وصالعة، وفروة رأسها مكحوتة كما بلاط متخرب في قصر من بتوع زمان! وعلى وجهها المقدد الملدن مساحيق بخمسة جنيهات، وحول رقبتها بودرة كأنها كعكة عيد مرشوش عليها سكر ناعم بدون حساب! والست مسكينة يا حسرة قلبي، فقدَت فلوسها، وفقدت شبابها، وفقدت عقلها، وأصبحت مجنونة، تبكي لأقل حركة، وتلطم بعد كأس واحد من الشراب! وعواجيز أفريكيا يسخرون منها، وشُبان أفريكيا في غنًى عنها، فأفريكيا عامرة دائمًا بهذا الصنف من النساء! ستجد دائمًا ستات على أعتاب الشيخوخة تتنقل في أفريكيا كالغربان، يلهثن وراء قطار اللذة بكل وسيلة وبأي وسيلة، معهن شنطة ملابس وشنطة فلوس، وستجد نساءً من طرازٍ آخر، ستات في عمر الورد، حلوين كما البغاشة، منفوخين كما التفاح، خدودهن مشدودة كما الغربال، شعورهن سايحة كما السمن البلدي، هؤلاء جئن للتجارة، وهي تجارة لا تحتاج إلى رأس مال، سهرة حلوة، وضحكة ناعمة، وقعدة طرية، وتنهال الشيكات والفلوس، ودائمًا ستجد مع هذا الطراز من النساء زوجًا طيِّبًا يُجيد تغميض العيون، وينام في الوقت المناسب، ويعتذر وأنت جالس مع الست لموعدٍ هام، وقد يسألك أحيانًا عن مائة جنيه فكة، وأحيانًا يثور ويتشاجر مع الست أمامك لأنها ترغب في عربة مرسيدس آخر طراز! أنا التقيْت بواحدة من دول، حلوة كما لهطة القشطة، ناضجة كما الجوافة بتاعة حلوان، معسلة كما التين بتاع برشوم، ريحتها طعمة كما بتاع العمار يا مشمش! والأخ زوجها راجل طويل ومبروم ولابس نظارات، ووجيه أوجه من بطل سينما، يتكلم بهدوء ولا فيلسوف على جبل أثينا، مِقدام ولا هنيبال في زمانه، ولكن الرجل مسكين مُجوَّف من الداخل، وهو يحب الطعام ويحب الرقص ويحب السهر ويحب السفر، ولكنه فيلسوف لا يحب الفلوس! وهو من أنصار زمان، زمان كانت التجارة حلوة، لم تكن معقَّدة ولم تكن صعبة، المقايَضة هي خير وسيلة للحياة، الرأسمالي المستغل يدخل السوق برأس مالٍ ويخرج من السوق برأس مالٍ أكبر، والرأسمالي الطيب يدخل السوق بسلعة ويخرج بسلعة. وهو رأسمالي وطيب، ورأس ماله ست حلوة مهاودة، ضحكتها لها رنين، ولغتها لها سحر! وهو يدخل بها السوق ويخرج من السوق بسيارة كاديلاك، بتذاكر طيارة، بفاتورة لوكاندة، المهم أنه ليس مستغِلًّا، إنه فقط يريد أن يعيش! الست الحلوة وجوزها الْتقيْت بهما ذات مساءٍ حارٍّ كالحريقة القايدة في أفريكيا، الراجل العبيط ظن العبد لله لبناني مليونير، فتبسَّط معي وتلطَّف، وحكمة الله أن أغنى ناس على الشاطئ الغربي في أفريكيا كلهم من لبنان، وكلهم أصحاب ملايين، ورغم جلبابي وتلبابي — ليست لها أي معنى، ولكنه السجع اللعين قاتله المولى — أقول: رغم جلبابي وتلبابي فقد اختصَّتني المرأة بحنانها وجمالها ولعبَت معي بنج بونج، رغم أني لا أجيد اللعب، ولعبْت معها بلياردو وأنا أظن أنها حكشة، وجاعَت الحلوة اللعينة فمالت على أذني تطلب أكلًا، وأعددْت لها ترابيزة، وصفقْت أطلب لها جرسونًا، وطلبْت للست ديك رومي وسلطة خضرا وفواكه بالسبَت وقهوة على الريحة، وتلطفَت أكثر فأجلسَتني على يمينها، وتنازل جوزها فدعاني إلى الأكل معاه، وأكلْت حتى شبعتُ، وأنا حتى هذه اللحظة إذا أكلْت أكلةً حلوةً أصرخ من اللذة، إذا لهفْت فرخةً مشوية أبكي من شدة الانشكاع، وإذا رأيتَ العبد لله يأكل أكلةً طعمة فستحكم على العبد لله بأنه مجنون، لا بروتوكول ولا إتيكيت ولا دياولو، ولذلك أُحرَم من الطعام في الموائد المحترمة، أكلْت مرةً مع سبعة ملوك على مائدةٍ واحدة في مؤتمَر الملوك والرؤساء العرب في بيروت خلال العدوان، وعلى الترابيزة ديوك رومي كما الخرفان، وخرفان كما العجول، وأطباق حلو تشيِّب الطفل الرضيع، وساعةً على المائدة لا أمدُّ يد ولا أفتح بُق، ومصاريني تكاد تزعق بالصوت الحيَّاني تطلب أكلًا، ولكن العبد لله لا يستطيع؛ لأني لو أكلْت لأصبحت فضيحة بجلاجل، والست معجبة غاية الإعجاب، مبسوطة نهاية الانبساط، على الرشاقة والأناقة التي هي طابع العبد لله، وبعد الطعام حضر الجرسون وكانت فضيحة، الست الحلوة ظنَّتني لبناني، وأنا الجعان الفجعان ظننْت أن الست طيبة وغنية وفي أموالها حقٌّ معلوم للسائل والمحروم، ولما كنت أنا المُصفِّق وأنا الطالب فقد دفعْت آخر شلن في جيبي وأخذْت بالباقي علقة! وحلفْت ألفين يمين لا أهوب على واحدة حلوة، ولا أبغبغ مع ست معجبانية، وما دام لا خيل عندي أهديها ولا مال، فلأنكمش في حالي وأجلس في أمان الله، ولكن عقلي الزنخ حرَّضَني بعد ذلك، الحياة تجارب، والتعليم ليس ببلاش، التعليم بالفلوس، أو بالضرب على الأقافي، وما دام فلوس لا أملك، فأنا قفا أملك، وعريض والحمد لله، طويل مضبوط، يستحمل ضرْب أزلي، ولتكن الأكف الهابطة على قفاي العريض هي مصاريف الدراسة! لقحت جتتي مرة أخرى على بار على الشاطئ، السقف من خشب الجوز، والحيطان في لون الورد، والأرض سجاد عجمي، والمشروب ويسكي حلو، والضوء خافت، والموسيقى حالمة، وترابيزة حلوة في الوسط، بنت بيضة وبنت سودة ومعهم رجل أسود، ثلاثة ورابعهم أنا، صحبة حلوة وفاهمين حالي، فأنا مفلس وغلبان وكفران وأستحق الحسنة، وطالب حب ولعب وخمسة هزار، يخففوا عني المواجع! والست البيضة هي كل شيء في القعدة، مُحسنة ربنا يطول عمرها طلبت للعبد لله ويسكي، كريمة طلبت لي طعام، بنت ناس زغزغتني وأضحكتني وقدمت لي البنت السودة، وأشهد وأحلف أنها أجمل من ملكات الجمال، وسهرة حلوة ستكون، وسأمسح بلاوي الليالي الماضية، وسأغني كما حمار وحشي وسأرقص كما جاموسة، وسألعب مع البنت السودة لعبة القط والفأر! ولكن ولد أفريكي طيب دخل البار في الوقت المناسب وسلم من بعيد فتجاهلتُه، فأنا في ساعة التجلي لا أرغب كثيرًا في السلام والكلام! ولكن الولد الأفريكي الطيب شدني من ذراعي وقال: لا تذهب معهم، إنهم عصابة، والست البيضة هي رأس العصابة وعقلها المفكر، وأنت يا غلبان، فراخ ستأكل، وويسكي ستشرب، وعلى الموسيقى سترقص، وليلة حلوة ستقضي، ولكنك ستكون بطل في رواية سيتم تسجيلها بالكاميرا في غفلة عين، وستصبح صورتك غدًا في متناوَل الجميع، وستُباع في السوق بقرش صاغ واحد، وستصبح فضيحة ولا حرامي اتعكم في جامع، ولا راجل مش جدع لا مؤاخذة اتمسك في مولد سيدي إبراهيم! وخرجْت من البار وتوجهْت إلى الشارع، ومن شارع إلى شارع إلى أبعد مكان استطاعت ساقي أن تحملني إليه! وتوبة من دي النوبة لا أدخل بارًا على الشاطئ. بقايا الخواجات في أفريكيا، أوكار لا تزال تشغل حتى الآن بكل أنواع السفالات! وسنحكي عن دخانيق أفريكيا وسراديب أفريكيا والبؤر التحتية في أفريكيا.