الجنة … ومبرات … والست أبابا
معذرةً لإخواني النشَّالين على رصيف محطة مصر، وفي ميدان السيدة، وفي ترماي نمرة ٦، معذرةً لهم جميعًا، سأستعير منهم لفظًا من قاموس النشل المصري هو لفظ الواحدة، والواحدة يا إخواني المنشولين هي المحفظة، ويقولون: كُلِ الواحدة، يعني الْهف المحفظة، ويقولون أيضًا: ضُم الواحدة، ويُقال: سِف الواحدة … والله أعلم!
المهم يا إخواني النشالين والمنشولين … أفريكيا لم تكن قارةً ولكنها كانت واحدة، نشالين أوروبا الحلنجية الزملطحية هبروها ومزقوها ووزعوا الفلوس حسب دور كلٍّ منهم في عملية النشل، الذي شاغَل الزبون له ربع الواحدة، الذي أكل الواحدة له نصيب الأسد، والناضورجي الذي راقب الطريق خوفًا من المخبرين وعساكر البوليس له أيضًا حسنة!
ولقد قامت إسبانيا والبرتغال بمشاغلة الزبون، وهبرَت إنجلترا وفرنسا الواحدة، واكتفَت بلجيكا وألمانيا بدور الناضورجي، فلما تمردَت ألمانيا على هذا الدور طردها النشالون الكبار في حرب ١٤ وانهالوا على الواحدة ينزحون منها آخر بريزة وآخر شلن وآخر قرش تعريفة … ولو امتد بهم الأجل قرنًا آخر لنزحوها إلى آخر عشرين خردة وإلى آخر بارة وإلى آخر صولد!
ومن أجل الفلوس فعل النشالون كل شيء وأي شيء، استولوا على الأرض، وباعوا الناس في المزاد، وهبروا الغابات والحيوانات، وفحتوا الأرض، فلما انقفلت كل الأبواب وانسدَّت كل المسالك تاجروا بالدين واتجروا بالأعراض!
وللحكيم الأفريكي حكمة تقطع نياط القلب: «في البداية كان معنا الفلوس وكان معهم الإنجيل، وفي النهاية أخذوا الفلوس منا وأعطونا كتاب الرب!»
ولذلك ستجد في أفريكيا محلات ولا مؤاخذة فشر بيوت الجيشا في اليابان، محلات آخر مودرن وآخر طراز، وستجد كل شيء فيها أفريكيًّا أسود، البنات، والخدم، والحشم، إلا الكيس فصاحبه رجلٌ أبيض!
العبد لله كان يتمشى على شاطئ البحر في أفريكيا، وعلى الصفَّين محلات ولا البيجال في باريس، بارات صغيرة منظرها حشمة، وتدخل فيها فلا تلمح شيئًا، أنكت من هذا: على الجدران صور القديسين والشهداء، صور ناس طيبين، وحول الرءوس هالاتٌ فجَّ النور منها!
وعندما اقتحمْت بار الكناري — وبالعربي بار البط — لم أجد شيئًا إلا بارمان أصلع حالق بمنشار، وواحد سكري يتناوَم، وبنت سودة حلوة، وجهها زي الحلاوة العسلية، مسمسمة زي الكتكت، شعرها مفلفل زي العروسة اللعبة، جسمها مفصل مفصص كأنها بنت بلد بريشة جمال كامل! ثوب البنت بسيط وأنيق، ومساحيقها نادرة، ومن عنقها يتدلى صليب على النهود يتأرجح! أنا ظننتها — لخيبتي — تلميذة في مدرسة داكار الإعدادية، بنت ناس طيبين، منتظرة واحدة قريبتها، مسافرة مثل حالي، فاتها القطار فجاءت إلى البار تسكر وتتمنجه! ولكن لفَت نظري كتابات كثيرة على الحيطان وبألوانٍ فاقعة، رُحت أقرأ ولم أفهم. الكتابة كلها بالفرنساوي، وأخوكم يفهم في الفرنساوي كما يفهم سيد الملاح في علم الذرة.
ملحوظة: «سيد الملاح» يفهم كويس في الذرة!
الله يخرب بيت الجهل؛ لأن حديث النبي المختار: «من تعلم لغة قوم أمن شرهم.» ولو أنا تعلمت لغة الفرنساوي لأمنت شر البت الكرملة … البت الذكية الفهلوية أدركَت أنني مَقطَف فنهضَت وجاءت لحد عندي، وسألَتني: تعرف إنجليزي؟
أجبْت: أعرف على ما قُسم!
أخوكم الضعيف يخاف أن يجيب بنعم إذا سألني أحد … هل تعرف الإنجليزية؟
السبب يا إخوتي أنني عندما زرْت لندن أول مرة دخلْت مدرسة في أكسفورد ستريت، ودخل الأستاذ، إنجليزي تمام، يتكلم من طاقةٍ واحدة من مناخيره، والطاقة الأخرى يستعملها في الشهيق والزفير!
سألني الواد الأستاذ: هل تعرف شيئًا من الإنجليزية؟
فقلت على طريقة ابن البلد البلطجي: نعم … أنا أعرف الإنجليزية كويس جدًّا. ونظر نحوي في بلاهة لا أدري، في خبثٍ لا أعرف، وناولني كتابًا وقال: اقرأ. وقرأْت وتلعثمْت وهطل العرق على وجهي كما تهطل أمطار الصيف على جبال بلاد الحبش، وانكسفت كسفة دباغ ظبطوه على ترابيزة عشا بدون دعوة.
وفي النهاية سألتُه أنا: كم عام يلزمني يا خواجا لأعرف الإنجليزية بدرجة جيد جدًّا؟
وقال الواد الأستاذ الإنجليزي: بدرجة جيد جدًّا؟
– آه يا خواجا.
وفكر قليلًا وقال: حوالي … مائة عام!
وعرفْت بعد ذلك أنها ليست نكتة، فليس في العالم من يجيد الإنجليزية بدرجة جيد جدًّا … كان في العالم اثنان فقط يتكلمان الإنجليزية كما ينبغي أن تكون: تشرشل، والثاني المرحوم نهرو … وكانا يتكلمان الإنجليزية بدرجة جيد وبدون جدًّا! لذلك لم أكن متواضعًا عندما أجبْت على سؤال البنت الحلوة … على ما قُسم … بل كنت مغرورًا أشد الغرور! المهم، البنت السودة الطعمة قرأت الكتابة وترجمَت، على الحيطان مواعظ هلس وحِكم هلس! وكلمات مأثورة تصلح شِعارًا لغرزة … والمرأة القبيحة ضمان لك من دلال الحلوين، واللذة هي قمة جبل الحياة، والشجعان هم الذين يتسلقون الجبل إليها، وكلمات أخرى لا أستطيع نقلها هنا؛ لأن أي قانون عقوبات في العالم يعاقِب عليها، حتى قانون عقوبات المسرح الكوميدي. البنت الحلوة الطعمة غمزتُها بسيجارة إنجليزي، فغمزَتني بسيجارة ملفوفة لها طعم العجمية ورائحة المسك، يبدو أن شكلي — والله أعلم — يوحي بالعبَط أو يوحي بالثراء. بعد نفسين من السيجارة شدَّتني البنت من يدي واقتحمَت بابًا لا يلفت النظر. الباب الصغير الضئيل الحقير يؤدي إلى شيءٍ باهر كالحقيقة غامض كالأحلام، صالة ولا صالة تزحلُق على الثلج، باركيه ناعم فشر صلعة باشا فخيم الصلع! على الحيطان صور بالكاميرا ولوحات بالزيت، تصلح كلها متحف لتاريخ العلاقة بين المرأة والسيد الرجل، وكل شيء في الصالة وأي شيء مخصوص وتمام من أجل اللذة، الأنوار خافتة، الموسيقى كأنها نغمات صادرة من قلب المحيط، البار من خشب الورد، في الأركان موائد خضراء، عليها مفارش جوخ فشر جُبة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الحيطان نفسها مبطَّنة بالقطيفة، حمراء كما البطيخ المجيدي، ليِّنة كما الفطير المشلتت … عجائب الحياة في هذا المكان أن كل الرجال بِيض كالشمع، وكل البنات سُود كما أرض المنوفية، والرجال سقعانين مرتاحين مدلدلين، والبنات نار والعة، جسم وكسم وشكل سبحان الذي صور والذي دور!
البنت السودة الطعمة التي هبرَتني وأدخلتْني الجنة — وعلى فكرة اسمه الجنة — البنت الطعمة الحلوة اسمها أبابا، حبشية هاجرت من شرق القارة إلى غربها. من أديس أبابا إلى الخرطوم إلى كانو إلى لاوس إلى أكرا إلى داكار، كانت تملك محلًّا في العاصمة الحبشية، وهبط عليها ذات مساءٍ راجل أوروبَّاوي من الدقَّة القديمة، ساعة جيبه أكبر من الرغيف البلدي، كتينة الساعة ذهب خالص بندقي، برنيطة سيادته بحوافي ولا برنيطة واد شقي من بتوع تكساس، الحذاء أسود أجلسيه لمِّيع عليها مفرش جوخ معتبَر، أسفل ذقنه لُغد ولا رأس عيل صغير، محفظته منتفخة ولا بنك كاتنجا! وأُعجِب الرجل بالمكان وبالست صاحبة المكان، وعرض عليها الزواج ووافقَت على الفور، وفي أول يوم وصلتْ فيه داكار ملكةً أدركَت أن الرجل الذي هو زوجها، ملِك الليل في داكار، وداكار هي ملِكة الليل في أفريكيا، كانت زمان مخزن لتخزين العبيد وتصديرهم للعالم، واليوم أصبحَت همزة الوصل بين أفريكيا وأمريكيا، ومن داكار عدِل تطلع على أمريكا الجنوبية، ومن داكار تستطيع أن تتوغَّل في القارة إلى أي اتجاه، الراجل الأوروبَّاوي السمين أبو لغد تخين تزوج البنت الحبشية؛ ليستفيد بعلمها وبذوقها، ولأن الراجل الأوروبَّاوي مليان ودفيان فقد قبِلَت البنت الحبشية، وصفَّت أعمالها في أديس أبابا وفي الخرطوم، فقد كانت تملك أكثر من بيت للمتعة على شاطئ النيل الأبيض! وشمَّرَت البنت عن ساعدها واشتغلتْ بهمة، جميع البنات البيض طردَتهنَّ من بيوت داكار، الرجل الأوروبَّاوي الوافد على أفريكيا من وراء البحار لا يريد أن يرى نفس المناظر التي يراها في نيويورك أو باريس أو لندن، إنه قادم إلى أفريكيا ليعيش في جو أفريكيا، والمرأة البيضة المهلبية ستفسد المنظر، وانتعشَت أعمال الرجل الملظلظ.
على يد الست أبابا، وأبابا يعني الزهرة، وهي فعلًا زهرة، شكلًا ورائحةً وطعمًا، ذكية تعرف تلاغي، جريئة لا تخاف، وأبابا مسحَت القارة طولًا وعرضًا، ومسحَتها كيبتاون إلى الجزائر ومن نيروبي إلى ساحل العاج، وأبابا الخبيرة العليمة تعرف أن أجمل ليلٍ في أفريكيا كان في ليوبولد فيل قبل أن تحترق الكونغو بنار الثورة … ويأتي بعدها أديس أبابا فنيروبي، ثم داكار في آخر قائمة الدوري!
وملوك الليل في كل هذه الأماكن عصابةٌ واحدة، وشركةٌ واحدة، وعلى اتصال دائم لتحسين العمل ورفع مستوى الشغل. ولأنهم أصحاب مصلحةٍ واحدة فقد اجتمعوا يومًا ضد الثورة المشتعلة في أفريكيا … بيوت الهوى والغرام والمتعة اللذيذة كانت مراكز للثورة المضادة، البت جوليانا ملكة الليل في الكونغو كانت أكبر أعوان تشومبي ضد لومومبا، وعندما قبضوا عليه وجرجروه في الحبال، سهر الجنرال تشومبي، الذي هو في الجنرال تمام كما الجنرال إليكتريك والجنرال موتور، سهر حتى الفجر، وفي الصباح منحَته جانيت وسام ربطة الرأس، وهو إكليل من الذهب الخالص، عليه قطع تشبه العملة، على كلٍّ منها صُكَّت صورة جانيت عارية حتى من السوتيان! ولأن العين كانت مفنجلة والمحفظة مفلسة فقد اكتفى العبد لله بالسنكحة والبحلقة.
شارع الميناء في داكار يمتلأ بكل عجيبة وعجيب، محلات لشرب البيرة، ومحلات لتدخين المسائل، وهي مسائل ليست غبارة ولكن غبرة، ريحتها كما ريحة كلبٍ ميت على الطريق الزراعي، نفَس واحد منها يقلب ثور صومالي، والشارع نفسه يعج بالناس من كل الأجناس، بحَّارة من بنما، وخواجات ركاب من أمريكا، وسياح من أوروبا، وصياع من البرتغال، وتجار من لبنان، وناس بشوارب من اسكتلندا، وناس بذقون من الهند، وكل شيء حاضر وجاهز وعلى ودنه كما بيروت في زمانها، محلات ستربتيز تلاقي، محلات قمار تلاقي، محلات نصب تلاقي، ويا بخت من ينزل داكار ويطلع سالم، وعيال قبارصة كما القشاط، معهم مسدسات صوت ومطاوي، ومقصات يضربون، روسيات يبطحون، رُكب يقفعون، مَحافظ ينشلون، قماش مغشوش يبيعون، واحد قتيل يُهربون.
وإذا كان اللبنانيون والهنود معهم مفاتيح الباب المشروع في داكار؛ فالعيال القبارصة معهم مفاتيح الأبواب الخلفية!
وإذا كان الأوروبي السمين هو مالك الليل؛ فالعيال القبارصة هم ملوك ملِك الليل نفسه؛ لأنهم رسوم على الكباريهات يحصلون، وفردة من البنات يقبضون، ومن يحتج يأكل لما يشبع … وربما بعدما يشبع!
أنا نفسي كنت هاكل علقة ولا زنجي في بلاد الأمريكان، البت مبرات عجبتني وشغلتني، وحدثتها وحدثتني، وضحَّكتها وضحَّكتني، والبت مبرات حبشية، وعجبي على الحبشيات، أهل لطافة وظرافة ونظافة آخر تمام! ومبرات يعني النور، يعني الضوء، على جبينها الأسمراني صليب، مدقوق، وعلى ذقنها صليب آخر، وحول عنقها صليب، وعندها من المبررات ما يجعلها أكثر الناس إيمانًا، لا تصدق أن الناس الطيبين هم أكثر الناس إيمانًا، أنا أعرف واحد مأمور مركز كان في الريف منذ عدة أعوام، وكان أغنى من هولاكو، وأظلم من فاروق، وكانت المسبحة دائمًا بين أصابعه، وسجادة الصلاة دائمًا خلف ظهره، وكان يربط رأسه بفتلة صوف خضرا وكأن رأسه مجزوعة أو مقصوعة، وكان من أهل الطريقة الخلوتية، ومن أتباع محمد الكحلاوي! وابن قلاوون أيضًا كان عهده أكثر العهود ظلمًا وظلامًا وغمًّا وهمًّا، وجثث ميتة في النيل ألقى، وجثث صاحية على الخوازيق وضع، ومؤامرات صنع، وحمامات دم عمل، وفي الوقت ذاته أقام مائة مسجد! شيء طبيعي لعل الله يغفر له سيئاته ويتقبله قبولًا حسنًا!
البنت مبرات من هول ما صنعت ومن هول ما ارتكبت، دقَّت الصليب على جبهتها وعلى ذقنها، ولو تقدر لدقَّت الصليب على بطنها وعلى ظهرها! والله على مبرات وأنا قاعد معها، على رصيف الميناء والهوا الطازة يسفخ في عظمنا، والبنت في ثوب يصلح للبحر ولا يصلح للشارع، وأنا بالجلباب السكروتة والشبشب زنوبة، والسبحة بين صوابعي، والسيجارة البلمونت بين شفتي، والريحة آخر هفهفة، والجو آخر مملكة، والبنت مبرات حساسة وحشاشة، ضحكتها ترن ولا طبلة مسحراتي، وعيونها تبرق ولا كلوب في قهوة على ترعة المحمودية، وفجأتن على رأي واحد صاحبي، هبط علينا واد أبيض كما بتوع روايات هوليوود، بشورت أزرق وفانلة صنع المحلة، وجزمة كاوتش من بتوع باتا، وشعر ناعم مسبسب نازل على قفاه، وسوالف يا ميت حلاوة ولا سوالف سيد درويش، وأكتاف ولا أكتاف سيد نصير، وعود ولا رضا بتاع الإسماعيلي، ورجولة ولا ميمي درويش، ونظر للعبد لله كأنه ينظر إلى ذكر كابوريا، ولف البت مبرات قلمين ثلاثة، ووضعْت إيدي على القزازة التي أمامي أبغي ضربًا، فلما رأيْت الهيئة فشخْت بُقِّي عن ابتسامة، وقربعْت من القزازة كأنها هواية عندي من زمان!
ويا ميت ندامة على اللي حب ولا طالشي، الواد إياه قُبرصي تمام، وله سلطان على البنت مبرات، ولا سلطان الاستعمار على الولد البدر، وبعد الأقلام التي طرقعتْ ورنتْ، سحب البنت مبرات من إيدها، وباسها كما الواد الممثل في فيلم من إنتاج جولدوين ماير!
وبقيتُ وحدي مذعورًا أقرأ الفاتحة دَورًا، وأقرأ الصمدية دور آخر، ثم أطلقْت ساقي للريح هربًا إلى الميناء!
أغرب شيء سمعتُه في داكار أن بعض المسلمين الحجاج يسحبهم المتعهدون من قلب القارة إلى شاطئ داكار باعتبار أن الحج هناك.
حكاية سمعتُها ولا أستبعدها، فكل شيء ممكن وكل شيء ماشي في داكار. بيوت المتعة لا تكتفي بتقديم المتعة فقط، ولكنها تقوم بتصديرها خارج الحدود. والرجل الأبيض الذي ذاق كل أنواع اللذة، وتمرمغ كما الحمار لا مؤاخذة في كل أنواع المتعة، أصبح ملولًا يريد أن يجرب شيئًا آخر جديدًا! وفي أوروبا البنت الآن معجبة بالرجل الأسود، في شوارع لندن وباريس وبروكسل … كل بنت كما لهطة القشطة ساحبة واد كما قطعة الفحم، والبنت الأوروبية الشاذة هي التي تحب الرجل الأبيض، أما البنت السوية المستوية فهي التي تحب الرجل الأسود الفطيس. الرجل الأبيض اليوم يقلد الست بتاعته، وكل راجل أبيض يموت في بنت سودة، وبعض البيض غير متوفر لهم السفر إلى حيث موطن البنت السودة، فلا أقل من أن تنتقل البنت السودة إلى حيث موطن الرجل الأبيض. واليوم تعبر البحر إلى أوروبا قوافل وعليها عبيد، ولكن الصنف كله نساء. تجار الليل في أفريكيا هم أصحاب البضاعة، وهؤلاء البنات شحنة مرسلة من الباب للباب إلى أحياء الدعارة في باريس وفي لندن وفي لاهاي وفي فرانكفورت! ليس هذا فقط ولكنهم يشحنون أيضًا خدامات للعمل في أوروبا … والبنت الأفريكية سعرها أرخص من تراب لندن! وهي في الخدمة بريمو، تخدم وتغسل وتطبخ بشلنات لا تكفي لوجبة طعام في بلاد برة. أفريكيا الغلبانة … خطفوا منها رجالها في الماضي واليوم يخطفون منها نساءها … بؤر الرذيلة في أفريكيا أشياء لا تخيف، وهي على عكس مثيلاتها في أوروبا، لها نفس الشكل ولكن دلالتها عكسية. في أوروبا هي قمة حضارة، وفي أفريكيا هي علامة على نهاية نظام. النظام الذي استقر واستمر خمسمائة عام لا تزال هذه بقاياه … ولكنها بقايا كالشمع تسيح الآن تحت شمس الثورة في أفريكيا. ستجد هذه البقايا موجودة بكثرة في البلاد التي تقاتل الآن معركة المصير! وهي الآن مجرد فلول تهرب وتتجمع في مراكز، في انتظار اللحظات الحاسمة، وموعدها في أفريكيا قريب!
في غانا مثلًا في عهد نكروما … بنات الليل — مخلفات عصر الاستعمار — يعملن الآن في محلات البيع والشراء، وبعضهن يعملن الآن في حقول الكاكاو. أكبر مراكز بيع اللحوم البشرية للمتعة والمزاج في داكار وفي كاتنجا وفي أنجولا وفي روديسيا وفي رأس الرجاء الصالح، أو الطالح لو كانت الأسماء تنطبق فعلا على المسمَّيات!
وعندما تؤمِّم أفريكيا ثروات البيض الأغنياء فهي تسترد لأهلها أحقر عملة تضخَّمَت من عرق النهود وعرق الأفخاذ. ملوك الليل في أفريكيا الناصحين المفتحين، كسبوا من النساء، وبنوا بالفلوس فبريكات سجاير، وشركات خمور، ومصانع سلاح. ملك الليل زوج الست أبابا هو ملك مكاتب تصدير الكاوتشوك والقصدير والكاكاو!
الرجل القواد أصبح أكثر الناس احترامًا في الهيئة الاجتماعية، وأكثر الناس نفوذًا هناك. ولو فيه عدل … ولو فيه محكمة عادلة لحكموا على الرجل السمين بالتخريط كما الملوخية، وبالتمليح كما الفسيخ، وبالتقطيع كما لحمة الرأس! ليس البِيض فقط وحق الله ولكن معهم أيضًا بعض السود الدفيانين المليانين … وذنب هؤلاء أكبر!
وأنا في أكرا حكمت المحاكم على ثلاثة من كبار الأثرياء بالسجن مدى الحياة؛ لأنهم نصبوا على الحكومة في صفقة ولا صفقة السلاح الفاسد في فلسطين. الأثرياء الثلاثة كانوا عملاء الاستعمار وقلنا معلهش، ثرواتهم مشبوهة وقلنا معلهش، ومشوا مع الثورة وقلنا زي بعضه، واشتغلوا مع العهد الجديد في أفريقيا وكسبوا من وراه وقلنا ماشي، وباب الثورة يتسع للجميع!
ولكن الحادثة التي جرت تُثبت أن الحية لا يمكن أن تتحول إلى دودة، والكلب لا يصبح أسدًا ولو غيَّر جلده، والحمار لا يصبح حكيم الزمان ولو ارتدى نظارةً بشنبر سلك!
الأثرياء الثلاثة بتوع غانا ورَّدوا للحكومة آلات لرش المبيدات، الآلة بخمسين جنيهًا إسترلينيًّا، ولكن الآلة كانت خسرانة، ومش بس كده ولكن الآلة بعشرين جنيه ثمنها في لندن، فباعوها بخمسين جنيهًا للحكومة وهبروا مليون جنيه مكسب من عرق ودم الشعب … والثلاثة مركزهم لندن، فأرسلَت الحكومة تطلب منهم الحضور من أجل صفقة جديدة، وصدَّقوا العُبط فحضروا على طائرةٍ سريعة، وفي المحكمة لطموا وعيطوا كما النساء خلف ميِّت طالع من حواري الجيزة، وسجنوهم مدى الحياة وصادروا أموالهم في غانا.
أولاد الهرمة حطَّموا العالم الذي كانوا أسياده، ويحاولون اليوم تحطيم العالم الجديد. ملعون أبو الفلوس تعمي العيون وتضع غشاوة على العقول. وبدلًا من أن تشبع الإنسان تتحول إلى جيفة يتبعها الإنسان كالكلب. ولكنها دائمًا تقوده إلى السجن، وتقوده إلى المشنقة، وتقوده إلى اللعنة، وإلى البصق على الوجه!
ومن أجْل الفلوس تاجروا في أفريكيا بكل شيء، بالناس وبالأرض وبالعِرض وبالدِّين! ولكنها الفلوس مُحركة التاريخ، وصانعة الثورات، وسرُّ كل شيء حقير وكل شيء عظيم على هذه الأرض.
وما أكثر حكايات الفلوس وأصحاب الفلوس وعديمي الفلوس في أفريكيا، متَّعكم الله بالفلوس الحلال وجنَّبكم شر الفلوس الحرام.