الغروب … وبعد الغروب
أفريكيا القديمة تتلاشى الآن وتختفي لتفسح الطريق أمام أفريكيا الجديدة. أفريكيا الصيد والقنص والغابات الكثيفة والرقص ملط زلط في طريقها إلى الزوال … وأفريكيا الثورة والاشتراكية والعلوم الحديثة تأخذ طريقها الآن فتيَّة وقويَّة؛ لتحتل مكانها تحت الشمس. غير أن عملية التحويل تلقى عقبات أعلى من جبل المقطم … وتصادف مطبات أعمق من البحر الأبيض! جماعة المنتفعين بأفريكيا يقاتلون الآن معركتهم الأخيرة! في سبيل الاحتفاظ بشيء … أي شيء!
وهؤلاء المنتفعون أدنياء كما الضباع، حُقراء كما الجرابيع، أرذال كما الجراد المغير! ولقد حاربوا الثورة الأفريكية في البداية بالسلاح، فلما فشلوا لجئوا إلى الحرب في الظلام، وهم الآن تجار السوق السوداء، وزعماء عصابات التهريب والتهليب، الله يخرب بيتهم وبيت أبوهم، بيض كلهم هؤلاء اللصوص ومعهم أيضًا بعض العملاء الأفريكان أصحاب السطوة والنفوذ في الزمن القديم!
أحد هؤلاء أبيض ومن الشرق الأوسط اشترى مرةً كل مدينة أكرا بمائة جنيه لا تزيد، وكتب معاهدةً مع زُعماء القبائل يتعهدون فيها بحمايته من أي عدوان، مقابل ألف متر قماش كستور كل عام، وكسب الأبيض الفهلوي نصف مليون جنيه من بيع أراضي أكرا لأهلها الأفريكان! أحفاد هذا الأبيض النصَّاب يعملون الآن بجنون في التهريب، مقابل كل جنيه إسترليني يدفعون خمسة جنيهات أفريكية، عملية تكسير في ضلوع غانا الفتية، ومص دم من عروقها، ليس بالشفاعة ولكن عن طريق الغب مباشرة بالفم، ولا واحد مفجوع عاكم سلطانية طرشي بلدي الله عليها!
ولكن … قبل أن يأخذنا الحديث ينبغي أن نحكي لكم قصة الثورة والثوار في أفريكيا. وما أحلى الحديث عنها وما أحلى الحكايات فيها وما أغرب وأعجب ما حدث ويحدث حتى الآن! عندما اشتعلت نار الثورة في أفريكيا اشترك فيها الجميع، أغنياء يملكون الضياع ومعهم فلوس في البنوك، وعندهم حشَم وخدَم وخير الله كتير، ولكن لأن عين الإنسان فارغة ولا يملؤها إلا التراب، فقد ثار السادة الأغنياء ليغتنوا أكثر! فهم بحكم أنهم خدامون للسادة البيض، فلو انطرد البيض فسيكون هؤلاء هم السادة الجدد، وسيصبح الجميع خدامين عندهم، وبدلًا من المال وحده سيصبح عندهم المال والسلطة والعمر الطويل! ومع الأغنياء اشترك أيضًا أفندية بكرافتات ملونة وقماش إنجليزي مخطط، وغاية الثورة عندهم أن يتكلم الناس، وأن يكون لهم حق البغبغة بالكلام! وهؤلاء حلموا بالثورة في جنينة هايد بارك، وعلى سلم الجمعية الوطنية الفرنسية أيام الجمهورية الرابعة، وغاية الديموقراطية عندهم … هي حرية الكلام، ولكن هؤلاء الأفندية نسوا، أو ربما تناسوا، أن حق الكلام يصبح في النهاية لمن يأكل أكثر ويعمل أقل! لأنه سيكون لدى هؤلاء فرصة للسهر والاجتماع والكلام، أما الفلاح الكفران الغلبان الذي يعمل في الحقل من النجمة لغروب الشمس … هذا الفلاح لن يجد فرصةً حتى … للاستماع!
المهم أن الثورة قامت، وقام معها كل الناس … العاطل الذي يبحث عن عمل والفلاح الذي يبحث عن أرض، والأفندي الذي يبحث عن مكتب، والغني الذي يبحث عن سُلطة، مولد وكل الناس فيه، فلما نجحَت الثورة بدأ الخلاف بين الثائرين! كان في الثورة فريق يطالب بالثورة المستمرة، بتوزيع الأرض، بتوزيع المال، بتوزيع الفرص، بتوزيع العدل … وكانت ثورة عبد الناصر الأفريكية العربية هي المثل الأعلى لهؤلاء الثوار، ولكن عندما بدأت الثورة في بعض بلدان أفريكيا تسير على هذا الطريق؛ انشق عليها الأغنياء في البداية، ثم بعد فترة خرج عليها الأفندية المثقفون! وهكذا اتلم المتعوس على خايب الرجا! واتلم عليها أيضًا كل إمعة، وكل صاحب منفعة! كل زعيم قبيلة يريد أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه … الناس تبقى عرايا، والرقص على ودنه، والجوع على ودنه، وكرسي الرئاسة والقداسة للسيد الزعيم!
وكل تاجر يشتري بقرش ويبيع بعشرة، وعنده من الفلوس مليون، وعند الآخرين برد وبلهارسيا وروماتيزم ينشر في المفاصل وفي العظام!
وهكذا أصبحت أفريكيا أفريكتين: واحدة ثار فيها الجميع، فلما نجحت الثورة وسكت الجميع اكتفوا بطرد الحُكام البيض ووضعوا مكانهم حكام سود، واكتفوا بطرد الأغنياء البيض، وسلموا البنوك للأغنياء السود! ولأن الحكام السود والأغنياء السود أولاد أصول فقد واصلوا العلاقة القديمة بالسيد الأبيض، وهكذا أصبح السود مندوبين عن البيض … ليس إلا! والآن أصبح كل شيء على ما هو عليه، وكأن الثورة لم تقم وكأنها أيضًا لم تكن! وكأنك يا أبو زيد لا رحت ولا جيت. ولكن هناك أفريكيا ثانية جديدة، الثورة فيها مستمرة، والثورة فيها على طول. وهذه الأخيرة تلقى متاعب ومصاعب ومؤامرات! ولكن الثورة فيها تتغلَّب دائمًا، وتهزم أعداءها دائمًا، وتنتصر على طول الطريق؛ لأن الثورة فيها ليست موضة وليست بدعة، ولكنها مطلب الجماهير الحافية، والجماهير التعبانة، والجماهير التي نضجت على نار الفقر وعلى نار القهر!
واحد من دول الْتقيْت به في بلد أفريكي متحرر، زعيم قبيلة كان يعيش طول العام في العاصمة، ينام في قصر مفتخَر، ويأكل حمام مفتخر، ويقربع ويسكي ويلعب قمار طول الليل، وبناته في لندن، وأبناؤه في نيويورك! ومرة كل عام يذهب إلى القبيلة، يرتدي الخرز ويرقص رقصة الحرب، ويجمع الإتاوة ويعود ينفق منها على نفسه في العاصمة وعلى عياله فيما وراء البحار! الزعيم الأفريقي الذي كان يجب أن يُحتذَى في نظره هو كازافوبو، الخائن ابن الخاينة رئيس جمهورية الكونغو ليوبولدفيل … وهو زعلان وقرفان لأن أفريكيا لها تقاليد توشك أن تندثر، وهو زعلان لأنه رجل تقاليد، والجهل من تقاليد أفريكيا وينبغي الإبقاء عليه، والفطرة من أهم مميزات أفريكيا، وينبغي المحافظة عليها، الراجل الزعيم القبائلي السابق عقليته سياحية، فلو فرضنا وأصبحَت أفريكيا بلدًا أوروبيًّا كما يحلم الثوار، فما الذي يُغري الأوروبي على المجيء إلينا، وأي شيء يثير خياله لينفق عندنا الإسترليني والدولار؟! الراجل إذن ثائر ضد النظام الجديد، ولكنه ليس من الثوار الخطرين؛ لأنه هايف وجاهل وعقله مثل نعل الجزمة! إنه يريد في النهاية أن يحيط أفريكيا بسورٍ هائل، فلا إصلاح ولا تغيير ولا دياولو، ويجلب السواح من أوروبا، وكم هير يا خواجا، وجيت ون سيجاريت، وثانك يو، وكان الله بالسر عليم! وما دام هو سوف يقبض وسوف يصرف، وسيكون آخر مزاج وآخر انشكاع، فكل شيء في أفريقيا هادئ وعال والحمد لله!
ولكن أخطر أعداء النظام الجديد، هم السادة الأفندية الذين تلقوا قشور العلم في جامعات لندن! الأفندية الممصوصين الناشفين المعصعصين المريشين، وكلهم بنظارات طبية ولها شنابر! وهؤلاء ليسوا ضد الثورة ولكن ضد «أسلوب» الثورة. إنهم يحلمون بحديقة مثل هايد بارك، ومجلس عموم يتكلم فيه الناس كما يشاءون، جرائد تقول ما تريد، وهم في النهاية ضد الوضع القديم أيضًا، ولكن موقفهم هذا جعلهم من أشد أنصار النظام القديم، ولو نجحوا فيما يريدون لعاد النظام القديم بكل هيئته وكامل عُدَّته!
أفندي من دول، مسلول مثل حالي، ضبش لا يكاد يرى أبعد من طرف جاكتته، يتكلم بسرعة مدفع رشاش، ولعل عيبه الوحيد أنه يتكلم ولا يسمع، ولا يريد أن يسمع لأنه لا يعطي أحدًا فرصة الكلام!
أغرب شيء أن الأفندي إياه يعشق لومومبا ويحبه، لومومبا شهيد أفريقيا، لومومبا مسيح عصره. ولكن لومومبا الطيب يا حضرة الأفندي، قتله أعداؤه لأنه لم يقتلهم؛ لأنه اتبع أسلوب سيادتك، عاملَهم بالكلام فقاتلوه بطلقات الرصاص! ومع ذلك فالأفندي لا يريد أن يقتنع، إنه شاعر وليس ثائر، وهو لا يريد دولة حرة، ولكنه يرغب في قبر ويشبع عياط عليه!
ولكن … لا خطر على الثورة الآن في أفريكيا، إنها أقوى من أعدائها. وجيل الثورة الجديدة يتكون الآن، وعلى أكتافهم ستقوم أفريكيا الجديدة، وسيظل ثوار أفريكيا يحملون السلاح لحماية الثورة حتى يتولى الجيل الجديد مسئولياته. واحد من هؤلاء — أبناء الثورة الأفريكية — اقتحم عليَّ الحجرة في فندق الأمباسادور بأكرا وجاء يناقشني في الوحدة الأفريقية، إنه يحلم بقطارٍ سريع يقوم من القاهرة إلى كيبتاون في جنوب أفريقيا، ثم يخترق بطن القارة إلى كانو ولاجوس وأكرا، ثم يعبر الصحراء الكبرى إلى المغرب والجزائر، ثم يعود من جديد إلى القاهرة! ويحلم بعملة أفريكية واحدة، على وجهها رسم للأهرام كأثر أفريكي شهير، وعلى ظهرها رسم للتمساح لأنه حيوان أفريكي، ولأن أفريكيا قارة البحيرات والأنهار! ويحلم بجامعة أفريكية للسياسة في القاهرة، وجامعة أفريكية للفنون في أكرا، وجامعة أفريكية للعلوم في الجزائر، وجامعة أفريكية للفلسفة في الخرطوم! ويحلم بجيش أفريكي قوي يحرس شواطئ القارة الشمالية من أوروبا لأنها العدو التقليدي، ويحرس شواطئ القارة الغربية من أمريكا لأنها العدو الجديد.
الولد الثائر العجيب لا يحلم ولا يتنبأ، ولكنه يقرأ الغيب، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح. إنه الآن في العشرين من عمره، وستتحقق هذه الأحلام كلها قبل نهاية القرن العشرين، وسيكون الثائر العجيب وقتئذٍ في الخمسين وربما في الخامسة والخمسين! وفي خلال ثلاثين عامًا ستُصنَع الأعاجيب، لا تندهش أيها الأخ، فمنذ عشر سنوات … ربما أقل، لم يكن في أفريكيا كلها سوى عبد الناصر. ولكن هذا الرجل وحده استطاع أن يصنع المعجزات. منذ عدة سنوات مثلًا كان ملك المغرب في المنفى، وكان لومومبا موظفًا في مصلحة البريد، وجومو كينياتا في السجن، وبن بيلا في السجن، ونيريري وسيكوتوري ونكروما يكافحون، بعضُهم في الخارج وبعضهم من خلف الأسوار. وكان المسافر من أكرا إلى القاهرة لا بد أن يمر أولًا بلندن، والمسافر من القاهرة إلى كوناكري لا بد أن يمر أولًا بباريس، وكان لا بد من تأشيرة مرورٍ إنجليزية أو فرنسية أو بلجيكية أو إسبانية أو إيطالية لمن يريد الدخول في أفريكيا، ولم يكن لنا عملة ولكن التعامل بيننا كان يتم بفلوس الغير، ولم تكن لنا أعلام ولا أناشيد، وكان أغلبنا صياع في لندن وفي باريس، وكانوا يضحكون علينا فيقولون لنا إننا مواطنون مثلهم، لنا نفس الحقوق وعلينا نفس الواجبات، وكنا نسافر إلى الوطن الأم لندن، فنكتشف هناك على ضوء لمبات النيون أن واجباتنا ثقيلة وحقوقنا مفيش، وأننا أحرار نستطيع أن نعمل في أية مهنة تروق لنا من أول كناسين في الشارع إلى كمسارية في الترماي!
مع الولد الثائر العجيب، أفندي نص عمر في سن حضرتنا، كاتب وأديب له روايات وقصص، داير لف أوروبا كلها، وعاش في لندن أغلب حياته، وذهب إليها أول الأمر ليتعلم، والتعليم في جامعات لندن بدون فلوس، التعليم بالمجان. فَطار عمنا فيكتور إلى هناك، ولكنه اكتشف هناك أن التعليم صحيح ببلاش ولكن الحياة غالية، ولكي تتعلم لا بد وأن تكون من الأغنياء، وفكَّر فيكتور أن يعمل ويتعلم، فاشتغل عامل منجم في اسكتلندا. ولكن العمل في المنجم شاقٌّ وصعب ولا يمكن أن يترك لك فرصةً للتعليم … فهجر المنجم واشتغل شيَّالًا في ميناء ليفربول، وانكسر وسط عمنا فيكتور على رصيف الميناء. واضطر إلى النوم في حجرة باردة مع عشرين أفريكيًّا مثله، يشربون الروم ويفتحون المطاوي قبل النوم، ويسبون الدين والدنيا، ويشخرون وينخرون، ويستشهدون بدون سبب معلوم!
الغلبان المسكين فيكتور ذهب إلى لندن يتعلم ويتأدب وينشر إنتاجه على العالمين! ولكن ها هو يتدحرج مع الأيام إلى عامل منجم وشيال في الميناء وكناس في الشارع، ثم صايع يجلس طول النهار على المقهى وطول الليل يتسكع في حي سوهو الشهير. ثم ها هو في النهاية يصنع ما هو أسوأ؛ إن له جسمًا فحلًا كتور، وقوة باتعة ليس لها نظير، وستات أوروبا يحبون الرجل الحمش القوي العنتيل! وسيصبح عمنا فيكتور روميو بالأجر، راجل وله عدَّاد مثل التاكسي، وارتضى عمنا فيكتور حياته الجديدة، ولكن ست غنية معجبانية وقعت في عمنا فيكتور فعرضَت عليه أن يتحول من أُجرة إلى ملَّاكي مقابل خمسين جنيهًا إسترلينيًّا كل شهر للفسحة والمزاج!
وعاش عم فيكتور سنوات مع الست ثم ركن في الخط، وسقط مريضًا بالسل، وفي مستشفى لندن عاش شهورًا يعاني من المرض ومن الوحدة ومن الفقر، انتظرَته الست المعجبانية شهر وشهرين ثم اشترت راجل آخر ملاكي واختفَت عن الأنظار!
الأديب القديم في عمنا فيكتور عاد يتحرك في داخله وهو على سرير المرض وجرثومة السل تأكل في صدره.
وبعد عامٍ كامل خرج عمنا فيكتور من المستشفى برواية ستُحدث هزَّةً في أفريكيا اسمها: الغروب. وعندما اشتعلت الثورة في أفريكيا حمل عزاله وجاء على عجل ليأخذ مكانه في صف الثوار. وقبل أن يغادر لندن ذهب إلى هايد بارك، ووقف يخطب في مجموعة من الإنجليز السكرانين، وشتمهم ولعنهم وبصق عليهم، وصاح واحد سكران من بين المستمعين: ولماذا جئت إلى هنا ما دامت بلادنا لا تعجبك؟
وقال عمنا فيكتور: لقد جئت إلى هنا لأنكم قلتم لي إن لندن هي وطنك الأم.
وصاح الرجل الإنجليزي السكران: وهي فعلًا كذلك … وقال عمنا فيكتور: نعم هي كذلك لكن اكتشفْت للأسف أنها أمٌّ زانية وتستحق القتل!
عمنا فيكتور الآن في أفريكيا يشارك في بناء الثورة، وهو محررٌ كبير في مجلةٍ كبيرة، وروايته الجديدة صدرَت هذا العام واسمها: بعد الغروب.
وبعد الغروب قصةٌ أفريكية حلوة، بطلَتُها بنت اسمها ديانا، سحبها رجل سمسار أفريكي من الغابة لتعمل في بيت خواجا على شاطئ المحيط. وكان الخواجا عجوز في الستين من عمره، وأرمل ماتت مراته منذ عهدٍ طويل، وله أبناء خمسة، أربعة منهم رحلوا إلى أوروبا، والخامس أبله ومعتوه ويعيش مع الرجل العجوز. والرجل العجوز ألفي ومبسوط وحاجة تمام، وهو هاوي رماية وصياد طيور ماهر، وتاجر له أكثر من فرع، وسفرياته كثيرة وطويلة يقضيها متجولًا للتفتيش على فروعه في نيروبي وسالسبوري وإليزابيث فيل!
وذات مساءٍ انفرد الولد الأبله بالبنت الحلوة وفتك بها، فلما احتجَّت ألقى بها في حجرة مظلمة وأغلق الباب عليها بالمفتاح. فلما عاد الرجل العجوز بعد أسبوع أطلق سراحها وطيب خاطرها ونهر ولده الأبله المعتوه. وبعد أيام دعاها الرجل العجوز إلى حجرته وفتك بها هو الآخر، ولم تجد بُدًّا من الهرب من قصر الخواجا إلى الشارع بدون هدفٍ معلوم. ولكن المدينة كانت مثل قصر الخواجا، كافرة وجاحدة وملعونة، وسرعان ما سقطَت البنت الحلوة في يد عصابة سحبتها إلى الميناء، إلى بيتٍ أنيق ورشيق. وبعد أن كانت البنت للخواجا وولده المعتوه، أصبحَت للجميع. ولكن الأمور تغيرَت تمامًا، فبدلًا من أن يتم الأمر بالعافية وبالمجان أصبح كل شيء يتم بالذوق وبالفلوس!
وذات مساءٍ اكتشفَت البنت أن الخواجا العجوز من زبائن البيت. وبعد أن كانت خادمته أصبحَت عشيقته. غرق الرجل العجوز في حبها للآذان، ولأنه كبير وصاحب نفوذ فقد أصبحت له وحدَه، ومنحها هذا الامتياز فرصة للفسحة وفرصة للسفر.
وذات سفرية الْتقَت بشاب كنخلة جوز الهند قوي كالفيل، عذب كماء النهر. الولد الأفريكي العظيم كان واحد من الذين يعملون للثورة، ولم يكن الولد يعرف سر البنت، ولم تكن البنت تعرف سره. وعندما اشتعلت الثورة اختفى الشاب أسابيع طويلة، وعند أول لقاء مع البنت الحلوة اضطر أن يكشف سره لها، ولكن البنت احتفظت بسرها فلم تكشف عنه الغطاء!
وذات مساءٍ كان الخواجا عندها وكانت حفلة صاخبة … ومع الخواجا كل أصدقائه وأحبابه ومدير البوليس … ومحافظ بنك باركليز، وشيخ تجار المدينة، ودار الحديث حول الثورة والثوار، والخمرة حلوة تفك الألسنة المعقودة، وتفتح الصدور المطوية على الأسرار! ومدير البوليس رأسه خفيفة وعقله أخف. أخرج من جيبه ليستة طويلة بأسماء مائة شاب ستقتلهم السلطة اغتيالًا في الظلام. وارتاعت البنت الحلوة فقد كان اسم حبيبها في كشف الموت إياه. وسكرت البنت وغنَّت ورقصت معهم.
وفي الفجر تسللت هاربةً ومعها الكشف إلى مَقرِّ الحبيب. لقد هربت البنت مرة أخرى ولكنها في هذه المرة لم تهرب إلى الشارع، ولكن إلى الثورة، لقد وجدت نفسها أخيرًا مع الثوار.
والحدوتة التي حكيتها لكم هي مجرد كروكي للرواية الأصلية. لأنني لو لخَّصْت القصة بأمانة لاحتجتُ إلى عشرة فصول من هذا الكتاب. وحالُ الأدب في أفريكيا لا يسرُّ أحدًا؛ لأن عدد القراء قليل. وفي العالم الغربي مؤامرة صَمْت على الأدب الأفريقي، فلا اهتمام ولا احتفال، وفي أوروبا يحتفلون بأدب الدولة الخنفسة إسرائيل، ولكن أدب قارة بأسرها لا يهم! وتوزيع الصحف في أفريكيا وحش؛ لأن الطُّرق وحشة، والمواصلات أوحش بكثير! والفن الأفريقي ممتاز، ولكن لا أحد يسمع به ولا أحد يسمع عنه؛ لأن الاتصال حتى بين الأفريكان محدود، فلا مَعارض ولا جوائز … ولا يحزنون!
والدين في أفريكيا قُشور؛ لأن الدين أدخله مبشرون كذابون نصابون، جاءوا على مراكب كانت مهمتها الأولى صيد العبيد! ولذلك فالسيد المسيح والسيدة العذراء سود في أفريكيا؛ لأن المبشرين النصابين خدعوهم فقالوا إن المسيح والسيدة العذراء من الزنوج!
والأفريكي يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد لا ليصلي ولكن ليرقص، والمبشرون في الغابة يصنعون كل شيء ضد المسيح وضد الدين! وهم وراء كل الثورات المضادة، وهم منظِّمُو كل حركات التمرد ضد النظام الجديد. وتحت ثوب المبشر الفضفاض ستجد منشورات وأسلحة ودولارات ومشاريع ومؤامرات، وانقلابات، وصفقات ليست لحساب الرب، ولكن لحساب بنك إنجلترا ومخابرات الأخ سام!
وأنا أقول «الأخ» سام؛ لأنه لم يَعُد عمًّا لأحد، فقد قلَّت قيمته وسيمته حتى أصبح أخًا … ولا يزيد!
والمسلم الأفريقي تقرأ عليه السلام فيبكي بكاء الأرملة التي مات سبعها في معدية على النيل! ويسمع آيةً واحدة من القرآن فيظل يبكي طول الليل بدون أن يفهم حرفًا مما يُقال! ويصلي في الطريق العام؛ لأنه لا يُوجَد مسجد واحد في بعض العواصم الكبرى. لم يسمح المستعمر الأوروبي الذي أغلق أفريكيا إلا لنوع واحد من المبشرين. ومنع المسلمين من الحج، ونشر حملة تخريفٍ ضد العرب، صورهم في صورة خطافة ونخاسة وتجار عبيد!
والخطة التي فشل في تنفيذها السيد الأبيض زمان، تحاول إسرائيل الآن تنفيذها بأمواله ولحسابه! وخطة الدولة الخنفسة إسرائيل أن تمزق أفريكيا إلى أفريكتين: أفريكيا ما وراء الصحراء، وأفريكيا ما قبل الصحراء. أفريكيا البيضاء وأفريكيا السوداء. أفريكيا الزنوج وأفريكيا العرب. أفريكيا العبيد وأفريكيا تجار العبيد!
وقد وجدت الدولة الخنفسة في أفريكيا بعض الآذان تَسمَع، وبعض العقول تُصدِّق. ولكنها كلها آذان وعقول عميلة. وهناك للأسف قوى وطنية في أفريكيا ولكنها مخدوعة، ولكن هذا يستلزم مِنَّا جهدًا أشد وعملًا أكبر. وقد كانت الثورة المصرية هي أكبر دعاية للعرب في أفريكيا. وصورة عبد الناصر تحتل مكانها مع صور لومومبا وكينياتا ونيريري ونكروما وسيكوتوري والمؤدب كيتا.
وكانت الثورة الجزائرية شهادة أخرى لأفريكيا العربية … وتجربتنا الثورية محل دراسة كل ثوار أفريكيا وأحزابها التقدمية. وما من ثائر في أفريقيا إلا وله صلة بالقاهرة. وما من ثائر إلا ومعه صورة يحتفظ بها في أعز مكان، صورة له مع عبد الناصر في حديثٍ عن الثورة والثوار.
ولقد بدأنا حديثنا عن الغنى والأغنياء، ولكن الحديث على رأي زكي مبارك ذو شجون. والمال حلو يا جدعان، ولكن توزيعه على الناس أحلى. والسلطة مغرية، ولكن رد السلطة إلى الشعب أكثر عدلًا. وأفريكيا الآن تغلي على نار من أجل توزيع الفلوس، ورد النفوذ إلى أهله الطبيعيين والشرعيين. وأصحاب النفوذ والفلوس التقليديون يحاربون الآن معركتهم الأخيرة، معركة ضد المنطق وضد الطبيعة وضد الحياة نفسها، ويا بخت من يقف مع الثورة في أفريكيا، ويا حسرة من يقف ضدها. ستأكله الثورة وتهضمه وتبصقه نفاية على الطريق.