الكاتب الشرقي وحاجاته الجديدة

لكل عصر حاجات، ولو كان العصر اليوم كعصر الهمذاني والزمخشري وابن المُقفَّع والمتنبي، لما كان لأحد أن يذكر للكُتَّاب حاجات جديدة؛ فإن الهمذاني كان يزور خراسان مثلًا فيُنشِد بضعة أبيات، ويكتب بضع رسائل، فيعود ممتلئ الأردان، والمتنبِّي كان يقول قصيدة واحدة فيُعطى من أجلها ألوف الدنانير. ومتى كانت سوق الأدب رائجة إلى هذا الحد، فذلك دليل على وجود الاتفاق التام في أذواق القائلين والسامعين.

ولو أن العصر بقي كما كان في أيام مَن أشرنا إليهم؛ لجاز أن يُقال لأُدباء اليوم: تحدُّوا سابقيكم، واقتدوا بمُتقدِّميكم. وحينئذٍ كان هذا الاقتداء أمرًا معقولًا مقبولًا، ولكن العصر قد تغيَّر من حُسن الحظ، ولم يعُد المقصود من الأدب وصناعته مدح الملوك والأمراء أو العظماء، بل صار يُقصَد به أمرٌ أسمى من هذا كثيرًا، ونُريد بذلك تكوين الأمم، وتكبير نفوسها، وإنهاض ضُعفائها، وترقية شئونها.

كان المتنبِّي لا ينظم شعره إلا لممدوحه ولطبقة الشعراء والمتأدِّبين، وكان يظن أن هؤلاء الشعراء والمتأدِّبين هُم الدنيا كلها، بدليل قوله: «إذا قلتُ شِعرًا أصبح الدهر مُنشِدًا.» مع أن هؤلاء الشعراء والمتأدبين كانوا جزءًا صغيرًا من الأمة. أما اليوم فالكاتب العصري عليه أن يكتب لمجموع الأمة كِبارًا وصِغارًا، أغنياء وفقراء، رجالًا ونساءً، تُجَّارًا وصُنَّاعًا وزُرَّاعًا وأُدباء؛ أي إن الأدب والعلم أفلتا من قيدهما القديم الذي كان يحصرها في طبقة واحدة لغرض التسلية والطرب، واندفعا نحو جميع الطبقات لأغراض عمومية يُقصد بها فوائد أدبية وعملية؛ فنتج عن ذلك أن رواج الأدب لم يعُد متوقِّفًا على طرب أمير كسيف الدولة، ولا على جُود الملوك والخلفاء، بل على تأثير أقوال الكاتب في الجمهور الذي صار السيد الحقيقي على الأدب والأدباء؛ فوظيفة الكاتب إذًا أن يُحسن التأثير في نفوس هذا الجمهور.

وإن قيل إن الملوك والأمراء قد يؤثِّرون أعظم تأثير في ترويج الأدب لمُساعدتهم أهله، فنُجيب: إن هذا القول صحيح متى كانوا يقصدون بمساعدتهم لهم مجرد إنماء مواهبهم لتنتفع الأمة بها، ولكن إذا كانوا يقصدون بذلك تقييد تلك المواهب بهم لتنشر نور مجدها عليهم وعلى أعمالهم بالمدح والثناء، فإن الحال تتغيَّر تغيُّرًا عظيمًا، خصوصًا متى كانت مصلحة الملك مُخالِفةً لمصلحة الأمة. ذلك أن صاحب تلك المواهب لم يُعطَ مواهبه من الله ليجعلها وقفًا لفردٍ واحد، ولو كان ملكًا، بل أُعطيها ليخدم بها جميع بني جنسه، فإذا خطر له وقْفها على واحد أو جماعة أو طائفة أو مذهب دون غيره، فإنه بذلك ينقض العهد الذي أعطاه على نفسه وهو في بطن أمه، حين أخذ تلك المواهب عن طريق الطبيعة من يد العناية الإلهية، وحينئذٍ يقع بين نارين: إما دَوس مصلحة الأمة من أجل مصلحة مَلِكها، وإما تركُ الملك وقيوده الذهبية مختارًا عليها معيشة الفقر والحرية مع الأمة.

ولا ريب في أن أولئك الكُتَّاب والشعراء المتقدمين الذين كانوا يتزاحمون على أبواب الخلفاء والأمراء، ويتنافسون في إطراء ممدوحيهم، ووضعهم أحيانًا في مرتبة الآلهة، ليستدِرُّوا منهم ألوف الدراهم والدنانير — تلك الأموال التي كانت مأخوذة من دماء الشعوب والأمم بطرق مختلفة — لو علموا أنهم وُجدوا لمساعدة الشعوب والأمم، لا لمساعدة ملوكها على ابتزاز أموالها، ومشاركتهم بعد ذلك فيها بطرق تُشبه طرق الشحاذة؛ لعلموا أنهم أضاعوا مواهبهم في غير وجوهها، ولم يأكلوا مالًا حلالًا.

ومتى ثبت أن أول أغراض الأدب والعلم ترقية الأمم وإنهاض الشعوب؛ ترتَّب علينا أن نعلم حاجات الكاتب الشرقي الجديدة في هذا العصر.
  • الحاجة الأولى: وعندنا أن أُولى حاجات الكاتب الجرأة والحرية، ونريد بذلك حرية الفكر والنشر، وتحت الحرية تدخُل فضائل كثيرة، فإنه متى كان الكاتب يكتب بحرية واستقلال فكرٍ، فإنه يكون صادقًا مُنصِفًا عادلًا قليل الشذوذ والشرود. ويُشترط في ذلك أن تكون الحرية مُطلقة في أقواله، لا أن يتكلم بحرية في هذا الموضوع لأن الحرية فيه موافقة لمصلحته، ويداهن ويصانع في ذاك لأن الحرية فيه مخالفة لمصلحته. وكل إنسان يعذر الكاتب الذي يعيش في بلاد أقلامها مُقَيَّدة إذا لم يتجاوز في كتابته حد المداراة القانونية، ولكن ما عُذر الكاتب الذي يعيش في بلاد أقلامها مُطلقة؟ لا عُذر له غير المصلحة، فمصلحته هي التي تمنعه من أن يقول الحق الذي يُفكِّر به، وتُجبره على مدح ما يستحق الذم، وذم ما يستحق المدح، وحينئذٍ يخرج عن دائرة الوظيفة الحقيقية التي توجَد لها الصحافة، وتُثقَّف لها الأقلام.

    ولسنا نُنكر أن هذه الحالة شائعة في كل العالم؛ لأنها حالة عمومية؛ إذ كل إنسان يطلب تأييد مصلحته قبل كل شيء؛ ولذلك كانت أكثر صحافة أوروبا نفسها مبنيَّة على المصلحة. قال أحد كُتَّابهم في الشهر الماضي: إن جرائدنا صارت عبارة عن وباء حقيقي، فإن المدح والذم يُكالان فيها بلا عدل، وقد قتلوا الانتقاد الصحيح المبني على الصدق وحرية الفكر، ووضعوا في مكانه أوراقًا يُرسلها المؤلفون وأصحاب الكتب، فإذا قرأت انتقاد كتاب، فاعلم أن أكثره مكتوب بقلم المؤلف نفسه أو بقلم صديق له. نقول: ولكن إذا كان في الغرب جرائد هذه حالها، ففيه أيضًا جرائد كالتيمس، والطان، وبرلنر تاجبلاط لا يمكن أن يلحقها شيء من هذا الغبار. فنحن نرجو أن تقوى في الشرق صحافة جدِّيَّة مُستقلة كهذه الصحافة؛ لتخرج من الدائرة التجارية المحضة إلى الدائرة الصحافية الحقيقية. ويلُوح لنا أن ذلك لا بد منه، وإلا بطل كل تأثير لها في القُرَّاء؛ لأن الأقوال لا تؤثِّر إلا متى كانت خارجة من القلب والضمير.

  • الحاجة الثانية: ورُبَّ قائل يقول: ماذا يحل بالأفكار في الشرق إذا كان كل كاتب فيه يبسُط آراءه بكل حُرية دون مراعاة ما هو معروف من تعدُّد العناصر؟ فنُجيب: لا يحل بالأفكار سوء؛ لأن التساهُل كالماء يُخمِد كل حدَّة وكل نزق، فالحاجة الثانية: التساهُل. وليس المراد بالتساهُل أن يكون ما يكتبه الكاتب مُوافِقًا لكل الآراء، وكل العناصر، وكل المذاهِب. كلَّا، فإن هذا التساهل يفني قوى الكاتب، ويذهب بتعبه أدراج الرياح، ويُشوِّه الحقائق أقبح تشويهٍ. ولقد سمعنا مرة بعضهم يقول: إن موقف الكاتب الشرقي صعب جدًّا في هذا العصر؛ لأنه يكتب للمصري والشامي والجزائري والتونسي والهندي والفارسي والأفغاني والقوقازي إلخ إلخ؛ ولذلك يجب عليه ألَّا يكتب إلا ما يُرضي الجميع. فضحكنا عند سماعنا هذا الكلام وقلنا: إن وظيفة الكاتب أسمى من ذلك بكثير. أجل، ليست وظيفة الكاتب بتر الحقيقة هنا، وتمويه الكلام هناك إرضاءً لهذا أو ذاك، بل وظيفته أن يقول الحق، وينطق بالصدق في أي جانبٍ كان، لكن يُشترط عليه في ذلك شرط لا بد منه، وهو أن يترك دائمًا للقارئ الحكم في المسائل التي يبسطها؛ لأن القارئ قلَّما يحب أن تضغط عليه لتُقنعه. وإذا كُنت تطلب منه التساهُل فيجب عليك أن تُعلِّمه ذلك بالقُدوة؛ أي أن تكون مُتساهِلًا في آرائِك؛ لأن القُدوة خير المُعلِّمين. إذًا لا تضع آراءك وأقوالك في منزلة الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد مسه، فإن لكل إنسان نظرًا ومذهبًا في الأمور، ومتى احتكَّتْ هذه المذاهب والآراء بعضها ببعض فلا يبقى منها مع الوقت إلا أفضلها. وهذه هي الطريقة الوحيدة لنشر الحقائق والمبادئ نشرًا فعليًّا بين الناس، وترقية العقول عن الأشياء المألوفة الراسخة في النفوس بحُكم العادة. وكُن على ثقة من أن كل العناصر التي ذكرتها تقرأ أقوالك ولا تستاء منها إذا راعَيتَ هذا الشرط، ولو وجدتْ فيها ما يسوء؛ لأنها تعلم أنك لا تقصد بها سوءًا ولا سيطرةً على عقولها فيما تكتب، وإنما تقصد بَسط الآراء والمبادئ بعضها بجانب بعض طلبًا للحقيقة في أي جانبٍ كانت.
  • الحاجة الثالثة: والحاجة الثالثة أن يُحب الكاتب صناعته، ويولع بها، ويطلبها لذاتها. ولا بد هنا من اعتراضٍ قوي، وهو أن جميع الكُتَّاب في كل البلدان يحبون صناعتهم، وكثير منهم لا يجنون منها فائدة كبيرة، ومع ذلك تراهُم مُتعلِّقين بها. فالجواب أن هنا إشكالًا تجب إزالته؛ إذ شتَّان بين من يُولع بشيءٍ لأنه عمله الذي خُلق له، وبين من يُريد أن يجعله عمله قسرًا، ويُرغِم طبيعته به ميلًا إلى جماله وجلاله. وهذا الخطر موجود في كل مكان، لا في الشرق فقط. وقد وضع المسيو بونيه الفرنسوي منذ بضعة أشهُر كتابًا سمَّاه: خطر صناعة القلم، أو ثلاثة من عائلة لكران، أثبت فيه أن ألوفًا من الأدباء يتهافتون في كل عام على صناعة القلم في فرنسا، وتسوء حالهم لأنهم قَهَروا طبيعتهم قهرًا على عمل لم يكونوا من رجاله، وإنما جُذبوا إليه بجاذب جماله.

    وإنما أردنا بحب الكاتب صناعته وطلبها لذاتها: مقاومة داءَيْن شديدي الفتك؛ الداء الأول: يأس كثيرين من الكُتَّاب من صناعة الأدب في الشرق؛ ولذلك يولولون عليها ويقيمون المآتم حزنًا لموتها. وهذا الأمر يسبب ضررين؛ الأول: الحط من كرامة الأدب لدى قُرَّائِه، والثاني: إزالة الثقة من نفوس أولئك الكُتَّاب، ومتى زالت من نفس الكاتب ثقته في نفسه وفي صناعته، فقدْ قضى على نفسه وعلى صناعته وعلى قُرَّائه، ولم يعُد يقدِر أن يصنع شيئًا مُفيدًا، فالأجدر به في هذه الحالة أن يترُك القلم بسكون وهدوء، ويطلب الرزق من بابٍ آخر. والداء الثاني: اتخاذ الأدب شِبَاكًا لصيد الذهب. وهذه آفة الأدب في الشرق. ولسنا ممن يُحرِّمون الغِنى على طُلَّاب الأدب، ولكنا ممن يُحرِّمون في الأدب جعل المال في المرتبة الأولى، والعلم والأدب في المرتبة الثانية؛ لأن صناعة الأدب ليست بصناعة تجارية، ومن يُريد مُعاملتها معاملة التجارة فهو غير أهل لأن يكون منها. وسبب ذلك أن موضوع الأدب خدمة الجمهور، كما تقدَّم، وهذه الخدمة تقتضي أن تُعطي الجمهور من قوتِك ومن نفسك أكثر ما يُمكنك إعطاؤه؛ فالكاتب الذي لا يطلب صناعته لذاتها بل لأجرتها يكتفي في أكثر الأحيان بملء الورق بما يكون قريب المنال؛ إذ غرضه ربح المال لا إبراز أرقى ما يُمكنه إبرازه من قوَى نفسه. وبذلك يُصبح الجمهور مغبونًا، والأدب مظلومًا؛ لأنه ينحط بهذه الطريقة، ولا يمكن أن يترقَّى معها، وحينئذٍ يتساءل الناس: لماذا لا تؤثِّر الأقلام في النفوس؟ مع أن السبب معروف محسوس. وإن قيل إن التبعة في هذه الحالة واقعة على الجمهور لأنه لا يُنشِّط أهل العلم والأدب التنشيط الواجب ليسدَّ حاجاتهم، ويجعلهم يطلبون صناعتهم لذاتها، فالجواب: إن على الجمهور تبعة عظيمة في هذا الأمر، ولكن هذا لا يُخفف التبعة التي على الكاتب؛ إذ متى وُجد كُتاب يطلبون العلم والأدب لذاتهما، فإنه يكون عندهم الفقر والغنى سببين في هذه الصناعة؛ لأن الغِنى الذي في النفوس لا تنقص قيمته عن الغنى الذي في الخزائن، إن لم نقُل إنه أفضل منه.

  • الحاجة الرابعة: وأما الحاجة الرابعة فهي مُختصة بقلم الكاتب، ونريد بها تضلُّعه من المواضيع التي يكتب فيها.

    وهذه الحاجة تُقسَّمُ عندنا إلى قسمين: المادة ولباسها؛ أي الأفكار والألفاظ التي يُعبر بها عنها، والأسلوب الذي يجري هذا التعبير به.

    أما المادة فهي تكاد تكون موجودة في كل يد … فإن كل كاتب يكفيه لخوض أبواب السياسة والتاريخ والعلم الأدبي والعلم الطبيعي والفلسفة أن يفتح أي جريدة أوروبية أو أي كتاب أوروبي … وهذا من فضل اللغات الأجنبية التي تُسَهِّل للكُتَّاب طريق هذه العلوم التي تعب المؤلفون عشرات السنين في سبيل تحصيلها، ولكن الحق يُقال: ليس الذنب في ذلك للشرقيين، بل للناموس الطبيعي، فإننا الآن في عصر يُسميه علماء العمران: عصر القرود، يريدون به عصر التشبُّه بالغير والتقليد، وإذا ساعدت الأحوال المعارف الشرقية، فإنها ستنتقل — إن شاء الله — من طور الاتباع إلى طور الابتداع، وحينئذٍ ينبغ في الشرق المبتكرون والمخترعون، ولا نعود نرى المعارف الشرقية عبارة عن نسخة من المعارف الأوروبية، وصدًى لمجلاتها وجرائدها العلمية والسياسية، بل يكون الباحث في الكيمياء مُعتمِدًا في بحثه على معمله لا على مجلته، والباحث في التاريخ معتمدًا على سياحاته لدَرْس الآثار في أماكنها الأصلية، لا على الكتب والأوراق، وهلم جرًّا. وربما وصل الشرق إلى هذا الزمن بعد قرن أو نصف قرن إذا ساعدَته الأحوال، وكثُر قُرَّاء اللغة العربية فيه كثرة تُمَكِّن أحد الكُتَّاب من التفرُّغ لكتابة كتاب واحد في عامين أو ثلاثة؛ أي إن الكاتب يستفيد من كتابه هذا بعد كتابته ونشره فائدة مالية تُكافئ أتعابه ونفقاته.

    وبما أن المادة صارت اليوم موجودة في كل يد — كما تقدَّم — فقد صار الفضل والصعوبة في الأسلوب الذي تبرُزُ به، ورُبَّ مادة يُعطاها كاتبان فيصنع أحدهما منها فصلًا ترقص له عجائز وائل، ويصنع الآخر منها فصلًا لا يقرؤه أحد. وهنا مذهبان مختلفان يتنازعان الكُتاب في كل أمة تقريبًا؛ المذهب الأول: مذهب الذين يعتمدون على قواعد السلف وأصولهم في الكتابة والتأليف، فلا يخرجون عنها قيد أصبع، والمذهب الثاني: مذهب الذين يُحكِّمون عقولهم وأفهامهم في جميع شئونهم، ويكرهون التقليد إذا لم يكن في محله، ويرومون أن يكتبوا كما يشعرون، وعندنا لهذين الفريقين كلمة تدل عليهما أحسن دلالة، وهي أن الفريق الأول يهتم بالألفاظ قبل اهتمامه بالمعاني، والفريق الثاني يهتم بالمعاني قبل اهتمامه بالألفاظ.

ومهما صرخ أنصار المذهب الأول، فإن مذهبهم آخذ في الانقراض؛ لأن تلك الأسجاع الضخمة والألفاظ المنتفخة كأنها الهِر يحكي الأسد، قد نبتت في المعد، وصارت في كل يد، كما قال الهمذاني، رحمه الله، وإذا قابلت بين أسلوب الكتابة العربية منذ ٣٠ سنة وبين أسلوبها اليوم؛ رأيت الفرق بين الأسلوبين، وإن قيل إنه قد بقي إلى اليوم شيء من تلك الأسجاع والألفاظ المترادفة والتعابير الخطابية التي تسرد منها سطرين أو ثلاثة، ولا يكون تحتها إلا فكر واحد — كأنها صبيرة طمسن — نقول: ما ذلك إلا لأن هذا الأسلوب أصلًا مكينًا في نفس اللغة العربية، وهذا الأصل لا يموت وينقرض تمامًا إلا بانقراض طُلَّابه، ولكنه الآن يموت شيئًا فشيئًا، ولا أمل بإحيائه إلا بطريقة واحدة. وهذه الطريقة يرضى بها حتى أصحاب المذهب الثاني، وهي أن يعود مؤسِّسو ذلك الأصل من قبورهم الأبدية، ويكتبوا لنا مثل كتاباتهم الماضية، فحينئذٍ نقبل منهم ذلك بكل سرورٍ ورضًى؛ لأن كتابتهم أرقى ما يتصور الإنسان كتابته في هذا النوع.

وكيف إذا قام الهمذاني من قبره وكتب شيئًا من رسائله يمكننا أن نقول له اترك هذا فقد ذهب وقته؟ وكيف إذا قام ابن المقفع بلُغته السهلة البليغة المفهومة ليُعرِّب عن الهندية كتابًا آخر — ككليلة ودمنة — يمكننا أن نقول له عرِّبه بلغة الكتابة العصرية لا بلغتك؟ كلَّا، إننا لا نقول لهما ذلك، وإنما نقوله بلا تردد للذين يُحاولون تقليدهما في هذا العصر ولا يكون لهما مقدرتهما، وقد قيل: بين المقلِّد والمقلَّد ما بين التكحُّل والكحل. وإن قيل إن الأموات لا يعودون، بل ينبُغ من الأحياء من يقوم مقامهم ويبلُغ منزلتهم، فالجواب: أين الذي يضمن لنفسه نفسًا كنفوسهم، ثم يصرف قواها كلها عشرين سنة أو أربعين في درس كتب اللغة والأدب ليبلُغ منزلتهم فيها؟ ثم إذا كان مثل هذا الانقطاع ممكنًا في الشرق، ألا يكون من الجناية على الشرق جعله للُّغة والألفاظ بدل جعله للعلم الحقيقي الذي يُرَقِّي الأمم وينقلها من حال إلى حال؟

فالأفكار الأفكار، المعاني المعاني. هذا هو الغرض الحقيقي من الكتابة؛ لأن الألفاظ ليست سوى لباس أو قشور للمعاني.

بقى الأسلوب الذي هو صلة بين الألفاظ وبين المعاني؛ لأنه قالبها الذي تُسبَك به، وفي ذلك نقول:

قال بعضهم: إن إنشاء الإنسان هو الإنسان نفسه. يعني بذلك أن كتابته تدل عليه؛ لأنها صادرة عن نفسه؛ وعلى ذلك يكون أسلوب الإنسان في الكتابة على نوعين: اكتسابي، وغريزي؛ فالأسلوب الاكتسابي: ما حصَّله الإنسان بكد الخاطر، وتهذيب النفس، ومعرفة الأصول، ومطالعة أشهر المؤلفين، والأسلوب الغريزي: ما يكون مغروسًا في فطرة النفس. وهذا لا يُشرَى ولا يُباع ولا يُحصَّل؛ لأنه مُلازم للنفس، وقد قال بوفون وغيره: إن قرائح النوابغ تنشأ عن الصبر والكد والمزاولة. وهو قول غير صحيح من بعض الوجوه، خصوصًا في العلوم الطبيعية التي تقتضي من عُلمائها والمخترعين فيها الكد والصبر والجَلَد الشديد. وهذا نيوتن وباستور خير مثال على ذلك. ولكن العلوم الأدبية والفلسفية تختلف عن العلوم الطبيعية. وبما أن العمدة في تلك العلوم الأدبية والفلسفية على التأثير في النفوس، فالواجب أن يكون أسلوبها اللطيف أول أسلحتها، وماذا كان عمل روسو وبرناردين دي سان بيير ورسكن ورينان وغيرهم لو لم تكن فطرتهم مُسلَّحة بذلك السلاح اللطيف، الذي كان يهز النفوس كما تهز الزوابع باسق الأشجار؟ فعلينا في الشرق أن نذكر أننا محرومون تلك اللذة الحقيقية التي تتناجى بها نفوس القُرَّاء والكاتب لاستطاعته تحريكها من أعماقها، ولا نُلقِيَنَّ التَّبعة في ذلك على القراء، بل على الكُتَّاب — وإن كان لهم بعض الأعذار — لأن أشجار الحدائق إذا بقيَتْ ساكنة ولم تتحرك فالذنب للريح؛ لأنها لم تهب لتُحركها.

ولكننا نرى أن هذه الريح مُحال أن تهبَّ لتحريك الأشجار إذا لم تطلَق اللغة العربية من أسْر الاهتمام بالألفاظ والسجع والمترادفات وتحدِّي المتقدمين، ويقدَّم عليها الاهتمام بالمعاني المقصود إبلاغها إلى فهم القارئ؛ ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يُعبِّر عن العواطف المختلفة التي تختلج في نفسه إذا كان يتعوَّد صرف قواه حين الكتابة إلى الألفاظ لا إلى تلك المعاني. ألا ترى الكاتب إذا تكلم بلغته العامية اندفع اندفاع السيل، وأبرز بكل سهولة صورًا جميلة من المعاني كانت تجول في نفسه؟ ولكن اطلب منه أن يُبرِز تلك الصور الجميلة باللغة الفُصحى ملتوتة بالمترادفات الزائدة، والألفاظ الضخمة، والأسجاع الفارغة، فإنه يقيم يومًا كاملًا لكتابة ما عبَّر عنه في ساعةٍ واحدة بلغته التي يتكلم فيها، وما يكتبه يجيء باردًا.

ولا تقُل إن سبب ذلك كونه لم يتعوَّد الكتابة بلغة الهمذاني والحريري. كلَّا، ما من سبب لذلك سوى أنه مع اللغة العامية يُفكر بالمعاني فقط، ومع لغة السجع والمترادفات يُفكِّر بالألفاظ. ولكن أخبِرونا من هو الكاتب؟ الكاتب كالشاعر؛ هو الذي يشعر بالمعاني شعورًا أشد من شعور سواه، ويُبرِزها إلى القُرَّاء بأسلوبٍ جميل لطيف سهل مفهوم لإبلاغها إليهم. ويتفاضل الكُتَّاب كما يتفاضل الشعراء؛ أي إن أفضلهم أشدهم شعورًا، وألطفهم إحساسًا؛ ولذلك قالوا إن الكتابة صناعة من صناعات النفس، وما الكُتَّاب العِظام الذين أقاموا بني عصرهم وأقعدوهم بما كانوا ينشرونه بينهم سوى نفوس أدق شعورًا من باقي النفوس. كانوا يجمعون العواطف التي تختلج في صدور بني عصرهم بوجهٍ مُبهم غامض، ويبسطونها واضحة جليَّة يتناولها القريب والبعيد؛ لأنهم كانوا أشد شعورًا بها. فتأملوا في هذه الوظيفة التي هي وظيفة الكُتَّاب الحقيقية، وقابِلوها بوظيفتهم متى كان عملهم مقصورًا على طلب الألفاظ الغريبة من قواميس اللغة، واقتناص التعابير البدوية والأساليب القديمة التي لم يبقَ ما يسوِّغ استعمالها في عصرٍ كهذا العصر. ولا ريب عندنا أن هذا بمثابة ردم معادن المعاني في نفوس الكُتَّاب، وجعل أذهانهم عبارة عن مخازن للألفاظ فقط؛ وبذلك يُقضى على الكاتب العربي أن تبقى كتابته بلا تأثير في قُرَّائه مهما أبدع وأجاد في تنسيق التعابير والألفاظ؛ لأن الألفاظ عبارة عن جماد لا يؤثر في النفس؛ إذ النفس لا يؤثر فيها إلا فيض المعاني الخارج من نبعها العذب. ولا تنسَ أننا قُلنا في مقدمة الكلام إن وظيفة الكاتب الكتابة للأمة، لا لنفسه ولا لطبقة واحدة من طبقات الأمة، وإن حُسن التأثير شرطها الأول، والفائدة العمومية أساسها الحقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤