عمر الخيام
(١) ترجمته
يُسميه الإفرنج عمر الخيَّام، ويسميه العرب عمر الخيامي، كما رواه بهاء الدين العاملي، واسمه الحقيقي شيعة الدين أبو الفتح عمر بن إبراهيم، سُمي الخيامي نسبة إلى أبيه الذي كان يصنع الخيام ويبنيها. وقد وُلد في نيسابور سنة ٤٠٨ للهجرة ١٠١٧ للميلاد، وتوفي فيها سنة ٥١٧ﻫ/١١٢٣م؛ أي إنه عمَّر فوق المائة سنة. أما قبره فلا يزال في نيسابور، ولكنه لم يُكشف إلا بعد وفاته بمدة طويلة، والذي اكتشفه تلميذ له يُدعى: نظامي، ولم يترك له أستاذه من علامة يعرفه بها سوى قوله: إن قبري سيكون في مكان تهبُّ عليه ريح الشمال فتدفنه بالورد.
ومما رواه مؤلفو العرب والفُرس من ترجمة عمر الخيام في صِباه، أنه تلقَّى العلم على علماء نيسابور، أخصهم الإمام الموفق، وكان يتلقَّى العلم معه فتى يُدعى حسن صباح، وهو الذي صار بعد ذلك إمام الإسماعيلية، وفتًى آخر يُدعى أبا علي حسن الطوسي، وهو الذي رُقِّيَ بعد ذلك إلى دست الوزارة للدولة السلجوقية العظيمة، وسُمي نظام الملك. فهؤلاء الرفاق الثلاثة اتفقوا وهم في المدرسة على أن الذي يسبق رفيقَيه إلى ولاية أمر، أو رِفعة شأن، يرفع شأن رفيقيه معه، فلما ارتقى نظام الملك إلى الوزارة ذكر عهده، فاستدعى حسن صباح وقرَّبه إليه، ورام تقريب عُمر، فأبى عمر ذلك لرغبته في الانقطاع إلى درس الرياضيات. وسواءٌ صحَّتْ هذه الرواية أم لم تصح، فمما لا ريب فيه أن ملكشاه الذي كان نظام الملك وزيرًا له استدعى عمر الخيام بعد ما سمعه عن علمه وحذقه في الرياضيات، واطِّلاعه على رسالته العربية في علم الجبر، وفوَّض إليه إدارة مرصد بغداد الفلكي.
وكان عمر قد اكتسب بانصبابه على الدرس والبحث علمًا واسعًا، وشهرةً بعيدة، فلما وُلِّيَ إدارة مرصد بغداد دون علماء وقته؛ ازداد مقامه رِفعة عند بني عصره، وصارت مرتبته عندهم مساوية لمرتبة الشيخ ابن سينا؛ الفيلسوف المشهور الذي توفي وعُمْرُ الخيام ٢٠ عامًا، فكأنه كان خَلَفًا له.
وتُقَسَّم معارف الخيام إلى ثلاثة أقسام: علمه، وفلسفته، وشعره.
(٢) علمه
أما علمه فحسبُنا أن نقول فيه إنه كان أول عالم رياضي بحث في مقاييس المكعبات، واتخذ لها مقياسًا خصوصيًّا، ورسالته العربية في الجبر كانت مشهورة بين علماء الشرق حين كانوا يعنون بدرس الرياضيات. وفي أثناء إدارته مرصد بغداد الفلكي وضع خرائط فلكية سمَّاها زيج ملكشاه، نسبةً إلى هذا السلطان الذي قرَّبه إليه وولَّاه إدارة المرصد. وهو الذي وضع حساب الوقت وأصلح التاريخ الفارسي بإضافة سنة كبيسة إلى كل أربع سنوات من سِنِي الحساب الفارسي، ويُعرف هذا الإصلاح الحسابي بالإصلاح الجلالي، نسبةً إلى جلال الدين، وهو لقب لملكشاه. قال المسيو سلمون الذي اعتمدنا عليه في هذه التفاصيل: إن حساب السنة الجلالية التي أصلحها الخيَّام أصحُّ من الحساب الغريغوري الذي وُضع بعد ذلك بخمسة قرون.
ولا يقدح في فضل الخيام أن يوجد في معلوماته الرياضية والفلكية أغلاط كثيرة، فإن العلم كالطفل ينمو ويشب شيئًا فشيئًا. ولقد مرَّ على الخيام سبعة قرون ونصف قرن والعلم لم يشب عن طوق الصِّبا بعدُ، مع جميع ما وجدوه حديثًا من الأصول الجديدة؛ لأنه — كما قال تولستوي في ردِّه على أهل العلم الذين يتكبَّرون بعلمهم الناقص — متى صار العلم علمًا حقيقيًّا لم يبقَ لديه شيء مجهول. وإذا كان الله قد قدَّر للإنسان هذه السعادة والكمال في الأرض، فذلك لا يكون إلا بعد ألوف وعشرات ألوف من السنين.
(٣) فلسفته وشعره
لا نقصد بقولنا فلسفته إنه كان للخيام مذهب فلسفي خاص به، ولكنا نقصد بذلك رأيه في الواجب والوجود والحياة والآداب والحكمة وما وراء الطبيعة. وهذا بمثابة قولنا إنه لم يكن فيلسوفًا، بل مُفكرًا وباحثًا؛ لأن الفيلسوف لا يُدعى فيلسوفًا إلا إذا كان له في تلك الأمور مذهب فلسفي خاص به، وهنا نصل في ترجمة الخيام إلى آرائه الدينية.
يظهر أن الخيَّام لم يستطع أن يضع لعقله شكيمة تشكمه، وحدًّا يقف عنده؛ ولذلك كان بينه وبين رجال الدين في حياته نزاع شديد. وكان الصوفية أشدهم اضطهادًا له؛ لأنه كان يتهكَّم على تقشُّفهم وزُهدهم في الدنيا تهكُّمًا جارحًا، وكل ديوانه الفارسي رباعيَّات الخيام مداره على الغزل ووصف الخمر وصفًا غريبًا مُهيجًا، والاستهزاء بالزهد والقناعة والدين ورجاله. وأحيانًا يجترئ على الألوهية نفسها. وإليكَ بعض الأمثلة من رُباعيَّاته، قال ما ترجمته:
سمعتُ في الفجر صوتًا يصيح: إليَّ إليَّ يا أهل الشراب والسرور. يا أيها الفتيان المجانين، انهضوا واملئوا كأسًا أخرى من الخمر قبل أن يملأ القدر كأس حياتكم.
ومنها: يا رفاقي الأحرار، إذا مِتُّ فاغسلوني بخمرٍ حمراء مشرقة، ولا تدفنوني إلا في ظل كرمةٍ.
ومنها: أصبحتُ شاردًا عن الدين كدرويش، قبيح المنظر كالبغي، ولم يبقَ لي دين ولا مال ولا أمل في جنة.
فلا ريب أن قارئ هذه السطور يظن أن صاحبها سكِّير معتوه يهذي بها في إبان نشوته، ولكنه في موضعٍ آخر يسمعه يقول راجعًا إلى الله رجوع الضالِّ إلى الصراط المستقيم: ليست هياكل الأصنام والكعبة سوى أماكن للعبادة، وما أصوات الأجراس إلا تسبيح بحمد القادر على كل شيء. وكذلك محراب الجامع والكنيسة والهيكل والصليب، كلها ليست في الحقيقة إلا أشكالًا مختلفة لحمد الله وعبادته.
فهذا القول ليس بقول رجل سكير معتوه يهذي، بل هو قول رجل حكيم طار بأجنحة الحكمة إلى ما فوق عادات البشر وتقاليدهم. ومن العجيب أن يلتقي الخيَّام في هذا الموضوع بالإمام المشهور العارف بالله الشيخ محيي الدين بن العربي الذي يقول من قصيدة:
قوله فالدين: يعني الدين المطلق، وهو ما يسميه فلاسفة أوروبا «الديانة الطبيعية». فرحم الله الإمام التقي الشيخ محيي الدين على هذا القول الجميل الذي أظهر به تساهُلًا تطرب له عِظام الفيلسوف رينان في قبرها، وغفر الله للخيام بهذا كثيرًا من سيئاته.
(٤) كيف نتصور الخيام
وكان الخيام مشهورًا في بلاد الفُرس والعرب بعلم الرياضيات والفلك، ولكن شهرته بالشعر كانت أعظم وأوسع، فإن بني عصره من الفُرس على الخصوص كانوا يلتقطون رباعياته ويتناقلونها من بلدٍ إلى بلد، ومن منزل إلى منزل، فتملأ البلاد سرورًا بما فيها من الدعوة إلى لذة الحياة، والتمتُّع بالطيبات، والتغزُّل بالنساء والخمر والهوى النفساني الشديد، الذي لم يصفه أحد كما وصفه الخيام. وهنا موضع للسؤال عن غرض الخيام من شعره هذا؟ وقد انقسمت الآراء في ذلك إلى ثلاثة: الرأي الأول أن الخيام كان بتغزُّله في الخمر ودعوته إلى ملاذها لا يقصد إلا مقاومة الشرائع الدينية. قال المسيو درمستتر؛ المستشرق المشهور، في حكمه على الخيام: إن أغاني أوروبا الخمرية ليست إلا أغاني جماعة من السكيرين. أما أغاني الفُرس الخمرية فهي بمثابة حرب تُشهَر على التقاليد الدينية الضاغطة على طبيعة الإنسان وحريته وثورة عليها، فشرب الخمر عندهم عبارة عن طلب الحرية، والرأي الثاني، وهو رأي كثيرين من الفُرس قالوا به بعد وفاة الخيام: إنه إنما كان يتغزل بالخمر الإلهية لا خمر الكرمة، فإن هذه الخمر عند الصوفية عبارة عن رمز إلى الخمرة الإلهية. ولكن يكفي لرد هذا الرأي أن الخيام كان والصوفية على طرفي نقيض، وما جاز قوله في ابن الفارض لا يجوز في الخيام. ولقد حكم المسيو باربيه دي مينار؛ المستشرق المشهور، في هذه الآراء حكمًا مُبهمًا، فقال: سواء كان هذا الكتاب — يعني رباعيات الخيام — اعتراضًا على التقاليد الإسلامية، أو كان ثمرة تصوُّر عليل، وخليطًا غريبًا من الشك والتهكُّم والنفي المؤلم؛ فإنه من الغريب المدهش أن نجد في بلاد الفرس منذ القرن الحادي عشر رجالًا سبقوا جوت وهنري هين إلى كثير من أفكارهما.
فبعدما تقدَّم تظهر لنا صورة الخيام بعد ثمانية قرون من وفاته واحدة من اثنتين: فإما أنه رجل كبير من رجال العقل والنقد، كان يطلب محاربة التقاليد والأوهام ليُطلق العقل البشري من عُقاله، ويهدم النظام الاجتماعي الذي كان في عصره؛ لأنه قائم على ظهور الصغار لمنفعة الكبار. وإما أنه رجل منتفخ الجسم، دموي المزاج، شديد الشهوة إلى المُسكِرات وما وراءها، اتخذ عقله سبيلًا إلى إشباع شهواته حين لم يجد وراء هذه الحرية شيئًا. وهذا شأن النفوس الصغيرة التي تطلب تحرير عقولها، والانطلاق من قيد المعتد، لتُبيح لنفسها المرح في ميدان الملاذ والشهوات في هذه الدنيا. وحينئذٍ يكون بين الخيام وبين أبي العلاء المعري؛ فيلسوف شعراء العرب وحكيمها، من الفرق ما بين التراب والتبر، فإن المعري كان يبحث في تحرير عقله ونفسه ليضعهما تحت نير أشد وأصعب من نير الدين، وهو نير الحكمة، وكراهة الشر، والتقوى الأدبية التي تقوم عند العُقلاء المخلصين متى كانت حقيقية مقام الشريعة الدينية والتقوى الدينية.
(٥) شهرته في أوروبا وأميركا
ولقد عاصر الخيام كثيرين من علماء العرب وفلاسفتهم، أشهرهم الفيلسوف ابن سينا، وحُجة الإسلام الإمام الغزالي، وأبو العلاء المعري. ولم نعثر في أثناء مطالعتنا أنه التقى بابن سينا ولا بالمعري، فإن ابن سينا توفي وعمر الخيام ٢٠ سنة، كما تقدم، وإنما وجدنا أن الخيام توفي وهو يقرأ الشفاء، كتاب ابن سينا المشهور. أما المعري فقد كانت وفاته في عام ٤٤٩ للهجرة، كما روى ابن خلكان. وحيث إن الخيام وُلد في سنة ٤٠٨، فيكون عمره يوم وفاة أبي العلاء ٤١ سنة، وإنما ذكرنا هذه التفاصيل للسبب التالي:
اطَّلع علماء أوروبا منذ سنة ١٧٤٢ للميلاد على معارف الخيام الرياضية والفلكية بما نقله عنه المسيو جيرار ميرمان في كتاب له نشره في ليدن. وفي سنة ١٨٥١م، نشر سديلو وشاسل ووبك ترجمة رسالة الخيام في الجبر، وهي خمسة أقسام. وفي سنة ١٨٥٧، نشر المسيو كارسين دي تاسي شرحًا على رُباعيات الخيام. وفي سنة ١٨٦٧، نشر المسيو نقولا الرباعيات نفسها باللغة الفرنسوية. والمسيو نقولا هذا يعتقد في الخيام أنه كابن الفارض متغزل بالخمرة الإلهية، وقد قال في مقدمة كتابه إنه تلقَّى هذا الرأي من رجل تقي من طهران. وفي سنة ١٨٩٨، ترجم تشوفوسكي الرباعيات إلى اللغة الروسية، غير أن الترجمة التي أطارَتْ شهرة الخيام في أوروبا وأميركا والعالم أجمع هي ترجمة الشاعر الإنكليزي فيتس جرالد للرباعيات في سنة ١٨٥٩، فإن جرالد ترجم الرباعيات شعرًا إنكليزيًّا وتصرف بالترجمة، فأُعجب الإنكليز والأميركان بشعر الخيام وأقبلوا عليه إقبالًا عجيبًا؛ لأنهم وجدوا فيه ما يعجبهم بالأكثر في شاعريهم بيرون وسوينبر من الآراء السامية في ذم الفساد في الدنيا، وسطوة الشر على الخير، والقبيح على الجميل فيها، فنال المترجم جرالد بهذه الترجمة شهرة واسعة، وراجَتْ كتبه وشعره بواسطتها رواجًا كثيرًا. وقد بلغ ببعضهم الإعجاب بالخيام ومترجمه أن اجتمعوا في لندن في سنة ١٨٩٦، وأنشئوا ناديًا خصوصيًّا دعوه: كلوب العمريين، نسبةً إلى عمر الخيام، ولعلَّ هذا الكلوب لا يزال قائمًا حتى اليوم. وأول ما ظهرت الرباعيات في أوروبا وأميركا سمَّى قُراؤها الخيام: فولتير الشرق.
ويظهر أن الشهرة التي نالها الخيام في إنكلترا على الخصوص قد نال مثلها في أميركا أيضًا. وهنا وصلنا إلى السبب الذي جعلنا نقرن اسم الخيام باسم أبي العلاء المعري، على ما تقدم، فإن أحد الكُتاب السوريين المجيدين في اللغة العربية والإنكليزية في نيويورك، ظهر له أن الخيام مستمد كثيرًا من أفكاره وآرائه الدينية من شعر أبي العلاء المعري؛ ولذلك ترجم إلى اللغة الإنكليزية شيئًا من شعر أبي العلاء بعنوان «رباعيَّات أبي العلاء»، ونشره في نيويورك. ومن المحتمل أن يكون كلٌّ من الخيام وأبي العلاء قد روى شعر صاحبه، إلا أننا لا نجزم بأن الخيام قد تحدَّى المعري واقتبس شعره. والأصح أنهما كلاهما كانا يتناولان إلهاماتهما من مصدرٍ واحد، وهو العقل وحب الحرية والبحث؛ ذلك الحب المشترك بين جميع النفوس، وإنما ينقطع إليه بعضها دون بعض بحسب استعدادها والمؤثرات التي تؤثر فيها.