ابن رُشد وفلسفته

بين الفلاسفة مسألة يسمونها مسألة إنكار العدالة في العالم أو إثباتها؛ فمنهم فريق يرى أن العالم إنما هو عبارة عن بطون تدفع وأرض تبلع، فلا نظام ولا ناموس، وإنما الحياة عِراك شديد بين البشر يتغلَّب فيه القوي ويسقط الضعيف، وليست الفضيلة والخير والصلاح شرطًا للانتصار في هذا العراك، وإنما القوة هي الشرط الوحيد. وبناءً على ذلك، كثيرًا ما تسلَّحَت الرذيلة بالقوة فانتصرَتْ أعظم انتصار، وانكسرت أمامها الفضيلة أقبح انكسار. وكفى دليلًا على ذلك سقراط وأريستيذس وابن الإنسان سيد البشر. أفما سقى الأثينيُّون سقراط سُمًّا لأنه جهر بحقيقة من أبسط الحقائق، وهي وحدانية الخالق؟ أما أهانوا أريستيذس، مثال الصدق والاستقامة، ونفوه من وطنه من أجل صدقه؟ فهل كانت الفضيلة تسقط هذا السقوط وتُداس بهذه الوقاحة لو كان في الكون عدالة ساهرة؟

فيرد على ذلك أنصار العدالة بقولهم وهم يبتسمون: أتحسبون أن سُقراط كان مغلوبًا مع الأثينيين؟ كلَّا، بل إنه انتصر عليهم وإن كان قد شرب السم من أيديهم. ذلك أن الانتصار الحقيقي لا يتوقف على ظلم ساعة، ولا على عذاب يوم. قال الفيلسوف بلوتين: مِمَّ تشكو أيها الإنسان؟ أمن ظُلامة؟ ولكن ما تأثير الظُّلامة في النفس الخالدة؟ فظلامة الأثينيين لم تضر سقراط، بل عاد شرها عليهم. ذلك أن كل فرد من أفراد الإنسانية منذ تلك الحادثة الفظيعة إلى هذه الأيام لا يُذكر على مسمعٍ منه اسم سقراط واسم الأثينيين إلا ويُعظِّم الحكيم سقراط، ويُحَقِّر أولئك الذين سمَّموه. إذًا فمن الغالب ومن المغلوب من الفريقين؟ أليس الغالب ذلك الذي يعيش ذكره مُبجَّلًا مُعظَّمًا في نفوس بني البشر إلى آخر القرون والأجيال؟ وهل تريدون دليلًا أفضل من هذا على أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، كما قال الإمام الغزالي؟ وعلى وجود عقل عام يُدبر الكون بمبادئ ونواميس ثابتة، ويجعل النصر فيه للفضيلة دائمًا ولو بعد حين؟

إذا رُمتم دليلًا آخر فإليكم ابن رُشد؛ فيلسوف الإسلام العظيم، فإن مُعاصريه كفَّروه ومنعوا كتبه وأهانوه ونفوه. ولكن أيُّ شأن لهذا كله في نظر العاقل الحكيم الذي ينظر إلى جواهر الأمور لا إلى أعراضها؟ ألا ينسى ابن رُشد كل تلك الهنات الصغيرة إذا تسنَّى له أن يُشاهد من مكانه الأبدي ما يقوله البشر عنه اليوم في اللغة العربية وغيرها؟

وإليك ترجمة هذا الفيلسوف العربي الذي يعتقد الإفرنج أنه الفيلسوف الحقيقي الوحيد الذي نبغ في الإسلام:

(١) ترجمته

هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رُشد. وكانت أسرته من أكبر الأسر في الأندلس (إسبانيا)، وقد ولِيَ أبوه وجَدُّه منصب قاضي القضاة فيها. وكانت ولادة صاحب الترجمة في قُرطُبة في سنة ٥٢٠ هجرية؛ ١١٢٦ مسيحية، وتوفي في بلاد المغرب (مراكش) في ٩ صفر من سنة ٥٩٥ هجرية وعمره ٧٥ سنة.

وقد تلقَّى ابن رُشد في صغره علم الكلام — وهو في الدين الإسلامي بمنزلة اللاهوت في الدين المسيحي — غير أن عقله المطبوع على طلب الحقيقة وحب التوسُّع في العلم لم يكتفِ بذلك، فأقبل برغبة شديدة ونشاط عظيم على درس الطب والرياضيات والفلسفة. وكانت مدارس قرطبة والأندلس في ذلك الزمان مصابيح علم وهُدى لجميع الأمم.

ولمَّا شبَّ ابن رُشد جُعل قاضيًا في قُرطبة. وكانت دولة الموحدين قد أسقطت دولة المرابطين في مدة شبابه وحلَّت محلها. وكان ابن طُفيل صديق ابن رُشد من أعظم أخصاء الدولة الغالبة، فقرَّب صديقه من الخليفة يوسف؛ الذي خلف الخليفة عبد المؤمن. وفي سنة ٥٤٨ هجرية، عبر ابن رُشد البحر بين الأندلس وبلاد المغرب (مراكش) وأقام فيها مساعدًا على إنشاء مدارسها وإنارة مصابيح العلم فيها. وفي عام ٥٦٥ﻫ، جُعل قاضيًا لإشبيلية في الأندلس. وفي عام ٥٦٧ﻫ، عاد إلى قُرطبة، ثم سافر إلى بلاد المغرب في عام ١١٨٢ وقد استدعاه إليها الخليفة يوسف وجعله طبيبه الخاص مكان ابن طفيل، ثم رقَّاه إلى منصب قاضي القُضاة في قُرطبة؛ عاصمة الأندلس، فتربَّع ابن رُشد في كرسي أبيه وجَدِّه.

(٢) تكفيره

وفي عام ١١٨٤ للميلاد، ولِيَ يعقوبُ المنصور بالله الخلافةَ في الأندلس خلَفًا ليوسف أبيه، فبلغ صاحب الترجمة لديه أسمى منزلة في بدْءِ حُكمه، وأصبح في ذلك الزمان سلطان العقول والأفكار، لا رأي إلا رأيه، ولا قول إلا قوله. ولكنه مكتوب لكل أصحاب العقول الذين يمتازون عن البُلْه والبُلداء وأصحاب الدعوى في هذا العالم أن يتكاثر حُسَّادهم لسبب ولغير سبب؛ ولذلك حسد ابن رُشد جماعة من الذين قصروا عن شق غباره وبلوغ منزلته، فوشَوا به لدى الخليفة يعقوب المنصور بأنه يجحد القرآن، ويُعرِّض بالخلافة، وينشط الفلسفة وعلوم المتقدمين بدلًا من الدين الإسلامي. ولا غرابة في هذه التهمة بعد انصراف ابن رُشد إلى الفلسفة وطلبه الحقيقة من طريق العقل في زمن كذلك الزمن، وإنما الغرابة ألَّا تحدُث يومئذٍ تُهم كهذه التهمة؛ ولذلك فكل فيلسوف أهل لأن يُلقَّب بهذا اللقب يحتمل هذا العدوان من المعاصرة احتماله أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه ولا مهرب. وبناءً على ذلك يكون أولئك الكبراء العظماء الذين عُذبوا في بدء نشأة العلم في كل أمة لاعتقادهم اعتقادات تُناقِض اعتقاد بُسطائها، بمثابة شُهداء يحق لهم علينا اليوم كل إكرام واحترام؛ لأنهم كانوا طليعة جيش العلم الذي لم ينتصر إلا بجهادهم وبدمائهم، حتى كأنهم ما خُلقوا إلا لتُلقى على ظهورهم أحمال العلم والإنسانية كلها.

(٣) نصبه أمام الجامع للبصق عليه

أما الخليفة يعقوب المنصور فإنه لما رُفعت إليه الشكوى على ابن رُشد أمر فاجتمع لديه أعظم فقهاء قُرطبة وقُضاتها، ثم طرح عليهم الخليفة قضية ابن رُشد — وقد حضر ابن رُشد نفسه هذا الاجتماع — فقرر الفقهاء أن تعاليمه كُفر محض، ولعنوا من يقرؤها وقضوا على صاحبها بالنفي من قُرطبة. ومن الأسف العظيم ألَّا يكون لدينا تفصيل هذه الجلسة التي جرت محاكمة الفيلسوف فيها. فنُفي ابن رُشد إلى لوسنه؛ وهي بلدة قريبة من قُرطبة، وقُضيَ عليه بالتزامها وعدم الخروج منها. وهنا اختلفَت الروايات، فمن قائل أن ابن رُشد أقام فيها حتى رحل الخليفة يعقوب المنصور إلى بلاد المغرب، ومن قائل أنه سار منها يروم الخلاص من الأسْر، فقُبض عليه في فاس وأُوقف على باب الجامع ليبصق عليه الناس في دخولهم وخروجهم. فإذا كان هذا الخبر صحيحًا فقد أُهينَت الفلسفة والحكمة والعقل في شخص ابن رُشد أقبح إهانة؛ وذلك مما يجعل له حقًّا جديدًا في الكرامة والاحترام فوق حقه الفلسفي الكبير.

ولسنا نزعم أنه يجوز لكل واحد من العلماء أن يضع مذهبًا جديدًا، ويدعو الناس إليه وإن كان مُناقِضًا لمعتقدات الناس وهادمًا لأساسها. كلَّا، فإن ذلك أمر لا يخلو من مضرة من بعض الوجوه، وإن كان نافعًا من وجوهٍ أخرى، ولكن كما أنه لا يجوز للعالم الجالس في غرفته وراء مائدته وهو يبحث بإخلاصٍ وإمعان عن الحقيقة، أو ما يظنه حقيقة، أن يدعو الناس إلى ترك ما في أيديهم للتمسُّك بالأمر الجديد الذي يظن أنه قد وجده، ويحقر كل من لا يعتقد مُعتقده، كذلك لا يجوز للناس أن يمنعوا العقل البشري من الانطلاق في جو الفكر لطلب الحقيقة والعلم والنور بالآلات العقلية، التي منحه الله إياها، دون تضييق على هذه الآلات أو إيقافها في مجراها.

ولا ريب أن الأمر الأول ضرب من الغرور والطياشة؛ إذ ليس في العالم أحدٌ قادرًا على إثبات أن الحقيقة في يده ومعتقده؛ ولذلك يجب على كل واحد من البشر أن يحتمل رأي غيره وإن كان مُخالفًا لرأيه. وهذا — وا أسفاه — لقصور العقل البشري وضيق ذراعه عن الإحاطة بفضاء الأسرار الإلهية التي أمامه، ولكن إذا كان الأمر الأول غرورًا وطياشة، فالأمر الثاني ضرب من ضروب الكفر بنعم الله — تعالى — لأنه يقتضي إطفاء نور العقل الذي خلقه الله ووضعه في الإنسان كما توضع المنائر على شواطئ البحار. أفتطفئون المنارة في الإنسان ثم تقولون له: سِرْ واعتقِد أنك سائر في الطريق القويم؟!

(٤) عوده إلى مقامه

وليس يسوءُ الحق شيء مثل اتخاذ الهوى مركبًا في أمور مقدسة كهذه الأمور، فإنه إذا كان كل معارض ومعترض يُعارض ويعترض دفاعًا عن مبادئ مقررة في نفسه وهو يقوم بهذا الدفاع، ولا غرض له غير طلب الحقيقة المجردة؛ فهذه المعارضة وهذا الاعتراض أمر مقدس يجب على كل عاقل أن يحترمه، ولكن من سوء حظ البشر أنهم يقدمون الهوى دائمًا على الحق، وقلَّما تجد شهيدًا من شُهداء العلم الذين بذلوا في سبيله كل مُرتخصٍ وغالٍ إلا وترى أنه كان للحسد اليد الطُّولَى في مُعارضته واضطهاده. والذي يدل أحسن دلالة على أن تكفير الفيلسوف ابن رُشد كان من هذا القبيل، أن المنصور لما عاد من قُرطبة إلى بلاد المغرب (مراكش)، ووجد نفسه بعيدًا عن أعداء ابن رُشد الذين أثَّروا فيه فجعلوه يُكفِّره وينفيه، ذكَر فضْلَ هذا الفيلسوف الكبير وعِلْمه، وسعة صدره، وحُسن أخلاقه، فأمَر من المغرب بإلغاء الحكم الذي حُكم به عليه، وبإباحة الفلسفة والإذن للناس في الاشتغال بها، فعادت إلى فيلسوف الأندلس كرامته ومنزلته، ولكنه لم يتمتع بهما بعد ذلك مدة طويلة؛ إذ أدركته المنيَّة في بلاد المغرب فدُفن فيها، وبعد ذلك نُقلَتْ جثته إلى قُرطبة التي تفتخر به لأنها مسقط رأسه.

(٥) مؤلَّفاته

كان ابن رُشد مولعًا بالتأليف والمطالعة، ولم يكن له لذة في غيرهما. ولقد تمنى أن ينقطع عن منصبه إليهما لو أن ذلك كان في إمكانه، وكان يقول في كتبه إنه يشبه رجلًا اتصلت النار بمنزله فأخذ يخرج منه أهم أثاثه شيئًا فشيئًا.

أما مؤلفاته فهي كثيرة يضيق المقام دون تعدادها كلها، فنكتفي إذًا بذكر كتبه الجليلة التي جعلت له في عالم الفلسفة والعلم هذه الشهرة الطائرة. وهذه الكتب قسمان: قسم في الطب، وقسم في الفلسفة. فشُهرته في العالم مبنيَّة إذًا على هاتين الصناعتين: الطب والفلسفة. على أنه قد ألَّف أيضًا في علم الكلام والصرف والفقه وعلم الفلك عدة مؤلفات، منها في علم الفلك مختصر المجسطي، وفي الفقه كتاب دروس كاملة، وفي الطب الكليات؛ وهو ستة أجزاء تتضمن دروسًا كاملة في صناعة الطب. ولقد بقي لهذا الكتاب أهمية كُبرى مدة طويلة. على أن أهم كتبه كلها شروح أرسطو، التي بلغ بها مؤلِّفُها أسمى منزلة.

(٦) شرحه أرسطو

ولقد قُلنا مؤلِّفها ولم نقُل مترجمها؛ لأن ابن رُشد لم يُترجم فلسفة أرسطو، ولكنه شرحها شرحًا. ولقد أخطأ من قال إنه ترجمها؛ لأن ابن رشد لم يكن يُحسن اللغة اليونانية، فضلًا عن أنه كان في دار الخلافة في الأندلُس أطباء من النساطرة الذين كانوا قد ترجموا كتب أرسطو إلى اللغة العربية، وكان كثيرون من علماء السريان والكلدان قد ترجموا هذه الكتب إلى العربية قبل عصر ابن رُشد بثلاثة قرون؛ فلا ريب أن فيلسوف الأندلس قد اعتمد في شرح أرسطو؛ أستاذه وأستاذ فلاسفة العالم إلى عهد باكون، على هؤلاء المترجمين.

وقد شرح ابن رُشد فلسفة أرسطو بطرق ثلاث؛ الأولى: الشرح الوجيز، والثانية: الشرح المتوسط أو الواسطة، والثالثة: الشرح الكامل أو المطول.

أما الشرح الصغير فإن ابن رُشد يتناول فيه مواضيع أرسطو، ويؤلف فيها من عند نفسه مقالات في غاية الأهمية، فهو في هذا الكتاب مؤلف لا شارح. وأما الشرح المتوسط فإنه يذكر في صدر كل فصل منه بضع كلمات من كتاب أرسطو ثم ينطلق في الشرح والتأليف، فيختلط قوله بقول أرسطو حتى يصعُب فصلهما. وأما الشرح المطوَّل فإن ابن رُشد يذكر فيه فقرات أرسطو فقرة فقرة، ثم يشرح أجزاءها شرحًا كافيًا. ومما لا ريب فيه أن ابن رُشد لم يكن يضع الشرح الكبير إلا بعد فراغه من الشرح الصغير، وقد قال فلاسفة الإفرنج إن ابن رُشد أعظم فلاسفة القرون الوُسطى الذين تبعوا أرسطو وشرحوا أقواله.

ومن الكتب التي نقلها عن أرسطو ما يلي: الكون والفساد، وما وراء الطبيعة، والبرهان، والنفس، والأخلاق، والسماء، والكون، وغيرها. وله أيضًا كتاب التهافُت، وهو رد على كتاب للإمام الغزالي عنوانه: تهافُت الفلاسفة.

(٧) طبع كتبه وترجمتها

ومما يحق لأبناء اللغة العربية أن يخجلوا منه أنهم إذا طلبوا كتب هذا الفيلسوف بين ما طُبع ونُشر من الكتب بلُغتنا في النهضة الحديثة لم يجدوا شيئًا منها، ولمَّا قامت شركة طبع الكتب العربية في القاهرة لإحياء المؤلفات القديمة الجليلة الشأن أعرضَتْ عن مؤلفات هذا الفيلسوف كل الإعراض، مع أنه كان يجب جعل كتبه في مقدمة الكتب التي طبعتها؛ وذلك لعدة أسباب: أولها: أن القراء أكثر إقبالًا عليها منهم على سواها كما ظهر بعد الاختبار، وثانيًا: لأنها أهم الكتب العربية على الإطلاق، وحسبُك أنها كتب الفيلسوف الحقيقي الذي نبغ في الإسلام، وثالثًا: لأنه كان يجب في هذا العصر الذي جاز العلم فيه كل ما قام في سبيله من العثرات، وظهر مصباحه ساطعًا من وراء الظلمات، أن يكون صوت ابن رُشد الجهوري؛ ذلك الصوت الذي حاول الناس خنقه ولم يُفلِحوا، أول صوت يطرُق مسامع الأبناء ليُذكِّرهم بمجد الأجداد القديم، لعلهم يذكرون عنده الأسباب التي مَحَتْ ذلك المجد فيجتنبوها، والأمور التي نقلته منهم إلى تلامذتهم الأوروبيين فيقتبسوها، فإنه لا أعرَف من ابن رُشد بتلك الأسباب وهذه الأمور، ولا أرشَد من كتبه إليها، وأدل منها عليها.

أما الإفرنج فإنهم عنوا بترجمة كتب ابن رُشد أشد عناية، فتُرجمَتْ مؤلفاته كلها إلى اللغة اللاتينية؛ لغة العلم والعلماء في ذلك الزمان. وكذلك الإسرائيليُّون فإنهم ترجموا كتبه إلى العبرانية؛ لأنهم كانوا من حَمَلَة العلم في إسبانيا وأوروبا، وكان منهم أكثر تلامذة ابن رُشد. ويكفي لبيان الأهمية التي كانت لهذا الفيلسوف لدى الإفرنج في صدر تمدُّنهم أن نقول إن في مدينة البندقية وحدها اليوم أكثر من ٥٠ طبعة من مؤلَّفاته.

(٨) فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود

وقبل إيضاح فلسفة ابن رُشد نأتي على آراء المتكلمين الذين عارضوها؛ إذ في هذه المقابلة تمام الفائدة، فنقول:

إن المتكلمين (أي علماء الكلام في الدين الإسلامي) قد وضعوا فلسفة خاصة بهم، وربما لم يكن من الصواب أن تُدعى تعاليمهم فلسفة؛ لأنها عبارة عن مباحث دينية محضة، ولكن كل ما جرى فيه كلام عن الخالق عز وجل وعالم الغيب وما وراء الطبيعة فهو فلسفة. ومن المعلوم أن كلمة فلسفة يونانية الأصل، وهي مشتقة من كلمتين: فيلوس: ومعناها محبة، وسوفيا: ومعناها الحكمة؛ فالفلسفة معناها إذًا: محبة الحكمة، وهل في عالم الفكر — الذي هو أشرف العوالم — شيءٌ يستحق أن يُسمى حكمة غير البحث في أصل الحكمة ومصدرها الأعلى؟

ففلسفة المتكلمين هذه مبنية على أمرين؛ الأول: حدوث المادة في الكون؛ أي وجودها بخلق خالق، والثاني: وجود خالق مُطلق التصرُّف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له. وبما أن الخالق مطلق التصرف في كونه فلا تسأل إذًا عن السبب إذا حدث في الكون شيء؛ لأن الخالق نفسه هو السبب، وليس من سببٍ سواه. إذًا فلا يلزم عن ذلك قطعيًّا أن يكون بين حوادث الكون روابط وعلائق، كأن ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث تحدث بأمر الخالق وحده. وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصوَّر بها الآن؛ وذلك بقدرة هذا الخالق.

(٩) روح جديد عصري

هذا لباب تعاليم المتكلمين، ولسنا الآن في مقام البحث فيها، بل إننا نبسطها لمقابلتها بتعليم ابن رُشد، وإنما نقول في معرض الكلام: إنه يلوح لنا أن كثيرين من علماء الكلام المعاصرين ومن إخواننا الكتاب المسلمين قد أدخلوا شيئًا من النظام في تلك الفوضى، فإننا نُطالع بإمعانٍ لا مزيد عليه كل ما تنشره رصيفتنا مجلة المنار الغرَّاء من الدروس التي يُلقيها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ مفتي الديار المصرية، في الجامع الأزهر تفسيرًا للقرآن، فنجد في كل صفحة من صفحاتها روحًا جديدًا، إذا تم انتشاره كان بمنزلة إصلاح عظيم في العالم الإسلامي.

ومقتضى هذا الروح الجديد تقييد الكون بنواميس طبيعية وضعها الخالق له، فلا يحدث شيء في العالم إلا بها، غير أن الأستاذ لا يذهب في ذلك مذهب الماديين الإلهيين الذين يعتقدون أن الله — سبحانه وتعالى — قد خلق نواميس الكون وأجراها في مجراها الطبيعي، وقضى بألَّا تخرج عنه أبدًا. كلَّا؛ لأنه يعتقد أن الخالق الأبدي الذي وضع تلك النواميس قد ينقضها حينًا من الزمن كلما شاء، وذلك من أجل المُرسلين الذين يختارهم لإصلاح حال البشر وهدايتهم إلى منافعهم.

ومهما يكن من هذا الأمر، فكفى هذا الرأي أهميةً وجلالًا أنه يجعل للكون نظامًا طبيعيًّا ثابتًا يجري عليه، فالبشر الذين يدرسون هذا النظام ويعملون به ينعمون ويسعدون في هذه الحياة، والذين يجهلونه ويخالفونه استنادًا إلى أن الخالق يفتقدهم وهم جالسون في بيوتهم، سواء سعوا أم لم يسعوا، فإنهم يشقون وينحطُّون. ولقد كان علماء الأديان في العصور المتقدمة يُنكرون هذا الرأي ويُكفِّرون صاحبه؛ لاعتقادهم أنه غير لائق بالخالق — عزَّ وجلَّ. أما اليوم فلم يبقَ مجال لهذا الإنكار بعد الاكتشافات العلمية التي كشفَت النقاب عن وجه النواميس الطبيعية التي تحكم الكائنات كلها من جماد وحيوان ونبات.

ولكن ليس الفضل للبشر اليوم في التسامح وقبول هذا المبدأ الصحيح الجديد، وإنما الفضل لأولئك الذين خاطروا في العصور المتقدمة في كل ملة وأمة بمناصبهم وحياتهم وكرامتهم، ولمن يحذو حذوهم في هذا العصر لإيصال عالمنا المطبوع على الجهل والقسوة والتعصُّب إلى هذه الدرجة من الاعتدال والتسامُح، ومعرفة الحقائق الأزلية الأبدية.

(١٠) فلسفته ورأيه في المادة وخلق العالم

أما فلسفة ابن رُشد فإنها تُناقِض الفلسفة التي تقدمَتْ. وإليك خلاصة منها:

المادة وخلق العالم

إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات، وهو يرى في ذلك رأي أرسطو، فيقول: إن كل فعل يُفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة، والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق، وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صُنعت الكائنات منها. ولكن ما هي هذه المادة؟ هي شيء قابل للانفعال، ولا حد له ولا اسم ولا وصف، بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه. وبناءً عليه يكون كل جسم أبديًّا بسبب مادته؛ أي إنه لا يتلاشى أبدًا؛ لأن مادته لا تتلاشى أبدًا، وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل لا بد له من هذا الانتقال، وإلا حدث فراغ ووقوف في الكون؛ وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شيءٌ قط. وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو مصدر القوة والفعل؛ أي الخالق سبحانه وتعالى، يكون غير مختار في فعله؛ لأن الحرية والاختيار يقتضيان كونه مُحدَثًا، والخالق تنزَّه عن أن يكون حديثًا.

اتصال الكون بالخلق

هذا فيما يختص بخلق العالم، وهو مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين كما ترى، ولكن كيف يستولي العامل الأول على الكون ويُدبِّره؟

لابن رُشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة، فإنه يُشبِّه حكومة الكون، أي تدبيره، بحكومة المدينة، فإنه كما أن كل شئون المدينة تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة، وهي نقطة الحاكم العام فيها، فيكون هذا الحاكم مصدرًا لكل شئون الحكم ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون. كذلك الخالق في الأكوان، فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تُدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات، فبناءً على ذلك لا يكون للكون اتصال بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده، وهذا العقل الأول هو عبارة عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب.

وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كون حي، بل أشرف الأحياء والكائنات، وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصلية للحياة، والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر. أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها فهو في قلب هذه الدوائر، ولكل دائرة منها عقل، أي قوة تعرف بها طريقها، كما أن للإنسان عقلًا يعرف به طريقه. وهذه العقول الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض، والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض، إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تُحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه، وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناءً على ذلك يكون للعقل الأول الذي هو مصدر كل هذه الحركات علم بكل ما يحدث في العالم.

طريق الاتصال

وإن قيل: ما هي علاقة الإنسان بالخالق؟ فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رُشد أيضًا عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه: النفس. وخلاصة ذلك أن في الكون عقلًا فاعلًا وعقلًا منفعلًا؛ فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة، وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس، وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين؛ ذلك أن العقل المنفعل يميل دائمًا للاتحاد بالعقل الفاعل، كما أن القوة تقتضي مادة تنفذ فيها، والمادة تقتضي شكلًا توضع به، وأول نتيجة تحصل من هذا الاتحاد تُدعى: العقل المكتسَب.

ولكن قد تتحد النفس البشرية بالعقل العام اتحادًا أشد من هذا، فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج بالعقل القديم الأزلي، ولا يتم هذا الاتحاد بالعقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره، فإنما وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به، وأما إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق العلم، فالعلم إذًا هو سبب الاتصال بين الخالق والمخلوق، ولا طريق غير هذا الطريق. ومتى اتصل الإنسان بالله صار مثله عارفًا بكل شيء في الكون، ولم يعُد يفوته شيء، ولكن كيف يتصل الإنسان بالله؟ يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب، ويخرق بنظره حجاب الأسرار التي تكتنف الكون، فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كنه الأمور وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الحقيقة الأبدية.

أما المتصوفة فإنهم يقولون إن هذا الاتصال يتم بواسطة الصلاة والتأمُّل والتجرُّد، وليس العلم ضروريًّا له.

وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم، والكون في رأيه — كما مرَّ بك — إنما صُنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض، وكلها مرتبطة ارتباطًا مُبهمًا بقوة عُليا. ومن هذه المبادئ شيء يستولي على العالم ويضع فيه العقل، فهو عقل الإنسانية. وهذا الشيء الذي يسميه عقلًا أيضًا هو عقل ثابت لا يتغير؛ أي إنه لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، والناس يشتركون فيه ويستمدُّون منه بكميات متباينة، على أن من كان منهم أكثر استمدادًا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة.

الخلود

ولكن هل إن نفس الإنسان خالدة أم لا في هذا المذهب؟ وهل كان ابن رُشد يعتقد بحياة ثانية؟

ربما كان لابن رُشد جوابان على هذه المسألة الخطيرة، التي هي الآن دُعامة عظيمة من دعائم الإنسانية، فإننا في أثناء مطالعاتنا لبعض كتبه قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلامًا يدلُّ أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية، حتى بالعقاب والثواب أيضًا؛ فعجبنا كل العجب من تكفير الناس رجلًا يرى هذا الرأي، ولكنَّا لما وصلنا إلى مذهبه الفلسفي ورأينا متابعته لأرسطو فيما يختص باعتقاده بالنفس وخلق الكون تغيَّر وجه المسألة؛ ذلك أن ابن رُشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده، فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل، فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المُحجبة ولا يُبالي؛ ولذلك قُلنا إنه ربما كان له في ذلك جوابان.

أما الجواب الأول فيما يختص بالعقاب والثواب، فهو قول مشهور، وإنما يزيد عليه ابن رُشد وجوب التأويل، وأما جوابه الثاني؛ أي الجواب الفلسفي الذي طلبه بالعقل دون سواه، فإليك خلاصته:

قال: إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره، من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة، وغير قابل للفناء والمُلاشاة، والعقل الخاص المنفعل من صفاته الفناء مع جسم الإنسان. وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالدًا، والعقل المنفعل فانيًا. ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد في رأي ابن رُشد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية؛ فالإنسانية إذًا هي خالدة وحدها دون سواها. وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية.

(١١) فلسفته الأدبية

أما الفلسفة الأدبية فلم تشغل سوى حيز صغير في مذهب هذا الفيلسوف بإزاء فلسفته المادية، وقد صرف همه في تلك الفلسفة إلى نقض مذاهب المتكلمين الذين يقولون إن الخير في يد الله، وإنه يصنعه بالبشر حينما يشاء وكيفما يشاء، وبقدر ما يشاء من غير علة ولا سبب؛ بل لأن إرادته تقتضي ذلك. فمن رأي ابن رُشد في ذلك أن هذا المبدأ ينقض كل مبادئ العدل والحق؛ لأن ذلك يجعل حكومة العالم فوضى، ربما شقِيَ فيها الحكيم الفاضل، وسَعِدَ الشرير اللئيم.

أما حرية الإنسان فهو يذهب فيها مذهبًا معتدلًا، فإنه يقول إن الإنسان غير مُطلَق الحرية تمامًا، ولا مُقيَّدها تمامًا؛ وذلك أنه إذا نُظر إليه من جهة نفسه وباطنه فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نُظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مُقيَّدًا بها؛ لِما لها من التأثير في أعماله.

(١٢) تلخيص أحد كتبه

وإتمامًا للفائدة نُلخص في هذه المقالة كتابًا لابن رُشد عنوانه: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»؛ ليقف القارئ على مذهب هذا الفيلسوف لفظًا ومعنًى، خصوصًا لأن هذا الكتاب متعلق بالموضوع الذي بحثنا هنا عنه. وغرض المؤلِّف في هذا الكتاب ثلاثة أمور؛ الأول: إثبات أن الشرع الإسلامي يُجيز اعتبارات الموجودات بالعقل وطلب معرفتها به؛ أي النظر فيها نظرًا فلسفيًّا، والثاني: وجوب تأويل آيات القرآن التي ظاهرها يُخالف البرهان والعقل، والثالث: وجوب عدم ذكر هذه التأويلات في الكتب التي تُكتَب لعامة الناس؛ لأن ذلك يجر العامة إلى الكُفر. ولا ريب أنه بهذا القيد الأخير قد دلَّ على اعتداله ورزانته، وأضعَفَ به حُجج أعدائه، اللهم إلا أن يكون غرضه فيه الحط من مقام الإمام الغزالي، الذي كان مقامًا للفلسفة اليونانية، كما تقدَّم؛ وذلك لأن هذا الإمام قد بسط تلك التأويلات في كتبه.

وقد ابتدأ المؤلف الكتاب الذي نحن في صدده بقوله: أما بعد حَمْدِ الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد عبده المُطَهَّر المصطفى ورسوله. وبذلك اعترف اعترافًا صريحًا بالأصلَين العظيمَين من أصول الدين الإسلامي، الذي كان يتهمه حُسَّاده بالمروق منه والزيغ عنه. ثم إنه بعد ذلك يقول:

وجوب النظر بالقياس العقلي والأخذ عن غير المشاركين: إن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتمَّ كانت المعرفة بالصانع أتمَّ، وقد جاء في القرآن: اعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معًا. وقوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ. وهذا نص بالحث على النظر في الموجودات. وقوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية، وأيضًا: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وأيضًا: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

قال: وإذا تقرَّرَ أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه. وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وليس لقائل أن يقول إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة؛ إذ لم يكن في الصدر الأول من الإسلام، فإن أكثر أصحاب هذه الملة مثبتون القياس العقلي، إلا طائفة من الحشوية قليلة، وهم محجوجون بالنصوص. وإن كان لم يتقدم أحد ممن قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه، فيجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتقدم بالمتأخر حتى تكمل المعرفة به. وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك فبيَّن أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدَّمنا في ذلك. وسواء كان ذلك الغير مُشارِكًا لنا أو غير مُشارك في الملة، فإن الآلة التي تصحُّ بها التزكية ليس يُعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملَّة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المشارك مَن نظَر في هذه الأشياء من القُدماء قبل ملة الإسلام. ولما كان القدماء قد فحصوا عن أمر المقاييس العقلية أتم فحص، فينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان صوابًا قبِلناه منهم، وسُررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منه غير موافق للحق نبَّهنا عليه وحذَّرنا منه وعذرناهم.

نقول: أما كلمة عذرناهم هنا فإنها في الحقيقة كلمة فيلسوف، وهي أجمل ذلك القول الجميل.

ثم قال: لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة (علم الفلك)، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يُدرِك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض؛ لما أمكنه ذلك ولو كان أذكى الناس طبعًا، إلا بوحي أو شيء يُشبه الوحي. وهذا أمر بيِّنٌ بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط، بل وفي العملية، فإنه ليس منها صناعة يقدر أن يُنشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع؛ وهي الحكمة؟!

قد تبيَّن من هذا أن النظر في كتب القدماء — يعني الكتب اليونانية — واجب بالشرع، إذا كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثَّنا الشرع عليه، وأن مَن نهَى عن النظر فيها مَن كان أهلًا للنظر فيها؛ وهو الذي جمَع أمرين؛ أحدهما: ذكاء الفطرة، والثاني: العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية؛ فقد صدَّ الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله؛ وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة. وذلك غاية الجهل والبُعد عن الله تعالى.

(١٣) وجوب التأويل

ثم انتقل من هذه القضية بعد إثباتها إلى قضية التأويل، فقال: وإذا كانت هذه الشرائع الإسلامية حقًّا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنَّا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يُضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له؛ أي إن العلم موافق للدين كما أن الدين موافق للعلم. وبناء على ذلك، قال الفيلسوف: ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وإذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يُقارب أن يشهد؛ ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها من ظاهرها بالتأويل. والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف نظر الناس وتبايُن قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما؛ ولهذا المعنى ورد في القرآن: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ، إلى قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

وكثير من الصدر الأول قد نُقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهرًا وباطنًا، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه، مثلما روى البخاري عن علي (رضي الله عنه) أنه قال: «حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتُريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟» ونحن نعلم قطعًا أنه لا يخلو عصر من الأعصار من عُلماء يرون أن في الشرع أشياء لا ينبغي أن يعلم بحقيقتها جميع الناس.

رده على الإمام الغزالي

ولكن هل إجماع الآراء في التأويل ممكن؟ قال الفيلسوف: كلَّا. إذًا فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام كأبي نصر وابن سينا؟ فإن أبا حامد الغزالي قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بالتهافُت في ثلاث مسائل؛ أولًا: في القول بقدم العالم. ثانيًا: بأنه تعالى لا يعلم الجزئيَّات، تعالى عن ذلك. ثالثًا: في تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد. قال الفيلسوف في ذلك: ليس تكفيره في ذلك قطعًا؛ إذ قد صرَّح في كتابه «التفرقة» أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال. ثم تناول ابن رُشد مسألة علم الله بالجزئيَّات، وهي المسألة الثانية، فقال:

علم الخالق بجزئيَّات الأمور

وقد نرى أن أبا حامد الغزالي قد غلط على الحكماء المشَّائين فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه تقدَّس وتعالى لا يعلم الجزئيات أصلًا، بل يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مُجانس لعلمنا بها؛ وذلك أن علمنا معلول للمعلوم به، فهو محدَث بحدوثه ومتغيِّر بتغيُّره. وعلم الله بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبَّه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل.

العالم قديم أو حديث؟

ونظر بعد ذلك في المسألة الأولى؛ أي قِدم العالم، فقال: إن فيها ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة بين الطرفين. وقد اتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة، فأما الطرف الواحد فهو موجود وُجد من شيء غيره وعن شيء؛ أعني عن سبب فاعل، ومن مادة. والزمان متقدم عليه؛ أعني على وجوده. ويدخل في ذلك النبات والحيوان والأرض والهواء والماء. وقد اتفق الجميع على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدَّمه زمان. وهذا أيضًا اتفق الجميع من الفرقتين القدماء والأشعريين على تسميته قديمًا، وهو الله — تبارك وتعالى — فاعل الكل وموجده والحافظ له. بقيَت الواسطة وهي: موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء؛ أعني عن فاعل. وهذا هو العالم بأسره. والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، والمتكلمون علماء الكلام متفقون أيضًا مع القدماء (اليونان) على أن الزمان المستقبل غير مُتناهٍ، وكذلك الموجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه مُتناهٍ.

وأصحاب هذه المذاهب: مَن غلب عليه ما في الزمان من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سمَّاه قديمًا، ومَن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثًا، وهو في الحقيقة ليس محدثًا حقيقيًّا ولا قديمًا حقيقيًّا، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم من سمَّاه محدثًا أزليًّا، وهو أفلاطون وشيعته، لكون الزمان متناهيًا عندهم في الماضي؛ فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعُد حتى يكفر بعضها ولا يكفر.

وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع، فإن ظاهر الشرع إذا تُصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين، أعني غير منقطع، وذلك أن قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يقتضي بظاهره وجودًا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك، وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ يقتضي أيضًا بظاهره وجودًا ثانيًا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ يقتضي بظاهره أن السموات خُلقَتْ من شيء.

ولكن إذا كان التأويل واجبًا، فهو لا يكون في الأصول؛ مثل الإقرار بالله — تبارك وتعالى — وبالنُّبوَّات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، بل يكون في الفروع، وإن كان في الأصول فالمتأوِّل له كافر؛ مثل مَن يعتقد أنه لا سعادة أُخرويَّة ها هنا ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أن يَسلَم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط.

وإذا تقرَّر هذا فقط فقد ظهر لك من قولنا أن ها هنا ظاهرًا من الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهو كُفر، وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وهنا أيضًا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كُفر، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة. وفي هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول؛ ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرَته أن الله في السماء: أعْتِقْها؛ فإنها مؤمنة. إذ كانت ليست من أهل البرهان. والسبب في ذلك أن الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق إلا من قِبل التخيُّل؛ أعني أنهم لا يُصدِّقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيَّلونه، يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبًا إلى شيء متخيَّل.

المَعاد وحملته على الغزالي

ثم إنه بعد هذا التمهيد تناول المسألة الثالثة من مسائل الغزالي؛ أي مسألة المعاد، فقال: يشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورًا، والمصيب مشكورًا أو مأجورًا، ثم قال: إن التأويل في هذه المسألة الخطيرة يجب أن يكون في صفة المعاد لا في وجوده، على شرط أن يكون التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود؛ لأن جحد الوجود في هذه كُفر؛ لأنه في أصل من أصول الشريعة. وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب حملها على الظاهر، وتأويلها في حقه كُفر؛ لأنه يؤدي إلى الكفر.

وهنا حمل حملة شديدة على الإمام الغزالي، فقال ما نصه:

ولذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر، فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر، فمن أفشاه له من أهل التأويل فقد دعاه إلى الكفر، والداعي إلى الكفر كافر؛ ولهذا يجب ألَّا تثبت التأويلات إلا في كتب البراهين؛ لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان، وأما إذا ثبتت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية، كما يصنعه أبو حامد، فخطأٌ على الشرع وعلى الحكمة، وإن كان الرجل إنما قصد خيرًا؛ وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك، ولكن كثر بذلك الفساد بدون كثرة أهل العلم. وتطرَّق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة، وقوم إلى ثلب الشريعة، وقوم إلى الجمع بينهما. ويشبه أن يكون هذا أحد مقاصده بكتبه. والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفِطَر أنه لم يلزم مذهبًا من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، وحتى إنه كما قيل:

يومًا يمان إذا لاقيت ذا يمن
وإن لقيت معديًّا فعدناني

نقول: وكأن الفيلسوف قد خشي أن يؤاخذ بما آخذ به الإمام الغزالي؛ لبسطه هو نفسه مبادئ الفلسفة والتأويل في كتب تقع بين أيدي العامة، كما في هذا الكتاب، فقال تبرئةً لنفسه: ولولا شُهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استخرنا أن نكتب في ذلك حرفًا؛ لأن شأن هذه المسائل أن تُذكَر في كتب البرهان. ولكن لو عاش الفيلسوف في هذا الزمان ورأى السكك الحديدية التي قرَّبَت الأبعاد واختصرَت المسافات، والصحافة التي هي السكك الحديدية المعنوية للأفكار، لسرعة نشرها إياها، ومزجها بعضها ببعض من جنوب الكرة إلى شمالها، ومن شرقها إلى غربها؛ لتحقق أن الطريقة التي أشار بها من ستر وجه الفلسفة عن الفئة الكبرى من البشر طريقة لم يكن الكرة الأرضية قادرة على التزامها وقتًا طويلًا.

رغبته في وضع كتاب مهم

ثم عاد إلى مسألة التأويل التي هي دُعامة هذا الكتاب، فقال: إنه إذا وقع إشكال في ظاهر القول الديني ولم يكن ظاهرًا بنفسه للجميع، وجب أن يُصرَّح ويُقال إنه متشابه لا يعلمه إلا الله. وإن الوقف يجب هنا في قوله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ. وبمثل هذا يأتي الجواب بالسؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور إلى فهمها، مثل قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

ولذلك ليس يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية، فضلًا عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هو الأمانة التي حملها الإنسان، وأبَى أن يحملها وأشفق منها جميع الموجودات؛ أعني المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ الآية.

وهذه التأويلات في الشرع هي التي كانت سببًا في نشأة فِرَق الإسلام، حتى كفَّر بعضهم بعضًا، وبدَّع بعضهم بعضًا، وبخاصة الفاسد منها. ومَن أتى بعدهم لمَّا استعملوا التأويل قلَّت تقواهم، وكثُر اختلافهم، وارتفعَتْ محبتهم، فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كُلِّفنا اعتقاده، ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير أن يتأوَّل من ذلك شيئًا، إلا إذا كان التأويل ظاهرًا بنفسه؛ أعني ظهورًا مشتركًا للجميع.

ويعني الفيلسوف بذلك أن يُستخرج من القرآن في كتاب خصوصي كل العقائد الواجب الاعتقاد بها من دون تأويل، أو بتأويل ظاهر أجلى ظهور للخاصة والعامة؛ لتكون أساسًا مشتركًا لجميع المسلمين يبنون عليه معتقدهم بلا نزاع ولا جدال، فلا تؤثر فيه مجادلاتهم في التأويلات الأخرى المفهومة وغير المفهومة. قال: وبودِّنا لو تفرَّغنا لهذا المقصد وقدرنا عليه، وإنْ أنسأ الله في العُمُر فسنثبت فيه قدر ما يتيسَّر لنا منه، فعسى أن يكون ذلك مبدأ لمن يأتي بعدُ؛ فإن النفس في غاية الحزن والتألُّم مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة، والاعتقادات المُحَرَّفة، وبخاصة ما عرَض لها من ذلك مِن قِبل مَن يَنسب نفسه إلى الحكمة، فإن الأذيَّة من الصديق هي أشد من الأذية من العدو؛ أعني أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة؛ فالأذية ممن يُنسَب إليها أشد الأذية.

هذا ما رأينا تلخيصه من هذا الكتاب للدلالة على مبادئ ابن رُشد، وعلى منحاه في التأليف وأسلوبه في المناظرة. وقد جمعنا في هذه الخلاصة كل أغراض المؤلف.

(١٤) الفلسفة بعد ابن رُشد وأخلاقه

كان من المنتظَر بعد ظهور ابن رُشد في الأندلس أن يقوم بعده نوابغ من بني قومه يتوسَّعون في الدروس الفلسفية، وينتفعون بالشروح التي وضعها ابن رُشد على أرسطو، وبذلك يُكملون الحركة الاجتماعية والفلسفية، ويقومون مقام فلاسفة الإفرنج الذين جاءوا بعدهم فأخذوا عنهم وكمَّلوها. وإنما كان ذلك منتظرًا؛ لأنه من الصعب على العقل البشري أن يُصدق أن تلك البذور الفلسفية التي بذرها هذا الفيلسوف تجف ذلك الجفاف في التربة الأندلسية، وتختنق هذا الاختناق.

ومع ذلك فقد جفَّتْ واختنقَتْ، جفَّتْ واختنقَتْ لأن شُبهة الكفر كانت تقع بعد ابن رُشد على كل مُشتغل بالفلسفة. وبناء على ذلك، انصرفَت العقول عن صناعة الحكمة، ولم يقُم بعد ابن رُشد فيلسوف كبير مثله ليُكمل عمله.

على أن تلامذة ابن رُشد الذين نشروا مبادئه بعده وترجموا كتبه إلى العبرانية واللاتينية كان أكثرهم من اليهود والنصارى. ولقد انتشر في أوروبا مذهب ابن رُشد في ذلك الزمان انتشارًا عظيمًا، حتى اضطر أحد البابوات أن يحرم من الكنيسة كل من يعتقد بمذهب ابن رُشد في الفلسفة.

بقي أن نذكر شيئًا عن أخلاق هذا الفيلسوف، فنقول إنه كان لطيفًا عفيفًا، ميَّالًا للعُزلة، مُنقطعًا إلى الدرس والمطالعة. وإليك منه عبارة تدل على مبلغ شغفه بالدرس والتأليف، قال: إن الدين الخاص بالفلاسفة هو درس الوجود والكائنات؛ ذلك أن أشرف عبادة تُقدم لله — تعالى — هي معرفة مخلوقاته ومصنوعاته؛ لأن ذلك بمثابة معرفته. هذا أشرف الأعمال التي يرضى الله عنها، في حين أن أقبح الأعمال عمل من يُكفِّر ويخَطِّئ الذين يقدمون لله هذه العبادة التي هي خير العبادات، ويتقربون منه بهذه الديانة التي هي خير الديانات.

وكان بسيط المعيشة، متقشِّفًا في حياته، كارِهًا للظلم. ولقد تولى القضاء سنوات عديدة دون أن يحكم قط بالإعدام على أحد من الذين حوكموا لديه، بل إنه كان حين وجوب الحكم بالإعدام يتنازل عن ذلك لسواه. فكأنه يفرُّ من الدماء لكي لا تقع في عنقه.

(١٥) هل مذهب ابن رُشد صحيح؟

هذا ما رأينا ذكره عن ابن رُشد، ولقد آن أن نختتم هذه المقالة لأنها قد طالت، ومع ذلك فقد رأيناها قصيرة ونحن نكتبها؛ لأن القلم لو ملأ كل صفحات هذا الجزء عن هذا الفيلسوف لما أروى غليله.

ولكن قبل الختام، لا بد أن يحضر القارئ سؤال، وهو: هل مذهب هذا الفيلسوف صحيح؟ فالجواب عن ذلك أن القارئ يُخطئ إذا كان يسأل عن صحة كل مذهب من مذاهب الفلاسفة أو عن فساده؛ فإن لكل واحد من الفلاسفة الذين يقفون حياتهم للبحث فيما وراء الطبيعة مذهبًا خاصًّا، وفلسفة خاصة يُناقضان مذهب الآخر وفلسفته، فمثلهم في ذلك مثل قوم يجلسون على شاطئ البحر، ويأخذون في بناء بيوت من الرمل والصخر والحجارة التي على الشاطئ؛ ولذلك تجد في بناء كل واحد منهم رملًا وصخرًا؛ أي ضعفًا وقوة، وذلك إما لأن الحقيقة المحجبة قد آلَتْ على نفسها أن تبقى محجوبة عن أرض فيها ما في أرضنا من الصغائر والدنايا، أو أن العقل البشري خُلق محدودًا، وما كان محدودًا لا يحد ما لا حدَّ له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤