إسكندر الكبير
بعد تغلُّب إسكندر الكبير على الفُرس في معركة أيسوس الكبرى، أراد أن يُذيق جنوده لذة النصر، فأرسل فريقًا منهم إلى دمشق والشام ليأتوا بالأموال والنفائس التي كان داريوس قد وضعها فيها قبل زحفه إليه. وبعث إسكندر في جُملة هؤلاء الجنود فرسان تساليا مكافأة لهم على ما أظهروه من البسالة والشجاعة في ساحة القتال، حتى قيل عنهم إنهم سبب النصر. فاغتنى الجنود الذين ساروا إلى دمشق لفرط ما نالوه من النفائس والأموال، ودبَّ الطمع في نفوس المكدونيين، فأصبحوا يرغبون في طلب الفُرس حيثما وجدوهم؛ للتمتُّع بأموالهم ونفائسهم. وبذلك كان إسكندر كأنه زاد حميَّة جنوده ورغبتهم في القتال.
غير أنه رأى وجوب الاستيثاق من الثغور البحرية قبل الإيغال في داخلية البلاد. وكانت قوى هذه الثغور في قبضة الفُرس، وهي مؤلَّفة من أساطيل المدن الفينيقية: صور، وصيدا، وجبيل، وأرواد، وقبرص. فخضعَتْ له هذه البلاد لمَا رأته من بأسه وبطشه، ولأنها كانت تطلب التخلُص من نير الفُرس، ولكن صيدا أبت الخضوع وطلبَتْ أن تكون على الحياد بين الفريقين المتحاربين، فكبر ذلك على إسكندر، لا سيما وأن بلاد اليونان أخذت تتحرك وصارت سبارطة تستعد للقتال، فقصد إسكندر صيدا لإخضاعها، إلا أن إخضاع صيدا كان يقتضى أسطولًا بحريًّا لحصرها من البحر، فأمدَّه ملوك قبرص بأسطول مؤلَّف من ٢٥٠ مركبًا حربيًّا. ولو لم تمده قبرص بهذه السفن واتحدت عمارات فينيقية كلها لما كان لإسكندر سبيل إليها. ولكن المدن الفينيقية وإمارات قبرص كانت يومئذٍ في تحاسُد وشقاق عظيم؛ ولذلك تمكن منها الفاتح باستعمال بعضها في محاربة البعض الآخر. وهذا شأن الشقاق في كل زمان ومكان، فهو يفرِّق القوي، ويُحَكِّم الغريب الأجنبي في رقاب أبناء البلاد.
ولما حصل إسكندر على تلك السفن حصر بها مرفأ صيدا، وأقام في البحر استحكامات كبيرة، ثم أخذ يُقاتل الصيداويين البواسل قتالًا مُتتابِعًا، فثبتوا أمامه ثباتًا عظيمًا حتى كاد يعيل صبره. وقد ورد في التقاليد اليونانية أن إسكندر رأى في نومه وهو مقيم على هذا الحصار، أن هرقل وقف على أسوار صيدا وأشار إليه بيديه أن يذهب إليه، ففسَّر ذلك مفسرو الأحلام بقُرب استيلاء الإسكندر على المدينة. وروى الصيداويُّون أن بعضهم سمع تمثال أبولون؛ إله الشمس، الذي كان في المدينة يصيح بهم أنه عازم على الفرار من مدينتهم إلى الإسكندر، وذلك لِما صنعوه فيه من الشرور، فكبر هذا الأمر على الصيداويين، فجاءوا بسلسلة وقيَّدوا بها التمثال المذكور لئلَّا يفرَّ من عندهم، ثم سمروا التمثال بقاعدته ولقَّبوه «إسكندري»؛ إشارة إلى أنه من حزب الإسكندر.
ولما ضجر الإسكندر من حصر صيدا أراد الذهاب إلى جبل الكرمل لمقاتلة العرب الذين كانوا نازلين فيه، فسار مع قسم من جيشه وأبقى القسم الثاني في الحصار. وقد صحب في هذه الحملة مؤدبه ليزيماكوس؛ صاحب الجسم الضخم والحركات الثقيلة، فلما وصل إسكندر إلى ذلك الجبل أراد أن يصعده راجلًا لا راكبًا، فقدَّم جنده أمامه وتأخَّر مع مؤدِّبه المذكور وشرذمة منهم، ولكن ما لبث أن أمسى المساء وأدرك بعض العرب إسكندر وشرذمته، فجعل إسكندر يحث مؤدبه على السير السريع للنجاة من العرب، ومؤدبه يلهث من التعب؛ لأنه لا يستطيع السير لضخامة جثته، فأوشك إسكندر يومئذٍ أن يقع في شرٍّ عظيم.
ولما مدَّ الليل أطنابه وأضرم العرب النيران، رأى الإسكندر أنه لا يُنجيه شيء غير الشجاعة، فتناول حُسامه وهجم على أقرب النيران إليه، فطعن اثنين من العرب فجندلهما، ثم تناول من أمامهما عودًا من الحطب مُضطرمًا وعاد إلى رجاله، فأوقد معهم نيرانًا عظيمة، ولبثوا ليلهم يحرسون، فلما رأى العرب تلك النيران العظيمة ظنوا أن عدوهم كثير العدد والعُدد، فارتدَّ أكثرهم تاركين إسكندر وشأنه، وأقدم بعض منهم على جنوده ففرقهم المكدونيون، ثم ساروا في اليوم الثاني ولحقوا بسواد الجيش. هكذا ورد في رواية المؤرخ شاريس.
ثم عاد إسكندر إلى صور، وكانت جنوده ترسل إلى حاميتها شراذم من الجند لمناوشتها في كل يوم؛ رغبة في أن تتعبها ولا تترك لها سبيلًا للراحة، فذات يوم وقد طال الحصار؛ لأنه قد تجاوز ستة شهور، قال العرَّاف أريستاندر لإسكندر وجنوده: إنني أتنبَّأ لك بأنك ستفتح المدينة في هذا الشهر. فقهقه جميع الحاضرين؛ لأنهم كانوا يومئذٍ في اليوم الأخير من الشهر، فرأى إسكندر أن يغتنم هذه الفرصة شأنه في اغتنام كل فرصة، وقال للحاضرين: لا تضحكوا، فإن عرَّافنا صادق، إلا أنني أطلب إليكم ألَّا تحسبوا هذا اليوم اليوم الأخير من الشهر، بل احسبوه الثامن والعشرين. ثم نفخ في الأبواق وجمع جنده وهجم بهم على المدينة هجمة شديدة لم يُهجم مثلها قبل ذلك اليوم، حتى إنه كان كأنه جمع قوة جميع جيشه في تلك الهجمة، فاستطاع إبلاغ استحكاماته إلى الأسوار، فأخذت الآلات تعمل فيها، ففتحت فيها ثغرة، فصدَّ الصيداويون أعداءهم عن الدخول إلى المدينة في المرة الأولى، ولكن ما لبثَتْ قلوبهم أن ضعفت، فدخلها المكدونيون عنوةً واقتدارًا، وصدقت نبوءة العرَّاف. وقد قُتل من الصيداويين في تلك المعركة ثمانية آلاف رجل، وباع إسكندر منهم ثلاثين ألفًا. وبذلك قتل هذا الفاتح صيدا الجميلة؛ عروسة البحار يومئذٍ، وهدم تمدُّنها.
وكانت العمارة الفارسية في خلال هذا الحصار قد تفرَّقَتْ، وعادت السفن إلى مدنها إلا فريقًا منها هاجمه أنتيباتر؛ أحد قُواد الإسكندر، وقهره، فعفا أثر العمارة الفارسية.
وبعد صيدا قامت غزة، فرفض حاكمها الخصي باتيس الخضوع للإسكندر، فقصده إسكندر على عجل، وأقام أبراجًا شامخة تحت الأسوار لتُوازيها في الارتفاع، ثم أقام على حصرها، فطال الحصر وكان شديدًا كما كان في صيدا. وفي أحد الأيام، مر عصفور فوق رأس إسكندر، فوقع منه على كتفه قليل من طين الأرض، ثم ذهب العصفور فوقع بين الحبال المنصوبة للآلات والاستحكامات، فاستدعوا المفسر أريستاندر، ففسر ذلك بأن إسكندر سيُصاب بجرح في كتفه ثم يأخذ المدينة. وبعد أيام والمكدونيون يحصرون أهل غزة خرج المحصورون إليهم وردوهم عن المدينة في معركة دموية جُرح فيها إسكندر في كتفه، فاستشاط غيظًا؛ لأنه خاف أن ترى باقي أمم الشرق هذا الثبات الشديد الذي ثبتته صيدا وغزة أمامه فتقوى قلوبها على مقاومته، وبذلك يمتنع عليه ما أراده من فتح الشرق، فهاجم غزة بعد ذلك هجمات متتالية وفتحها، ثم دخلها بجنده مُستشيطًا غيظًا للسبب الذي مرَّ بنا، فأمعن في أهلها قتلًا حتى في شوارع المدينة، ثم قبض على حاكمها وربطه بفرسه وسار يجرُّه عَدْوًا حول المدينة. وكأن ما رآه إسكندر كان حقيقة؛ فإن اليهود كانوا مترددين قبل فتح صيدا وغزة بين أن يكونوا مع الفُرس أو مع إسكندر، ولكنهم ما لبثوا بعد فتح غزة أن خضعوا له. وهم يقولون: إنه سار إلى أورشليم باحتفال عظيم، فخرج رئيس أحبارهم وبشَّره بأنه يقهر كل خصم له؛ لأنه رأى آية النصر مكتوبة على جبهته، ويقولون أيضًا: إنه دخل إلى هيكلهم وذبح ذبيحة فيه.
وبعد الاستيلاء على غزة، بعث إسكندر إلى أمه أولمبيا وكليوباترة وبعض أصدقائه كثيرًا من التحف والنفائس التي وجدها في هذه المدينة، وفي جملتها نحو ٦٠ ليبرة من البخور، بعث بها إلى مؤدِّبه القديم ليونيداس؛ ولذلك قصة لا تخلو من فُكاهة، فإن مؤدبه هذا رآه يومًا في صغره يقبض البخور ملء راحته ويحرقه في النار، فقال له: يا إسكندر، ليس لك أن تبذر هذا البخور الثمين بهذا القدر إلا متى فتحت البلاد التي يَرِد منها. فذكر إسكندر قول مؤدبه حين فتحه غزة وبعث إليه بالبخور، كما مرَّ بنا، مع كتاب قال له فيه: إنني مُرسلٌ إليك الآن كمية كثيرة من البخور لكي لا تكون شديد التقتير على الآلِهة. ذلك لأن البخور يُحرَق لها.
ويُروى عنه في حصار غزة حكاية ثانية، وهي أنهم جاءوه بصندوق ذهبي أغلى ثمنًا من جميع النفائس التي وجدوها إلى ذلك اليوم، فأخذه بين يديه وقال لأصحابه والمحيطين به: فليقل كل واحد منكم كلمة في أي شيء أحق بأن يوضع في هذه الصندوقة، فقال كل واحد كلمة حتى أتت نوبة الإسكندر فقال: أما أنا فإنني أضع فيها الإيلياذة. والإيلياذة — كما مرَّ بنا — قصيدة الشاعر هوميروس البليغة التي يصف بها حروب تروادة. قال فلوطرخوس: فإذا صحَّت هذه الرواية التي رواها ثقات المؤرخين ومنهم هيراكليدس، كان هوميروس قد أفاد إسكندر ودرَّبه في حروبه هذه؛ لأنه لا بد أنه كان يُطالع هذه القصيدة.
ثم برح إسكندر غزة بعد أن أنزل فيها نزالة يونانية تستعمرها وسار إلى مصر.