عبادة الإنسان النبات

كان العالم الطبيعي الشهير داروين يسيح في سنة ١٨٣٣ في أفريقيا الجنوبية؛ ففي ١١ آب من هذه السنة كان قاصدًا بونس أيرس، فنظر في سهل فسيح هنالك منظرًا عجيبًا وصَفه بما يلي، قال: بعد انقضاء بضع ساعات على مروري بالبئر الأولى لمحتُ شجرة شهيرة في ذلك السهل الفسيح، وكان الوقت شتاء، فدنوت من الشجرة فلم أجد فيها ورقًا، ولكني وجدت مكان الورق خيوطًا لا يُحصى لها عددٌ مُعلَّقة بها، وقد ربطَتْ بهذه الخيوط هدايا كثيرة من السكائر والخبز واللحم والأنسجة وما أشبهها. وهذه الهدايا يقدمها إليها الأغنياء. أما الفقراء الذين لا يستطيعون أن يقدموا مثلها، فيكتفون بأن يسحبوا من ملابسهم خيطًا ويربطوه بها، وأما الممتازون في الغنى، فإنهم يصبون في ثقوبها المشروبات الروحية المصنوعة من الحبوب أو من نبات عندهم يُدعى «ماته»، ثم يقفون تحت أغصانها ويُدخِّنون مُرسلين دُخانهم فوق رءوسهم؛ لاعتقادهم أن تلك الشجرة التي هي إلههم ترتاح إلى ذلك. وحول هذه الشجرة شيء كثير من عِظام الخيل التي كانوا يقدمونها ضحايا لها.

وقد سأل داروين بعض الهنود هناك عن اسم هذه الشجرة، فقالوا له إنها إلههم «واليشو»، ولكن داروين يعلم أن الشعوب مهما انحطَّتْ أخلاقها الدينية، فإن الألوهية تبقى لديها في مقامٍ سامٍ؛ فلذلك ولمَا كان يعلمه من أن الإله واليشو إنما يُقيم في بطن الأرض، ويتمثَّل أحيانًا في النباتات، قال: إن الهنود كانوا يعتبرون تلك الشجرة بمثابة هيكل لواليشو، لا واليشو نفسه.

غير أنه مهما يكن من أمر هذا القول، فإن عبادة هذه الشجرة وسواها من النباتات التي روى المؤرخون أن الشعوب قد عبدوها لا تخرج عن كونها مسألة علمية في غاية الأهمية، يجب النظر فيها لمعرفة الأسباب التي دعت إليها. وتوصُّلًا لذلك يجب النظر في تاريخ بعض النباتات التي عبدها الأقدمون.

(١) مقاومة الإسلام لها

على أن هذه العبادة كانت عامة في الدنيا كلها؛ فإن قبائل الأشانتي في جهات النيجر كانت تذبح منذ بضع سنوات الذبائح لأشجار مقدسة عندها تُدعى «الميموزا المقدسة»، وهي الشجرة المستحيية، ويعلقون الهدايا بأغصانها. وكان سكان الداهومي في القرن الماضي يضعون المرضى في ظل أشجار عندهم ليُشفوا من أمراضهم. وروى مونغو بارك أنه وجد في إحدى سياحاته شجرة قال له الدليل عنها إن الإنسان إذا مرَّ من أمامها دون أن يُلقي إليها شيئًا، فإنها تغضب عليه. وقد نقل ريشارسون أنه كان يوجد في مملكة البورنو غربي بحيرة تشاد أشجار يُعدِم الأهالي تحتها المجرمين، وكانوا يعبدونها قبل دخولهم في الديانة الإسلامية، وكان عدد هذه الأشجار خمسًا أو ستًّا. والسلطان ملك البلاد كان يخرج إليها مرة في السنة للاحتفال بإكرامها وعبادتها، وذبح البقر والغنم ضحايا لها، فلما دخل أهلها في الإسلام بطلت هذه الخرافات كلها.

وروى العالم قسطنطين الذي نعتمد عليه في كتابة هذه المقالة أنه لا يزال يوجد في القُطر المصري أثر لعبادة النبات، قال: منذ بضع سنوات كان الإنسان يستطيع أن يُشاهد في ضواحي القاهرة شجرة كبيرة يعتبرها أهل القاهرة مقدسة، ويسمونها الحكيم الكبير؛ لأنها تشفي من الأمراض، وهم يقصدونها أفواجًا أفواجًا للاستشفاء من الحمى وغيرها من الأمراض الالتهابية. وطريقة استشفائهم أنهم يجثون لدى جذورها ويتلون الصلوات. وهذه الشجرة قديمة العهد، ضخمة الجذع والأغصان، وعلى فروعها أمتعة كثيرة يُلقيها الناس إليها على سبيل الهدية، ومن فرط احترامهم لها يمنعون الناس من تصويرها.

انتهى قول الراوي، وكان بودنا ألَّا يتورط المسيو قسطنطين في هذا القول، فإنه إذا كان بعض البسطاء في بلد يعتقدون أن الزيارة لإحدى الأشجار والصلاة عندها مما يُشفي المريض من مرضه، فليس يصح ذلك على جميع أهل البلد.

وكما وجدنا عبادة النبات في أفريقيا نجدها في آسيا، فإن السائح برلوارو في سنة ١٤٧١، والسائح بطرس دل فال في سنة ١٦٢٢ قد وجدا في بلاد الفُرس أشجارًا كثيرة عليها الأنسجة المختلفة، ويُقال إن هذه العادة لا تزال موجودة هناك إلى هذه الأيام. على أن العرب كانوا يقطعون كثيرًا من هذه الأشجار إبطالًا لبدعها، وربما قطعوا معها رءوس بعض المعارضين في قطعها.

(٢) مقاومة المسيحية لها

وقد قاومت الديانة المسيحية هذه البدع كما قاومتها الإسلامية؛ فقد كان في القرن الرابع للميلاد المسيحي قُرْبَ أوكسر — على مسافة ١٧٥ كيلو مترًا من باريس — شجرة كانوا يُعلِّقون بها الأسلاب التي يغنمونها من العدو في ساحات القتال، والأسلحة المختلفة التي كانوا يُزيِّنون منازلهم بها. وكان الشعب يُكرمها إلى حدٍّ اعتُبر عنده قطعها فوزًا للدين المسيحي الذي كان يومئذٍ يُضطهد أنصاره. وكان أهل الجهات الجنوبية في فرنسا يعبدون المغاور والأشجار في عهد القديس أماندوس، وكان من الفضائل المسيحية يومئذٍ تخريب هذه المغاور وتقطيع هذه الأشجار. وقد قررت مجامع أرل وتور وننت قرارًا تُحَرِّم فيه إكرام الأشجار والينابيع والحجارة، وقِس على ذلك في الهند وبلاد اليونان والأقطار الأميركية مما يصح أن يُقال فيه مع العالم لانج: إن الإنسان قد عبد النبات منذ أزمنة المصريين الأولى إلى أزمنة المتوحشين في هذا الزمان.

فما أصل هذه العبادات كلها؟ وهل إن الإنسان عبد النبات اتفاقًا أم وُجدت أسباب حملته على هذه العبادة؟ وما هي هذه الأسباب؟ إن البحث في هذا الموضوع الطبيعي الجليل في غاية الأهمية؛ لما فيه من الفائدة واللذة.

أما الاتفاق فليس له وجود في الطبيعة حقيقةً، بل لكل معلول علة، ولكل نتيجة مقدمة؛ ولذلك ننظر في الأسباب والمقدمات التي حملت الإنسان على عبادة النبات.

(٣) أصل عبادة الدبق والسنديان

فننظر أولًا في نباتات الدبق وأشجار السنديان التي كان يعبدها سكان غاليا في العصور المتقدمة، فقد قال المؤرخ بلين إن كهنة الغاليِّين كانوا يحتفلون أعظم احتفال بقطف أثمار الدبق ويقدسونها، ويعزون إليها مزايا دينية كثيرة، وهم يقطفونها عادةً بواسطة سكين من الذهب، ومن المحرم عليهم قطفها بآلة حديدية لئلا ينجسها الحديد. وهذا الأمر الأخير يدل على أن عبادة نبات الدبق كانت قديمة جدًّا؛ أي إنها سبقت العصر الحديدي حتى حُرِّم الحديد في قطفها. ولكن ما أصل هذه العبادة؟

أصلها أن هذا النبات حلمي يعيش بلا جذور على الأشجار التي يعلق بها. وقد كان يعلق في بلاد غاليا بأشجار السنديان، فيمر الإنسان الأول فيجد على هذه الشجرة نباتًا مستقلًّا عنها وهو يعيش عليها، فيتساءل: من أين أتى هذا النبات المستقل؟ ثم إنه يأخذ بمراقبة مصدر هذا النبات، فيجد أن عصفورًا يأتي ببذور منه ويُلقيها على أغصان بعض الأشجار فتنبت عليها وتنمو. ولا يخفى أن الأقدمين كانوا يعزون إلى المشيئة الإلهية كل ما يقع تحت حواسهم من الأعمال العجيبة التي يعملها الحيوان والنبات، فأخذوا يعتقدون منذ ذلك الحين أن ذلك العصفور الذي يأتي ببذرة الدبق إلى تلك الشجرة مُرسل من الآلهة، وتلك الشجرة مُختارة منها؛ فهي مقدسة. وبناء عليه عبَد الغاليون القدماء شجرة الدبق أولًا، ثم السنديانة التي تحملها. وقد جاء في الأمثال الرومانية قولهم: إن العصفور يأتي هو نفسه بالدبق الذي يؤخذ به.

هذا أصل عبادة الدبق والسنديان في غاليا؛ أي إن استغراب الإنسان الأول النبات الحلمي الذي يقع على السنديانة باختيار طائر غريب مُرسل؛ هو الذي نبَّه العقل البشري إلى تقديس ذلك النبات، ثم انتقل التقديس من النبات نفسه إلى الشجرة التي ينمو عليها. هذا هو الأصل الأول.

(٤) أصل عبادة التين الهندي

والأصل الثاني نجده في عبادة شجرة مقدسة شهيرة في الهند معروفة بشجرة «التين الهندي المقدس» أو تين الهياكل. وقد كانت عبادة هذه التينة من أهم العبادات الآسيوية. أما صفتها فهي شجرة ضخمة تنتشر أوراقها وفروعها انتشارًا بعيدًا، حتى إنها قد تُظلل لسعة انتشارها مئات من الناس، ولكن ليست هذه مزيتها الكبرى، وإنما مزيتها الكبرى بروز أغصان من وسطها وتدلِّيها إلى الأرض على شكل الجذور، ثم غوصها في الأرض كما تغوص الجذور، وقيامها مقام هذه من حيث امتصاص الغذاء. وقد تبلُغ هذه الجذور البارزة مئات، كما تشاهد ذلك في أشجار من هذه الفصيلة موجودة في حديقة الأزبكية في القاهرة. وقد ورد لهذه الشجرة ذكر في الكتب الهندية المقدسة، فإنهم يسمونها شجرة الحكمة التي جذعها فوق وأغصانها تحت، تستند إليها الأرض ومن عليها. وقد جاء في التقاليد البوذية أن ولادة بوذة كانت بمثابة بروز جذر عظيم في وسط شجرة العالم، ورُوي أيضًا عن أمه مايا أنها لما نُقلت من فراشها لتَلِده نُقلَتْ إلى إحدى قمم جبال حملايا، ووُضعت تحت شجرة منتشرة الأغصان والأوراق، فكانت إذا مدَّتْ يدها لتقطف ثمر الشجرة تدلَّتْ إليها أغصانها من نفسها. ولا يخفى ما في ذلك من الرمز إلى التينة الهندية.

فهذه الأمور إذا أضفت إليها مزية بروز الجذور من فوق إلى تحت، وهي المزية التي تميز هذه الشجرة عن سائر العالم النباتي، وجدت أنها كافية لإكرام الهنود إياها والاهتمام بها. وفضلًا عن ذلك، فقد كان لهذه الشجرة مزية أخرى على باقي الأشجار؛ مما جعل الإنسان الأول يزداد بها اهتمامًا، وهي أن بذور هذه التينة كانت كثيرًا ما تنبت بإزاء شجرةٍ فتلتفُّ عليها وتستند إليها، ولكنها لا تشبُّ وتقوى حتى تأخذ جذورها الظاهرة — التي أشرنا إليها — بالتدلِّي إلى الأرض، فتضخم التينة وتنمو، وتزداد التفافًا على تلك الشجرة حتى تخنقها وتقتلها؛ ولذلك سُميَتْ خانقة الأشجار أيضًا، فكانت ذات مزية غريبة.

وكما أن الريح ألقَتْ بذرة التين بإزاء شجرة فنبتت وخنقتها بعد بلوغها أشدها، كذلك قد يُحتمل أن يحمل العصفور تلك البذرة إلى هياكل الهنود، فتنبت على سطوحها أو في جدرانها، فيحسب الهنود أن الآلهة قد أنبتتها هنالك. وقد وُجدت نقوش كثيرة في الهياكل البوذية في الهند تمثل نمو شجرة التين المذكورة في جدران الهياكل وبروزها من نوافذها.

هذا هو أصل تقديس الهنود شجرة التين الهندي، وزد على ذلك أن ورق هذه الشجرة كثيفٌ ثخين يقي المستظل بها من هبوب الرياح وانهمار المطر الشديد في تلك البلاد، فضلًا عن اعتقادهم بأن الصاعقة لا تسقط عليها؛ لأن الآلهة تحميها. ولعل سبب ذلك — إذا صح — وجود كهربائية دافعة فيها.

(٥) القضبان السحرية

ثم إنه ورد في التقاليد الأسوجية ذكر لقضبان سحرية يكشف بها الإنسان المخبَّآت، وطريقة الحصول على هذه القضبان الثمينة مذكورة في أوراق وُجدت في القرن السابع عشر، ومنها هذه العبارة: متى لقيت على جدار أو على صخرة أو في جوف شجرة نبتة «السوبريه» نابتة من بذرة، تكون قد سقطت من منقار عصفور، فاذهبْ إليها في مساء اليوم الثالث من عيد نوتردام واقطف قضيبًا منها، فيكون له مزية اكتشاف المخبَّآت ومعرفة الأراضي التي فيها ينابيع. فأنت ترى من ذلك أن هذه الشجرة التي لها مزية الاكتشاف إنما هي من النباتات الحلمية، أو النباتات التي تبرز من جذعها جذور على طريقة التينة الهندية.

(٦) تَوَلُّد عبادة الأشجار من عبادة النار

ويمكن الاستدلال على تقديس الأشجار بمسألة النار، فإن الأقدمين كانوا يحترمون النار ويقدسون أنواعها، فقد ورد عن الرومانيِّين أنهم كانوا يضعون النور المقدس في الهياكل، ويقيمون عليه العذارى حارسات، ويُسمُّونهن الفستال. وورد عن أهل المكسيك قبل اكتشاف الإسبانيين بلادهم أنهم كانوا يقيمون في كل سنة حفلة عظيمة على جبل فيه أشجار كثيرة من اليو كساستين، فيأتي كاهنهم بأضخم رجل من أسرى الحرب الذين لديهم ويُلقيه تحت الشجرة، ثم يضع على صدره شيئًا مثقوبًا ويأتي بغصن شجرة، ثم يأخذ بحكِّه في ذلك الثقب حكًّا عنيفًا شديدًا متتابعًا، حتى تظهر النار ويلتهب العود بشدة الاحتكاك، فيشقُّ حينئذٍ صدر الأسير ويستخرج قلبه؛ ليكون هدية للنار المقدسة الجديدة. ويكون الشعب مجتمعًا في سفح الجبل، فعندما تظهر له النار الجديدة يتعالى هتافه وصراخه؛ لأنه يتخذها في كل عام علامة لعدم انطفاء الحياة في هذا العالم.

وقد ورد في كتب الفيدا الهندية أن احترام النار أمر مقدس، وله عند البراهمة حفلة عظيمة، ولا سيما النار المقدسة التي يُضرمونها باحتكاك غصنين يؤخذان من شجرة معلومة. ويقول الفيدا: ضع رباطًا في أحد الغصنين كما يوضع اللجام في رقبة الجواد. هذا هو الذي يُعيد الحياة. ثم جِئْ بسيدة النسل وحكَّ الغصنين لتوليد «أنيي»؛ وهي النار. إن أنيي كامن في الغصن كما يكمن الجنين في جوف أمه.

وقد عثرنا على تفسير بديع للذبائح التي كان يذبحها الهنود وغيرهم من الأقدمين ويستخرجون أحشاءها، فإنهم كانوا يرمزون بالحيوانات المذبوحة إلى مبدأ الحياة العظيم، فيقولون إن غيوم السماء هي البقر التي في أحشائها النار، ومتى اضطرمت النار وانفجرت في الغيوم بشكل صاعقة اتخذت شكل الماء، ثم نزل الماء مطرًا إلى الأرض فتحول إلى عصير النبات، ثم متى جفَّ العصير ويبس النبات بقيَت النارُ فيه، وهي موجودة في كل حي لأنها مبدأ الحياة. ومن أغرب الغرائب أن يكون العلم الحديث قد توصَّل إلى شبه هذه النتيجة، فإنه يقول إن كل جرثومة حية تفرز الحرارة ولا تبرد إلا متى عدمت الحياة.

فالنتيجة التي تظهر من كل ما تقدم عن تقديس النار بسيطة، وهي أنه إذا كانت النار مقدسة؛ فالأشياء التي تُتَّخذ لإضرامها يجب أن تكون مقدسة. وهكذا قُدست الأشجار. والغريب أن النار المقدسة — التي مرَّ ذكرها — عند المكسيكيين والهنود إنما كانت تُستخرج بأغصان من النباتات الحلمية، والأشجار التي يبرز من جذعها جذور إلى الأرض، على طريقة التينة الهندية. وهذا مما يزيد الأقوال السابقة ثبوتًا.

(٧) عبادة الأشجار لمنفعتها

وفي استطاعتنا أن نضع في جملة أسباب تقديس الأشجار: انتفاع الإنسان بها؛ فإن من أثمار بعض الأشجار ما يُعصر منه شراب طيب مُسكر؛ كشراب «الصومه» الهندي الذي يُقدسه الهنود، ثم إن الإنسان الأول كان يقتات من أثمار الشجر فقط، فكان عليه بحكم الطبع أن يكرم مادة رزقه. ومعلوم أن من الأشجار ما هو مثمر كثير الإقبال، وما هو عاقر لا يُثمر أو قلَّما يُثمر؛ فبديهي أن الإنسان الأول قد انتبه إلى ذلك وأكرم المثمرة وأهمل العاقرة. وإنما يصح هذا القول بالخصوص على أشجار آسيا التي كانت جبالها وأوديتها تغصُّ بها في الزمن القديم، وكلها مثمرة تكفي البشر. وقد أثبت الباحثون أن في أذهان البشر في كل البلاد المتوحشة والمتمدنة ذكرى وطن قديم، فيه خضرة دائمة، وجنات لا يجف لها ماء ولا يفنى لها ثمر، فاستنتجوا من ذلك أن الإنسان إنما يذكر بذلك جنات آسيا التي كان يعيش فيها في بدء أمره، ومنها هاجر بعد ذلك إلى البلاد القاصية، وبعضهم يسمِّي تلك الجنات عدنًا.

(٨) الشجرة المدافعة والتي تخلق الحيوان

ومن الأشجار المقدسة شجرة تُعرف باسم «سكروبيا» كان لها شأن عظيم في أميركا الجنوبية، وليس ذلك فقط لأن أهل تلك البلاد كانوا يستخرجون النار منها بحك عود في ثقب يكون في جذعها، بل لأنها كانت ذات مزية أخرى عظيمة.

ذلك أن النمل — كما هو معلوم — يكون خطرًا شديدًا على النبات في الأقاليم الحارة، لهجومه عليه جيوشًا جيوشًا وقطعه أوراقه؛ مما يوقف نموه وينتهي بإيباسه. وهكذا كان شأن النمل في أميركا الجنوبية مع أشجارها، إلا مع شجرة «سكروبيا»؛ فقد كانت هذه الشجرة وطنًا دائمًا لنوع من الحشرات يشبه النمل، ولكنه عدو لدود له، فإذا صعد النمل إلى السكروبيا ليؤذيها هاجمته الحشرات الصغيرة التي فيها، وحدث بين الفريقين قتال ينتهي دائمًا بانغلاب النمل وارتداده، فكأن تلك الحشرات حُرَّاس للشجرة.

ثم إن الغريب في أمر هذه الشجرة سوى ما ذُكر أنها تُجازي هذه الحشرات عن دفاعها عنها أحسن جزاء، فإنه يتولَّد على أطراف غصونها العليا حويوينات أو هنات نباتية صغيرة، تتخذها تلك الحشرات طعامًا لها، فكأن الشجرة تُهيِّئ لها الطعام جزاء عن دفاعها عنها. وقد أعجب علماء النبات بهذا الاتفاق بين الشجرة والحشرات.

ومعلوم أن الإنسان الطبيعي الأول كان شديد الملاحظة لما حوله؛ إذ لم يكن لديه شيء يشغله عنه كما لديه الآن في الاجتماع، فلا بد أن يكون قد انتبه إلى هذا الاتفاق، ولا بد أنه يكون حين انتباهه إليه قد حكم بأن الشجرة تخلق من تلقاء نفسها هذه الحشرات للدفاع عنها، فهي إذًا مُباركة؛ إذ لو لم تكن كذلك لما كانت لها هذه المزية العجيبة. وهكذا قدَّسها وعبدها.

ثم إنه يوجد أمثلة أخرى على الأشجار التي كان يعتقد الأقدمون أنها تخلق حيوانات، فإن السائح نورنفور شاهد في سياحته في الشرق في القرن الثالث عشر طريقة كان يتخذها اليونان لزيادة نماء ثمار التين عندهم. وذلك أنه كان يوجد لديهم نوعان من التين: التين الجيد، والتين الرديء البري، فكانوا يقطفون التين الرديء في شهري حزيران وتموز، ثم يربطون ثماره بخيوط ويعلقونها في التينة الجيدة فتُعطي ثمارًا كثيرة، وربما تجاوز حاصل التينة ٢٨٠ ليبرة، على حين أنهم إذا لم يضعوا التين الرديء عليها مربوطًا بالخيط؛ فإن التينة لا تأتي بربع هذه الكمية.

فما سبب ذلك؟ سببه أن ثمار التين الرديء تحمل إلى التينة الجيدة لقاحًا لتلقيح ثمارها، ومن غير هذا اللقاح لا ينضج للتين ثمر. وقد كان هذا التلقيح يتم في العصور الماضية بواسطة الحشرات، التي كانت تنتقل من الثمار الرديئة إلى الجيدة فتلقحها، فالظاهر أن متوحشي ذلك الزمان قد راقبوا ذلك وشاهدوا أن الحشرات تخرج من جوف الثمرة، فاستنتجوا منها أنها تخلقها، فأكرموا التينة وعبدوها.

(٩) شجرة الخلد المصرية

ويوجد في تاريخ المصريين مثال مهم على اشتقاق الحيوان من النبات، فإنهم قد وجدوا في كتاب الأموات، الذي يعتبرونه دليل النفوس التائهة بعد الموت، قولًا غريبًا يؤيد ذلك. وهذا نصه: إن الميت يحمل عصاه في يده ويذهب في الآفاق مفتشًا عن ضالته، ولكنه لا يلبث أن يصل إلى طرف الدنيا الحقيقية، فيجد نفسه تجاه جميزة ممتلئة من أثمار تين الجميز، وعليها امرأة نابتة من جذعها، وفي يدها إناء يتضمَّن ماء الحياة، فإذا رفض أن يأخذ منها عجز عن إتمام سيره؛ لأن هذه الشجرة شجرة الخلد، وهذه المرأة هي الإلهة نوت إلهة الخلد، التي تحمل في يدها كوز ماء الحياة؛ فالذي يشرب منه يحيا، والذي لا يشرب يموت.

وقد بحث المسيو ماسبرو في سبب عبادة المصريين القدماء لشجرة الجميز وتقديسهم إياها، فقال: إنهم في بدء الاجتماع كانوا يستغربون انفراد شجرة من أشجار الجميز في سهلٍ فسيح دون أن يكون لها رفيقة في الحياة، فيكرمونها ويعتقدون البركة فيها. وكانت السهول الواقعة قُرب الجميزة تُدعى مكان الجميز، وكانت مصر نفسها تُدعى في أيام الفراعنة أرض الجميز.

(١٠) اشتقاق الإنسان من النبات

هذا ولاشتقاق الإنسان من النبات مثال آخر أدل مما تقدم، وهو أن كثيرين من متوحشي أميركا وآسيا يعتبرون أنفسهم أنهم إخوان للأشجار والنباتات التي حولهم، ويعتقدون أن لها أرواحًا تحس وتشعر. وقد وُجدت في الهند وغيرها رسوم كثيرة تمثل أشجارًا معلقة بها رءوس بشرية، وكانت العادة في أوروبا منذ القديم أن يزينوا الأشجار بوجوه صناعية من جلد ملون. وكان سكان جزائر بحر إيجة يعبدون البحر، ويزعمون أنه مصدر كل شيء؛ إذ فيه كل ما في الأرض، ففي الأرض أفراس وبشر وأثمار كالخيار وما أشبه، وكذلك في البحر، وإنما قالوا هذا القول لمَا وجدوه من الشبه بين مخلوقات البر والبحر. وفي تقاليد كثير من الشعوب أن زبد البحر الطافي على وجهه هو مادة الحياة الأولى، ومنها خُلق كل ذي حياة. وكان الرومانيُّون والهنود والمصريون أيضًا وغيرهم من المتقدمين يعتقدون كما قال المسيو لنورماند: إن العالم شجرة عُظمى، الأرض جذعها، والسماء أغصانها، وثمرتها النار. ولمَّا قام الرجل الأول الذي علم الناس كيف تُستخرج النار من الشجرة حسبته الآلهة كافرًا؛ لأنه سرق من الشجرة المقدسة ثمرتها الممنوعة. وهو قول يقرب مما جاء في التوراة.

ولكن أين الشجرة التي اعتقدت شعوب كثيرة أن الإنسان مشتق منها؟ الجواب الذي تجيب به كل تلك الشعوب أنها كائنة في قعر البحر؛ فمن البحر يخرج كل شيء، البحر هو مصدر الحياة وصانع المخلوقات. وقد كان هذا الاعتقاد شائعًا كل الشيوع في الهند والصين واليونان، ووُجدت في هياكل بوذة والبراهمة في الهند والصين رسوم كثيرة تمثل الشجرة الخالقة العظمى نابتة من قعر البحر، ورافعة فروعها فوق الأمواج، ومنها مشتق الإنسان. ومما ينطبق على هذا الاعتقاد ما رواه فلوطرخوس نقلًا عن عامة اليونان؛ فقد روى أنهم كانوا يعتقدون أن سنديانة زوس نبتت من قعر البحر بعد الطوفان. وقوله بعد الطوفان يدل على الزمن الذي تلاشى فيه البشر وقام بشر غيرهم. فكأنه قال إن الإنسان الجديد نبت من تلك السنديانة الجديدة.

هذا أهم ما عثرنا عليه في موضوع عبادة الإنسان النبات، ومنه يستدل القارئ أن البشر الأول لم يعبدوا أشباههم من المخلوقات إلا لِما كانوا يرونه فيها من المزايا، ويُشاهدونه فيها من الرموز أو المقدرة أو المنفعة. وفوق كل ذي علمٍ عليم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤