إنشاء الروايات العربية
كثُرَ في السنوات الأخيرة وضع القصص العربية، فقلَّما يمُرُّ شهر إلا وتصدُر بضع منها في البلاد التي فيها مطابع عربية. وهم يُسمُّونها «روايات»، وهذا خطأ في التسمية؛ لأن الروايات في اللغة: الأحاديث المنقولة بالتواتر من فلان عن فلان عن فلان، فيلزم أن يكون هناك راوٍ ومروي عنه وحديث مروي؛ فاسمها الحقيقي إذًا: قصة؛ لأنها عبارة عن أحاديث ووقائع يتخيلها المؤلف ويقُصُّها على قُرَّائه. ولكن هذا الخطأ — إذا كان هناك خطأ — كان الأصمعي المشهور أول من وقع فيه في قصة عنترة؛ فإنه يقول هناك في كل صفحة تقريبًا: قال الراوي. وقصة عنترة أكثرُها اختراع وابتداع، كما هو معلوم. والخطأ أو الاصطلاح الذي يُجيزه رجل كالأصمعي يجوز أن يُعدَّ من الصواب المقبول.
(١) ما يلزم الرواية
على أنه لو لم يكن في الروايات التي تُنشر في اللغة العربية غير هذا الخطأ الاصطلاحي الصغير لكان الخطب هيِّنًا، ولكن هناك مآخذ لا يصح السكوت عنها وقد كثُرَ انتشارها؛ فإن كل من أمسك قلمًا في هذه الأيام يرى نفسه قادِرًا على وضع رواية؛ لأن كل إنسان يقدر على قص قصة وسرد حوادث يتصوَّرها. وجميعهم يعلمون أن فن الروايات علم بأصول، ولكنهم يجرءون مع هذا على وضع هذه الروايات لثلاثة أسباب؛ الأول: انعدام حُرية النقد، أو بعبارة أخرى: الجهل بحقيقة هذا الفن للإقدام على نقده، والثاني: اعتبار القُرَّاء في الشرق الرواية عالمًا خياليًّا يُلهى به ساعة أو نصف ساعة، فلا يطلبون فيه غير قطع الوقت، والثالث: قلة القُرَّاء في اللغة العربية؛ فالروايات التي تظهر فيها لا يستفيد منها مؤلفوها فائدة حقيقية إلا إذا كانوا أصحاب مكاتب ومطابع صناعتهم التجارة بالكُتُب؛ ولذلك قلَّما ترى كاتبًا يُجهِد قريحته، ويكد فكره، وينضج رأيه في وضع رواية مهمة؛ لأنه يعلم أن الفائدة التي تنشأ عنها لا تعدل التعب الذي يُبذَل في تأليفها وطبعها، والجمهور لا يفهم منها سوى قصتها. وإذا قيل إن حافظ أفندي إبراهيم؛ الشاعر المشهور، قد عرَّبَ جزءًا صغيرًا من رواية الميزرابل فجنى منه — على ما قال — ألف جنيه (٥٠٠٠ ريال)، فالجواب أن ما جناهُ المُعرِّب من هذه الرواية لم يكن ثمنًا للرواية ولا جزاء تعبه فيها، ولكنه كان تنشيطًا له من بعض سراة المصريين الذين دفع بعضهم ثمن النسخة الواحدة ٥٠ جنيهًا (٢٠٠ ريال).
وقد يظن بعضهم أن الروايات الموضوعة تعريبًا تسلم من تلك المآخِذ التي تقع في الروايات الموضوعة تأليفًا؛ لأن شروط الرواية مُستوفاة في الروايات الإفرنجية الكُبرى، وما على المعرِّب إلا أن ينحو نحوها، وينسج بُردتها العربية. والحقيقة أن بعض الروايات الموضوعة تعريبًا قد تجد فيها من التشويه، وفساد الوضع، والخرق في الرأي، ما لا تجد مثله أحيانًا في الروايات الموضوعة تأليفًا. وسبب ذلك أن المعرِّب يتناول قلمه ويُغير على تلك الرواية، فيتصرَّف فيها حذفًا وإضافةً، فيقطع سلسلة أخلاقها السيكولوجوية، ويُشوِّه طبائع أشخاصها، ويُنقِص فيها ويزيد عليها من الحوادث ما لو رآه مؤلِّفها لقطع أُذنه، وجدع أنفه، ورضَّ ساقيه، وبقر بطنه، تشويهًا له، وتمثيلًا به، كما شوَّه روايته ومثَّل بها. وما زلنا نذكر مُباحثات كثيرين ممَّن شهدوا تمثيل رواية «ابن الشعب» في مصر، وقولهم في الجرائد وغير الجرائد أنهم لم يفهموا أغراض هذه الرواية ومرامي مؤلِّفها، وحقهم أن يقولوا ذلك؛ لأن الذي ينظر في هذا الفن ولا يكون من أهله لا يُدرِك منه سوى سياق القصة، وتفوته أغراضها الحقيقية التي بُنِيَت الرواية عليها، وكانت سببًا في إنشائها.
- (١)
قوة الاختراع: أولى تلك الصفات قوة الاختراع، والمراد بها أن تكون مُخيِّلة الكاتب قادرة على اختراع حوادث وأخبار تجعل في الرواية فُكاهة ولذَّة. وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف الكُبرى التي تحتكُّ فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكًا شديدًا يستأسر لُب القارئ. وكان ديماس رأس المبرزين في هذه القوة، إلا أنه يجب ألَّا تتجاوز هذه القوة حد المعقول المقبول، وإلا عُدَّتْ من سقط المتاع، كروايات بونسون دي ترايل. ولمَّا سُئل تولستوي منذ مُدة عن رأيه في رواية غوركي «الطبقة السفلى»، التي جعلَتْ له بين كُتَّاب أوروبا منزلة سامية، أجاب: إنها جيدة، ولكن ينقصها قوة الاختراع. ولكن كثيرين يقولون عن روايات تولستوي نفسه مثل هذا القول؛ لأنها إنما تمتاز بمبادئها وآرائها وصبغتها الفطرية، لا باختراع حوادثها.
- (٢)
قوة الحركة: والقوة الثانية «قوة الحركة»؛ فإن تلك الحوادث التي يُجيد المؤلف في اختراعها إذا لم يجعلها متحركة سئم قارئها وملَّ قراءتها. والحركة كانت مزيَّة ديماس الكُبرى، فإنك تعرف تاريخ أشخاص روايته، وأخلاقهم ومزاياهُم، وماضيهم وحاضرهم مما يقوله غيرهم عنهم في الرواية، لا مما يقوله المؤلِّف نفسه. وكل من قرأ رواية لا يجهل أنه يُفَضِّل قراءة مباحثات أشخاصها على قراءة تعليقات مؤلفها. والإجادة هنا هي في جعل حوادث الرواية مُنبِئة عن أخلاق أشخاصها. وكم من مرة قرأنا فصولًا لكبار نُقَّاد الروايات الفرنسويَّة يقولون فيها عن فصل في إحدى الروايات: إن حوادثه غاية في حُسن الاختراع، ولكنه جامد تنقُصه الحركة. وهم يعتبرونها في مقدمة شروط الروايات الجيدة.
- (٣)
وحدة السياق وتنوُّع الموضوع: والشرط الثالث في تأليف الرواية «وحدة السياق وتنوُّع الموضوع»، والمراد بوحدة السياق: رسم طريق للرواية، تبتدئ في أولها وتنتهي في آخرها، دون أن تخرج الرواية عنها في أثناء تقلُّباتها، فكأنها سلك يمده رجل بين طرق ضيقة وشوارع واسعة فيُوغِل فيها، ولكن السلك في يده، وهو يعرف من أين ابتدأ وإلى أين ينتهي. والمراد بتنوُّع الموضوع جعل مواضيع الرواية التي تتفرَّع من ذلك السياق متنوعة متفرِّعة؛ لاجتناب ملل القارئ أولًا، واستيفاء البحث في أخلاق أشخاص الرواية ثانيًا. ومن أقوال الفلاسفة: إن الطبيعة واحدة من حيث مادتها ونواميسها، ولكنها متنوعة من حيث صورها وأشكالها. وهم يُسَمون هذا باسم: التنوُّع في الوحدة. وما يُقال في الطبيعة يُقال في الرواية؛ لأن الوحدة المقرونة بالتنوُّع أساس قوة كل شيء وجماله في العالم، وبدونهما تكون الحياة مُضطربة مُضجرة.
- (٤)
قوة السيكولوجيا والسسيولوجيا: يصح أن يُقال إن هذه القوة أهم القوات الضرورية للرواية. ولمَّا كانت مواضيع الرواية تشمل جميع الحوادث والحالات التي تطرأ على أشخاصها، وعلى الوسط الذي يعيشون فيه؛ كانت الرواية محتاجة إلى أكثر أصناف العلوم، فهي تحتاج إلى علم الطبيعة لكي تُبنى آراؤها ومبادئها وأخلاق أشخاصها على دعامة علمية؛ أي على النواميس الطبيعية، وإلا كانت نسيج أوهام وخرافات، وتحتاج إلى علم تقويم البلدان «الجغرافيا»؛ لمعرفة البلاد التي يُكتب عنها، وطبائع أهلها وأهوائها، وتحتاج إلى علم التاريخ، خصوصًا إذا كانت تاريخية. وقد تحتاج إلى سائر العلوم إذا كان لمواضيعها اتصال بها، ولكنها إذا احتاجت إلى جميع هذه العلوم أحيانًا، وأمكنها الاستغناء عنها جميعها أحيانًا، فهناك عِلْمان لا يمكنها أن تستغني عنهما أصلًا؛ وهما: علم السيكولوجيا، وعلم السسيولوجيا.
علم السيكولوجيا أو علم النفس والأخلاق: أول شيء يجب على الروائي الاطلاع عليه، وهو قسمان: مصنوع ومطبوع؛ أي: اكتسابي وغريزي؛ فالسيكولوجيا الاكتسابية يستفيدها الكاتب من مصدرين؛ الأول: درس كتب السيكولوجيا، والثاني: مراقبة الطبيعة والبشر لملاحظة أخلاقهم وأحوالهم في جميع أطوارهم. وقد كان موليير الروائي المشهور يصرف مدة من وقته كل يوم في الجلوس في دُكَّان حلاق؛ حيث يحتشد الناس عادةً من طبقات مختلفة، وهناك يُراقب أخلاقهم ويسمع أحاديثهم. والسيكولوجيا الغريزية هي قوة غريزية تكون في نفس الدارس، يقدر بها على استنباط مكنونات النفوس، واستنتاج أخلاقها، وتصوير حالاتها دون أن تدري هي بها. وهي هبة من الطبيعة لتلك النفس، وإن كان بعض علماء الأخلاق يقول: إن الدرس والاختبار قد يؤدِّيان إليها.
قال بوفون العالِم الطبيعي الفرنسوي: إن نبوغ أعاظم الرجال ناشئ عن تعبهم وصبرهم على الدرس. قلنا: هذا قول صحيح في العلوم الطبيعية التي لا يستلزم الاكتشاف والاختراع فيها قوة نفسية، بل قوة عقلية، وأقرب شاهد على ذلك باستور وسبنسر. وقد عدَّ الفيلسوف نيتشه نفس سبنسر في جُملة النفوس الاعتيادية. ولكن علم النفس والأخلاق، وعلم الأدب، والفنون الجميلة لا تُقاس بتلك العلوم؛ فإن ملتن وشكسبير وهيغو ورينان وجوت ورانيير لولا أن الطبيعة خصَّتهم بنفوس كبيرة جميلة راقية؛ لمَا قدَروا أن يبرزوا شيئًا مما أبرزوه في تآليفهم من آيات الجمال والكمال ولو قطعوا أعمارهم درسًا. وهل يصير غير الشاعر شاعرًا حقيقيًّا بمجرد الدرس وقرض الشعر؟
فالسيكولوجيا الاكتسابية والغريزية أهم ضروريَّات الرواية؛ لأنها تصون المؤلِّف من الوقوع في الأغلاط الفاضحة بشأن أخلاق الأشخاص الذين يتكلم عنهم، وتُمَكِّنه من تصوير أخلاقٍ بشريَّة حقيقية مُنطبقة على أخلاق البشر في الدنيا سيكولوجيًّا. وكم من مرة تصفَّحنا بعض الروايات التي تُنشَر بالعربية، حتى أهمها وأشهرها، فرأينا الكاتب يُصَوِّر أخلاق أشخاصه في أول الرواية تصويرًا لا ينطبق على أخلاقهم في آخرها من الجهة السيكولوجية! فإنه مثلًا يجعل مزاج الشخص في البدء عصبيًّا، ثم تراه في الخاتمة يجعله يسلك مسلك ذي مزاج دموي محض.
وأغرب من هذا أنك تراه يجمع في نفس أشخاصه صفات متقابلة متناقضة تتبرَّأ السيكولوجيا منها، وأحيانًا تراه يجعل شخصه يُجيب أجوِبَة لو اطَّلع عليها أصغر كاتب مُلِم بمبادئ السيكولوجيا، بعد اطِّلاعه على الأخلاق التي صوَّرها المؤلِّف له؛ لقال: هذا تخريفٌ لا تأليف. والحوادث المستخرجة من تلك الأخلاق قلَّما تكون لازمة عنها، خارجة منها، بحُكم السيكولوجيا، وإنما هي مجذوبة جذبًا لتكون نتيجة لها، وما هي بنتيجة لها. وهذه العيوب الفاضحة لا تظهر في الشرق؛ لأنها لا تظهر إلا لعين الناقد البصير؛ ولذلك يُعجَب بعض القُرَّاء السُّذَّج بتلك الروايات، ولو نُشِرَتْ في الغرب حيث يُميِّز الجمهور بين الفاسد والصحيح لكانت في جُملة الروايات الضعيفة التي لا يلتفت إليها أحد من أفراد الجمهور الراقي.
وما قُلناه في السيكولوجيا نقوله في السسيولوجيا؛ أي علم الاجتماع البشري. وهذا العلم ضروري لمؤلف الرواية لسببين؛ الأول: أن جميع الروايات المهمة في هذا العصر أصبح غرضها اجتماعيًّا، وإذا كان الفيلسوف أوغست كونت واضع الفلسفة الحسِّيَّة أو الوضعية قد أثبت ببراعة مشهورة قبل تلميذه سبنسر أن جميع العلوم من أكبرها إلى أصغرها تنتهي إلى السسيولوجيا، وأن السسيولوجيا هي غرض تلك العلوم، فأحرِ بالروايات أن يكون غرضها السسيولوجيا أيضًا؛ أي البحث في حالات المجتمع البشري لترقيته، وإنماء قواته النافعة، وإفناء قواته المضرة. والروايات بعد الصحف أو قبلها من أهم ذرائع هذه الترقية، بل هي في الشرق أشد تأثيرًا من الصحف في هذا الشأن؛ لأن ألوفًا من عامة القُرَّاء لا يقرءون الجرائد، ولكنهم يقرءون الروايات. فهُنا للرواية وظيفة اجتماعية عُليا، دونها وظيفة جميع الصحف والمدارس والكُلِّيَّات؛ لأنها المدرسة الأولى للشعب الساذج الجاهل. وإننا نشفِق من صميم قلبنا على هذا الشعب حين نرى السم الزعاف المدسوس في بعض الروايات العربية التي يقرؤها.
- (٥)
درس هذا الفن: كما أن العالِم لا يصير عالمًا إلا بالدرس والبحث، والصانع لا يصير صانعًا إلا بالإكباب على صناعته، فكذلك الروائي لا يصير راويًا إلا بدرس فنِّه. ولكن ليس للروايات مدرسة تُعلَّم فيها أصول هذا الفن، وإنما مدرسته أمران؛ الأول: مُطالعة روايات أكابر المؤلفين، والثاني: مُطالعة كتابات مشاهير نُقَّادي الروايات.
أما الأمر الأول، وهو مطالعة روايات أكابر المؤلفين، فأظهر دليل على أنه المدرسة الحقيقية لمؤلفي الروايات ما كتبه إسكندر ديماس الكبير عن نفسه، فقد قال ما خُلاصته: إنه لمَّا عقد النية في شبابه على أن يكون مؤلف روايات، أخذ يُطالع جميع الروايات المشهورة لأكابر المؤلفين، فرنسويين وغير فرنسويين، فصرَف وقتًا طويلًا في درسها، والتأمُّل بها، وتدبُّر أغراضها ومراميها، فأتى عليها كلها حتى انطبعَتْ في ذهنه أساليبها وطُرُقها، واختلطَتْ في فكره وقائعها ومذاهبها، وبعد ذلك شرع في الكتابة، فكتب الرواية الأولى وأحرقها لعدم رضائه عنها، ثم كتب الثانية والثالثة وأحرقهما أيضًا، ولمَّا كتب الرابعة دفعها للتمثيل، فكان لها دوي في باريس. وقد حضرها أحد أُمراء العائلة المالكة، وكان ديماس مُستخدَمًا عنده، فلما ذُكر اسم المؤلف للجمهور نهض الأمير من مجلسه ورفع قُبَّعته لمستخدَمه ديماس؛ إكرامًا وتنشيطًا له.
فالروايات المشهورة الجيدة هي خير مدرسة لمؤلف الروايات؛ لأنها خُلاصة الاختبار والعلم في هذا الفن. ولكن هذه المطالعة وحدها لا تكفي الراغب في التأليف إذا لم يكب على الأمر الثاني — دَرْس أقوال نُقَّادي الروايات — إكبابه عليها.
مَن تصفَّح الجرائد الفرنسوية الكبرى وغيرها وجد فيها فصلًا مخصوصًا يُنشَر في كل يوم اثنين في ذيل الجريدة لأحد النَّقَدَة المشهورين، وموضوعه نقد الروايات التي تمثل في خلال الأسبوع، ورُبَّ أحد هؤلاء النقدة تدفع له الجريدة أُجرة للمقالات الأربع في الشهر راتبًا يعدل راتب وزير. وقد كان سارسي؛ كبير النقَّادين في القرن التاسع عشر بعد سنت بوف، يكتب في جريدة الطان، وكان الممثلون والمؤلفون إذا رأوا في وجهه وهو في «لوجه» دلائل الاستياء، وعدم الرضى، ترتعد فرائصهم خوفًا؛ لأنه كان على رأيه المعول.
فدَرْسُ كتابات هؤلاء النقدة وغيرهم من نقدة أوروبا من أهم واجبات كاتب الروايات؛ لأنه يستفيد من كتاباتهم نتيجة اختبارهم هذا الفن، واختبار مشاهير النقدة الذين تقدَّموهم فيه منذ نشأته. وقد كُنا نقرأ نقد سارسي في الطان بلذة كُبرى، فلما توفي أصبحنا نقرأ نقد المسيو أميل فاكه في جريدة الديبا، وهو من رجال الأكاديمي وأشهر النقدة الفرنسويين اليوم، على أن كتب النقد الروائي كثيرة في اللغة الفرنسوية لمن يطلبها، وهي أهم وأصح من الكتب غير الفرنسوية؛ لأن الفرنسويين ما زالوا متفردين في هذا الفن في أوروبا كلها.
- (٦)
عاطفة الجمال: والشرط السادس والأخير من شروط وضع الروايات «التزام عاطفة الجمال فيها»؛ لأن تأثيرها وحلاوتها مُتوقِّفان على ذلك، ويدخل في هذا أمران؛ الأول: جمال موضوعها، والثاني: جمال سبكها. أما جمال موضوعها فمُتوقِّف على الإجادة في الصفات الخمس التي تقدَّم بسطها. وأما جمال سبكها فالمراد به نسجها بلفظٍ عذب، ومعنًى طلي، وروح جلي، فيجد القارئ حين مُطالعتها من الحلاوة والعذوبة ما يستأسِر لُبَّه. وإذا كان الجفاف والجمود في الإنشاء مما يُغتفر في المباحث العلمية والتاريخية، لأن الغرض منها تقرير الحقائق، سواء كان لباسها من نضار أو كان عليها أطمار؛ فإن ذلك مما لا يُقبَل في الروايات أصلًا؛ لأن العُمدة في الروايات إنما هو على التأثير في نفس القارئ؛ لجذبه إلى مبادئها، وشرح صدره بحلاوتها. وهذا الجذب والتأثير لا يَتِمَّان إلا بعاطفة الجمال.