الروايات وأنفعها لنا
- الأول: ما هي الفائدة التي نحن أشد احتياجًا إليها في الشرق؟
- والثاني: أي نوع من أنواع الروايات يوصلنا إلى هذه الفائدة؟
- الأمر الأول: كلنا نبحث في داء الشرقيين ودوائه، وكل واحد منا يُشَخِّص العلة من
وجه، ويصف لها الدواء الذي يراه، فبعضهم يقول: داؤنا السياسة، وغيره
يقول: داؤنا الرئاسة، وآخر يقول: داؤنا انحطاط التجارة والصناعة
والزراعة، وعدم وجود قوة سياسية تحميها في داخل الأمة وفي خارجها،
وغيرهم يقول: إن داءنا تعدُّد عناصرنا ومذاهبنا واستحكام الانقسام
والبُغض في نفوسنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا تربية مدارسنا، فإن دروسها
وتربيتها لا تنطبق على حاجاتنا وأخلاقنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا
مُنازعة الأجانب لنا الرزق والسيادة في بلادنا مُنازعة تحُول دون إصلاح
شئوننا.
على أن المتأمل البصير الذي أَلِفَ النظر في أخلاق الأمم ومعرفة الأسباب التي ترفعها وتحطها، يرى بعد إعمال الفكرة في جميع الوجوه التي تقدمَتْ أن هنالك سببًا فوق جميع تلك الأسباب. ولا مشاحَّة في أن تلك الأسباب أسباب حقيقية للانحطاط، ولكنها في الحقيقة أسباب فرعية؛ أي مسببات لا أسباب. وأما السبب الذي أشرنا إليه هنا، فهو الأصل الذي تتفرَّع منه جميع بلايا المشرق، وهو: عدم وجود الشخصيات الراقية بين أبنائه.
قد يمكن أن ترتفع الأسباب السياسية والدينية، قد يمكن أن تروج التجارة والصناعة والزراعة، قد يمكن أن تتحد عناصر الأمة ومذاهبها بتأثير يد قوية تُحسن إدارة أزِمَّة الأحكام، قد يُمكن أن تعود أوروبا إلى رشدها، فتنظر إلى بلاد الشرق نظرها إلى أمم تريد لها الحياة لا إلى مستعمرات. كل ذلك قد يمكن أن يقع بأعجوبة أو بغير أعجوبة، ولكن وقوعه وحده لا يُنيل الشرقيين ما يتمنونه من صيرورة أُممهم أُممًا عزيزة راقية، بل يُقيمون حينئذٍ على دورانهم في دائرة الانحطاط التي كانوا يدورون فيها حين كانوا أذِلَّاء ضعفاء فقراء، تراهم يركضون ويجدُّون ويجمعون المال أكداسًا إلى أكداس، فتخالهم صاعدين مُرتقين، والحقيقة أنهم ما زالوا يدورون ضمن تلك الدائرة. إنهم كانوا من قبل فقراء مُنحطِّين، فأصبحوا بعد رواج أعمالهم أغنياء مُنحطِّين، وربما زادهم الغنى انحطاطًا؛ لأن الثروة تُبطر صاحبها إذا لم يكن أهلًا لها، فضلًا عن أنها تُسَهِّل له من إتيان الكبائر والصغائر ما كان عاجزًا عنه قبل الوصول إليها.
بعدما تقدَّم تتضح لنا الأسباب في وجود مسائل نشكو ونعجب منها جميعًا، فإننا نعلم بعده لماذا لا نعتبر أُممنا أُممًا مجموعة بجامعة يحترمها الجميع ويخدمها الجميع، بل نعتبرها أفرادًا متفرقين، ولكل واحد منهم مصلحة خاصة يسعى إليها، ولماذا يبتسم أكثرنا مُزدرين ضاحكين حين يسمعون كلمة «المصلحة العمومية». نعلم لماذا الذين أصبحوا منا قادرين على النفع بثروتهم التي حصَّلوها بطرق مختلفة ليس لهم همٌّ إلَّا التمتُّع بها بوقاحة وبَلهٍ، دون أن يعملوا شيئًا نافعًا للأمة التي خرجوا منها وتَحمِل كل أثقالهم. نعلم لماذا حُكَّامنا ورؤساؤنا، مدنيًّا ودينيًّا، متى وُلُّوا شأنًا عموميًّا؛ استخدموه لجرِّ النفع إلى أنفسهم؛ لاعتبارهم الرعية بقرة حلوبًا. نعلم لماذا نرى الأقوال عندنا كلها ساميَةً جميلة، والآداب الاجتماعية والسياسية في أرقى مظاهرها في الظاهر، ولكن الأفعال والبواطن مما يُضحِك ويُبكي. نعلم لماذا لا نقدر على الاجتماع والتعاوُن؛ ففقدنا بذلك أعظم القوات والعوامل في رفع الأمم؛ كإنشاء الجمعيات المختلفة للعلم والأدب والزراعة والصناعة والتجارة التي عليها مدار الارتقاء في هذا العصر، وبدونها لا يقدر الفرد أن يصنع شيئًا عظيمًا، أو يُحَصِّل حقًّا ضائعًا، حتى قال بعضهم في أوروبا: إن جمعيات العَمَلة والزراعة والتجارة والصناعة هي التي تسوق اليوم السياسة والساسة في سبيل الارتقاء بقضيبٍ من حديد.
فالدعوة إلى إيجاد شخصيات راقية في الشرق وتسهيل السبيل لها هي خير ما يُخدَم به الشرق وأبناؤه. وهذه الشخصيات الراقية توجد إما في الهيئة الحاكمة، وحينئذٍ ترقى الأمة وتوجد فيها شخصيات راقية طوعًا أو كرهًا، وإما في الهيئة المحكومة، فتُلزم الهيئة الحاكمة سُبل الرشاد والسداد طوعًا أو كرهًا. وارتقاء كل أمة إنما يُقاس بعدد الشخصيات الراقية التي فيها، وهي نتيجة تهذيب النفس والعقل، وثمرة اختمار المبادئ الكريمة فيهما، وتأثير الوسط الذي يعيشان فيه جيلًا بعد جيل. وما الإصلاح الاجتماعي الذي يُدَوِّي صداه في آذان الناس في هذا العصر إلا هذا الإصلاح.
على أن مقدمة رواية كهذه المقدمة لا تحتمل هذا البحث، وليس هو من مواضيعها، وإنما جرَّ الكلام إليه ما قصدناه من بيان المبدأ الأول الذي يحتاج الشرق إليه، وبدونه لا تقوم له قائمة؛ لأنه يبني على غير أساس. فأنفع المطالعات لأبناء الشرق ما كان موضوعه الإصلاح الاجتماعي الذي تقدَّم ذكره، الذي أهم أغراضه ومراميه إيجاد شخصيات راقية.
- الأمر الثاني: أي أنواع الروايات توصلنا إلى الفائدة التي تَقَدَّم ذكرها في مقدمة
الكلام؟ وهذا هو موضوع هذه المقدمة الحقيقي.
إن في الطبيعة البشرية عادة مألوفة، وهي: جر الإنسان الحبل لصوبه، كما يقول العوام، فكل إنسان يدعو إلى مبدئه ومذهبه، ويُقَبِّح رأي غيره، وأحيانًا يكون هذا التقبيح مُضحِكًا، وأحيانًا يكون مقبولًا، وإنما يكون مضحكًا متى كان المقبِّح لا يرى إلا بعينٍ واحدة، فإما أن يجهل ما في رأي غيره من الصواب، وإما أن يتجاهله لترويج بضاعة، أو لاعتقاده حقيقة أنه غير صواب. ومذهب «الجامعة» ومبادئها في رواياتها وغير رواياتها معروفة عند قُرائها، فلا حاجة إلى بسطها لتبيان فضل الروايات الاجتماعية عندها على سائر الروايات. ولكنَّا مع هذا لا نجُر الحبل كثيرًا لصوبنا؛ لكراهتنا هذا الخطأ الذي قد يقع فيه غيرنا.
- الاعتراض الأول: أنها أمر كمالي بالنسبة إلينا، فإن التاريخ لا يخرج عن كونه عبارة عن ذكر أيام مضت وحوادث خلت، والأمم التي لم تتكوَّن بعدُ أو التي تكوَّنَتْ وانحلَّت لا يُفيدها تاريخها شيئًا سوى تذكيرها بعظَمة ساقطة ومجدٍ ذاهب، وهي قبل كل شيء تحتاج إلى قوات تنهض بها، وتُوجِد الشخصيات الراقية التي أشرنا إليها أضعاف حاجتها إلى تاريخها. وإن علم التربية وعلم الاجتماع والنشاط والحماسة للعمل، ونصب أغراض شريفة أمامها، وحثها على السعي إليها، وجمع كلمتها عليها بتأليف رأي عام منها، كل هذه مُقدَّمة على جميع علوم التاريخ البشرية والإلهية، بل إن أصغر مبادئ الزراعة الأولى وأحقر مبادئ الصناعة الأولى مُفضَّلة فيها على جلال التاريخ وعظمته؛ فالذي يصرف فكرها إلى حوادث تاريخها الماضية بكتبه ورواياته قد يُفيدها، ولكن فائدتها من ذلك لا تكاد تُذكَر؛ لأن مَثَلَها حينئذٍ يكون مثل فقير ذي أطمارٍ يُعَلِّقُ في ثوبه ساعة وسلسلة من نضار. قال برناردين دي سان بيير: أيَّةُ حاجة بنا إلى التاريخ وكتبه؟ وأيُّ تأثير للتاريخ في سعادتنا في الأرض؟ بل أية علاقة بين السعادة وذكر حوادث مضت وأيام خلت؟ إن تاريخ ما كان لهو تاريخ ما هو كائن وما سيكون. وقال الفيلسوف نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر»: إن المؤرخين لكثرة تفكيرهم في الماضي وتنقيبهم فيه ينتهون إلى أن يُنزلوا التاريخ منزلة كل شيء، فيصير مثلهم مثل السرطان الذي يمشي إلى وراء وهو يحسب أنه يمشي إلى أمام. يريد بذلك أنهم يتأخرون وهم يحسبون أنهم يتقدمون.
- الاعتراض الثاني: أن الروايات التاريخية هي سمٌّ للتاريخ قتَّال؛ وذلك لأنها تكون مزيجًا من الحوادث المخترعة والحوادث التاريخية، وفي ذلك إفساد التاريخ بدل تحقيقه. ولا بأس من ورود التاريخ في الروايات، ولكن يجب أن يكون وروده عرَضًا. والعمدة تكون على ما في الرواية من الأفكار والمبادئ الاجتماعية التي هي غرض الرواية الحقيقي؛ لأن الروايات الخطيرة الهامة في هذا العصر إنما هي روايات اجتماعية.
- الاعتراض الثالث: أن كتب التاريخ تُكتب للخواص، فالكاتب يجد في نفسه شيئًا من الجرأة على الجهر بما يرى الجهر به حقًّا في التاريخ وإن ساء بعضهم؛ لأن في أفاضل الخواص من كل الأمم ميلًا لمسامحة الكاتب ومعذرته إذا كانوا يعتقدون إخلاصه. أما روايات التاريخ فأكثر اعتمادها في رواجها على العوام والسُّذَّج، وهؤلاء لا يُسامحون ولا يعذرون؛ ولذلك يضطر الكاتب إلى مُجاراتهم ترويجًا لبضاعته، فيُشَوِّه التاريخ في رواياته بكتمان ما كان الجهر به من أول شروط التاريخ، وبتحسين وتزيين أمور تزيد السذج تمسُّكًا بأوهامهم وأغلاطهم، خصوصًا إذا كان الكاتب من أمة والقُرَّاء من أمة، وعلى الأخص في بلاد الشرق. وبذلك يكون وجود تلك الروايات وعدمها سِيِّينِ؛ إذ الفائدة الحقيقية في الروايات هي ما فيها من الجرأة والقوة الأدبية التي تحمل قُرَّائها على ترك ضعفهم وأوهامهم لا زيادة تمسُّكهم بها.
- الاعتراض الرابع: قال المسيو إدوار رود منذ سنتين، في مقالة افتتاحية في جريدة ألفيغارو،
في أثناء كلامه عن التاريخ وكبار المؤرخين الفرنسويِّين كتييرس وتان
ورينان وميشله وغيرهم، ما خُلاصته: إنه يجب على الناس أن يعلموا أن كتب
التاريخ التي يقرءونها باللغة الفرنسوية وغير الفرنسوية لا يُركن إليها،
مهما ادَّعى أصحابها التحقيق والتدقيق؛ وذلك لسببين؛ الأول: أنهم
يتخذون فيها طرق الاستنتاج والقياس، وفي أكثر الأحيان يجيء استنتاجهم
وقياسهم فاسدينِ؛ ولذلك ترى آراءهم في التاريخ متخالفة متباينة ينقض
بعضها بعضًا، وكل مؤرخ منهم يكتب التاريخ كما يتراءى له، والثاني: أن
المصادر التي يعتمدون عليها ويستقون منها أكثرها خطأ؛ لأن رواتها
أخطئوا في النقل والرواية.
وإنك لترى المؤرخين الذين عاشوا في الزمن الأخير إذا كتبوا تاريخه اختلفوا في رواية حوادثه وتفسيرها، فكيف بهم إذا راموا كتابة تاريخ زمن لم يشهدوه، ولا علموا شيئًا عنه غير ما نقلَته الكتب لهم؟ وليس في التاريخ شيء ثابت يمكن الوثوق بصحته غير الحوادث والأرقام والأوراق الرسمية التي وصلَتْ إلينا من تلك الأزمنة البعيدة. قلنا: وكل مَن تصفح كتب المؤرخين العربية والإفرنجية، ورأى فيها تناقُض الآراء والحوادث والأرقام لا يسعه إلا أن يُسلِّم بصحة هذا القول الذي ساء مؤرخي أوروبا، ولكنه صحيح. وما التحقيق في التاريخ — خصوصًا التاريخ القديم، وبالأخص الشرقي منه — إلا خُرافة ودعوى لا يقوم عليها دليل.
وليس هنالك تاريخٌ، بل آراء مختلفة، وظيفة الباحث فيها الترجيح بينها لا تحقيقها، وإنزال تلك الآراء والحوادث منزلة رفيعة من الأهمية، وبذل الإنسان قوته ونشاطه وعلمه ووقته فيها، إنما هو من قبيل الاشتغال بشيء مشكوك به، وفائدته لا تعدل التعب فيه؛ ولذلك قال رينان قبل وفاته: إنني آسفٌ لأنني صرفتُ عمري بكتابة تواريخ قلَّ أن يتصفحها أحد بعدي. قال ذلك مع أنه إذا لم يكن في كُتبه شيء غير جمال إنشائه في كتاباته، فإن هذا كافٍ — كما قال بعض كُتَّاب الفرنسويِّين — لأن يبقى جميع ما كتبه خالدًا بين أيدي الناس، ومقصدًا لطُلَّاب الجمال وحلاوة القلم.
فبعد ما تقدَّم، لا نرى للروايات التاريخية وظيفة سامية بين الروايات، إلا إذا كان المقصود بها مجموعة قصص وفكاهات لتسلية الخاطر وترويح النفس في ساعات الفراغ. وظاهرٌ بنفسه بعد هذا أن الوظيفة العليا بين أنواع الروايات هي للروايات الاجتماعية الفلسفية.
وقد ذكرنا كل ما تقدم لغرض لم نذكره حتى الآن، وهو الدفاع عن الروايات الاجتماعية الفلسفية، فإن بعض الكتاب رأى أن هذه الروايات روايات كمالية، لا نحتاج إليها في هذا العصر، بل نحتاج إلى روايات عملية. وربما وجد قوله هذا مُوافِقين ومُصدِّقين له دون أن ينظروا في لُباب هذا الموضوع؛ لأن الناس اعتادوا موافقة من يعتقدون فيه أصالة الرأي وصدق النظر. وقد تقدم إثبات أن الروايات غير الاجتماعية هي الروايات الكمالية.
وقد يستغرب القارئ اهتمامنا بهذا الموضوع الصغير وتخصيص بضع صفحات به، ولكن الكاتب الذي تتبع آراء الشرقيين ومطبوعاتهم بانتباهٍ وإمعانٍ لا يعدُّه موضوعًا صغيرًا، بل كبيرًا، وربما يراه أكبر موضوع إذا نظر فيما يلي:
أن كثرة الكُتَّاب في الشرق، وتعدُّد الآراء، وتنوُّع اللغات والتربيات قد جمعَتْ في كتبه ومجلاته وجرائده جميع الآراء الفلسفية ومذاهب الأدب الكتابي. قد اجتمعت متناقضة متضاربة، وأصبحَتْ خليطًا من جميع المذاهب في الكرة الأرضية، فترى فيها مذاهب سبنسر وكونت وداروين وماركس والقديس توما وأفلاطون وأرسطو وأبيقور الكلبي، كما يسميه جمال الدين الأفغاني، وفلاسفة الإسكندرية، وشوبنهور ونيتشه وقنت وزولا وهيغو، ومذاهب القرآن والتلمود والتوراة والإنجيل والفيدا، كلها — أي كل هذه المذاهب المختلفة — تراها فيه متجاورة مشتبكة اشتباك الأسَلِ. وليس هذا بالأمر الغريب العجيب، فإن بابل وُجدت قبل اليوم على ما جاء في التوراة.
وإنما الغريب العجيب أمران؛ الأول: اجتماع المتناقضات من هذه المذاهب في حيزٍ واحد دون أن يفطن صاحب هذا الحيز لها، والثاني: تسفيه صاحب أحد هذه المذاهب لمذهب آخر منها من وجه مذهبه، وبطُرق مذهبه، بدل أن يُسَفِّهه من الوجه الخاص بهذا المذهب. وغني عن البيان أننا نتكلم هنا عن المذاهب الكتابية والفلسفية والأدبية، لا المذاهب الدينية، فترى مثلًا بعضهم يكتب يومًا كأنه على مبادئ كونت؛ صاحب الفلسفة الوضعية السائد روحها اليوم في أوروبا وأميركا، ويومًا تراه يكتب كأنه على مبادئ قَنْت وشوبنهور الأيدياليستية. تراه يومًا ينهج منهج زولا في كتاباته الناتوراليستية (تقليد الطبيعة)، ويومًا ينهج منهج فيكتور هيغو في كتابته الرومانتيكية الأيدياليستية. وقد قرأنا يومًا في جريدة يومية مصرية كلامًا عن الوطنية، قالت فيه: إن الوطنية أثر من آثار الهمجية القديمة، مع أن الرصيفة تدافع عادة أشد دفاع عن جميع المبادئ التي هي عماد الوطنية ودعامتها. وعلة هذا الاختلاط والاختباط عدم وضوح المبادئ بعدُ لأبناء الشرق للاجتماع حولها أحزابًا أحزابًا، كل حزب يعرف أصل مبدئه وفروعه، ويجعل خطته الدفاع عنه وعنها لموافقتها مزاجه وأخلاقه وآراءه. وإليك مثالًا لهذا الاختلاط والجهل بأصول المبادئ:
قال بعض الكُتَّاب إن الروايات الاجتماعية والفلسفية روايات كمالية، والأهم منها الروايات العملية. وبعد هذا القول قال: إن أحوالنا تحتاج إلى إصلاح، وخير سُبل الإصلاح تقبيح الرذائل الشائعة؛ كالكذب والخداع والمجاملة والمقامرة والمُسكر والبورصة، وغيرها من الرذائل والمنكرات التي نئنُّ تحت أعبائها.
فالذي وقف على أصول المبادئ الفلسفية والأدب الكتابي يستغرب هذا القول؛ لأنه يعلم أن الأدب الكتابي في الفلسفة نوعان: أيدياليست (مثالي)، ورياليست (واقعي)؛ فالأدب الأيدياليستي مشتق من قوى النفس والعقل، والأدب الرياليستي أو الناتوراليستي مشتق من الطبيعة. الأول يعتمد في التأثير والإصلاح على قُوى نفس الإنسان، ويُقدم تأثيرها على كل تأثير، والثاني يعتمد على الطبيعة وقواتها وتقليدها. الأول يقول: صوروا ما هو أسمى من الطبيعة لرفع النفوس به، والثاني يقول: إن ما هو أسمى من الطبيعة خيالي وهمي أو كمالي، وحسبنا الطبيعة وتقليدها وتصويرها؛ لأن فوائدها عملية.
فإذا عُدت الآن إلى الاعتراض الذي تقدَّم، وجدت أن المعترِض يقول إن المذهب الأيدياليستي أمرٌ كمالي، وهو اعتراض جائز مثلًا لمن كان رياليستيًّا؛ كالفيلسوف نيتشه الذي أدمى الأيدياليست نقدًا وتهكُّمًا، ولكن متى سفَّه المعترض المذهب الأيدياليستي ذلك التسفيه، ثم عاد فقال ألِّفوا في اجتناب الكذب والخداع وما أشبههما من النقائص الاجتماعية، فإنه يخلط بين المبادئ دون أن يشعر؛ ذلك لأن توقُّع الإصلاح من محاربة الكذب والخداع وما أشبههما هو من مذهب الأيدياليست. ومذهب الرياليست يتساهل أحيانًا مع الكذب والخداع، وقد قال نيتشه إنهما حق للضعيف ومن ملازمات العمران. فالنتيجة التي تخرج من هذا هي أن المعترض يُسَفِّه من جهة مذهب الأيدياليست؛ لأنه خيالي وهمِيٌّ في رأيه، ومن جهة أخرى يدعو إلى إصلاح البشر به. وهو منتهى السذاجة والجهل بالأصول.
وليس غرضنا في هذا الفصل شرح مذهب الأيدياليستيِّين والرياليستيِّين، وإظهار آثارهما في المجتمع البشري، ومبلغ تأثير كلٍّ منهما في إصلاح الأرض؛ فإن ذلك بحث فلسفي طويل، متشعب الطرق، كثير الفروع. وسنغتنم أول فرصة لإبداء رأينا في هذين المذهبين. إنما غرضنا هنا أن نوجه الأنظار إلى وجوب فصل المبادئ في الشرق وترتيبها، ووضع كل واحد منها في مرتبته وبابه؛ تسهيلًا للنظر فيها، واختيار أفضلها لنا، فضلًا عن أن الخلط بينها دليل على الجهل بها، والجهل بها دليل على انحطاط العلم عندنا وكونه لا يزال في طفوليَّته.