اللغة العربية الجديدة
أتينا على تفصيل المناظرة التي جرت في القطر بشأن ما اقترحه المسيو ويلمور من وضع اللغة العامية في مصر موضع اللغة الفصحى في تعليم الشعب المصري والكتابة له، وذكرنا ردود مناظريه عليه ونقضهم أقواله، ثم قُلنا في ختام ذلك الفصل إن في اقتراح المستر ويلمور عبرة وفائدة، ووعدنا بنشر هذه العبرة والفائدة، وإنجازًا للوعد نقول:
يزعم بعض فلاسفة العمران أن في كل قول حتى ما كان منه خطأ شيئًا من الصواب، واقتراح المستر ويلمور هو من هذا القبيل، فإنه خطأ محض إذا نظرت إليه من جهة لفظه، ولكن فيه شيئًا كثيرًا من الصواب إذا نظرت إليه من جهة معناه. وغرضنا الآن الإشارة إلى هذا الصواب.
وبعبارة أخرى نقول إن المستر ويلمور مُصيب كل الإصابة إذا كان غرضه في اقتراحه هذا إنشاء أسلوب جديد للكتابة يفهمه جميع أبناء اللغة، فإن اللغات لا يمكن استبدالها؛ لأن ذلك فوق طاقة الإنسان، وإنما يكون تغيير أسلوبها؛ كأن يُهجر القديم البالي الذي كان حسنًا في عصره، إلى الجديد الذي هو حسن ومفيد في هذا العصر. فإذا نظرنا إلى اقتراح المستر ويلمور من هذا الوجه تغيَّرَتْ مسألته، وصار المقصود بها تسهيل اللغة الفُصحى على المعلمين والمتعلمين، لا استبدال اللغة العامية الساقطة بها. وحينئذٍ يكون صوته الجهوري الذي دوَّى في فضاء مصر صوتًا يدعو إلى أمر في غاية الأهمية، ويُشير إلى إحدى مصائب العلم والتعليم في اللغة العربية.
نقول ذلك لأننا لا نجهل المصاعب العديدة التي تعترض طلبة العلم وناشريه في اللغة العربية، فإننا نعرف كثيرًا من المعلمين يحسبون العلم محصورًا في اللغة؛ ولذلك يصرفون إليها عقول تلامذتهم دون سواها من الفروع التي توسع دائرة العقل، وتُنَمِّي الإدراك، فيشب الولد بين أيديهم ويخرج من مدرستهم وهو لا يعرف غير: «ضرب اضرب ضرَّب ضارب تضرَّب». وهذا بلاءٌ شديد على الشرق. وإنما كلامنا هنا عن المعلمين في المدارس الابتدائية التي هي بمثابة القوالب الحقيقية الأولى التي تتكون فيها عقول الطلبة ونفوسهم، فإذا كان غذاؤها قويًّا من لُباب العلم وثمار المعارف الحقيقية شبَّتْ قوية، وكان في إمكانها بلوغ حد البلوغ والرجولية، وإذا كان غذاؤها ضعيفًا من قشور اللغة وما يتبعها من صرفٍ ونحو وشعر، دون سواها من المبادئ التي تقدَّم ذكرها؛ فإنها تبقى طفلة وإن بلغَتْ في العمر مبلغ الرجال.
وكما أن هذا البلاء شديد على بعض المعلمين والمتعلمين في الشرق، فهو شديد على بعض الكُتَّاب أيضًا، فإن هؤلاء الكتاب يصرفون أعمارهم في تصفُّح كتب اللغة القديمة، وانتحاء مناحي بُلغاء المتقدمين، فينطبع في نفوسهم أن صناعة الكتابة لا تقوم إلا بتنميق العبارة، وذكر المترادفات من الألفاظ، وانتقاء الضخم منها، حتى إنك حين قراءتها لتخالها كالبُندق الذي قال فيه الشاعر: «خليٌّ من المعنى ولكن له فقش.» وعلى ذلك تصير الكتابة عندهم عبارة عن ألفاظ واسعة الأكمام، ضخمة الأجسام، يضيع فيها المعنى الذي تدل عليه كما تضيع كأس من السكر في بركةٍ من الماء البارد، أو تكون أسلوبًا جافًّا ناشفًا تنتظم فيه معانٍ قليلة بسلك معوجٍّ لا يفهمه القارئ إلا إذا راجعه عدة مرات، وربما راجعه طول النهار إذا كان ضعيف الفهم ولم يفهم منه شيئًا.
فالفضل العظيم الذي يرجع للمستر ويلمور في هذه المسألة هو في رأينا حذفه مسألة اللغة بكلمة واحدة؛ وذلك بقوله استبدلوا العامية بالفُصحى، فكأنه قال للذين يقدمون اللغة على كل شيء: إنكم تشتغلون بالقشر وتتركون اللُّب، فدعوا القشر، وإذا كانت لغتكم تحول دون تركه؛ فاتركوها هي نفسها أيضًا، واتخذوا اللغة العامية بدلًا منها طلبًا للبِّ الذي هو العلم الحقيقي والفائدة الحقيقية.
أما نحن فإننا نقول للمستر ويلمور: إننا نعدُّ هذا القول جناية على اللغة العربية؛ لأن هذه اللغة الجميلة الحلوة لا أسهل منها على من يُحسن تسهيلها، ولا أطوع منها على من يُحسن التصرُّف بأساليبها. فالعجز إذًا إنما هو في نفوس أهل اللغة لا في أساليب اللغة نفسها.
وهنا نصل إلى النقطة الهامة في هذا البحث، فنسأل المستر ويلمور ألَّا يعدِل عن اقتراحه إذا ثبت له أن اللغة الفُصحى قد تقوم بوظيفة اللغة العامية من إبلاغ المعاني إلى أفهام العامة؟ وهذا أمر ممكن. وإيضاحًا لذلك نقول:
تقتضى المخاطبة ثلاثة أمور؛ الأول: المعنى الذي في ذهن المتكلم، والثاني: الكلام الذي يُراد إيصاله إلى فهم المخاطَب، والثالث: فَهْم المخاطَب نفسه. فإذا كان معنى الكلام والكلام نفسه صريحين واضحين مسبوكين بأسلوب على قدر فَهْم السامع، وصل ذلك المعنى إلى ذهن المخاطب بلا عناء ولا مشقة؛ فالعمدة في ذلك إذًا: المعنى والكلام والأسلوب.
وبناء عليه، إذا كان المتكلم ماسكًا زمام المعنى، ووضعه في ألفاظ بسيطة حسنة مفهومة لدى العامة، وسبكه بأسلوب بسيط أيضًا؛ تحتَّم وصول ذلك المعنى من ذهن المتكلم أو الكاتب إلى ذهن المخاطَب لا محالة.
مثال ذلك العبارة التالية: إن المقصود بالسنن الموضوعة في السياسات كلها هو المدينة والكل لا الشخص.
فهل يعرف القارئ من أين أخذنا هذه العبارة؟ لقد أخذناها من كلام للفيلسوف ابن رُشد في تعريبه كلامًا لأرسطو، وأصلها هكذا: هذه السياسات كلها المقصود بالسنن الموضوعة فيها إنما هو المدينة والكل لا الشخص. فانظر أيهما أقرب إلى أفهام القُراء في هذا الزمان.
وليس المراد بذلك أن العبارة التي بسطناها أولًا هي أبلغ من العبارة الثانية التي خطَّها قلم ابن رُشد؛ كبير فلاسفة العرب وأمير البُلغاء، ولكن المراد أنها أقرب إلى أفهام القراء في هذا الزمان. وقد قال الجاحظ: كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميًّا ولا ساقطًا سوقيًّا، فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشيًّا، إلا أن يكون المتكلم به بدويًّا أعرابيًّا، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي. ومن ذلك يثبتُ أن الفهم هو شرط الجواز في استعمال المعاني والألفاظ.
ولكن قد يصيح هنا كثيرون من مُحبي اللغة ويقولون: إن ذلك يقتل ملكة البلاغة والفصاحة؛ لأنه يضيق دائرة اللغة، ويقضي على أساليبها الجميلة، وتعابيرها الأنيقة؛ إذ ماذا يحل بنا وبلغتنا إذا وجب علينا ألَّا نخاطب الناس إلا بما يفهمونه؟ فالجواب عن ذلك سهل جدًّا على المستر ويلمور، وهو قادر على أن يَحُجَّهم من كلام أئمة البلاغة أنفسهم، قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد، وأصلها من قولهم: أفصح اللبن: إذا ذهبت عنه الرغوة، وهي بالاصطلاح عبارة عن الألفاظ المبينة الظاهرة، المتبادرة إلى الفهم، والمأنوسة الاستعمال لمكان حسنها.
وقال أبو هلال العسكري: سُمِّيَت البلاغة بلاغة لأنها تُنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، والبلاغة مأخوذة من قولهم: بلغتُ الغاية: إذا انتهيتُ إليها وبلَّغتها غيري. وقال في الفصاحة: أما الفصاحة فقد قال قوم إنها من قولهم: أفصح فلان عمَّا في نفسه إذا أظهره. والشاهد على أنها هي الإظهار قول العرب: أفصح الصبح: إذا أضاء. وقال في موضع آخر: يُسمَّى الكلام الواحد فصيحًا بليغًا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، وجيد السبك، غير مُستكرَهٍ فجٍّ، ولا متكلَّف وخمٍ، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء لمَا فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.
وقال صاحب المثل السائر: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البيِّن، وأعني بالظاهر البيِّن أن تكون ألفاظه مفهومة لا يُحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال.
هذا ما يعتقده في الفصاحة والبلاغة أئمة اللغة وكُتَّابها. وإذا كان فهم السامع كلام المتكلم والقارئ كلام الكاتب هو الشرط في الفصاحة والبلاغة؛ فقد جازَ أن يُقال إن البلاغة والفصاحة عند الأمم تكونان بحسب أخلاقها وعاداتها وحاجاتها وأساليبها، فما يكون بلاغة وفصاحة في البدو لا يكون بلاغة وفصاحة في الحضر، وما يكون بليغًا لدى العرب لا يكون بليغًا لدى الإفرنج وبالعكس. فبناء على ذلك، يجب على المعلمين والكُتَّاب ألَّا يتقيَّدوا بالماضي تقيد الأعمى، فإن الماضي إنما هو الطفولية، كما قال باكون، والإنسانية تتقدم صاعدة شيئًا فشيئًا في مراقي الزمن الأزلية، وهي جسم حي كلُّ ما فيه نامٍ: جسمه، ونفسه، ولغته، فإذا تقدمت النفس وارتقت وبقيَت اللغة متأخرة جامدة صارت النفس خرساء لا تُحسن التعبير عن حاجاتها.
فيؤخَذ من ذلك كله أن المستر ويلمور مصيب في طلبه لغة جديدة غير لغة الطفولية، ولكن هذه اللغة الجديدة المطلوبة التي تقتضيها حالة العصر، ويوجب سير التمدُّن قيامها ليست اللغة العامية؛ لأن هذه لغة ساقطة، ولكنها لغة بين اللغة الفصحى القديمة التي لا يفهمها العامة والخاصة أيضًا وبين العامية. وهذه اللغة الجديدة موجودة الآن، وهي لغة المجلات والجرائد التي تُحسن اختيار ألفاظها وأساليبها، وتتقي الخطأ فيها، فما طلب إذًا المستر ويلمور إلا شيئًا موجودًا.
نتج إذًا أن اللغة الجديدة التي ستكون اللغة العربية في المستقبل هي تلك اللغة البسيطة السهلة التي لا يكون فيها لفظ غير مألوف الاستعمال، ولا تعبير من التعابير البدوية القديمة التي لا مسوغ لاستعمالها في زمنٍ كهذا الزمان. هي تلك اللغة التي تغيب ألفاظها وراء عرائس المعاني كأنها زجاج شفاف يظهر باطنه مع ظاهره، أو نبع صافي الماء تعدُّ في قعره درر الحصى واحدة واحدة. هي تلك اللغة التي يقرأ أبناؤها مقامات الزمخشري والحريري واليازجي ورسائل الخوارزمي والهمذاني، فيأسفون على الوقت والقوى التي أنفقوها في صف الألفاظ بعضها وراء بعض، ويضحكون من تلك الكلمات الغريبة والأساليب العجيبة كما ضحك أعرابي من بيت لأبي تمَّام تُلي عليه فلم يفهمه وقال إنه ليس بعربي. هي تلك اللغة التي إذا مات رجل عظيم من أبنائها قال كاتبها في تأبينه: مات رجل عظيم، لا كُسِفَت الشمس، وخُسف البدر، ومادت الجبال، وغارت البحار، بل هي تلك اللغة التي كل كاتب وكل معلم من أبنائها يكتب في دفتره الخصوصي مقال الجاحظ: ليست الفصاحة بالتفصُّح؛ لأنه لا يزيد مُتزيِّد في كلامه إلا لنقصٍ يجده في نفسه.