أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية
قربنا من أيام العطلة المدرسية.
غدًا تخلو المدارس الكبرى والصغرى من تلامذتها كما تخلو الأعشاش من صغارها. غدًا، هذه الأماكن الطاهرة الجميلة التي تنشأ فيها الأجيال بعضها بعد بعض، والتي يُدوي الآن في فضائها صراخ أبناء الإنسانية الصغيرة، تصبح ساكتة هادئة لا يُسمع في جنائنها غير غناء الطيور التي تزداد غناء في غياب رفقائها التلامذة، كأنها استوحشَتْ وحدها فقامت تشكو فراقهم.
- أولًا: راحة أدمغة الطلبة والمعلمين من تعب الدرس مدة تتجدد فيها قواهم العقلية والجسدية.
- ثانيًا: إظهار الفرق للتلامذة والمعلمين بين العمل والبطالة، وكيف أن الأول سارٌّ مفيد مع ما فيه من العناء، وكيف أن الثاني مُضجِر مُضر مع ما فيه من الراحة، فيعود كل من الفريقين إلى أعماله المدرسية أكثر نشاطًا وأشد شوقًا إليها.
- ثالثًا: عودة التلامذة إلى المعيشة العائلية مع أهلهم لاستعادة بعض ما أفقدتهم إيَّاه المعيشة المدرسية من الانعطاف العائلي؛ لأنه من الثابت — ويا للأسف — أن المعيشة المدرسية؛ ونعني بها هنا المعيشة في المدارس الداخلية، تسلب من قلب التلميذ قسمًا من الأُلفة البيتية.
- رابعًا: جعل السنة المدرسية شوطًا بعيدًا يجري فيه التلميذ على أمل أن يصل إلى الغاية؛ أي الراحة بعد التعب، وإحراز قَصَب السَّبق في الامتحان بعد طول الدرس والتنقيب، فإن هذا الأمل ممَّا يُخفف عليه مشاق الدرس، ويجعله يقطع تلك الطريق الطويلة بشيء من السهولة.
- خامسًا: الفرار من حر الصيف الذي يكون الدرس فيه شاقًّا مُتعبًا.
فأنت ترى مما مرَّ بك أن العطلة المدرسية نعمة لعنصري المدرسة؛ ونعني بهما المعلمين والتلامذة، فينبغي السرور بها والارتياح إليها، خلافًا لما يعتقده بعض بُسطاء الآباء والأمهات من أنها تضرُّ الأولاد وتجعلهم ينسون ما تعلَّموه.
أما نسيان الأولاد ما تعلموه، فهذا أمر لا نحب أن نسمع به من فم عاقل يفهم معنى التعليم. أفتحسبون التعليم هو تلك القواعد الباردة الشاردة الكاسدة التي يحفظها التلامذة في ذاكرتهم، فإذا لم يتذاكروا بها أو لم يُراجعوها في كتبهم نسوها، وبذلك يخسرون ما تعلَّموه؟ كلَّا ثم كلَّا! إن التعليم الصحيح غير متوقف على قاعدة أو دفتر أو كتاب، حتى ولا على مكتبة، وإنما يتوقف على المبادئ التي يكون المعلم قد بثَّها في نفس تلميذه، ونعني بهذا: توسيع نطاق مداركه، وتربية دماغه، وتثقيف نفسه، حتى إذا خرج من المدرسة ونسي كل قواعد التصريف والإعراب، وكل مبادئ البيان وما أشبهها، بقي له معرفة نواميس الحياة، ومقدرة على فهم كل شيء يُطالعه، والتمييز بين الفاسد والصحيح، والنافع والضار، والحرام والحلال.
هذا هو التعليم الحقيقي. أما القواعد فليست إلا آلة لهذا التعليم، وينبغي أن تكون كل واحدة منها بمثابة حجر يوضع في أساس هذا البناء العظيم الذي يُسمى تربيةً وتعليمًا. أما إذا كانت القواعد مما يمنع التربية العقلية والنفسية التي أشرنا إليها، لا مما يؤيدها، فإننا نُشفق حينئذٍ بنية خالصة على مُعلميها ومُتعلميها.
إذًا لا خوف من أن ينسى التلامذة في الفرص المدرسية ما تعلموه إذا كان التعليم صحيحًا، وإذا لم يكن كذلك فلا أسف عليه إذا نسوه؛ إذ بذلك يطردون الفضول من ذاكرتهم.
وأما قولهم إن هذه الفرص تضر بالتلامذة، فهو قول فاسد، وكلامنا في هذه المقالة عن هذا الموضوع.
فإن العطلة المدرسية تكون مما يضر ويفسد حال التلامذة إذا صرفوها في وجهٍ ضارَّ؛ كالبطالة والمعاشرة الرديئة التي تفسد الأخلاق، وتكون مما ينفع إذا صرفوها في وجهٍ نافع. وهذه أولية لا تحتاج إلى تبيان، وما جئنا لإقامة الدليل عليها، ولكن جئنا للإشارة إلى أمر مختص بالفرص المدرسية، وهو عظيم الأهمية للمدارس ومعلميها وتلامذتها وللهيئة الاجتماعية.
وهذا الأمر العظيم الذي نوجه إليه أنظار جميع أصحاب العقول الناضجة من المعلمين والمتعلمين هو إنشاء مدارس عملية في إبان العطلات المدرسية. ومعنى هذا ألَّا يصرف المعلمون والتلامذة أوقات العطلة في البطالة والكسل؛ فإن ذلك أمر لا يليق بأصحاب العقول.
وإن قيل إن العطلة المدرسية قد وُضعَتْ للراحة: قُلنا إن الراحة شيء، والكسل والبطالة الذميمة شيء آخر. ونحن لا نطلب أن ينصرف المعلمون والتلامذة إبان العطلة إلى التدريس والدرس، اللذين يشتغلون بهما في أوقات المدرسة، وإنما نطلب أن يعمل كل من الفريقين في أوقات راحته عملًا مُفيدًا لنفسه ولغيره من غير أن يُعاني مشقة وتعبًا.
أما التلامذة فينبغي أن يطلبوا الخلاء والهواء النقي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وأحسن ما يشتغلون به فيهما مدة الفرصة حراثة الأرض؛ كالبستان أو الحقل، وسقيها من عرق جبينهم، فترد لهم هذا العرق صحة وعافية في العقل والبدن. ولو كان الصيد ملذَّة طاهرة؛ أي لو لم يكن فيه قتل أرواح، وكان من القبيح أن يعتاد الأولاد من صِغرٍ أن يقتلوا ولو حيوانًا؛ لأشرنا عليهم بالصيد والقنص. على أننا نُفَضِّل الحراثة والزراعة؛ لأنهما فن، وإذا مارس التلميذ هذا الفن اكتسب ميلًا إليه. والميل إلى استخراج خيرات الأرض وإجادة ذلك من أهم أسباب الثروة ووسائل العمران.
وإذا لم تكن الفِلاحة والزراعة في الخلاء كالقرى في أعالي الجبال ترويضًا للجسد وللعقل معًا، فلا أحسن من أن يعمل التلميذ بصناعة؛ كالنجارة مثلًا، فإن هذه الصناعة التي كان يحبها جان جاك روسو حتى قضى بتعليمها للتلامذة، والتي كان يُحسنها لويس السادس عشر المسكين، الذي تحكى قصته في رواية نهضة الأسد؛ هذه الصناعة مما يروِّض الجسم والعقل أيضًا، فيجب على الطلبة أن يختاروا بينها وبين الزراعة.
هذا فيما يختص بصغار الطلبة، أي الذين لم يبلغوا الدروس العلمية بعد. أما الذين بلغوا الدروس العلمية، فعليهم في أوقات الفرصة ما على معلميهم من الواجب العظيم الذي أشرنا إليه.
وهذا الواجب العظيم هو إنشاء المدارس العامة كما قدَّمنا، والمقصود بذلك أن نحذو حذو الأمم الحية التي لا تعرف السكون، بل تتحرك دائمًا، فإن علماء فرنسا ومعلميها والمتقدمين من طلبة مدارسها ينتشرون حين إقفال أبواب المدارس في المُدن والقُرى والمزارع، يخطبون على العامة وعلى تلامذتهم في المواضيع الصحية والأدبية والعلمية والفلسفية البسيطة، والأمة عامتها وخاصتها تُقبل على استماع أقوالهم، والانتفاع بعلمهم، فأي مانع غير التواني وعدم الاكتراث يمنع أساتذة مدارسنا أن يعملوا كذلك في أوقات الفرص المدرسية؟
تصوَّر مدينة شرقية أقفلَتْ مدارسها اليوم، وانتشرَتْ غدًا في أسواقها إعلانات من الأساتذة يدعون الشعب فيها إلى استماع خطب بسيطة صغيرة يُلقيها كل أستاذ مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع، ومتى اجتمع المجتمعون أخذ الأستاذ يُلقي على سامعيه كلامًا بسيطًا في العلم والأدب، وعلم الصحة والجغرافيا والتاريخ، والمبادئ الطبيعية التي يجب اطلاع العامة عليها، والمبادئ الصحية التي من واجبات كل هيئة اجتماعية أن تعلم عامة الشعب إياها. أليس يحضر تلامذة المدارس حينئذٍ هذه الخطب فيكملوا خارج المدرسة ما بدءوا به في المدرسة؟ ألا يستفيد الشعب من هذه الخطب فوائد لا يستطيع تحصيلها بطريقة غير هذه الطريقة؟ ألا تكون هذه الاجتماعات الأدبية اللطيفة مما يقتل روح الجهل في الأمة، ويدعو إلى الاتحاد والأُلفة؛ لكثرة اجتماع العناصر المختلفة بعضها مع بعض؟ ألا ترقي هذه الخطب آداب الأمة وذوقها؛ إذ تُصرَف الأفكار عن المقاهي والحانات إلى طلب مكان أفيَد وأسمى؟ ألا تتأثر نفوس أبناء الشعب مما يذكره الخطباء في هذه الاجتماعات من وصف العادات القبيحة، والحث على ترك المسكرات الآفة الكبرى؟ ثم ألا يعتبر العقلاء هذه الخدم الجليلة التي يقوم بها الأساتذة إبان الفرصة المدرسية موازية للخدم الجليلة التي يقومون بها داخل المدرسة؟ وماذا يخسر الأساتذة؟ لا شيء، بل إنهم يربحون اتساع الشهرة، ويكتسبون أميال الناس وحبهم واحترامهم، وفوق ذلك كله يشعرون حينئذٍ بالكبرياء الساهرة الجميلة التي يشعر بها كل مَن يصنع خيرًا حقيقيًّا. وهذا خير جزاء لهم.
فإلى هذا الأمر العظيم نوجِّه أنظار أساتذة المدارس ومعلِّميها وتلامذتها في الشرق، نوجِّه أنظارهم إليه ويتنازعنا عاملان: عامل سرور، وعامل كآبة.
أما عامل الكآبة فلأننا نخشى — وا أسفاه — أن يكون كل ما يكتبه الكاتبون ذاهبًا أدراج الرياح، فإننا لا نحتاج اليوم إلى من يقول، وإنما نحتاج إلى من يفعل؛ نحتاج إلى أساتذة ومُعلِّمين يعرفون ما يجب عليهم، ويُدركون عِظَم المسئولية التي وضعوها على عواتقهم يوم تسمُّوا مُعلِّمين، وجلسوا على كرسي سقراط وأفلاطون وأرسطو، فيقومون إلى العمل بواجباتهم.
وأما عامل السرور فلأننا نرجع بالفكر إلى أوقات بعيدة تختلج لها القلوب في الصدور. سلام يا أوقات التلمذة الجميلة، ما كان أحلاكِ وأسعد أيامكِ! يا ربيع الحياة المفروشة طريقه وردًا وريحانًا! يا عمر الزهر والطهارة وعدم الاكتراث! سُقيًا لك من جنة لا يراها الإنسان إلا بعد أن يجتازها! يا طيرًا ذا ألف لون ولون يطير في فضاء هذا العالم بسرعة الحلم، ولا نراه إلا بعد أن يُفلِت منا! يا أحلام الصِّبَا الوردية وآماله الذهبية! يا جو الكمال التصوُّري الذي تُرفرِف فيه أجنحتنا الرطبة الرخوة في الصغر، حتى إذا أتت حوادث الحياة الحقيقية في الكبر كسرتها، واجتذبتنا إلى الأرض بالرغم عنَّا.
هذا ما يحلو حين التفكير بالفرص المدرسية، ولكنه يحلو لمن كانوا تلامذة، فأين حلاوته لمن كانوا معلمين؟
يا لك من فن شريف عظيم يا فن المعرفة والحكمة! بيدك يا فن التعليم زمام الأمم ومستقبل الشعوب. أنت القوة الحقيقية، والسياسة الحقيقية. صرفنا فيك أوقاتًا لا نذكرها إلا ويصعد الدمع إلى عيوننا؛ ذلك لأننا نذكر رفيقًا ساعدنا فيك، وصرف فيك أوقاته وقواه معنا، فنحن نبعث له بالتحية في هذا المقام وإن خرجنا عن موضوعنا. سلامٌ يا روح ذلك الرفيق العزيز. نكتفي الآن بهذا القول ونترك الدمع يُكمل تحيَّتنا.