الشُّبَّان وخطرهم وما يجب لهم
نودُّ قبل الكلام عن هذا الموضوع أن نقول كلمة بشأن ما ننشره في هذا الباب، وهي أننا لا نستطيع أن نقول كل ما يجب أن يُقال في هذا الموضوع؛ لأن التفصيل والإسهاب من شأن الكتب والمؤلَّفات المُطَوَّلة، ونحن لا نستطيع هنا إلا الإشارة، إشارةً إلى أهم مسائل التربية، لئلَّا يستغرق هذا الباب أبواب «الجامعة» الأخرى. فنحن إذًا إنما نكتب هنا للأدمغة الناضجة والنُّبهاء والنبيهات الذين يكفي أن تُعرض على أفكارهم الثاقبة عبارة واحدة في أحد المواضيع، فتنفتح بها في أذهانهم أبواب عالم جديد لم يكونوا قد أبصروه أو التفتوا إليه. أما الذين لا يفهمون الأمور إلا إذا فُصِّلَتْ لهم تفصيلًا مُمِلًّا، وبُسِطَتْ لم تبسيطًا كُلِّيًّا، فإنا نُشير عليهم ألَّا يقرءوا هذا الكلام.
والآن نعود إلى الموضوع: نريد بخطر الشبان حالتين يوجد الشاب فيهما؛ الحالة الأولى: تسليم الطبيعة إليه قياد نفسه، والثانية: نزوله إلى العالم.
أما الحالة الأولى، فنريد بها بلوغه سن الرجولية، فإن الشعور الجديد الذي يشعر الشاب به يومئذٍ إذا لم يحكم عليه، ويصرف أمياله في طريق الخير، أضاع نفسه وأضاع مستقبله معه، فضلًا عن جنايته على نسله، وعلى الفضيلة والأدب العام. ومن أنعم النظر وجد أن الآباء والأمهات قلَّما يلتفتون إلى العناية بأولادهم من هذا القبيل، فإنهم يتركونهم وشأنهم دون مراقبة، وربما تركوهم بلا عمل أيضًا، فهنالك الطامة الكبرى؛ لأن «رأس البطَّال مخزن الشيطان.» كما يقول المثل، والبطالة آفة الآفات، ولا سيما في هذا الشأن الذي نبحث فيه تلميحًا لا تصريحًا.
وقد وصف جان جاك روسو لهذا الداء دواءً نراه ناجعًا، وهو أن تُشغَل أوقات الفتى كلها بما يُلهيه عن أمياله الجديدة، وذلك بالصيد في البر والبحر، فإن الصيد لذَّة، وإذا وُجد بإزاء الولد من يحثه عليها ازداد رغبة فيها، ولكن يُشترط إبقاء الفتى تحت المراقبة الشديدة ليلًا ونهارًا، وإخماد ثورة عواطفه الجديدة بالاعتدال حتى بالمأكل والمشرب، وبإبعاده عن المجتمعات التي تُثير عواطفه، وتزيدها هياجًا واضطرامًا. وهذا الدواء موضوع لأبناء الأغنياء البطالين.
وليعلم الآباء والأمهات أن مستقبل أولادهم، بل حياتهم نفسها قد تكون متوقفة على هذه المسألة. وننصح لهم ألَّا يهملوا ذلك، فإنهم إذا أبصروا فتاهم حين دخوله في سن البلوغ قد أخذ ينحل ويتغيَّر لونه؛ فليبحثوا وليسعوا جهدهم إلى معرفة السبب منه نفسه، وليبيِّنوا له الخطر الصحي والأدبي الذي يُلقي فيه نفسه ونسله مِن بعده، وذلك باستسلامه إلى أمياله الجديدة.
وأما الخطر الثاني؛ وهو نزول الشاب إلى العالم، فيمكن اجتنابه بأمرٍ واحد، وهو أن يبقى الولد تحت جِنْحي أبيه وأمه، فلا يُسمح له بالاستقلال بأعماله، وعلى الخصوص بالسفر إلى بلاد أخرى بعيدة، إلا متى رسختْ أخلاقُه، وثبتتْ أميالُه، واشتدَّتْ ألواحه، وأصبح لا يُخشى عليه من أن يسقط في تجربة، أو أن يحيد عن الطريق القويم والصراط المستقيم.
هذا ما نقوله الآن في خطر الشُّبَّان، وإنما اختصرناه لننتقل إلى البحث التالي؛ وهو نسبة الشبان من الأمة، وماذا يجب لهم.
شُبان الأمة هم منها بمثابة دمها، فإذا كان هذا الدم صحيحًا نقيًّا كان جسم الأمة صحيحًا قويًّا، وإذا كان فاسدًا كان جسمها ضعيفًا سقيمًا. ولا ننكر أن الكهول والشيوخ — ولا سيما من العلماء والكُتاب — لا تنضج مواهبهم إلا بالشيخوخة وتكرار الأيام، فيكونون في آخر عمرهم أكثر فائدة مما كانوا في أواسطه أو في أوائله، ولكن هذه أمور نادرة شاذة، وإنما القياس الصحيح والقاعدة المطردة هما أن قوة الأمة تكون بقوة شُبانها؛ أولًا: لأن كل عظائم الأمور السياسية والعسكرية والتجارية والصناعية والزراعية يكون الشُّبان أقدم عليها من الشيوخ، وثانيًا: لأن هؤلاء الشبان سيُسمون شيوخًا، فإذا كانوا أقوياء في شبابهم من الوجه الأدبي ازدادوا قوة في شيخوختهم، فقوتهم إذًا تشتمل على قوتين: قوتهم في الحاضر، وقوتهم في المستقبل؛ لذلك قلنا إنهم من الأمة بمثابة دمها، إذا صحَّ صحَّتْ، وإذا فسد فسدَتْ.
وإذا كان الشبان هم دم الأمة، كما قدَّمنا، ومدار صلاح حالها، وجب أن تكون العناية بهم فوق كل عناية. ولا خلاف في أن كل أُمة تُعنى بتربية شُبَّانها، ولكن عقدة المسألة هي الطرق التي تجري هذه العناية عليها؛ فالشبان في فرنسا يشبُّون وغايتهم العظمى نيل الشهادة الأدبية أو العلمية والاستخدام في الحكومة، بخلاف إنكلترا، فإن همَّ مدارسها مصروفٌ إلى تعليم شُبَّانها العظمة والإقدام وحب المعيشة الحرة. فلنبحث ما هي الطريقة المُثلى للعناية بالشبان.
إننا نرى لذلك طريقتين متلازمتين؛ الأولى: هي تربية هجوم، والثانية: تربية دفاع. ومعنى هذا أن الشبان في هذه الحياة الطويلة والقصيرة معًا يشبهون ركبًا في سفر، فيجب أن يكون معهم سلاح للإقدام يمهدون به طريقهم، ويجوزون كل ما فيها من الصعاب، وسلاح للدفاع يدفعون به كل ما يعدو عليهم في سفرهم. وبلا هذا السلاح المزدوج، يشبه الشبان جنودًا بلا سلاح أُرسلوا إلى ساحة القتال.
وكأننا نسمعكم تقولون: ما هو هذا السلاح؛ سلاح الهجوم؟ فنجيب على ذلك أنه سلاحان: مادي، وأدبي. أما السلاح المادي فهو تقوية أجسام الشبان بالرياضة والعمل؛ أي جعل أجسامهم أجسامًا صحيحة لتسكنها عقول صحيحة، فإن كل رجال الإقدام والعزائم في العالم هم من أصحاب الأجسام القوية. وأما السلاح الأدبي فتثقيف عقول الشبان بعلوم وفنون تُكسبهم رزقهم في هذه الحياة، لا بدروس سقيمة يحفظونها اليوم لينسوها غدًا، ولا تفيدهم في دور من أدوار حياتهم.
وأما سلاح الدفاع، فهو القوة التي يجب إدخالها في نفوس الشبان لتكون سلاحًا لهم ضد ما قد يطرأ عليهم من الضعف في هذه الحياة؛ فالرذيلة ضعف يطرأ على النفس يقتضي إزالته بقوة الفضيلة، والبطالة ضعف يطرأ يجب أن يُزال بقوة حب العمل والمقدرة عليه، والتبذير ضعف يُزال بالاقتصاد، وهلُم جرًّا. وإلا فإن الشبان إذا لبثَتْ نفوسهم من غير هذا السلاح — سلاح الدفاع — فإنها تسقط سقوطًا هائلًا بإزاء أعدائها الكثيرين الذين يُهاجمونها من كل جانب في هذه الحياة.
فالطريقة المُثلى لتربية الشبان أن نعطيهم سلاحًا للهجوم وسلاحًا للدفاع.
فهل تعطي مدارسنا هذين السلاحين؟
قلنا مدارسنا، ولم نبدأ بالبيت، مع كون التربية البيتية هي أساس كل تربية، كما مر بنا؛ لأننا يحق لنا أن نقطع الرجاء من التربية البيتية بإزاء ما فيها من الفساد المتأصِّل. وسبب فسادها أنه لا يوجد في البيت كما يوجد في المدارس عقول نيِّرة، وأفكار ثاقبة تفهم معنى التربية إن لم يكن حق الفهم فبقدر الاستطاعة، فلا نرجونَّ في هذا الزمان فائدة من التربية البيتية قبل إصلاحها من أساسها.
ولكن ما هو تأثير التربية المدرسية عندنا؟ هل هي تُعطي السلاحَين اللذَين أشرنا إليهما آنفًا؟
من الثمرة تُعرف الشجرة، وإذا أردنا معرفة أحوال التربية والتعليم في مدارسنا؛ فلننظر إلى تلامذتها الشبان الذين يخرجون منها في كل عام مئات وألوفًا، فإن أكثرهم يكونون بعد المدرسة عالة على أهلهم، دأبهم البطالة والإقامة في المقاهي والحانات، المقامرة أحب عمل إليهم، والعمل أكره الأشياء عندهم، ينامون في المُسكرات والرذيلة، ويصحون في الكسل والبطالة، وهكذا يصرفون زهرة عمرهم، وينفقون دماء حياتهم في هذه المعيشة السوداء والبَلِيَّة الدهماء.
وفي وسط هذا الليل المدلهم يوجد من يصرخ أن الأمة فقيرة متأخرة. نعم، وكيف لا تكون الأمة فقيرة تَعِيسَة شقيَّة إذا كان شُبَّانها، وهم دمها الذي به تحيا وتقوى، منغمسين هذا الانغماس بهذه المعيشة القبيحة؟ إن الأمة تعيسة، وستزداد تعاسة إذا بقيَتْ على هذه الحالة من الفساد، وإذا سألتم من هو المسئول عن هذا الفساد، أجبنا أن المسئول فريقان: الأول: المدرسة، والثاني: الهيئة الحاكمة.
أما المدرسة، فلأنها تُعلِّم طلبتها تعليمًا غير منطبق على حاجاتهم، فبدلًا من التعليم الصناعي والزراعي والتجاري الواجب تقديمه على كل تعليم، يُعلمون أولئك الشبان تعليمًا أدبيًّا ناقصًا، يجعلهم قاصرين في كل شيء، ويمنعهم حتى من العمل بشرفٍ لأكل خبزهم بعرق جبينهم. وهذه جناية كُبرى لا تلتفت إليها مدارسنا، ولكنها تحمل تبعتها بالرغم عنها. إنكم تُعلِّمون تلامذتكم علومًا أدبية من لغات ونحو وصرف، فمثلكم مثل من يثقب الماء أو يضرب الهواء؛ أي إنكم لا تؤثرون فيهم تأثيرًا مفيدًا، بل تضرُّونهم من حيث أردتم أن تنفعوهم، فإذا أردتم نفعهم نفعًا حقيقيًّا، فعلموهم مع التعليم الأدبي تعليمًا صناعيًّا وزراعيًّا وتجاريًّا.
وأما مسئولية الهيئة الحاكمة، فلأنها لا تفتح لأبنائها موارد جديدة للرزق والاستعمار والعمل في أملاكها الواسعة، وأراضيها القفراء المخصبة، فضلًا عن أنها لا تُعمم المدارس الصناعية والزراعية، وهي بذلك تُخطئ إلى نفسها؛ لأن شبان الأمة الذين لا يجدون مصرفًا لقواهم وأعمالًا لهم ينسبون الخطأ كله إليها لا إلى المدرسة، فينقلبون باللائمة عليها ويسخطون.
فحرام وألف حرام أن تتركوا دم الشباب الذي هو دم الأمة يذهب سُدًى بلا فائدة، اصرفوه إلى الأعمال النافعة بدلًا من تركه ينصرف إلى الشر والبطالة والرذيلة، ويفسد في مستنقعاتها. علِّموا الشبان تعليمًا عمليًّا، وانزعوا في المدرسة من عقولهم بغض العمل، وعلِّموهم أن كل عمل — حتى أصغر الحِرَف — أشرف من الكسل والبطالة. مدارس عملية، مدارس عملية. أنشئوا عندنا مدرسة عملية بإزاء كل مدرسة أدبية، ونحن الضامنون لكم أن حالنا تنقلب في أعوام قليلة.