تربية المرأة
… والذي يزيدنا رغبة في الكلام عن هذا الموضوع طلب كثيرين من القارئات والقُراء، فإن بعضهم يرسل إلينا يقول: النساء النساء. تكلموا عن النساء. وغيره يقول: ما معنى قولكم: يكون الرجال كما يريد النساء؟ ونسي هذا السائل أن هذا القول لجان جاك روسو لا لنا، كما أن القول الثاني عن المدرسة هو لأستاذنا الفيلسوف جول سيمون، رحمه الله.
وتقول بعض القارئات: نحب أن نقرأ تفسيركم لهذه العبارة: «يكون الرجال كما يريد النساء.» وسألت واحدة أخرى: لماذا لا تتكلمون عن تعليم البنات في باب التعليم والتربية كما تتكلمون عن تعليم الفتيان؟ وسألت واحدة أخرى: لماذا نسيتم النساء؟ وقالت ثانية: ما هو دواء ضجر ربة البيت؟ وسألت ثالثة: ما هي واجبات الابنة العاقلة؟ ورابعة: ما هي واجبات ربة البيت؟ كل هذه الأسئلة جاءتنا مع كثير غيرها، فأخَّرناها إلى اليوم لنُجيب عنها في مقالة خصوصيَّة.
وأول ما نُجيب به أننا لم ننسَ النساء فيما كتبناه إلى الآن عن التربية والتعليم، ذلك لأننا نعتبر أن الكلام في إصلاح التربية العائلية والتربية المدرسية كلام في تربية الفِتيان والفتيات معًا. فإذا كان ذلك كذلك، أفنكون قد نسينا النساء؟
معاذ الله أن ننساهُن! معاذ الله أن ننسى ملكات الكون، ورياحين الوجود اللواتي في أيديهن مستقبل الأمم، وأزِمَّة الشعوب؛ لأنهن مربيات الأجيال، ومُنشِئات الرجال. وإنما قصرنا الكلام على الرجال؛ لأن الكلام عنهم يشملهن أيضًا.
ولكن لا مندوحة لنا عن الاعتراف بأنه كان الأجدر بنا قصر الكلام على تربية النساء؛ لأن الكلام فيها أعم من الكلام على تربية الرجال لكونهنَّ المربيات المثقفات، فإذا رُبِّين تربية حسنة استطعن أن يُربين النسل كله كذلك. وهذا معنى قول إيمه مارتين: متى ربَّيتم النساء فلا تهتموا بتربية الرجال؛ لأن النساء يُربينهم لا محالة، وقول روسو: كما يُريد النساء يكون الرجال، فإذا أردتم أن يكونوا عُظماء وفُضلاء؛ فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة.
وزيادة في تفسير هذه العبارة وإيضاح المعنى المقصود منها إجابة للسائلين والسائلات نقول: تقسم هذه العبارة إلى قسمين؛ الأول: «يكون الرجال كما يريد النساء.» وهي القضية، والثاني: «إذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء؛ فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة.» وهي النتيجة.
أما القسم الأول فمقتضاه أن المرأة متسلطة على الرجل فتجعله كما تريد. وهو قول فاسد وصحيح معًا؛ يكون فاسدًا لدى كل الأمم إذا اعتبرناه من حيث الظاهر، ويكون صحيحًا لدى كل الأمم أيضًا إذا اعتبرناه من حيث الحقيقة الطبيعية.
أما فساده فظاهر من أن الرجل هو المتسلط شرعًا على المرأة في كل البلدان وجميع الأديان، لا المرأة على الرجل، وأما صحته فظاهرة من أن المرأة هي المتسلطة أدبيًّا واجتماعيًّا على الرجل، لا الرجل على المرأة.
ويكفي لإثبات ذلك أن ننظر إلى أدوار عمر المرأة وتأثيرها في كل منها.
المرأة تكون ابنة، ثم خطيبة، فزوجة، فأُمًّا، فجدة.
خمسة أدوار جميلة تتقلب فيها بين طهارة الصبوة، وجمال الشباب، ووقار الشيخوخة، وهي في كل منها متسلطة على قلب الإنسان وحاكمة عليه.
فإنها أول ما تُولَد يأخذ أبوها بالتفكير والتدبير استعدادًا لزيادة رزقه على نسبة زيادة نفقته؛ لأن «المدموازل» إذا كانت اليوم صغيرة، فإنها ستصبح غدًا كبيرة، غدًا تحتاج إلى الحُلل الجميلة، وتطلب القُبَّعات النفيسة. وبعد ذلك يأتي «النصيب»، فيطلب المال فوق الجمال والكمال، وكل ذلك يزيد النفقة. ومعلوم أن توقُّع زيادة النفقة يزيد اجتهاد الإنسان ونشاطه في الكسب والتحصيل؛ فالابنة إذًا تجلب لوالديها يوم ولادتها نشاطًا جديدًا واجتهادًا جديدًا يوجبان عليهما أن يفرحا بولادتها لا أن يحزنا، كما يحدث أحيانًا عندنا؛ فهي إذًا من صغرها تبدأ بالتأثير والتسلُّط على ما حولها، فما أعظم هذه القوة التي تتسلط حتى في بدء طفوليتها!
ثم ينقضي دور الصبوة بطيشه ونزقه، ويأتي دور الشباب بجماله وكماله، ومن هنا يبدأ التأثير العظيم الذي يفوق كل تأثير في الوجود، والسلطة الكبرى التي تفوق كل سلطة في العالم.
كانت تلك الفتاة أمس ولدًا في المدرسة تلعب وتثب غير مكترثة بشيء من هذه الحياة، همُّها مقصور على رضى أمها ومعلمتها، ودرس مثالتها، وإشباع معدتها، ومداعبة لعبتها، ولكنها اليوم أخذَتْ تهدأ شيئًا فشيئًا. هو ذا الورد أخذ يتفتح في الخدود، والعيون أخذت تذبل وتتجلل بثوب من البهاء جديد، والنظر صار مُطرقًا، والفكر مَبهوتًا، والرأس مَحنيًا كوردة أثقلها الندَى، والوجنات شديدة التأثُّر، كلمة تُفضضها وكلمة تُعسجدها، فما هذا الانقلاب العجيب الذي حدث؟ لا شيء سوى أن «ملكة» الوجود قد بلغت سن الملك والسلطة. لقد قبَّلتها الطبيعة الجميلة في فمها القرمزي الجميل، وألبسها الحُسن تاج المُلك، ودفع إليها الشباب صولجان السيادة.
ثم مرَّ الرجل فأبصر هذا السلطان فخضع صاغرًا، خضع لأنه كُتب له الخضوع كما كُتب لها السيادة، فأصبح همه مقصورًا على رضى حاكمته؛ ما يُرضيها؟ وأي شيء يسرُها؟ هل ترضيها الحُلى والحُلل؟ والخيل والخُوَل؟ والمراقص والمتنزهات؟ هيَّا إذًا وأنفِق المال بلا حساب. أيرضيها المزاح الكثير؟ فاجعل نفسك مزَّاحًا، أو المقامرة الكبيرة؟ فاجعل نفسك مقامرًا كبيرًا، أو الأدب والحشمة والاعتدال؟ فاجعل نفسك أديبًا ومحتشمًا ومعتدلًا، كل ذلك إكرامًا لعيونها؛ لأنه لا يهمك وقتئذٍ شيء في هذه الحياة إلا رضاها.
ثم إن هذه الفتاة الخطيبة تصبح زوجتك؛ أي إنك توليها على شرفك وبيتك ومالك، فيكون القول قولها، والأمر في كل ذلك لها، ثم تصبح أمًّا؛ أي إن الطبيعة تهبكما ثمرة حبكما واتفاقكما، وتوليها على مخلوق لطيف لتربيته، فتكون هي القابضة على مستقبل ولدك وعيلتك، ثم إن هذه الأم يشب أولادها، فتبقى بإزائهم سيدة عليهم، ثم يتزوجون فتبقى مراقبة عليهم وعلى أولادهم، كأنها رمز إلى الماضي والمستقبل، وبركة للبيت الذي يعيشون فيه.
فالآن قولوا لنا: هذه الفتاة التي لها السلطة المطلقة على الرجل وهو شاب خطيب، تتصرف به كيفما تشاء، وتجعله يصنع ما تشاء. هذه الفتاة التي تقبض على زمامه أراد أو لم يُرِد حينما يصبح زوجًا لها، وتزداد سلطة عليه حينما تصير أمًّا ويصير أبًا. هذه الفتاة التي نسلمها شرفنا وقلبنا ومنزلنا، والتي تسلمها الطبيعة النسل لتُربِّيه لنا. هذه الفتاة التي يكون لها تأثير عظيم كهذا التأثير، وسلطان قوي كهذا السلطان، أية تربية ربَّيناها لتُحسن القيام بكل تلك الواجبات الصعبة؟ سلَّمناها شرفنا وشرفها وشرف العائلة، فهل أعطيناها السلاح لتدافع به عنها؟ سلَّمناها البيت وما فيه ومن فيه، فهل ربيناها التربية اللازمة لتُحسن الاعتناء به والقيام عليه؟ جعلتها الطبيعة سيدة الوجود، وريحانة الكون، فهل علَّمناها كيف تستعمل سيادتها لتفضي بنا إلى الخير بدل أن تفضي إلى الشر؟
كلَّا، لم نعلمها شيئًا من ذلك، بل تركناها تنغمس في الأزياء والملاهي والألعاب، صارفين فكرها عن الأمور النافعة لها ولمنزلها. هذا إذا لم نسجنها بين أربعة جدران هائلة، فأخطأنا بذلك إليها، وإلى أنفسنا، وإلى النسل والهيئة الاجتماعية كلها.
ذلك لأن إهمال تربية المرأة ذنب تقع تبعته على كل مسئول عن هذه التربية، على العائلة أولًا، وعلى كل فرد ثانيًا، وعلى الهيئة الاجتماعية ثالثًا.
على العائلة: لأن المرأة التي هي رَبَّتُها ومدبرتها إذا كانت بلا تربية؛ فإن الجهل والإهمال والشقاء يكون سائدًا فيها. وعلى كل فرد: لأن كل فرد يجب أن يمر بين يدي الأم، فإذا كانت جاهلة أساءَتْ تربيته فكان جاهلًا. وعلى الهيئة الاجتماعية كلها: لأنها مجموع الأفراد، فإذا كانوا جُهَّالًا كانت الهيئة مجموعة جهل لا غير.
فالطبيعة إذًا تُعاقبنا على إهمال تربية المرأة دون أن ندري بهذا العقاب.
ولكن أشد عقاب تعاقبنا به على ذلك هو العقاب الأدبي؛ فإن المرأة ملكة، كما قدَّمنا، ملكة وكل واحد من الرجال يخطب رضاها، فما هو رضى المرأة؟ وكيف يُنال هذا الرضى؟
هنا عقدة المسألة، فإن السيكولوجيين يقولون: إن رضى الإنسان يُنال بمُجاراة أهوائه ومشاركته فيها، فإذا كان سكِّيرًا وجعلتَ نفسك سكيرًا مثله أصبحت صديقًا حميمًا له، وربما أغنتك صداقة الكأس والطاس عن كل شيء. وهذا أمر من الأمور المشاهَدَة في كل يوم، إذا كان نمَّامًا فنِم معه، ومُحبًّا للتمليق فملِّقه، وكذَّابًا فاكذِب؛ فإنك بذلك تكتسب صداقته لا محالة. وكذلك إذا كان فاضلًا وأديبًا وعاقلًا، فكنْ مثله تكتسب صداقته؛ لأنك تصيب هوى نفسه، وتكون شاعرًا بعواطفه، ومن أجل هذا قال الشاعر:
فالآن والرجل محتاج إلى رضى المرأة، كما ذكرنا، احتياجًا جنسيًّا، واحتياجًا أدبيًّا واجتماعيًّا، كيف تكون حاله معها إذا كانت جاهلة لا يهنأ لها عيش إلا بالطيش، والمزاح، والإسراف، واللعب، والنميمة، والمراقص، والجمعيات، وإهمال المنزل، وإلقاء حِمل الأولاد على الخَدَمة والمراضع؟ ألا يضطر طلبًا لرضاها إلى مُجاراتها في كل ذلك، فيكون طائشًا مزَّاحًا مُسرِفًا لاعبًا، وهلمَّ جرًّا إلى آخر ما في دركات الهيئة الاجتماعية؟ إذا كانت امرأة تضحك من الأدب والمتأدبين في قاعة، ألا يسبقها إلى ذلك كل الشبان والرجال الحاضرين إرضاءً لها؟ إذا كانت تضحك من فلانة لأنها لا تلعب، ومن فلان لأنه لا يُغني ويصرخ ويمزح إضحاكًا للحاضرين. ألا يُصبح جميع الرجال الجالسين في ذلك المجلس صرَّاخين مزَّاحين أضاحيك؟ نعم؛ لأنه يجب أن يُرضوا النساء، ينبغي ألَّا تضجر النساء، يلزم أن تُسَر النساء. وهذا معنى قول روسو: «يكون الرجال كما تريد النساء، فإذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء؛ فعلِّموا النساء ما هي العظمة والفضيلة.»
فأنتُنَّ إذًا يا سيداتنا الجميلات رئيسات الهيئة الاجتماعية، أنتُنَّ ملكات الملوك، وسلطانات السلاطين، فرُحماكُنَّ لا تصرفن هذه القوة والسيادة اللتين في أيديكما إلى الأمور التافهة المضرة بكُن وبالهيئة الاجتماعية، بل اصرِفنَها إلى الأمور المفيدة لكُنَّ ولمنزلكنَّ وذويكنَّ والهيئة الاجتماعية.
رُحماكُنَّ! وبعيشكنَّ أوجِدن لنا عالمًا جديدًا غير عالمكنَّ الذي أصبح العقلاء لا يستطيعون المعيشة فيه، بل أصبحوا — واسمحنَ لنا أن نقول ذلك — يأنفون من المعيشة فيه. عفوًا، إنهم يأنفون ذلك لا من أجلكنَّ، فإن الورد في الرياض، والأنجُم في السماء، والطِّيب في القارورة لا يَملُّها إلا البُلْه، ولا يأنَف منها غير الحمقى، ولكنهم يأنفون من خشونة الذين يتخذون في تلك المجالس بساطتكنَّ وخفة أرواحكن ذريعةً لإظهار ثقل أرواحهم وفساد آدابهم.
وهذا العالم الجديد الذي نطلبه هو عالم يكون مَيْلُكنَّ فيه مصروفًا إلى الأمور النافعة المفيدة، عالم يتقرَّب فيه الرجال إليكن بالأعمال الحميدة، وطيب الأحدوثة، والأدب والفضيلة، والعلم والمعرفة، فتكون هذه الفضائل هي الرائجة لديكن، المقربة منكن، لا نقيضها من ضروب الخلاعة والجهالة. ومتى صارت هذه أميالُكنَّ تلطَّفت خشونة الرجال، وتغيَّرَتْ أميالهم؛ حرصًا على رضاكُنَّ؛ لأنه «يكون الرجال كما يريد النساء.»
ونحن لا نجهل اعتراضكن على هذا الكلام، فإنكن تقُلن أولًا: لماذا لا تعكسون القضية فتقولون: «يكون النساء كما يريد الرجال، فإذا كانوا فُضلاء وعظماء كان النساء فاضلات وعظيمات.» فإننا نحن إنما نظهر للرجال بالصفات والحالات التي يحبونها.
وتقُلن ثانيًا: إذا كنتم ترغبون أن نكون فاضلات وعظيمات، أفلا يجب أولًا أن تطلبوا من الرجال أن يُربُّونا تربية تجعلنا كذلك؟
نقول: أما الاعتراض الثاني فأنتنَّ مُصيباتٌ فيه. وسنتكلم عن هذه التربية بالتفصيل في البحث التالي، إن شاء الله.
وأما الاعتراض الأول فأنتُن غير مصيبات فيه؛ لأن الهيئة الاجتماعية لا تربح إذا جعلَت الرجل مرجع الذوق والأدب والعظمة والفضيلة في هذا العالم. الرجل من طبعه الخشونة، ومن طبعكن اللطف، ومن طبعه الأثرة والقسوة والطمع، وأنتُن من طبعكن الشفقة والحلم وصنع الجميل. وإن لم يكن ذلك من طبعه، فأعماله ومصالحه تُشجِّعه على ذلك، إن لم نقُل إنها تقضي به عليه. فإذا كان في أيديكن ميزان اللطف والأدب والشفقة والحلم وصنع الخير وسائر الفضائل البيتية، فكيف نجعل الرجال مرجعها ومقياسها؟!
كلَّا ثم كلَّا، ليس من أحد غيركن دعامة هذه الفضائل في هذه الحياة، أنتُنَّ بيننا المربيات المهذبات المسعدات المعزِّيات، إذا رأى الإنسان أن كل شيء في هذا العالم يسقط كمنازل مبنية على الورق، أو بيوت مؤسسة على الرمال، إذا رأى الراحة خيالًا لا يُقبَض عليه، البشر وهم إخوان يتقاطعون ويتذابحون كالذئاب الضارية، الأصدقاء ينسى بعضهم بعضًا، الأقربون يقوم بعضهم على بعض، العالم فوضى، فيه شياطين الظلم والطمع والغش والاعتداء والسلب تتسابق لإفساد الأرض ومن عليها، إذا رأى الإنسان كل ذلك لا يسعه إلا أن يُفتش بنظره عن وتد يتمسك به في وسط هذه الزوابع الهائلة، وكوة يدخل منها إليه النور وسط ذلك الظلام الحالك، فلا يرى حينئذٍ إلا وجهكِ الباسم أيتها السيدة؛ يا أيتها الأخت والابنة والزوجة والأم والجدة، فبالحال ينقلب ذلك السواد بياضًا، والعناء هناءً بنظرة أو نظرتين من عينيكِ السحريَّتين، وبسمة أو بسمتين من شفتيكِ الجميلتين؛ فأنتِ إذًا ممثلة الكمال والهناء والراحة والأدب والفضيلة في هذا العالم لا الرجل؛ لذلك نطلب منكِ أن تكوني أكثر منه كمالًا؛ لتكوني له قدوة وجمالًا ومثالًا؛ ولذلك نقول مع روسو ولو غضب الرجال: «كما يريد النساء يكون الرجال.»