تربية البنات
أبَنَّا سابقًا أهمية مقام المرأة في الهيئة الاجتماعية، فثبت معنا يومئذٍ أن «الرجال يكونون كما تريد النساء»، وأنه يجب أن يكُنَّ عظيمات وفاضلات ليكون الرجال عظماء وفضلاء، فبناءً عليه تكون تربية النساء أهم من تربية الرجال في الهيئة الاجتماعية.
وإذا كانت تربية النساء أهم من تربية الرجال، فمن دلائل التأخُّر والانحطاط إهمال تربيتهن، واعتبارها أمرًا ثانويًّا، ومن دلائل الاستمرار في هذا التأخُّر الاستمرار في هذا الإهمال.
وليس من غرضنا الآن تبيان وجوب تربية النساء، فإن ذلك أصبح أمرًا مُسلَّمًا به، وإنما نودُّ أن نشير إلى أصول هذه التربية.
ذلك أننا نرى أن كثيرين يحسبون أنه يكفي لتربية النساء حتى الرجال أن تُنشأ المدارس، بصرف النظر عن حالتها؛ ولذلك تراهم قد نعموا بالًا ورقصوا طربًا كلما فتحوا مدرسة. وهذا الأمر فاشٍ في مصر والشام وفي كل البلاد الشرقية. وسببه عدم معرفة الناس المهم من الأهم في مسائل التعليم والتربية. افترضوا أننا نفتح في القاهرة أو الإسكندرية أو بيروت مائة مدرسة كل يوم، أي أن يكون مجموع ما نفتحه في السنة ٣٦٥٠٠ مدرسة، ولم يكن في كل هذه المدارس الكثيرة واحدة تُعلِّم تعليمًا صحيحًا، وتُربي تربية صحيحة، فما هي الفائدة منها كلها؟ فالأمر المهم إذًا في التعليم والتربية حُسن اختيار المعلمين الذين يعرفون كيف يغرسون المبادئ العظيمة في نفوس الطلبة، وحُسن تأليف جدول الدروس (البروغرام)، الذي هو بمثابة «الدفة» من المركب؛ لأنه يُوجِّه عقول الطلبة ونفوسهم إلى حيث يريد، والمعلم هو الربَّان الذي يدير هذه الدفة.
فعبثًا تحاولون النفع من هذه المدارس كلها إن لم يكن فيها معلمون يفهمون معنى التعليم ومعنى التربية. وهذا الكلام يُطلق على تربية الفتيان والفتيات معًا، وقد أشرنا إليه هنا في عرض هذا البحث؛ تمهيدًا لما نريد أن نقوله في هذا الموضوع.
وأول ما نقوله إن تربية النساء عندنا ناقصة، ويجب سد هذا النقص عاجلًا، والنقص في أمرين؛ الأول: عدم وجود مدارس كافية لهن، وعدم إقبالهن على التعلم، والثاني: إصلاح مدارسهن الموجودة.
الجواب: إن وظيفتها أن تكون زوجة وأُمًّا؛ لهذا خُلقَتْ في هذه الحياة لا لأمرٍ سواه، فتربيتها إذًا يجب أن تُعلمها واجبات الزوجية والأمومة.
وواجبات الزوجية نحصرها في أمرين؛ الأمر الأول: تدبير منزلها، فإنه من الواجب عليها ألَّا تدع خادمتها في المنزل تعرف من هذا الفن أكثر منها، ولا أن تعمل فيه أكثر منها. ومن دلائل شرف المرأة ونشاطها ومعرفتها واجباتها ألَّا تأنف من الأعمال البيتية، بل تُسرُّ بعملها، كما أنه من دلائل صغر العقل وإنكار الواجبات التنازُل عن تلك الأعمال كلها إلى الخدم لغير ضرورة لا بد منها. ولا يخلو من فائدة أن تعلم المرأة أن عظمتها متوقفة على نظام منزلها وحُسن حاله وحال الساكنين فيه، فإن هذا المنزل هو مملكتها الصغيرة، فماذا يقول العقلاء في ملكة تُهمل مملكتها، أو تتكل على غيرها في إدارتها وتدبيرها؟
والأمر الثاني: إرضاء الزوج، وهو أمر لا يقل عن الأول أهمية؛ لأن عليه مدار سعادة العائلة، ونحن الآن تجاه مسألة كُبرى، وهي مسألة سُلطة الزوج وسلطة الزوجة في العائلة. نعم، إن النزاع في هذه السلطة قليل في بلادنا خلافًا لما يحدث في الغرب، ولكنا نجد من الفائدة أن نشير إلى آراء فلاسفة الغرب في هذا الموضوع على سبيل المقابلة، فإنهم يقولون إن كل شركة وكل هيئة وكل حكومة يجب أن يكون فيها إدارة تتولى الاهتمام والتدبير، وأعضاء يخضعون لها مقابل اهتمامها وتدبيرها، والزواج شركة، فيه الرجل عامل قوي خشن؛ لأنه مخلوق للعراك والزحام، والمرأة لطيفة نحيفة عملها في منزلها. الأول يكسب ويقوم بأود العائلة، والثانية تُعطيه هذه العائلة، فمن الحق الطبيعي والناموس الاجتماعي إذًا أن يكون الرجل هو مدير العائلة. وإذا كان الرجل هو المدير تحتَّمَت الطاعة على المرأة، وصارت سلطته فوق سلطتها. بهذا النظام تقوم المنازل، وإلا تنهدم ويتفرق مَن فيها أيدي سبأ.
فإذا كان هذا ما يقوله فلاسفة الغرب، والمرأة عندهم أرقى من المرأة عندنا، وجب أن يُقال مثله على الأقل في حالة منازلنا، فالرجل إذًا هو صاحب السلطة في الظاهر، وإن كانت المرأة في الحقيقة هي صاحبة السلطة في الباطن، كما مرَّ بنا، فترتَّب عليها إرضاؤه ليرضيها هو أيضًا.
هذان الواجبان هما أعظم واجبات الزوجة. بقيَتْ واجبات الأم، وهي عندنا ثلاثة؛ الأول: تربية أجسام الأولاد، والثاني: تربية عقولهم ونفوسهم، والثالث: القيام بأودهم.
- أما الأمر الأول: فهو عمل هيجيني محض؛ ولذلك تجب أن تُعلَّم الفتاة منذ صغرها في المدارس التي تتعلم فيها كيف يجب أن تكون تربية الأولاد نظريًّا وعمليًّا، وما أحسن أن يُبنى بإزاء كل مدرسة للبنات ملجأ خيري صغير لأطفال الفقراء؛ لتصرف فيه كل تلميذة ساعة أو ساعتين من يومها تتعلم فيهما عمليًّا تربية الأطفال، وتُنمِّي في نفسها الميل الطبيعي الذي فيها لتلك المخلوقات الصغيرة الجميلة التي سيمنحها الله منها.
- والأمر الثاني: عمل أدبي سيكولوجي، يقتضي معارف واسعة وخبرة وملاحظة، وهو فن مستقل بنفسه، بل هو الفن الأعظم الذي يُسمونه فن التربية النفسية.
- والأمر الثالث: وهو القيام بأَوَد الأولاد، يقتضي أن تكون المرأة حين الحاجة نصف رجل، لتكسب رزق أولادها حين الحاجة.
هذه هي واجبات المرأة في العائلة على وجه الإجمال، ولكننا نرى هنا بعض السيدات يُحملقن ويقُلن: ماذا؟ أهذه أعمالنا فقط؟ أيبلغ بكم الظلم أن تضعوا على ظهورنا النحيفة كل هذه الأحمال دون أن تأذنوا لنا بشيء يُخففها؟ كلَّا أيتها السيدات، لا تقُلنَ أنْ تأذنوا لنا؛ فإن ذلك من حقِّكُن، والحق مباح لا يقتضي إذنًا. نعم، من حقكن رئاسة المنزل والعائلة في بعض الأوقات رئاسة عُليا، تكون فيها سلطتكن فوق سلطة الرجل نفسه، بل إن ذلك من واجباتكن؛ لأنه عمل من الأعمال المنزلية المهمة.
ونريد بهذا العمل: تحبيب المنزل إلى زائريه.
أي نعم، إن استقبال الزائرين واجب من الواجبات البيتية الجميلة، وعمل لطيف نحيف، مملوء شوكًا كما أنه مملوء زهرًا. أما الزهر فإن السيدة تتصل بالعالم بواسطته، وتتعرف بالناس، وترأس مجالس الحديث في القاعات، وتكون ملكة المنزل الحقيقية. ويا حبذا لو كان في الاستطاعة الآن نقل الفصل الجميل الذي كتبه الفيلسوف جول سيمون في كتابه «المرأة في القرن العشرين»، بخصوص هذه المجالس وهذه القاعات، ولكننا نكتفي بالإشارة، فإنه قال فيه: إن قاعة المرأة هي مصدر التمدُّن في العالم إذا كانت قاعة حقيقية، والقاعة الحقيقية هي مجالس يأتيها أصدقاء المنزل وجميع مَن لهم علاقة بالزوج من الرجال، وبالمرأة من السيدات، فيقطعون أوقاتهم — عفوًا أيتها السيدة — لا بلعب الورق، ولا بالأزياء، ولا بالكلام عن الناس، ولكن بالمسائل المفيدة والمُفكهة معًا، من أدبية وسياسية وعلمية وفلسفية. فهناك يتنافس الرجال ليُظهِر كلُّ واحد منهم فضله في هذه الأمور الفاضلة أمام النساء، وتتنافس النساء لتُظهر كل واحدة منهن معرفتها وأدبها وفضلها أمام الرجال، فتكون القاعات التي على هذا المنوال مدرسة ساميَة، وحَكمًا عظيمًا في الذوق وفي كل الأمور. القاعات حينئذٍ ترقى إلى مرتبة الوزراء، القاعات ترفع إلى عضوية الأكاديمي، القاعات تنشر شهرة كل مستحق، وتُقلِّص شهرة غير المستحق، وفيها السيدات ملكات جالسات على عرش الأدب واللطف والظرف، يرأسن الحديث فيها، وإذا خرج واحد من الرجال في حركة أو إشارة أو كلمة عن حد الأدب أو الحشمة، فإن الواحدة منهن على لطافتها وضخامته، وضعفها وقوته، قادرة على إرجاف قلبه في صدره بكلمة واحدة، ونبذه من الهيئة بإشارةٍ واحدة.
هذا هو الزهر الذي تجده المرأة في هذه المجالس، وهو يقتضي أن تكون عارفة بأساليب الحديث تُعطي كل ذي حق حقه، ولا تترك أحدًا يملُّ في قاعتها. وهذا أمر لا يجب تعليمه في مدرسة؛ لأنه طبيعي في المرأة كما لا يخفى.
وأما الشوك فإنه مؤلِم وذو خطر عظيم، ونعني هنا بالشوك تلك التجارب التي تعرض للمرأة في خلال هذه المجالس، فإن كل الناس ليسوا — من سوء الحظ — أُدباء كرام النفوس، بل إن كثيرين منهم يتخذون هذه الزيارات والمجالس حبائل للاقتناص، وأنت تعلم ما هذا الاقتناص، فبإزاء هذا الخطر العظيم على راحة العائلة وفضيلة المرأة يجب أن تُربَّى المرأة تربية خصوصية تقيها هذا الخطر؛ وذلك بإيقافها على أخلاق الرجال، وتدريعها بدرع الفضيلة والدين والأدب ومعرفة الواجبات.
والآن هل تمت واجبات المرأة بعد ما ذكرناه منها، أم بقي منها شيء؟
إذا كان المراد التفاصيل فقد بقيَتْ أشياء؛ لأننا هنا نُشير إلى أُمهات المسائل إشارة فقط، وإذا كان المراد هذه الأمهات، فإننا نرى أنه لم يبقَ إلا مسألة واحدة، ولكنها من أهم المسائل النسائية.
وهذه المسألة هي: هل يجب أن تبقى المرأة داخل البيت، أم يجب أن تخرج منه للعمل كالرجل؟
فنجيب على الفور أن المرأة قد خُلقَتْ لتكون زوجةً وأمًّا قبل كل شيء، وبعد ذلك يأتي ما بقي، ومقام الزوجة والأم هو في المنزل، فعلى المرأة أن تبقى مُلازمة منزلها؛ لزيادة النسل وتربيته، وغرس الفضائل البيتية فيه؛ لنشرها منه في العالم.
هذه حقيقة يؤيدها جميع أنصار النساء الحقيقيين وكل محبي خير الهيئة الاجتماعية، ولكن لدينا مسألة مهمة تتفرع منها، وهي: أن امرأة خضعَتْ للناموس الطبيعي والإلهي القاضي بأن يكون عمل المرأة داخل المنزل وعمل الرجل خارجه، فتزوجتْ وأقامت تُربي أولادها، فرُزقَتْ ستة منهم، ثم في يوم من الأيام وهي مطمئنة الخاطر، باسمة الثغر، هبَّتْ على منزلها إحدى زوابع الأقدار الهائلة السوداء، وسوَّدَتْ حياة وخربت عمارًا، فمات زوجها ولم يترك من يعولها، ولم يُخلِّف لها سوى أولاد صغار على يديها الضعيفتين، فماذا تصنع حينئذٍ؟
لا خلاف في أنه يجب عليها حينئذٍ أن تُشَمِّر عن ساعد النشاط والهمة، وبرأس مرفوعة عظمة كأنها تُناطح الأقدار التي تدلت عليها لسحقها، تقوم إلى العمل بشرفٍ وجدٍّ، لتكسب خبزها وخبز أولادها بعرق جبينها. فعلى المرأة إذًا أن تكون مستعدة للعمل إذا انتدبتها العناية الإلهية له متى انهدم سندها. ويجب عليها أن تضع هذا الأمر دائمًا نُصب عينيها، وهي مسألة خطيرة توجِب الاهتمام بتعليمها عملًا تعمله يكون منطبِقًا على استعدادها النسائي وذوقها ومواهبها، وجميع فلاسفة العالم يُجيزون عمل المرأة حتى خروجها من البيت لهذا العمل في حادثة كهذه الحادثة.
هذه أهم واجبات النساء في الهيئة الاجتماعية، فلننظر الآن ماذا تُعَلِّم مدارس البنات منها.
ولكن قبل ذلك لا بد لنا من الإشارة إلى أهمية الأمور التي مرَّتْ بنا، والتصاقها بالنساء دون سواهُن؛ فإن تدبير المنزل وتلطيف معيشة الزوج فيه، وتربية الأولاد التربية البدنية والأدبية، ورئاسة العائلة في أيام الاستقبالات العائلية لتحبيب المنزل إلى الزائرين، وإدارة الحديث ومراقبته لئلَّا يُقال فيه ما لا يجب أن يُقال في منزل سيدة؛ كل هذه أمور من شأن المرأة، والرجل لا يستطيع أن يعمل منها شيئًا.
فيا لجهالتنا وتعاستنا إذا أهملنا تعليم المرأة إياها! يا لشقائنا وشقاء أولادنا من بعدنا إذا تركنا النساء بلا علم ولا أدب ولا فضيلة تقودهن بين صخور هذه الحياة الهائلة! أتعرفون ما هي المرأة؟ كلَّا، إنكم لا تعرفونها، وإن كنتم ترونها كل يوم. المرأة مخلوق يمرُّ أمامكم ضعيفًا نحيفًا باسم الثغر أو مبهوتًا، ولكن بين جنبيه قلبًا لا يعرف عمقه إلا الله، ونفسًا متسعة أوسع من الفضاء لتناقُض الأميال التي فيها. وهذه الأميال تتجاذبها وتتقاذفها كما تتقاذف الأمواج في البحر زورقًا صغيرًا فوقها. أفتسلمون الزورق للأمواج تذهب به كل مذهب، وتطرحه على الصخور فتكسره؟ أم تضعون فيه «دفة» ورُبَّانًا لإيصاله بأمنٍ وسلام إلى بر السلام؟ وهذه الدفة وهذا الربان هما: المعرفة والضمير، المعرفة التي تُنير الضمير، والضمير الذي يُدير المعرفة، ونعني هنا بالمعرفة: المعرفة الأدبية التي تُري المرأة أنها إذا لم تكن فاضلة، فإنها تكون تعيسة مُحتقرة مهما كانت جميلة. المعرفة بأصول تربية أولادها وتدبير منزلها. المعرفة بأخلاق الرجال لإرضاء رَجُلها، واجتناب إشراك سيِّئي الأدب من الرجال. المعرفة التي تجلو عن النفس غياهب الجهل، وتُعلِّمها كل فضيلة، وتُدنيها من أبواب السماء. المعرفة عدوَّة الظُّلمة وصديقة النور، عدوة التوحُّش وصديقة التمدُّن، عدوة الضلال وصديقة الحقيقة، عدوة الرذيلة وصديقة الفضيلة. هذه هي المعرفة التي نعنيها هنا. فوا أسفاه عليكم وعلى هيئتكم الاجتماعية إذا كنتم لا تُعطون النساء هذه المعرفة!